موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٨ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

"الرَّاعي والرعيّة" بين كاتب سفر المزامير والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 117 (118)؛ يو 10: 11- 18)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 117 (118)؛ يو 10: 11- 18)

 

الأحد الرابع لقيامة الرّبّ (ب)

 

مُقدّمة

 

"المسيح قام"، هي التحيّة الّتي لا تزال تغمر قلبنا كمؤمنيّن بقيامة الرّبّ والتمتع بفرح وبهجة الرّبّ القائم الّذي إنتصر ليّرعانا بما لم نتوقعه وما يفوق الطبيعيّ. تحمل لنا قراءات مقالنا اليّوم "صورة الرَّاعي" الّذي يبذل ذاته ثمّ يقوم مُنتصراً لأجل منح الحياة لرعيته. من خلال بعض من آيات المزمور 117 (118) والّذي سنتوقف من خلال كلماته إلى صورة الله الرَّاعي لشعبه في العهد الأوّل. ثمّ سنستعين ببعض الآيات من النص الشهير بنص الرَّاعي الصالح (يو 10: 1- 20). يُقدم لنا كاتب الإنجيل الرابع في هذا الزمن الـمُميّز القائم في شخصية الرَّاعي (يو 10: 11- 18). سنكتشف أنّ صورة الرَّاعي لا تنفصل عن صورة القائم وسرّ فصحه الّذي نحتفل به في هذا الزمن وسنجد الجديد من خلال علاقة الرَّاعي بالرعيّة في حياة الكنيسة بالعهد الثاني والّتي تحيا اليّوم بحياة القائم والّتي تأسست على علاقة الله بشعبه في العهد الأوّل.

 

1. الحجر المرفوض (مز 117)

 

نستعيد أيضًا في قرائتنا لهذا المقال بالإستعانة ببعض آيات المزمور 117 (118)، الّذي إستعنا به في مقالاتنا الماضيّة. وبسبب غناه اللّاهوتي وغنى الموضوعات الّتي يحتويها نجد أنّ به ما يغنينا اليّوم. سنتوقف أمام إله العهد الأوّل الّذي يدرك كاتب سفر المزامير إنه متميز ويصفه بشكل غير مباشر بملامح الرَّاعي الّذي يستمر في رعاية رعيته وهو شعبه إسرائيل. يحمل كاتب سفر المزامير صوت الشعب الجماعي داعيًا إياهم، قائلاً: «اْحمَدوا الرَّبَّ لأنه صالِح لانَّ للأبد رَحمَتَه (مز 117: 1). ثمّ يعلن كاتب سفر المزامير بأن إله بني إسرائيل هو بمثابة «الحَجَرُ الَّذي رَذَلَه البَنَّاؤون قد صارَ رأسَ الزَّاوِيَة» (مز 117: 22). فقد كان في زمن داود النبي والملك، شعوب وآلهة كثيرة إلّا أنّ هناك بعض الشعوب رفضت الإنتماء والتعرف على إله بني إسرائيل وهو إله فريد ومتميز. مما لا شك فيه، أنّ بني إسرائيل بعباداتهم لآلهة آخرى قاموا برفض الله كراعي لهم. لذا تأتينا كلمات الكاتب اليوم لتذكرنا هل نحن ممن يرفضون أم مما يضعون الرّبّ في مركز حياتهم وإهتمامهم. لا يمكن لحجر الأساس أن يكون بعيداً أو مرفوضًا وألّا سيسقط بيتنا، وسنصير كرعيّة بدون راعي، لأنه سنكون بدون أساس وبدون راعي يقودنا إلى بيتنا، وهو الرّبّ رّاعينا.

 

2. الرَّاعي المرفوض (يو 10: 11- 19)

 

على ضوء اللّاهوت اليوحنّاويّ نعلم أنّ يسوع رُفض من كثير من معاصريّه سواء مُعلميّ الشريعة أم الكهنة ... إلخ (راج يو 8: 40- 59). رفض يسوع وهو ابن الله بسبب جهل معاصريّه لهويته الإلهيّة. فالله الآب يرسل إبنه من عُلاه والإنسان يرفضه. هكذا تأتينا صورة الرَّاعي الّذي يستمر في بذل ذاته ليستعيد كل مَن ينتمي لرعيته. يأتي يسوع القائم اليّوم ليّذكرنا بأنه لازال من مجده يستمر في رعايتنا. وهذا ما فعله بطرس في شهادته عند بدء إنطلاق الرّعيّة وهي الكنيسة الأوّلى، في حياتها، أمام الشيوخ والكتبة عندما سُئل عن معجزة شفاء المفلوج وكرازته (راج أع 4). إذ به يعلن في كلمات واضحة مُكرراً ثانيّة أنّ الشفاء تمّ باِسم القائم من بين الأموات فهو الرَّاعي الّذي يستمر في الإهتمام برّعيته من مجده. نجد مصطلحات أخرى، يستخدمها بطرس، تصف سرّ يسوع الفصحيّ مثل "الحجر المرفوض، الذي صار رأسًا للزاوية". هكذا فإن عملية البذل والنوال، الّتي سنراها في المقطع بحسب يوحنّا، تُعاد قراءتها في أُفق مشروع الله الّذي يُشكل حجر الزاويّة لما أهمله العالم، وما إعتبره ضعيفًا. فقط في هذا "الحجر المرفوض" أي في المنطق الّذي جسده، يمكن أن يكون هناك خلاص لحياة كل إنسان بالبشريّة.

 

3. بذل الرَّاعي ذاته! (يو 10: 11)

 

 قد نرى إنّه من الغريب أن نقرأ هذا النص في هذا الزمن الفصحي فهو يخرج عن العادة إذ لا تتوالي قرائتنا سلسلة ظهورات القائم كما رأينا في المقالات السابقة. إلّا إننا سنتعمق في هذا النص مُستعيدين كلمات يسوع قبل إتمامّ سرّه الفصحيّ. فنجد من الجانب اللّاهوتي أنّ جوهر الرسالة الإنجيليّة والمأخوذة من الإنجيل اليوحنّاوي (10: 11- 18)، ينشأ بشكل رئيسي من إستخدام الفعل الأوّل الجوهري وهو «يبذل» بهذا المصطلح يُلخص الإنجيليّ كلّ حياة يسوع وفصحه من خلال صورة الرَّاعي.

 

ففي الآية الإفتتاحية للنص نسمع يسوع مُعلنًا: «أَنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف» (يو 10: 11). وهذا يبرز قيمة الفعل الأول يبذل حيث نُلاحظ أنّ يسوع يُعرّف نفسه بالرَّاعي الجميل-Kallos من اليوناني لأنّه يبذل حياته. وردّ فعل يبذل لدى يوحنّا عدة مرات. مرة واحدة بالجزء الأول (يو 2- 12 في "يو 2: 10") ؛ بينما في الجزء الثاني (يو 13- 19) ست عشرة مرة، بدءاً من حديث يسوع عن الخراف والرَّاعي (يو 10: 11. 15. 17). مما يؤكد أهميّة فعل يبذل بحسب إنجيل يوحنّا فهو يشير لّاهوتيّا إلى حركة يسوع الّتي تُعبر عن المعنى العميق لحياته ولرسالته وعلاقته مع الآب ومع تلاميذه، والّتي تتمثل في منح حياته كهبة لكل خرافه الّتي تضعه مركز حياتها.

 

بالنسبة ليسوع يكمن سرّ الحياة الحقّة في معرفة كيف يبذل المرء حياته بإرادته «ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ» (يو 10: 18). وهو نفس الفعل الّذي يظهر عندما كان يسوع في عشائه الأخير (راج يو 13: 4) ليقوم بالفعل الجوهري الّذي يعبر عن معنى موته، أي غسل الأرجل، إذ خلع ثيابه ليغسل أرجل تلاميذه. ترك لتلاميذه النموذج ليحتذون به حتّى يحيوا حياة ذات معنى كحياته. قام يسوع ببذل جسده بالموت ثم بالقبر. هكذا يخبرنا فعل يبذل أنّ جمال أي صلاح الرَّاعي الجميل يعتمد على محبته الّتي تصل حتّى النهاية، إلى حد بذل حياته (يو 13: 1).

 

4. ماذا ينال الرّاعي؟ (يو 10: 17- 18)

 

بعد أن تحدثنا عن فعل "يبذل" كفعل جوهري سنتوقف قليلاً أمام الفعل الثاني والّذي لا تقل أهميته بالنسبة للّاهوت اليوحنّاوي ويرتبط بالـ«بذل» وهو فعل «ينال» بهذ المصطلح الثاني يساعدنا الإنجيليّ بتفحص أقوال وأفعال يسوع في حياته والّتي تممّها بفصحه. تتجلى أهمية فعل «ينال» بالتركيز على جمال وصلاح الرَّاعي الجميل لا يكمن فقط في فعل "يبذل" الّذي يُعبر عن محبته وتقديم حياته. يسوع، رّاعي الخراف يُدعى أيضًا جميلًا -صالحًا لحريته الّتي يتم التعبير عنها بدقة باستخدام عبارة «إِنَّ الآبَ يُحِبُّني لِأَنِّي أَبذِلُ نَفْسي لأَنالَها ثانِيَةً  ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ. فَلي أَن أَبذِلَها ولي أَن أَنالَها ثانِيَةً» (يو 10: 17- 18). لقد بذل يسوع حياته، لكنه فعل ذلك بحرية كاملة، فله من القدرة على أنّ يهبها ويأخذها مرة أخرى. ولأن يسوع يعيش محبته بحرية، ويبذل حياته، فيمكنه أنّ يبثّها لنا الّذين نؤمن به. ولهذا السبب يصبح بذله، بالموت حياة جديدة لنا، بل خلقًا جديدًا وقيامتنا به. وكما أنّ يسوع بسبب حبه بذل حياته وصار نموذجًا في الجمال لتلاميذه، هكذا أصبح أيضًا واحدًا في الحرية. إنّ الخراف-نحن، الّتي تستمع إلى صوت الرَّاعي وتتبعه، ليست فقط مدعوة إلى أن تبذل حياتها مثله، بل أيضًا إلى أن تعيش بحرية لأجله.

 

الخلّاصة

 

اتباعًا لله الراعي بالعهد الأوّل، وهو في صورة الحجر الّذي كان مرفوضًا بحسب توقفنا على كلمات كاتب سفر المزامير 117 (118)، الّذي شّدد على رعايّة الله لشعبه بأمانته. على هذا المنوال أصغينا لكلمات يسوع رَّاعينا الجميل، الّذي بقيامته يأتينا القائم، اليّوم، كرّاعي لنا كنساء ورجال هذا العصر. مدعويّن لنختبر حبّ الله الكبير الّذي جعل من ابنه حياة لنا. فنحن كمؤمنين مدعوين لتمييّز صوته كرَّاعي، لندخل في ذات العلاقة بين الآب والابن فيصبح كلّ مؤمن به  ابنًا في الآب. حياة الرّاعي هي ثمرة فصح يسوع الّتي أصبحت حاضرة في حياة المؤمنين في كلّ العصور، مدعويّن اليّوم لاتباع الرَّاعي الصالح-الجميل على الطريق نحو ملء الملكوت. من خلال ما نوهنا عنه، في هذا المقال، وعلى ضوء كلمات يسوع الّذي يبذل وينال الحياة بارادته، والّذي أعلن لتلاميذه بحسب يوحنّا لاحقًا: «إِن ثَبتُّم في كلامي كُنتُم تلاميذي حَقاً تَعرِفونَ الحَقّ: والحَقُّ يُحَرِّرُكُم» (يو 8: 31 – 32). بهذا المعنى، علينا أنّ نفرح ونحتفل، في هذا الأسبوع الرابع من الفصح، بالرّبّ القائم بصورته البهيّة وهو الرَّاعي الجميل كثمرة فصحه المبارك. حياة القائم الّتي بذلها وقدمها بحريّة تصبح أيضًا حياة لنا نحن تلاميذه اليّوم. وبهذا المعنى، فالقائم هو الرَّاعي الحقيقي، الّذي أعطي حياته لتكون لنا حياة أفضل (راج يو 10: 10) ويعرف كيف يقودنا على طريق آمن، وهو الطريق نحو الآب