موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٨ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

"مُغامرة الصَّبِيَّةَ مع الله" بين كاتب نبؤة اشعيا والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 7: 10- 14؛ لو 1: 26- 38)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 7: 10- 14؛ لو 1: 26- 38)

 

مُقدّمة

 

نحتفل ككنيسة كاثوليكيّة، بعيد بشارة مريم، في هذا العام 2024 في الثامن من أبريل، وبشكل إستثنائي، وليس في الخامس والعشرون من مارس بسبب تداخله مع إحتفالات الأسبوع العظيم الّذي يُهيئنأ للإحتفال بقيامة الرّبّ. لذا سنقرأ معًا من خلال سلسلتنا الكتابيّة فيما بين العهديّن، مقطع من العهد الأول من نبؤة أشعيا 7: 10- 14 والّتي نتناول فيها نبؤة الصّبيّة الّتي ستلد العمانوئيل في القرن الثامن قبل الميلاد وهي بمثابة علامة من قب الرّبّ سواء للملك آحاز وللشعب معًا. وفي مقطع العهد الثاني سنتوقف أمام حدث البشارة الّذي ينفرد به لوقا الإنجيلي (1: 26- 38)، الّذي دائما ما يُدهشنا التدخل الإلهي بقدرته مستعينًا بصّبيّة ويعرض عليها مغامرة جديدة ليعطي وجه جديد للبشريّة، والّذي من خلالها يدخل ابن الله للعالم. فهل ستستجيب عذراء النّاصرة لهذه المغامرة الغامضة والمجهولة؟ أم تعترض؟ نهدف من خلال هذا المقال التعّرف على هذا الحب الإلهي الّذي يشارك الصّبيّة في مشروعه الإلهي ويطالبها بالمغامرة معه ليحمل الجديد لعالمنا البشري.

 

1. مغامرة الرّبّ (اش 7: 10- 14)

 

الرسالة النبويّة الّتي يحملها النبي اشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد، بحسب رسالته كوسيط بين الرّبّ والملك آحاز تهدف لإستعادة علاقته بالشعب، من خلال حضور الملك والنبي معًا بحسب المخطط الإلهيّ. وفي رسالته الوسيطيّة يعلن نبي الله، اشعيا، عن بتول مُعلنًا علامة إلهيّة لا تنتمي للعالم البشريّ. حملّ النبي هذه النبؤة، على لسان الرّبّ، للملك أحاز قائلاً: «فلِذلك يُؤتيكُمُ السَّيِّد نَفْسُه آيَةً: ها إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ ابناً وتَدْعو اسمَه عِمَّانوئيل» (7: 14). لم يُفهم مغزى هذه النبؤة في زمن النبي، فما من فتاة، تتمكن بحسب المنطق البشري من أنّ تحبل ومع ذلك يتنبأ اشعيا بالإسم الّذي ستمنحه هذه العذراء الصغيرة لمولودها وهو "عم-ان-وئيل" مع-نحن-الله، وبما إننا ننتمي لله فتمّ ترجمتها بتعبير "الله معنا".

 

من الجدير بالّذكر أنّ نعلم أنّ الفتاة في العصر اليهوديّ القديم لم يكن لها أيّ إستقاليّة بذاتها فكانت تُلّقب بحسب إنتمائها لرجل ما بالعائلة مثل أبيها، أو أخيها، أو زوجها أو إبنها. فكان يقال: إبنة فلان، أخت فلان، زوجة فلان، وأخيراً أمّ فلان. أما بالنسبة لعلاقتها بالشريعة فكان يُفضل أن تُرجم المرأة عوضًا عن أن تدرس الشريعة المقدسة. فالإيمان يعتمد على علاقتها بالرجل الّذي يتولى مسئوليتها. وفي أغلب الأحيان كانت تعتبر ملكية خاصة لرجال أسرتها، كالبيت أو الغنم أو أي شيء مادي. هكذا كان تهميش المرأة، فبالآحرى فتاة أي عذراء فكان رجل أسرتها هو الّذي يتنّبه بشكل مُضاعف لئلا تجلب العار للأسرة بأي علاقة مشبوهة خارج الزواج بحسب الشريعة اليهوديّة. بناء على هذا كانت آية اشعيا، في عصره، مثيرة وغامضة بل وغير مفهومة في ذات الوقت ولكن على ضوء النص اللُوقاوي، الّذي سيستشهد الإنجيلي فيه، بذات الكلمات النبويّة ويضعها على لسان الملاك جبرائيل في حواره مع مريم سيتضح إستباقية النبؤة قبل إتمامها في مغامرة عذراء النّاصرة.

 

2. أيخرج خيّر من النّاصرة؟ (لو 1: 26-38)

 

بحسب المخطط الإلهي من أجل أنّ يُدخل الله إبنه الإلهي إلى عالمنا البشري، لم يكن بإمكانه أنّ يختار بلدة أفقر من النّاصّرة. فهي قرية غامضة، ربما ذكرت مرة واحدة في العهد الأوّل، وينتمي إليها المتهورين قوميًا إلى أقصى حدّ وهي الجليل. النّاصرة ليست أورشليم وليست مكان بقدسية هيكل وسكانها ليسوا بكهنة، بل مجرد رعاع لديهم لهجة تناسبهم. مشروع الله واضح باختياره مريم وخطيبها، زوجين، وقبل زواجهما يقوم العليّ بتغيير كل شيء عن طريق الابن الإلهي الّذي لنّ يقلب خططهم فقط، ولكن أيضًا حياة البشريّة ومن يقرر تبعيته. بالفعل بدء الله الجيد باختياره من يعرف كيف يستقبل رسالته دون تحيزّ لأنّه ينظر إلى القلب وليس إلى الخارج (راج 1صم 16). النّاصرة هي قرية صغيرة، الناصرة وربما هي مُكونة من أربعة منازل أو مغارات محفورة في الصخر! مما قد يبدو أنها بُنيت بلا مبالاة وبلا أي طراز معماريّ، كما لو إنّها كشئ ما أُلقي على الأرض عن طريق الصدفة، كشيء لا قيمة له وبلا أي معنى، وسكانها لم يحظوا بسمعة طيبة، سكانها كقطع من الرخام الصلب بدون أي عمل يُجملهم، هكذا كانت سمعة أهل النّاصرة في القدم.

 

بإختيار الله لمريم الصّبيّة يجيب على سؤال نجده على لسان أحد الأشخاص والقائل بحسب إنجيل يوحنّا: «أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شَيٌ صالِح؟» (1: 46). بشارة عذراء النّاصرة هو الشيء الصالح الّذي يُتممه الله فيختارها ليصير إبنها واحدًا منا ليجعلنا مثله. من خلال بشارة مريم بحسب لوقا وبشارة يوسف بحسب متّى، نجد أنّ الآب هو الّذي وَلّدّ في التقليد، أي إنّه أدخل الابن في التقليد الشعب الـمُختار، فإن النعم المريميّة تحمل مغامرة كبيرة. لقد طُلب منها أيضًا أنّ تلدّ ذلك الابن الّذي سيعطي جسدًا لوجه الخالق. تصبح مريم تلك السفينة الّتي تحمل shkina أي الحضور لتاريخ الشعب، بل إلى جسد الشعب نفسه، جاعلاً إياه جسدًا واحدًا مع البشريّة. ربما هذا هو المعنى الأعمق لوجودنا، لخياراتنا، لأفعالنا؟ «إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ» (لو 1: 28) هذه هي التحية الّتي يُوجهها الرّبّ لكلّاً منا اليّوم، لتصير الرّبّ معنا أي العمانوئيل. علينا الإستمرار بقوة لإدراك هذه التحية بين الكثير من الأصوات الّتي تحاول إسكاته.مدعوين لتعلّم الإستماع  حتى نتمكن من التحدث بشكل صحيح في بشارتنا بالخبر الـمُفرح.

 

3. مغامرة بتول (لو 1: 26- 38)

 

إن بداية حدث البشارة المريميّ، يجعلنا في حيرة دائمًا عندما نقرأ: «وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة. إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم» (لو 1: 26- 27). يبدأ الله مغامرته الغير متوقعة من النّاصرة والّتي أطلق عليها "مغامرة البشارة"، بالفعل من النّاصرة، يبدأ مسار جديد لا يعكس التيار البشريّ نهائيًا. يفاجئنا هذا الإختيار الإلهيّ الذّي لا يتمّ بُناء على الـمكانة الإجتماعيّة أو اللّقب الرسميّ الـمُعتمد بين علماء الشريعة وكهنة الهيكل. والمفاجأة أنّ هذا الإختيار الإلهي لا يوجه للربانيين ولا للّاهوتييّن باختصار، يسرد لوقا في روايّته الّتي ينطلق فيها السيد الرّبّ مع شعبه من خلال صَّبِيَّةَ صغيرة، وهذا الأمر مثير جدا بالنسبة لربانييّن عصرها ومعلّميّ الشريعة إذ كان بدلاً من تعلّيم الشريعة لإمرأة كان من الأفضل حرقها في زمن إختيار الله لمريم! ومن هنا يأتينا التناقض بين المشروع الإلهي والمشروع البشري.

 

فالآن نعلم بوضوح حقيقة السبب الّذي لمّ يجعل الله يتكلم في القِدم مع النساء! فالله، قبل إختياره لمريم، لمّ يجد مكانًا له بين أولئك الّذين أَهَلّوا ذاواتِهم لخدمته سواء بالإنتخاب أم بالإختيار! لذا فالرّبّ، من جديد، يبحث عن مكان ما وشخصيّة ما ليجدد عهده من خلال ولادة إبنه الإلهي وبدء روايّة جديدة معه! مغامرة البشارة، هي بدء لروايّة حبّ مجانيّة وبلا شروط إلهيّة! هذا ما تقدمه لنا شخصية مريم الصَّبِيَّةَ اليّوم؛ فهيّ إمرأة عصرها الـمُحبوبة مِن الرّبّ ويطلب منها من خلال ملاكه جبرائيل أنّ تتعاون معه في بناء خلق جديد للبشريّة، مؤسس على قبولها لولادة إبنه الإلهي في عالمنا البشريّ، من خلال موافقتها على مشروع جديد يمر عَبر مسارات غالبًا ما تكون غير رسميّة لا تنتمي للشريعة، ولمّ يُطلع عليها كهنة الهيكل أو علماء الشريعة، وغالبًا ما تكون مسارات ثانويّة، ولكنها روايّة تحمل لنا الخير والسعادة بل لكلّ البشريّة بنسائها ورجالها. هذا الإختيار يتميز بحقيقة العيش من خلال توسع المخطط الإلهي ومشاركة البشر بشكل أكثر جديّة في مشروعه الخلاصي. وهذ يكشف لنا كيف أنّ الصغير الـُمتناهي، وهي مريم، تندمج مع العظيم اللامتناهي من خلال مغامرتها قائلة: «أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ» (لو 1: 38).

 

الخلّاصة

 

تتبعنا مُغامرة الرّبّ مع اشعيا (7: 10-14) حينما وجه علامته الغامضة وهي الصّبيّة الّتي ستلّد إبنًا ويُدعى العمانوئيل. وبقرأتنا للنص اللُوقاوي (1: 26-38) وجدنا أنّ هذه المغامرة جذبت صّبيّة، البتول تنتمي لعالمنا البشريّ، وبنعمة الرّوح القدس، الّذي إنفتحت عليها إستطاعت أنّ تغامر بمستقبلها، ببتوليتها، بحياتها، ... حتّى تتحقّق هذه المغامرة الإلهيّة في حياتها. فصارتا كلتا المغامرتيّن هي نقطة إنطلاق لدخول يسوع البشري، وهو ابن الله، في عالمنا الهشّ والخاطئ. بقول الصّبيّة "نعم" صارت تحية الملاك لها "الرّبّ معكِ" نعمة ونور لنا فصار الرّبّ معنا وهو العمانوئيل. بشارة مريم اليّوم هي الخيط الّذهبي الّذي بدأ الله بنسجه في أحشائها ليكللّ بشريتنا بحضور ابنه ليمنحنا ألوهيته بخلاصه. دُمتم في قبول بشارة الرّبّ وقبول مغامراته ليتحقق مشروعه الإلهي فينا وفي عالمنا. عيد بشارة مبارك.