موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٢ مارس / آذار ٢٠٢٤

"سيّادة الـمُتألم" بين كاتبي نبؤة اشعيا والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 50: 4- 6؛ مر 11: 1- 10؛ 14: 1- 15: 47)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 50: 4- 6؛ مر 11: 1- 10؛ 14: 1- 15: 47)

 

مُقدّمة

 

نسير معًا القراء الأفاضل نحو ملء الزمن الأربعينيّ وهو عيد قيامة الرّبّ من بين الأموات. بعد أنّ تعمقنا، بالمقالات السابقة، من خلال النصوص الكتابيّة فيما بين العهدين، على الأسلّحة الّتي تُهيئنا للمعايشة سرّ يسوع الفصحي بشكل أعمق. من خلال الأسلحة الروحيّة الّـتي تتلخص في القوس الإلهيّ، ثم سلاح الحياة، ويليها سلاح المجانيّة، ثمّ سلاح الحقّ وأخيراً إختتمنا بسلاح الغفران. هذه الأسلحة تمهدنا اليّوم لقبول نصوص مقالنا الحاليّ، الّلذان يصيرا تمهيد أساسي للأسبوع العظيم. من خلال نص العهد الأوّل، بنبؤ اشعيا وبلأخص في جزء اشعيا الثاني (40- 54) الّذي يمنحنا صورة العبد الّذي يضع في مقدمة أولاوياته سيّادة السيّد الرّبّ (50: 4- 7) قبل قبوله رسالة الآلم وشعوره بالخجل والعار. أمّا بالنسبة لنص العهد الثاني فيأتي النص المرقسي على مرحلتين؛ الأوّلى وهي دخول يسوع أورشليم (11: 1- 10) والثانيّة هي سرد الإنجيليّ لروايّة آلام الرّبّ وموته مُشدداً عليه كمُتألم يتوجه بحزم نحو أورشليم ليتمّم رسالته الخلّاصيّة (14: 1- 16: 45). من خلال هذا المقال التمهيدي لأسبوع الآلام وللثلاثيّة الفصحيّة معًا، مدعوين لتهيئة عالمنا الباطنيّ للغوص في قيامة الرّبّ من خلال تبعيته في مسيرة الألم والموت الّتي يتممها "مِن أجلنا ومِن أجل خلاصنا". نهدف أنّ نرافق "خطوات المتألم" هذا الأسبوع الأخير مع عبد الله برسالة اشعيا النبويّة ومع يسوع الابن في بشارة مرقس، بترك المجال لسيّادة الرّبّ من خلال الآلم. فالكلمة الأخيرة ليست للآلم، بل للمجد ولإعلان سيّادة الرّبّ من خلال الآم العبد والابن.

 

 

1. سيّادة عبدُ الرّبّ (اش 50: 4- 7)

 

يحمل لنا الوحي الإلهيّ في الجزء الثاني "اشعيا الثاني" وهو المعروف باِسم كتاب التعزيّة، من رسالته النبويّة، أربعة أناشيد وهي تُشكل صورة إستباقيّة لآلام يسوع المسيح بالعهد الثاني، تنطلق هذه الآلام  في آلام عبدُ الرّبّ بحسب اشعيا. في هذا المقال سنتوقف أمام بعض الآيات من النشيد الثالث (50: 4- 7)، الّتي نسمع فيها صوت العبد المتألم وهو يستجيب لنداء السيّد، موضحًا كيف أعدّه والأسباب الّتي جعلته يقبل قائلاً: «آتاني السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسانَ تِلْميذ يَبعَثُ كَلِمَةً لِأَعرِفَ أَن أَسنُدَ المُعْيي. يُنَبِّهُ أُذُني صَباحاً فصَباحاً لِأَسمعَ كتِلْميذ. السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ أُذُني فلمِ أَعصِ ولا رَجَعتُ إِلى الوَراء» (50: 4- 5). هذة الرسالة الّتي يستقبلها العبد كنداء من الرّبّ وهو بمثابة سيّده، يشير في سرده على قبوله لسيّادة الرّبّ عليه وعلى مصيره المستقبليّ. لذا يقوم بالإستجابة من خلال حاسة الإصغاء إذ يصغي لصوت الرّبّ ويقبل المجازفة بالألم مُؤكداً الطاعة وعدم العصيان بل يؤكد على قراره الحازم في تبعيّة مشورة السيّد الرّبّ لأنّ ثقته في سيّادته الّتي تحمل الخير له ولـلضعفاء. يستمر العبد قائلاً: «أَسلمتُ ظَهْري لِلضَّارِبين وخَدِّي لِلنَّاتِفين ولم أَستُرْ وَجْهي عنِ الإِهاناتِ والبُصاق. السَّيِّدُ الرَّبُّ يَنصُرُني لِذلك لم أَخجَلْ مِنَ الإِهانة ولذلك جَعَلتُ وَجْهي كالصَّوَّان وأَنِا عالِمٌ بِأَنِّي لا أَخْزى» (50: 6- 7).

 

ثمّ يشير العبد إلى أسباب تلبيّة النداء وهي إنّه سيعرف كيف يساند الضعفاء (راج 50: 4). بالرغم من تسليمه ذاته بوعيّ للرافضين له، وللألم لأنّه أدرك جوهريّة رسالته وهي إنتمائه للسيّد وليس للبشر، يُشدد العبد بأنّ الكلمة الأخيرة هي لسيّادة الرّبّ فهو الّذي دعاه وهو الّذي سينصره. وهذا السبب جعله يتقدم دون خجل أو تراجع أمام الألم. على ضوء قرار العبد الواضح بقبوله الألم، تتضح سيّادته على الألم، فهو ليس بخاضع أو مُستسلم، بل من خلال طاعته وإستجابته الحرة والواعيّة يترك المجال لسيّادة السيّد الرّبّ الّذي دعاه.

 

 

2. الابن: سيّد الأحداث (مر 11: 1- 15: 47)

 

بناء على إرادة العبد الرّبّ الحرة ووعيّه بالطاعة للرّبّ الّذي دعاه بحسب اشعيا سنرى الابن وهو يتوجهه نحو أورشليم عابراً مسيرة الآلام الّتي تبدأ بدخوله إلى أورشليم (مر 11: 1 – 10). وهنا تصل ذروة البشارة المرقسيّة إلى سرده آلام الابن الإلهي (14: 1- 15 :47). يُمهد لنا طقس أحد الشعانين مسيرتنا كمؤمنين طوال أسبوع الآلام كنقطة إنطلاق للإحتفال بسرّ آلام الرّبّ وموته ودفنه وقيامته. من خلال تتبعنا للقرائتين بحسب مرقس، ومقارنتنا نصوص القيامة الّتي تتمحور حول قيامة الرّبّ خلال زمن القيامة، نجد أنّ رغبة مرقس الإنجيلي، في أنّ يبشرنا برواية آلام وموت وقيامة يسوع بشكل كامل. ووفقًا لنصوص مقالنا هذا نجد أنّ إعلان الإنجيلي بنصيّن إنجيلييّن لهما قيمتهما اللّاهوتيّة بحسب منهجيّته.

 

تُرتكز رواية حدث دخول يسوع أورشليم بحسب مرقس (11: 1 – 10)، تمهيد لقراءة روايّة آلام الرّبّ، والّتي ترد مُطولة بحسب مرقس 14: 1- 15: 47. على ضوء قرائتنا لبعض آيات النشيد الثالث لعبد الرّبّ (أش 50: 4-7) والّذي من وجهة نظرنا، هو بمثابة مفتاحًا تفسيريًا لّاهوتيًا لروايّة الآم يسوع. إلّا أنّ المقاطع الإنجيليّة المأخوذة بحسب مرقس، تساعدنا على الدخول في سرّ يسوع الفصحيّ والأحداث الّتي تروي آلامه وموته أي عبوره للقيامة والمجد.

 

يكشف لنا الإنجيلي بأنّ سيّادة يسوع هي الّتي تحتل المكانة الأوّلى وتُسيطر على كلّ الأحداث الّتي تجري من حوله. إنّه ليس مستسلمًا للألم ولم يقع تحت رحمة الرافضين له من البشر الّذي آتىّ خصيصًا من أجل خلاصهم، بل هو سيّد لمصيره وقراره. ففي روايّة دخوله إلى أورشليم، تؤكد على دخوله المسيّاني والّتي تُجسد نبوءة زكريا الـقائل: «اِبتَهِجي جِدّاً يا بِنتَ صِهْيون وإهتِفي يا بنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكَ آتِياً إِلَيكِ بارّاً مُخَلِّصاً وَضيعاً راكِباً على حمارٍ وعلى جَحشٍ ابنِ أتان» (9: 9). يُظهر هنا مرقس الإنجيلي هويّة يسوع الحقيقيّة، فهو سيّد لكلّ الأحداث الّتي تدور حوله. ففي هذه الروايّة وهي أقصر الروايات مقارنة بباقي الأناجيل الثلاث، تحتلّ الآيات من جانب يسوع مساحة كبيرة (راج مر 11: 1 – 6)، وهذا يُهيئنا للإحتفال بحدث دخوله لأورشليم.

 

يظهر الجانب نفسه من طريقة تعامل يسوع مع يهوذا أثناء العشاء (مر 14: 17 – 21). إن سيادة يسوع على الأحداث التي تحدث تبدو وثيقة الصلة بالموضوع، لدرجة أن مرقس، يعرضها بسخرية من بداية روايّة آلام يسوع. فإذا توقفنا على آيات مرقس الأوّلى، سنرى أن سيّادة يسوع على كل ما يحدث قد تأكدت منذ البدء. وبعد أن قام بترتيب الوقائع زمنيًا  «وكانَ الفِصحُ والفَطيرُ بَعدَ يَومَين. وكانَ عُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَةُ يَبحَثونَ كيف يُمسِكونَهُ بِحيلَةٍ فيَقتُلونَه، أَنَّهُم قالوا: "لا في حَفلَةِ العيد، لِئَلاَّ يَحدُثَ اضطِرابٌ في الشَّعْب"» (مر 14: 1- 2).  إنها ملاحظة تبدو وكأنها عابرة إلّأ إنها في غايّة الأهميّة، في الواقع، كل شيء سيحدث بشكل صحيح خلال العيد. يبدو أن الرؤساء البشريين يُرتبون كلّ شيء، وكلّ ما يحدث ظاهريًا خلال روايّات الآلام يبدو وكأنه ثمرة شر الإنسان ومؤامرات الأقوياء، لكنها في واقع الأمر تحمل سرد روايّة حياة الابن الـمُعطاةبحريّة ووعيّ.  وسيظهر ذلك بوضوح خلال روايّة العشاء الأخير (راج مر 14: 22 – 25)، عندما يأخذ يسوع الخبز والكأس بين يديه، ويقول: «بَينما هم يَأكُلون، أَخذَ خُبزاً وبارَكَ، ثُمَّ كَسَرَه وناوَلَهم وقال: "خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي". ثُمَّ أخَذَ كأَساً وشَكَرَ وناوَلَهم، فشَرِبوا مِنها كُلُّهم، وقالَ لَهم: "هذا هو دَمي دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس» (مر 14: 22 - 24).

 

 

3. إنكار التلميذ (مر 14: 66- 72)

 

نتابع بحسب مرقس وهو الّذي يعتبره التقليد الكتابي تلميذاً لبطرس، كيف يشير في سرده بأن أحداث الآلام ليست نتيجة للصدفة وليست بسبب المؤامرات البشريّة، بل تنبع من إختيار يسوع الحرّ والواعي. إنّ حدث دخول يسوع إلى أورشليم يؤكد أيضًا على نوعيّة المسيح أي المسيّا الّذي يأتي حاملاً الخلاص للجميع وبدون إستثناء. وهذا ما سنراه في نبؤته لبطرس الّتي أعلنها قبل عبوره الآلام بالإنكار الّذي سيأتي لاحقًا بقوله: «الحَقَّ أَقولُ لَكَ إِنَّكَ اليومَ في هذِه اللَّيلَة، قَبلَ أَن يَصيحَ الدِّيكُ مَرَّتَين، تُنكِرُني ثَلاثَ مَرَّات» (مر 14: 30). تكشف سيّادة المعلم في إعلانه حدث إنكار تلميذه قبل وقوعه، مما يؤكد إنّه بالفعل هو صاحب السيّادة الـمسيّانية (راج مر 14: 27- 31). وبالرغم من إعلان بطرس شفويًا هويّة معلمه قبلاً حينما أجاب على سؤال يسوع ببراعة مَن أنا في رأيكم، نسمع بطرس مؤكداً: «أَنتَ المسيح» (مر 8: 29). لكن بطرس، في واقع الأمر، لمّ يدرك هويّة المسيح الحقّة ونعلم ذلك من خلال قوله أثناء آلام يسوع قائلاً: «إِنِّي لا أَعرِفُ هذا الرَّجُلَ الَّذي تَعْنُونَه» (مر 14: 66- 72). وبهاء على إنكار التلميذ الّذي كشف سيّادة يسوع ومسيّانيته سنتوقف بحسب رواية مرقس لآلام الرّبّ إيمان شخصيّة وثنيّة تقلّب الموازين وتجعل كلّ ما هو وثني بداخلنا يتطهر مع آلام الرّبّ.

 

 

4. إيمان الوثني (مر 14: 1- 15: 47)

 

بتتبعنا دخول يسوع أورشليم، كمسيح متواضع ووديع، ركز مرقس على حدث إنكار بطرس وه هو الآن يتوقف على حدث نقيض تمامًا، عند أقدام الصلّيب هل سيكون من الممكن أنّ نفهم، بحسب اللّاهوت المرقسيّ، وبشكل كامل حقيقة يسوع ومسيّانيته؟ يكشف الإنجيلي ما يحمله قلب شخص وثني وهو الإيمان فهو قائد الـمئة الوثنيّ الّذي سيفاجأنا بفهمه الباطني هذه السيّادة الإلهيّة، إذ يراه يموت فيقول جملة وحيدة ولا نسمع صوته سوى في هذا القول: «كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً!» (مر 15: 39). تؤكد سيّادة يسوع المتألم في مقطع الآلام، على حقائق تُميّز بقوة نهايّة حياته الأرضيّة. وكما في المقطع الخاص بالدخول إلى أورشليم، يظهر هذا الجانب من روايّة إعداد العشاء الأخير، حيث يحدث كل شيء وفقًا لأمر يسوع. إنه سيد الأحداث ويبدو أنه يعرف كل شيء ويحدد كل شيء (راج مر 14: 12 – 17).

 

 

الخلّاصة

 

إن نصيّ كلّا العهديّن يحملا لنا رسالة جوهريّة بناء على آلام عبد الرّبّ بحسب اشعيا (50: 4- 7) وآلام يسوع الابن بحسب مرقس (11: 1- 10؛ 14: 1- 15: 47) هل يسوع الألم أم الإرادة الإلهيّة الّتي لها سيّادتها القويّة؟ مقطع عبد الرّبّ يحمل دليل إضافي لفهم روايّة آلام وموت يسوع. ترشدنا كلمات نشيّد خادم الرّبّ إلى فهم خوض الآلام بوعي وبقبول كطاعة للسيّد الرّبّ وليس للبشر. ويقيّن العبد بأنّ الله في عونه وسيادته الّتي يخضع إليها لخير ضعفاء آخرين. وهكذا يأتي يسوع الابن مُتممًا، ما لم يُفهم من أناشيد العبد الأربع لأنّه بحسب قول بولس «فَوضَعَ [يسوع] نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى» (فل 2: 8). حتى في هذين النصين تظهر قراءة للتاريخ تتجاوز المظهر، مدعوين لرؤية مشروع الله الخلاصيّ قائلين: من أجلنا ومن أجل خلاصنا عبر يسوع الألم. في بداية أسبوع الآلام لهذا العام، نحن ككنيسة مدعوين، مثل بطرس بالعبور من الإنكار إلى الإيمان، ومثل الوثني التعبير عن إيماننا بتركنا الرّبّ يسود علينا حنى من خلال الألم، دون رفضه وعدم الإستسلام لمشاريعنا البشريّة. علينا بالتركيز على أنّ الآلام، مصدر لتواضع قلوبنا وإعلاء المجد الإلهي. سواء آلام العبد أو يسوع الابن، رمز لآلامنا الّتي تعيشها بشريتنا اليّوم، ومن خلالها لنتعلّم كيف نسير نحو ملء ملكوت الله وقيامة الابن الأبدية الّتي تترك السيّادة للرّبّ. أسبوع الآم مقدس. دُمتم خاضعين لسيادة الله الآب دون إستسلام أو خنوع للألم.