موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٦ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

"عِطرُ الحياة" بين كاتب سفر المزامير والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 21 (22)؛ يو 15: 1-8)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 21 (22)؛ يو 15: 1-8)

 

مُقدّمة

 

"عطر المسيح قام يملأ حياتنا وقلوبنا" السّلام الفصحيّ الّذي يحمل عطر الحياة هو سرّ قيامة يسوع، فهو مصدر النعم الّتي نحيا بها.  في هذا المقال، من جديد بعد أن تأملنا في صورة الرّاعي والرعيّة فيما بين العهدين بالمقال السابق، هكذا نستكمل قرائتنا في هذه السلسلة الكتابيّة. في العهد الأوّل سنتوقف أمام إلهامات كاتب سفر المزامير من خلال توقفنا اليّوم على مزمور 21 (22)، وهو يهدف إلى تسبيح الرّبّ الّذي يعده كاتب المزمور بالحياة له. من خلال عطر الحياة الّذي يكشفه كاتب المزمور الحادي والعشرون نستكمل بالعهد الثاني حوار يسوع قبل إتمامه سرّه الفصحيّ من خلال المقطع اليوحنّاويّ والّذي سيستمر أيضًا بمقالنا القادم. سنقرأ معًا يو 15: 1-8 وهو مقطع من خطاب وداع يسوع لتلاميذه الّذي بدأه في الإصحاح الـ 13. في هذه الآيات سنتعمق فيما يقدمه يسوع من صورة رمزيّة عن ذاته، كما رأينا صورة الراعي بالمقال السابق، هكذا نجد يسوع يُطبق على ذاته صورة الكرمة الّتي تحيا للآب،سنقرأ هذا النص على ضوء قيامة المسيح. مُستعيدين كلمات المعلم بعد إتمام حدث القيامة وهذا هو الجديد بمقالاتنا. يتميز هذا المقال بإستعانة يسوع بتشبيه حياتيّ في حديثه علاقة عن الكرمة بالأغصان (يو 15: 1-8). الكرمة هي بمثابة الصورة الرمزيّة كصورة الرّاعي الّتي إستعنا بها بالمقال السابق مدعويّن كمؤمنيّن بأنّ نتعمق في أيضًا خطاب يسوع  على ضوء قيامته والسياق الفصحيّ الّذي نعيشه للآب مع الابن بعطر حياته. وهذا يمكننا من تقديم  بعض التفسيرات الكتابيّة الّتي ستساعدنا كمؤمنين  الثبات والإتحاد كالغصن في الكرمة الّتي تحمل صورة موت المسيح  وعطر قيامته من بين الأموات.

 

1. للرّبّ نحيا (مز 21)

 

يهتف كاتب هذا المزمور بوعده للرّبّ، بصيغة الـمُتكلم، قائلاً: «لَه [للرّبّ] تَحْيا نَفْسي» (مز 21: 30). بعد أنّ إختبر الحياة مع الله، يعلن بشكل علنيّ بتكريس ذاته للرّبّ. مسيرة الكاتب تتلخص قبلاً في دعوته أيضًا للمعاصريه بالتبشير بكلّ أعمال الرّبّ، بتأكيده برسالتيّ التبشير والتسبيح بل ويدعونا مع معاصريّه بالتسبيح لأن أعماله العجائبية لا تُحصى: «سأُبَشِّرُ أُخوَتي باْسمِكَ وفي وَسْطِ الجَماعةِ أُسَبِّحُكَ. يا أَتقِياءَ الرَّبًّ سَبِّحوه ويا ذُرِّيةَ يَعْقوبَ كافَّةً مَجِّدوه. ويا ذُرِّيةَ إِسْرائيلَ كافَّةً اْخشَوه» (مز 21: 23- 24). هذه الدعوة الثلاثيّة بتسبيح وتمجيد الرّبّ مع مخافته. بهذا يهدف إلى دعوتنا اليّوم بحياة القلب له عطر الرّبّ ذاته: «لِتَحْيَ قُلوبُكم للأبدِ» (مز 21: 27). هذه الحياة لا تدوم لفترة بل للأبد. هذا ما يدعونا إليه الكاتب اليّوم وهو التمتع بعطر حياة أبديّة ننالها من الرّبّ الإله وفي ذات الوقت، نجعل من حياتنا عطر له كعرفان بالجميل والشكر لـمَانح الحياة.

 

 

2. التقلّيم أم التطهير؟ (يو 15: 1- 4)

 

في هذا الزمن الفصحيّ حيث منحنا القائم عطر حياته، والذي نحياه ككنيسة. فنحن كنيسة حيّة تحيا  بحضورالرّبّ القائم من الموت في وسطها كمصدر لحياتها. نحن كنيسة الرّبّ نجد معنى لرحلتنا عبر التاريخ البشري من خلال كلمات يسوع الّذي  يُعرّف  نفسه بأنه الكرمة الحقيقية ويتردد صدى كلماته وأقواله في القائم من الأموات إتمامّ يسوع سرّ قيامته في حياتنا ككنيسة فيصير القائم الكرمة الحقّة. لقدّ وجه يسوع حواره هذا لتلاميذه وهم بمثابة الأغصان في هذا التشبيه، الّذين نحن اليّوم، فنحن بمثابة الأغصان الّتي تستمد حياتها من الكرمة الّتي تتجذر في باطن الأرض. وهذا الصورة الرمزيّة تظهر لنا طبيعة حياة الشعب، فهي زراعيّة، الّذي كان يحيا فيه اليهود في زمن يسوع. يستعين يسوع كعادته بالواقع الّذي يعيش فيه مستمعيه، ليصير كلامه واقعي وقريب من أفكار سامعيه، بين حياة الرعي (يو 10) والحياة الزراعيّة (يو 15)، وحياة الصيّد (يو 21) الّتي كانت تشمل أعمال اليهودي. فنجد أنّ دور الغصن لهو بسيط بالنسبة لدور الكرمة خاصة حينما تموت جذورها بقلب الأرض.

 

تترك كلمات يسوع، اليّوم، عطر وصدىّ متميز: «أَنا الكَرمَةُ الحَقّ وأَبي هوَ الكَرَّام. كُلُّ غُصنٍ فِيَّ لا يُثمِر يَفصِلُه. وكُلُّ غُصنٍ يثُمِر [أنا وأنت] يُقَضِّبُه لِيَكثُرَ ثَمَرُه» (يو 15: 1-2). وبعد أنّ أوضح فرادّة الأدوار، نكتشف أنّ يسوع هو الكرمة، والآب هو الكرّام، ونحن التلاميذ بمثابة الأغصان. تحمل هذه الكلمات رّوح السكينة فكلّاً منا له دوره. حينما يبث الابن عطر حياة الآب لإخوته، تتم إزالة الأغصان الّتي لا تحمل أي ثمر، دائما وفقط بيّد الله الآب فهو الكرّام. هذا العمل ينتمي فقط للآب-الكرّام، فهو مَن يتولى مهمة التقلّيم بهدف التطهير والتنقيّة. علينا أنّ نكون حذريّن مَن منا يجاهد لجلب الثمار لا تتمّ فقط تنقيتنا بل أيضًا تقلّيمنا. كلمات يسوع تلك تمنحنا الطهارة والصفاء. يعلمنا القائم طريقة لتُهذيب أنفسنا بالتسليم ليّد الآب مثله، وأنّ نبذل مجهود لنثمر. حينما نفقد الهدف من وجودنا وهو أنّ نعمل لننتج ثمار تليق بالآب والابن. حينما تأتي اليّد الإلهيّة لتُهذبنا وتُجملنا وتُعطرنا، فلا نخشى هذا الألم فهو لخيّرنا. تقوم اليّد الإلهيّة بإزالة الشوائب الّتي تمنعنا من أنّ تُثمر حياتنا، فلسنا مُطالبين بتحسين أنفسنا في نظر الله. فالقطع الخشبيّة الّتي تُقطع من الكرمة عديمة الفائدة، هكذا مَن لا يأتي بثمار ينتهي به الأمر إلى العدم. إلّا إنّه إذا عمقّنا قوة إتحادنا بالإفخارستيا نتأهل حقًا بالدخول في الملكوت حينئذ يكون التطهير الّذي تمّ بعطر الابن لصالحنا.

 

3. لا حياة بدون عطر القائم (يو 15: 5- 8)

 

لا تحوي كلمات يسوع على التقلّيم بل عن التطهير، ويسلّم القائم هذا العمل إلى يديّ الآب الكرّام الّذي يفوح عطره من الابن للأبناء أي من الكرمة للأغصان. هذا التركيز من قبل الإنجيلي يسمح لنا بأنّ نفهم أنّه يجب أنّ نركز اهتمامنا على الإثمار أكثر من قطعنا كأغصان غير مثمرة. إنّ عمل التطهير هذا محفوظ لله الآب بحسب قول الابن، بالآب هو الّذي يقرر كيف وأي غصن يجب تطهيره. مدعوين فقط للإثمار ونجد هذا السبب كفيل لبدء رحلة إيمانيّة تبدأ بالثبات بالكرمة. وهنا يتطلب التحّرر لأننا نهتم دائمًا بالإعتناء بكلّ شيء وكلّ شخص، كثيراً ما نقلق دائمًا بشأن كوننا كامليّن في نظر الله، نقلق أيضًا لنظهر أن ثمارنا طيبة. مع ذلك فإن الآب وحده يعرف بالضبط أي الأجزاء يجب تطهيرها. ما علينا سوى التسلّيم لليّد الإلهيّة الّتي تنزع ما فينا ليطهرنا بحسب ما يريده. لنّ نملّ من تكرار إننا مدعويّن فقط ببذل مجهود للإثمار. يدعونا هذا القرار هذا لنحيا بتواضع حقيقي، تواضع له جذوره في إدراك إننا فقط أغصان ولا حياة لنا بدون الإتحاد بالكرمة: «لأَنَّكُم بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً» (يو 15: 5). سيكون من الجيد التمتع برّوح التمييز للعطر الإلهيّ. فقد بدأت إنسانية جديدة في تاريحنا حينما ماتت في باطن التربة، البذرة الّتي زرعت فيها وهي بذرة البشارة السّارة بتاريخنا البشري. هذه الحقيقة تعتمد فقط على مشاركتنا في حياة يسوع نفسها بالتواصل واستقبال رّوحه. جميعنا مدعويّن بإثمار الأغصان حينما تتحد بالكرمة. تشير هذه الثمار إلى مدى إلتزامنا كتلاميذ بجوده ليمتد عبر الزمن، من خلال تجسيد الوصيّة الوحيدة الّتي تركها لنا القائم ومعلمنا بقوله "أحبوا بعضكم بعضًا" (راج يو 13). بهذه الديناميكيّة، يصبح عمل الحبّ الّذي يقوم به الآب واضحًا، وهو القضاء تدريجيًا على كل عوامل الموت وأيضًا على كلّ ما يمنع قدرتنا جميعًا على الحب والنمو. فكلّ هذه العوامل قد إنتصر عليها القائم. عمل الآب هو التطهير، وليس التقليم فقط. وهذا يعني بأنّه كلما إلتزمنا بكلمات القائم- الكرمة، وكلما التصقت حياتنا بحياته، كلما أظهر الآب عمله الّذي يزيل عنا كلّ ما يعيق هذا الإثمار. لسنا مدعويّن كمؤمنين إلى القطع، بقدر ما ندع الآب يفعل بنا ما هو صالح وما علينا إلّا التسليّم للآب. بمقارنة هذا النص مع التقليد الكتابيّ وإشاراته إلى الكرم (راج اش 5: 1–7)، لا يُعرّف القائم ذاته على إنّه كرم بل كرمة. وبالتالي هو أوّل مَن آتى بثمار حبّ الله. لذلك جميعنا، وبصبر الآب الّذي يزيل ما يشوهنا لنصير بحسب مخططه ويمنحنا عطر الىبن لننال ملكوته. إذاً لا يكفي أنّ نكون مسيحيين، ولا يكفي أنّ نؤمن فقط بيسوع وأنّ نُحبه؛ علينا بانتاج ثمار وهذا هو تعبير قبول عطر حياة القائم وبالأخص ثمرة حبّ ملموسة للقريب، كما فعل يسوع بسرّ موته وقيامته. لذا فإن الاتحاد بيسوع ليس مجرد اتحاد سريّ، بل يتم مشاركته من خلال الإثمار. وما علينا إلّا بالثبات الحقيقي في الكرمة: «إِذا ثَبَتُّم فيَّ وثَبَتَ كَلامي فيكُم فَاسأَلوا ما شِئتُم يَكُنْ لَكم. أَلا إِنَّ ما يُمَجَّدُ بِه أَبي أن تُثمِروا ثمراً كثيراً وتكونوا ليّ تلاميذ» (يو 15: 7-8).  وهنا كل ما نطلبه من الآب يبث عطر حياة الابن فينا.

 

 

4. اتحاد الغصن بالكرمة (يو 15: 5-8)

 

أمانة الآب الكرّام، الّذي يعطي بسخاء عطر الحياة لإبنه الكرمة الأمينة. يدعونا للإتحاد بالابن وهو الكرمة الّتي يفوح منها عطر حياة الآب. والآن مدعوين القبول لحياة أبدية وليست محدودة. حياة الابن الّذي بارادته قدمها لأجل البشريّة، أعلن بأنّ لها عطر متميّز يفيض ويستمر من جيل لجيل بحسب أمانتنا نحن البشر بالإتحاد به وبحياته الّتي لا ينتهي عطرها فينا. بالرغم من أننا أغصان ضغيفة إلّا إنّ الابن- الكرمة يعلن حقيقة الحياة الّتي تثبت فيه وعليه وهو إنها تصير حياة ذات عطر إلهي متميز. مدعوين لقبول العطر الإلهي الّذي ينثر عبير إلهي لا يوصف بأي عطر بشري.

 

 

الخلّاصة

 

عطر الحياة الّتي بدأ بها كاتب سفر المزمور فهو إكتشفها من خبرته مع الله من خلال المزمور 21. وبهذا يعلن الحياة للرّبّ لأن مَن يتعطر بحياة الله يمنح الحياة للآخرين. وهذا ما يعلنه لمعاصريّه. وبهذا المنطلق بثّ يسوع الكرمة الحقّة (يو 15: 1- 8) عطر الحياة من خلال حواره معنا كتلاميذ عن عطر الحياة الّذي يمنح من خلال الثبات بين الكرمة والأغصان وهذا يعود ليّد الآب الّذي يُطهرنا وينقينا حبًا في منحنا عطر حياة الابن الّذي يستمر حتى الأبديّة. دُمتم في التمتع بعطر حياة القائم الّذي لا زال يبث بعبق عبيره في قلوبنا وحياتنا وكنيستنا.