موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢

"سَلبْ أم منح الحياة؟" بين كاتبي سفر المكابيين الثاني والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (2مكا 7: 1-14؛ لو 20: 27-38)

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهديّن (2مكا 7: 1-14؛ لو 20: 27-38)

 

مقدّمة

 

القُراء الأفاضل، سيتضمن مقالنا اليوم قراءة ذات قطبين حول سلب أم منح الحياة. هناك الجديد الّذي سنتعرف عليه حول سر الله الخالق. فهو منذ البدء منح الحياة لجميع البشر. ولكن خلائقه البشريين جهلوا هذا المنبع الحياتي وبروح التنافس للرّبّ من خلال سلطاتهم الدنيويّة كملك أو كحاكم فقدوا جوهر أساسي فبدأوا يسلبون الحياة، بقتل الآخر، وهي الحياة الّتي منحها الرّبّ لبنيه وهذا ما سنتطرق في النص الأوّل لقراءة معنى "سلب الحياة" كمرحلة أوّلى من خلال رسالة كاتب سفر المكابيين الثاني (7: 1- 14). ثم في مرحلة ثانية يأتي الوجه الـمُنعكس تمامًا من خلال "منح الحياة" الّذي هو بمثابة جذر النص الثاني بالإنجيل اللُوقاوي (20: 27- 38) والّذي سنتعرف فيه من خلال كلمات يسوع، ابن الله الحي، على مفهوم لّاهوتي بحسب سيّاق الإنجيلي الّذي يضئ نور الحياة والّذي فَقَدَهُ البعض ولازال هناك مَن يفقدون معنى الحياة فيستمرون في سلب حياتهم وحياة الآخرين، بفقدان معنى الحياة الحقّة.  

 

 

1. سلب الحياة! (2مكا 7: 1-14)

 

في زمن كاتب سِفري المكابيين سواء الأوّل أم الثاني، لاحق اليهود الكثير من الاضطهادات من الملوك الوثنيين. مما أجبروهم على ترك عبادة إله بني إسرائيل بشتى الطرق. هذه المضايقات والاضطهادات حملت بني إسرائيل للاستشهاد بحياتهم إيمانًا منهم بالشريعة الموسويّة الّتي كُتبت بأصبع الله. إيمان بني إسرائيل هذا قد توارثوه من أجدادهم وأباءهم القدماء، مما جعلهم يفضلون أن يموتوا فضلاً عن خيانتهم للعهد الّذي قطعه الله مع أباءهم. ففي هذا النص سنقرأ عن حدث حياتي عاشه سبعة إخوة من بني إسرائيل إذ كان الملك الوثني يُكرههم على تناول ما لا يليق، ما هو مُحرّم بشريعة بني إسرائيل. سنتعرف على شجاعة هؤلاء السباب السبعة الّذين احتضنوا أمانة وشريعة إله الحياة، إله بني إسرائيل، بشريعته فضلاً عن التنعم بحياة تتميز باللأمانة في زمن سيادة الملك الوثني عليهم. وقد أتى رد أوّلهم، بعد تعذيبه وإعلان رفضه لتناول لحم الخنزير الـمُحرّم قائلاً: «اذا تَبتَغي أَن تَسأَلَنا وأَن تَعرِفَ عَنَّا؟ إِنَّنا مُستَعِدونَ لِأَن نَموتَ ولا نُخالِفَ شَرائِعَ آبائِنا» (7: 2). الشريعة لأيّ تقي يهودي ما هي إلّا عصيان كلمة الله المعلنة لموسى.

 

وعلى هذا المنوال تمّ تعذيب باقي الإخوة الست ولكن من المثير بالنص أنّ بالرغم من اختلاف أعمَّار الإخوة، وطباعهم، وإيمانهم الشخصي إلا أن ردّ كلاً منهم كان في صالح رّب الحياة، لذا سأستعين برد الأخ الأخير حينما أشرف على الموت، قال: «خَيرٌ أَن يَموتَ الإِنسانُ بِأَيدي النَّاس ويَرجُوَ أَن يُقيمَه الله، فلكَ أَنتَ لن تَكونَ قِيامَةٌ لِلحَياة» (7: 14). هذا القول يؤكد على أنه بالرغم من عدم معايشة الإخوة لأحداث قويّة كمرافقة البطاركة الأوائل في قطع "العهد" مع الرّبّ؛ والخروج من مصر، ... إلا أنّ مِن كبيرهم إلى صغيرهم صار الإيمان بإله الحياة أقوى من الموت الجسدي. نعم هؤلاء الشباب السبعة سُلبت منهم حياتهم البشرية إلا أنهم أدركوا معنى الحياة الأبدية وهم لازالوا على الأرض بسبب إيمانهم بإله الحياة. وعلى هذا المنوّال يمكننا أن نتسأل اليوم هل سلب حياة الآخرين من حق الإنسان؟ سلب الحياة قد يكون اليوم بأشكال أخرى بخلاف القتل الجسدي، بتوجيه الكلمات الجريحة والـمُهينة أو بتجاهل الإنسان، أو بإلصاق فكرة مُسبقة عن الآخر، ... كم نتعرض اليوم لتعاملات تُسلبنا الحياة وبجهل قد نسلب الحياة من الآخرين دون أن ندري؟ وعلى هذا التساؤل يجيب إيماننا بإله الحياة!

 

 

2. منح الحياة (لو 20: 27- 38)

 

بناء على ما قرأناه من خبرة حياتية لسبعة شباب بالعهد الأوّل، سنستنير الآن من خلال مقطع العهد الثاني الّذي يحمل كلمات يسوع الّتي تنير سلبنا حياة الآخرين أو تنازلنا في أنّ تُسلب الحياة منا. وهنا يثير يسوع نقطة لّاهوتية تصير بمثابة معيار جديد لتساعدنا في التعرف على شكل وجوهر إيماننا "بإله الأموات أم إله الأحياء" الّذي نؤمن به حقيقة.

 

في السيّاق اللُوقاويّ يشير الإنجيلي إلى حوار روائي بين يسوع وحزب الصدوقيين اليهوديين المعروفين بعدم إيمانهم بالقيامة من الأموات يسألون بسخرية يسوع: «يا مُعَلِّم، إِن مُوسى كَتَبَ علَينا: إِذا ماتَ لامرِئٍ أَخٌ لَه امرَأَةٌ ولَيسَ له ولَد، فَلْيَأخُذْ أَخوهُ المَرْأةَ ويُقِمْ نَسْلاً لِأَخيه [...] هذِهِ المَرأَةُ في القِيامة لأَيِّهم تَكونُ زَوجَة، لِأَنَّ السَّبْعَةَ اتَّخَذوها امَرأَةً))؟ (20: 28-33). يشاركنا يسوع أسئلتنا حول الحياة والموت والقيامة ويواجه هذه الأسئلة دون أنّ يتراجع. في الواقع يشارك يسوع بدوره مخاوف الإنسان، وخوفه من الحقائق التي يهرب منه والّتي لا يستطيع السيطرة عليها بعلِمه، متأثراً بمخاوف يحملها للقلب البشري. لا يقدم إجابات سلسلة على هذا التساؤل، لكن جوهرها يشير إلى معنى خفي وحقيقي.

 

في هذا النص، نجد أن يسوع يترك ذاته منجذبًا إلى الجدال بين حزبي السياسيين والدينيين الرئيسيين في عصره وهم الفريسيين والصدوقيين. حزب الصدوقيين، وهو حزب يتشكل من جماعة من الكهنة، ودورهم ينحصر في حراسة هيكل أورشليم، ولا يؤمنون بالقيامة ويعترفون بالكتب الخمسة الأوّلى فقط، أيّ الشريعة، ككتب مقدسة ومُلَّهمة. ومن الجانب الآخر فإن الفريسيين يشكلون الحزب الـمُراقِب والغيّور على حفظ الشريعة يتمتعون بتقدير الشعب، ويؤمنون بالقيامة، كدليل في مسيرة إيمانهم، ويعترفون أيضًا بكتب الأنبياء والكتب الحكمية بالإضافة لكتب الشريعة.

 

 

3. جوهرية اسم الله (لو 20: 37)

 

لا يبحث يسوع عن حجج لّاهوتية مُعقدة ليجيب على السؤال المطروح عليه، ولكنه يستمد كل شيء من علاقته بالله الآب وكلمته بالعهد الأوّل. فهو بمثابة السند الوحيد الّذي يشعر أنّه مؤكد في حياته كإنسان أيّ حياة الشركة الفريدة مع الآب. يجد يسوع إجابته قبل كل شيء في الكلمات الّتي تحويها الكتب المقدسة كرسائل حيّة لشعبه، ويجد الإجابة للحزب الـمُتسائل في الجزء الأوّل فقد وهو الشريعة الّذي يؤمن به الصدوقيين والّتي أشاروا إليها الصدوقيون أيضًا بتساؤلهم. في علاقة يسوع الحميمية مع إله الآباء أيّ الله الآب، وحضوره في تاريخ شعبه وفي كتبه المقدسة، يكشف يسوع في تعليمه اليوم إنَّ الله هو إله الأحياء وليس الأموات، فهو يكشف لنا عن على وجه إله حيّ. إله حي يخلق ويختار أُناس أحياء إذ قطع الله مع شعبه ومع الإنسانية رباط قوي لدرجة أنّ لا شيء يمكن أن يٌفقد وهو ما نطلق عليه "المعاهدة".

 

في واقع الأمر، أشار يسوع إلى اختيار إله بني إسرائيل- أبيه وأبينا السماويّ، اسمًا له وأطلقه على ذاته بأنّه: «الرَّبَّ إِلهَ إبراهيم وإِلهَ إِسحق وإِله يَعقوب» (20: 37ب) هو ذات الاسم الّذي يُمثل الرباط الذي أقامه مع إسرائيل ومع البشرية. يُدعى الله فهو مَن بعظمته يرتبط بالإنسان إرتباطًا وثيقًا هذا هو الاسم الذي يريد أن ندعيّه به! وهو الاسم الّذي يشير حضور الرّبّ وسيادته ليس فقط علينا اليوم بل هو إله أباءنا فهو إله البشر بالماضي وبالحاضر، لم يتغير مما يشير لأمانته وثباته في تواصله معنا نحن الّذين نقبل الإيمان به وقبول تجديد عهد أباءنا معه بالرغم من مرور الأجيال.

 

 

4. قيامة الموتى (20: 34- 36)

 

استخدم الصدوقيين في تساؤلهم قانون زواج الأخ لطرح أسئلتهم حول قضيتهم الهامة وهي "قيامة الموتى" لضمان استمرار وعدم اختفاء أيّ اسم من أسماء بني إسرائيل، ولكن يتمّ تناقل الاسم من جيل إلى جيل؛ يؤكد يسوع بإجابته الجديد فيقول: «إِنَّ الرِّجالَ مِن أَبناءِ هذهِ الدُّنْيا يَتَزَوَّجون والنِّساءَ يُزَوَّجْنَ. أَمَّا الَّذينَ وُجِدوا أَهْلاً لأَن يَكونَ لَهم نَصيبٌ في الآخِرَةِ والقِيامةِ مِن بَينِ الأَموات، فَلا الرِّجالُ مِنهُم يَتَزوَّجون، ولا النِّساءُ يُزَوَّجنَ.  فلا يُمكِنُ بَعدَ ذلك أَن يَموتوا، لِأَنَّهُم أَمثالُ المَلائِكَة، وهُم أبناءُ اللهِ لِكَونِهِم أَبناءَ القِيامة» (20: 34- 36). إذن، لا يمكن محو أيّ اسم من أسماء بني إسرائيل بل كل أبناء البشر مِن قلب الله ويدعونا كما ذكرنا بالعنصر السابق التركيز ليس فقط على اسم الله بل "إله الأحياء" إلهنا الحيّ بدلاً من التركيز على الاسماء البشرية. وعلى هذا النمط، مدعوين نحن مثل يسوع، أنّ نضع اسم الله الحي في مركز حياتنا ولا نضع اسمائنا ونهمل جوهرية قدرته على قيامتنا من بين الأموات، فهو إله الأحياء. في هذا الارتباط مع الإنسانية وبتاريخها، ليست الشخصية المسيحيّة هي الشخصية الّتي لديها إجابات سهلة وجاهزة، بل هي مَن ترتكز نظرتها على الله وإخلاصه كأبناء للإله الحيّ، كيسوع الابن، الّذي من خلال علاقته بالله الآب الحي والمانح الحياة، في تاريخه الشخصي وفي تاريخ بشريتنا، يعطي إجابات من كلمة الله ذاتها وليست من فهمه، وهذا يترك أثر لا يمحى لكلمة الله الدائمة الكشف عن الجديد بوقتنا هذا.

 

 

5. القدّرة على بثّ الحياة (20: 37- 38)

 

 نوّد أنّ نناقش معكم في العنصر الأخير بمقالنا قدرتنا نحن البشر على بثّ الحياة مع من حولنا: «أَمَّا أَنَّ الأَمواتَ يَقومون [...] فما كانَ إلهَ أَموات، بل إِلهُ أَحياء، فهُم جَميعاً عِندَه أَحْياء» (20: 37- 38). الصدوقيين هم أنُاس مُتأصلين في مسيرة الخير العام كما يحلو لهم، وهم يشبهوننا في بعض أوقات الحياة. في الواقع، يتسألون عن امرأة لا تستطيع الإنجاب وعن الرجال الذين يتخذونها زوجة، واحد تلو الأخر. الرجال الّذين يموتون دون أن يبثوا الحياة. هؤلاء هم الصدوقيين وهو ما نحن عليه في كثير من الأحيان. الرجال مرتبطون جدًا بأشياء تنتمي لهم بحيث يصبحون غير قادرين على منح الحياة. تصبح حياتنا عقيمة لأننا لم نعد قادرين على العطاء. نحن نتراجع بدلا من نتعلم العطاء. نحن نخدع أنفسنا بالامتلاك، حتى يقرع الواقع بابنا ويجبرنا على إدراك أنه لا يوجد شيء يمكننا اعتباره من ممتلكاتنا. كل شيء يُمنح لنا بمجانية حتى حياتنا، لكننا نخلط بين العطية والامتلاك. نحن نراقب ممتلكاتنا، علاقاتنا، أدوارنا، عواطفنا، مُتناسين أن كل شيء يمر.

 

تمامًا مثل رجال في التاريخ الذين يخترعون، لا يعيش الصدوقيين الحب، لكنهم يريدون امتلاكه، فقد اتخذوا هؤلاء الأزواج زوجة، وهم يعتبرون المرأة شيئًا، وجزءًا من الممتلكات. عندما يتم اختبار العلاقات على أنها استحواذ، فتصبح عقيمة. من ناحية أخرى، يجب قبول النساء وليس استغلالهن لما يفعلوه بحياتنا وبإنجابهم وإعطاء الرجال اسم! الإنجاب ليست الكلمة الأخيرة. عندما نبدأ في عيش منطق الهبة المجانيّة، فلن ندخل الحياة الأبدية فحسب، بل سنبدأ في التشابه مع الله. فالله هو أول من يعيش مجانية خاصة حينما بثّ فينا نعمة حياته. إنّه أول مّن وَهَبَ الحياة دون أن يعوقها. يقول يسوع إن إلهنا هو إله الأحياء وليس إله الأموات. هذا يعني أن الموت لا علاقة له به. كل ما هو موت، أنانية، انقسام، كبرياء، حسد، خوف... كل ما له علامات الموت ليس ملكًا لله. فلا يمكن أن يكون الموت أبدًا هو الكلمة الأخيرة، لأننا لله!

 

 

الخلَّاصة

 

انطلقنا في مقالنا هذا لنشير لمعنى الحياة الكامن في الله "إله الأحياء من خلال حدث الشباب السبعة (2مكا 7: 1-14) الّذين سُلبت منهم حياتهم حبًا في شريعة إلى بني إسرائيل ورجائهم في الحياة الأبدية قبل قيامة يسوع، فلازلنا بالعهد الأوّل. وبنص العهد الثاني مع لوقا الإنجيلي (20: 27-38) كتشفنا قوة يسوع ابن الله الحي. الّذي بإجابته على الصدوقييّن والفريسيين بعصره استعان بكلمات العهد الأوّل مشيراً لقدرة الرّبّ الّي قاد التاريخ البشري منذ الخلق ومروراً بزمن يسوع وحتى وقتنا هذا، وسيستمر للأجيال اللاحقة. الهنا هو إله الأحياء، وهذا ما نكتشفه في حياتنا اليومية بأعمال الله القديرة الّتي تكشف عظمته ومنحه الحياة فينا ومن أجلنا. هذا يساعدنا على مواجهة كل ما يسلب منا الحياة ويجعلنا نتنبه بعمق بمدى أهمية أن نكون نساء ورجال يبثوا الحياة الّتي منحها الرّبّ لنا في الأخرين دون أن نسلبها منهم. دُمتم أيها القراء الأحباء في ملء بث الحياة وفي مواجهة مَن يسلبها، مؤمنين بأننا أبناء القيامة والحياة الأبدية.