موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ مارس / آذار ٢٠٢٤

"سلّاح الـمجانيّة" بين كاتبي سفر الخروج والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (خر 20: 1- 17؛ يو 2: 13- 22)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (خر 20: 1- 17؛ يو 2: 13- 22)

 

مُقدّمة

 

في هذا الأسبوع الثالث، من الزمن الأربعينيّ، مدعويّن من خلال قرائتنا لنصوص كِلّا العهدين ندخل في مرحلة جديدة من مسيرتنا الإستعداديّة لفصح المسيح القائم. يتميز مقالنا لهذا الأسبوع بخلاف المقاليّن الماضييّن حيث نقاشنا سلّاحيّ القوس الإلهي من خلال نص نوح والطوفان وتجارب يسوع. ثمّ سلّاح الحياة الّذي جمع بين حدث نقدمة إبراهيم إسحق ذبيحة للرّب وحدث التجليّ الّذي إستبق المسيح به، قبل عبوره الآلم والموت، سر الحياة. يتميز مقالنا الحاليّ وهو الثالث من مسيرتنا الأربعينيّة بمقطع العهدّ الأوّل والّذي يرويّ كلمات الله العشر بحسب سفر الخروج (20: 1- 17). والّذي يهدف إلى إستمرار العهدّ الإلهي مع الشعب منذ تحريره. المقطع الثاني سنتواصل بنص فريد من نوعه بحسب إنجيل يوحنّا وهو نصّ يطلق عليه تطهير الهيكل ( 2: 13-25). يأخذ إنجيل يوحنّا قيمته اللّاهوتية بمنهجيّة هامة بشكل خاص لفهم شخص يسوع وجوهر رسالته. نهدف من خلال هذا المقال التعرف على السلّاح الثالث والّذي سنكتشفه من خلال سلاح المجانيّة الّذي يبدأ مع الله بالعهد الأوّل ويصل إلى قمته في يسوع الإبن.

 

1. كلمة أم كلمات؟ (خر 20: 1- 17)

 

في القراءة الأولى نواجه النص الأساسي للمعاهدة السينائيّة، والّتي تتجسد في الكلمات العشر. في مقدمة نص الكلمات العشر يمدّنا الراوي بالسمّات الأساسيّة الّتي نحتاجها لتفسير النص ككلّ قائلاً: «تَكَلَّمَ اللهُ بِهذا الكَلامِ كُلِّه قائلاً» (خر 20: 2). لقد خلق الله الشعب وأعطاه حريّة مُطلقة حينما تحالّف معه. ولكن حتّى قبل قطع العهد مع الشعب، أراد الله شعبًا يختاره بإرادته ويريد أنّ يبقى كـمُحاور حرّاً له. لمّ يرغب الرّبّ في أنّ يتحرر إسرائيل من عبودية المصرييّن القمعيّة فحسب، بل أردّ الحريّة الجذريّة، أراد القضاء على أي تواطؤ مع العبوديّة، وأي إغراء لتفضيل العبوديّة على حرية عبادته. لهذا السبب، يتوجب على إسرائيل، قبل أنّ يستمع إلى كلمات إلهه، أنّ يتذكر ولادة حريته الّتي أرادها الله قبل أي شيء آخر.  لكن الرّبّ ليس فقط إلهًا محررًا، بل هو أيضًا إله غيور وهذا نعلّمه من قوله: «أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذي أَخَرجَكَ مِن أَرضِ مِصرَ، مِن دارِ العُبودِيَّة. [...] لإِنِّي أَنا الَرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيور» (خر 20: 2- 4).

 

الغيّرة الإلهيّة هي سمة من سمات المحّبة البشريّة الّتي يستخدمها الكتاب المقدس العبريّ للحديث عن محبة الله لشعبه، كغيرة العريس على عروسه.والشعب هو بمثابة العروس وهنا سبب غيرة الله ليست ثمرة محبة التملك، بقدر ما هي ثمرة محّبة حقيقية لا تبالي بخيارات الآخر. يتألم الله لأنّه يرغب في إظهار فيض محبته الأمينة للشعب، فهو مُجبر على الإعتراف بأنّ الجراح الّتي تألم بها شعبه وهو شعب يتمتع بحريته وهذا الألم يستمر لأجيال (راج خر 20: 5) ولا يشفى على الفور، ولكن الأمر يستغرق وقتًا. ففي هذا الوقت الرّبّ يرافق شعبه في كل الأوقات الألم والفرح، العبوديّة والحريّة، ... فهو إله العهد والأمانة. لذا رحمته هي الكلمة الإخيرة: «وأَصنَعُ رَحمَةً إِلى أُلوفٍ مِن مُحِّبيَّ وحافِظي وَصاياي» (خر 20: 20). بهذه الرحمة الّتي ترجمها في عطاياه المجانيّة من الإحتفال بالفصح العبريّ قبل الخروج من مصر والتحرر من العبوديّة. هذا بالإضافة إلى منحه عطايا المنّ والماء بالبريّة وأخيراً بينما الشعب يعبد العجل الذهبي إلّا أنّ الله يستمر في إعطاء كلماته العشر. هذا هو جوهر مجانيّة الله الّذي يعطي بدون حدود وشروط لشعبه وبالأخص الكلمات العشر الّتي صارت جوهر الحضور الإلهي المجاني لله في وسط شعبه.

 

2. يسوع هو الهيكل الإلهي (يو 2: 13- 15)

 

بحسب إنجيل يوحنّا، يمسّ هذا المقطع موضوع لّاهوتي يوحنّاويّ وهو العلاقة بين يسوع والهيكل، على عكس الأناجيل الإزائية الّتي تضعه بالقرب من نهاية حياة يسوع، أيّ بعد دخوله المنتصر إلى أورشليم. بينما يوحنّا يضعه مباشرة بعد المقدمة السردية (راج 1: 1- 18)، وإختيار تلاميذه الأوائل. وبعد حضور تلاميذه أوّل آياته أي معجزاته بقانا الجليل يرويّ يوحنّا جوهر رسالة يسوع. يشير حدث تطهير الهيكل إلى أنّ البُشرى اليوحنّاويّة تحتل دورًا خاصًا جدًا.بينما يأتي أوّل إشارة إلى عيد الفصح، مما يخلق دمجًا بين هذا المقطع المنهجي الّذي تمّ وضعه في بدايّة بشارته وربطه بروايّة الآلام والموت والقيامة الّتي ستختتم الإنجيل. إذ يفتتح الإنجيل النص قائلاً: «وكانَ فِصحُ اليَهود قَريباً، فصَعِدَ يسوعُ إِلى أُورَشَليم، فوَجَدَ في الهَيكَلِ باعةَ البقَرِ والغَنَمِ والحَمامِ والصَّيارِفَةَ جالِسين. فَصَنَعَ مِجلَداً مِن حِبال، وطَرَدَهم جَميعاً مِنَ الهَيكَلِ مع الغَنَمِ والبَقَر، ونَثَرَ دَراهِمَ الصَّيارِفَةِ وقلَبَ طاوِلاتِهم» (يو 2: 13- 15). الهيكل في هذا الوقت هو مكان يستقبل الجميع، الوثنيين واليهود، الرجال والنساء، ... . هذا يدل على إنّه صار مكانًا للتجارة إذ فقدّ الهيكل الّذي كان يحتفظ فيه الشعب بكلمات الله العشر. وبهذا إختلف معنى الهيكل من العباداة والروحيات والإلتقاء بالله إلى مكان لتحقيق المكاسب الشخصية وكلّ هذا يتم بإذن السلطتن الكهنوتية في عصر يسوع.

 

وهنا يستعيد يسوع الإكرام لهيكل الله آبيه طارداً الباعة والتجار والصيارفة وبضائعهم خارج الهيكل المكرس فقط لعبادة الله والإلتقاء به. وهنا يوحنّا يشير برسالة جوهريّة في ردّ فعل يسوع وهو تطهير الهيكل من النجاسة ومن كل ما هو لا ينتمي لله. الطهارة الّتي سمّة الهيكل الإلهي بسبب إحتوائه على كلمات الله العشر إلّا أنّ الفعل البشري المعاصر للباعة في زمن يسوع يشير على أنّ أمانة الله ومجانيته وتغييّب الشعب بالكامل عما هو ما لله وإنغلاقه على مصلحته الشخصيّة والماديّة في بيت الله ولكنه بعيداً تمامًا عن الله في الحقيقة.

 

3. مجانيّة يسوع (يو 2: 16- 22)

 

لازالّ يسوع بحضوره يصرخ في كلًا منا ونحن الّذين نتردد على الكنائس والمعابد الدينية ولكن بسبب مصالح شخصيّة، وهنا يأتي نداء يسوع  لنا اليوم قائلاً: «اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام! أَمَّا هو فكانَ يَعْني هَيكَلَ جَسَدِه» (يو 2: 19- 20). وهذا هو معنى الهيكل الجديد الّذي حمله يسوع من خلال عنفه وطرد الباعة من الهيكل. والهيكل هو جسد يسوع الإبن، فالله الآب لا يرغب في مكان اللقاء معنا بقدر أنّ نلتقي به في إبنه فنصير أبناء وهياكل حية مثل يسوع تحمل غنى كلمات يسوع.

 

مجانيّة يسوع الّذي لا يحتفظ بأبوة الله لذاته، بل ليشاركنا بنوته فيصير أبًا لنا جميعًا ويأتي ليطّهر باطننا بقيامته ويصالحنا بالله الآب ونجعل من ذواتنا هياكل تقبل مجانيّة الحب الأبديّ الّذي بدأ في كلماته العشر ووصل إلى ذروته في يسوع الكلمة الحيّة.

 

الخلّاصة

 

يعطي الله بالعهد الأوّل (خر 20: 1- 17) من خلال موسى للشعب كلماته العشر دون أنّ يطلبونها ليحافظ على عهده وأمانته. هذا هو إله المجانيّة الّذي لا يتم التواصل معه بالتبادل لتقديم الذبائح والعطايا والعشور بقدر إنّه يطلب علاقة أمينة ودون مصلحة مع شعبه. وعلى هذا المنوال تناول يوحنّا في حدث تطهير الهيكل مجانيّة يسوع على مثال إله العهد الأوّل فصار هيكل الله لنا جميعًا. لذا يُذكرنا الإنجيلي بأنّهم: «فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع» (يو 2: 22). هذا هو يسوع الكلمة الحيّة والأخيرة الّتي نطق بها الله الآب ليختتم حبه بمجانيّة عطاء ذاته. هذه مُداخلة الإنجيلي نفسه الّذي أكدّ كيف أنّ الكلمات الّتي قالها يسوع في هذه المناسبة سوف يتذكرها تلاميذه بعد قيامته وستكون أساسية للإيمان. الجوهر الأساسي الّذي يوحد كِلا النصين هو جسد يسوع نفسه الّذي يتحلى بسلاح المجانيّة الّذي وهبه له الله الآب وتعامل في علاقته مع شعبه بهذا السلاح. مدعوين للتحلّي بسلامح المجانيّة فنصير كلمات الرّبّ اليّوم وهياكله الحيّة. دُمتم بمحانيّة هياكل للآب والإبن والرّوح القدس.