موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١

سلطة يسوع ومجابهته لسلطة الشر

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الرابع للسنة: سلطة يسوع ومجابهته لسلطة الشر (مرقس 1: 21-28)

الاحد الرابع للسنة: سلطة يسوع ومجابهته لسلطة الشر (مرقس 1: 21-28)

 

النص الانجيلي (مرقس 1: 21-28)

 

21 ودَخلوا كَفَرناحوم. وما إن أَتى السَّبْتُ حتَّى دَخَلَ المَجمَعَ وأَخَذَ يُعَلِّم. 22 فأُعجِبوا بِتَعليمِه، لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن له سُلْطان، لا مِثلَ الكَتَبَة. 23 وكانَ في مَجمَعِهِم رَجُلٌ فيهِ رُوحٌ نَجِس، فصاحَ: 24 ((ما لَنا ولكَ يا يَسوعُ النَّاصِريّ؟ أَجِئتَ لِتُهلِكَنا؟ أَنا أَعرِفُ مَن أَنتَ: أَنتَ قُدُّوسُ الله)). 25 فانتهاره يسوعُ قال:( (اِخْرَسْ واخرُجْ مِنه!)) 26 فخَبَطَه الرُّوحُ النَّجِس، وصرَخَ صَرخَةً شَديدة، وخَرجَ مِنه، 27 فدَهِشوا جَميعاً حتَّى أَخذوا يَتَساءَلون: ((ما هذا؟ إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان! حتَّى الأَرواحُ النَّجِسَةُ يأمُرُها فَتُطيعُه!)) 28 وذاعَ ذِكرُهُ لِوَقتِه في كُلِّ مَكانٍ مِن ناحِيَةِ الجَليلِ بِأَسْرِها.

 

مقدمة

 

في الاحد الرابع للسنة يصف مرقس الانجيلي سلطة يسوع المسيح في تعليمه وانتصاره على روح الشر لدى زيارته الاولى الى كفرناحوم (مرقس 1: 21-28)؛ حيث يظهر أنَّه صاحب السلطان الحقيقي على النفس والجسد مع ولكلمته القوّة في تحرير الانسان وتغيير حياته. وبهذا اثبت يسوع ان رسالته لا تقوم على القول فحسب، إنما على التعليم العجيب والعمل المعجز أيضا. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

أولاً: وقائع النص الانجيلي (مرقس 1: 21-28)

 

21 ودَخلوا كَفَرناحوم. وما إن أَتى السَّبْتُ حتَّى دَخَلَ المَجمَعَ وأَخَذَ يُعَلِّم.  

 

تشير عبارة "دَخلوا كَفَرناحوم " الى انتقال يسوع وتلاميذه الأربعة من الناصرة الى كفرناحوم (متى 4: 12) وكانت هذه زيارة يسوع الأولى الى مدينته الثانية كفرناحوم (متى 9: 1)؛ في حين يقول لوقا الإنجيلي أنَّ يسوع "نزَلَ إِلى كَفَرناحوم" (لوقا 4: 31)، مما يدلُّ على ان كفرناحوم تقع جغرافيًا أوطئ من الناصرة. أمَّا عبارة "كَفَرناحوم" فتشير الى مدينة تقع على الشاطئ الشمالي الغربي من بحيرة طبرية. وكانت من أعظم مدن الجليل على شاطئ بحيرة طبرية (متى 4: 12)، وكان لها مكان الصدارة في الإنجيل؛ اختارها يسوع كمدينته (متى 9: 1) ومركزاً لنشاطه التبشيري الرئيسي في الجليل (متى 9: 1). وصفها متى الانجيلي كحامية رومانية (متى 8: 5)، وملتقى للطرق وممراً للقوافل ومحطة للتجّار ومركزا للجباية (متى 9: 9)؛ وكانت موطنا للصيَّادين. ومنها اختار يسوع رسله الخمسة: بطرس واندراوس ويعقوب ويوحنا ومتى (مرقس 1: 16-20). وفي مطلع رسالته اتَّخذها يسوع مقرّاً ليُقدم إنجيله عن الملكوت لليهود والوثنيين. وفيها أجرى كثيرا من المعجزات (متى 9: 1)، وفيها علّم ولا سيما في مجمعها الذي بناه قائد المائة (لوقا 7: 5). واتَّخذ يسوع من المجمع موضعاً للصلاة ومنبراً للتعليم، ومثله فعل بولس الرسول (اعمال الرسل 13: 15، 14: 1). أمَّا عبارة " وما إن " في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال او للوقت) فتشير الى تعبير مرقس الإنجيلي الذي تكرر 41 مرة.  ويعطيه مرقس الإنجيلي أهمية كبرى. اما عبارة " أَتى السَّبْتُ " في الأصل اليوناني σάββατον مشتقة من كلمة عبرانية שַּׁבָּת معناها راحة) فتشير الى اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح ، وذلك تذكاراً لليوم السابع من الخليقة  " بارَكَ اللهُ اليَومَ السَّابِعَ وقَدَّسَه، لأَنَّه فيه اَستَراحَ مِن كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه خالِقًا" ( تكوين 2: 3 ) ويُعلق القدّيس أمبروسيوس " لقد بدأ الربّ يسوع القيام بالشفاء في  يومَ سبتٍ، للدلالة على أنّ الخليقة الجديدة تبدأ حيث توقّفت الخليقة القديمة مشدِّدا منذ البدء على أنّ ابن الله ليس خاضعًا للشريعة بل هو فوق الشريعة، وأنّه لم يأتِ ليُبطل الشريعة بل ليُكمِّلها (متى 5: 17) " (تعليق على إنجيل القدّيس لوقا 4: 57 ). ولم يجرِّد المسيح يوم السبت من قيمته كيوم للعبادة، فقد ذهب إلى المجمع للصلاة في يوم السبت، ولكنه كان يعمل المعجزات في يوم السبت لأنه رب السبت (مرقس 2: 28). وكان يريد ليوم السبت أن يكون يوم الخدمة وعمل الرحمة. أمَّا عبارة "المجمع" في الأصل اليوناني συναγωγή (معناها جمع الناس معاً او مكان اجتماع) فتشير الى المكان الذي يجتمع فيه اليهود لقراءة الكتب المقدسة وتفسيرها والصلاة. وكان للمجمع مدرسة تعليم، وهو نفسه أيضا محكمة للقضاء (لوقا 12: 11) حيث يُنفَّذ العقاب (متى 10: 17). وبداية من عهد عزرا كان بإمكان جماعة مؤلَّفة من عشر عائلات يهودية ان يقيموا مجمعاً. وجرت العادة ان رئيس المجمع يُعيّن من يقرأ نصوص الاسفار المقدسة ويُفسّرها كل سبت. ويُروي مرقس الانجيلي ان يسوع لم يعظْ في المجمع سوى ثلاث مرات، وكانت المرة الثالثة والأخيرة في الناصرة حيث طردوه من المجمع (مرقس 6: 2).  أمَّا عبارة " السَّبْتُ" في الأصل اليوناني σάββατον مشتقة من العبرية שַּׁבָּת (معناها استراحة) فتشير الى اليوم السابع في الأسبوع. فيه يُعطلّ اليهود بعد ستة أيام من العمل كما جاء في الوصايا العشر "أُذكُرْ يَومَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهفي سِتَّةِ أيام تَعمَلُ وتَصنَعُ أَعمالَكَ كلَّها. واليَومُ السَّابِعُ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، فلا تَصنَعْ فيه عَمَلاً" (خروج 20 :9-10)، فهو يومٌ مكرّسٌ للرب (خروج 31 :15)؛ ويُعلن يسوع "أن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت" (مرقس 2: 27). أمَّا عبارة " وأَخَذَ يُعَلِّم " فتشير إلى خدمة يسوع التعليمية في المجمع. فقد كان رئيس المجمع يدعو بعد قراءة الشريعة من يظهر أنه ذو معرفة بالدين وقادر ان يخاطب الشعب وإن لم يكن من الكهنة (اعمال الرسل 13: 15). ولم يوضِّح مرقس الإنجيلي موضوع "ما يعلمه يسوع" لكنه يذكر تأثير تعليمه في سامعيه (مرقس 6: 2، 10: 26، 11: 18).

 

22 فأُعجِبوا بِتَعليمِه، لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن له سُلْطان، لا مِثلَ الكَتَبَة

 

تشير عبارة "أُعجِبوا" ليس الى الدهشة فحسب، إنما أيضا الى الذعر الذي يثيره تعليم يسوع في سامعي، إذ هي جديدة كما صرّح سامعوه "إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان!" (مرقس 1: 27). أمَّا عبارة " تعليمِه " فلا تشير فقط الى تأثير تعليمه إنما أيضا طريقة التعليم والروح الذي أورده به في سامعيه علما ان مرقس الإنجيلي لم يذكر مضمون التعليم بعكس الإنجيليين الثلاثة الآخرين (لوقا 4: 31-37). لكن يُظهر انجيل مرقس كيف كان تأثيرُ تعليمه على السّامعين. لقد كان كلامه يُحرِّك القلوب. مَّا عبارة " كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن له سُلْطان" فتشير الى سلطة يسوع التعليمية التي تصدر عن داخله، وتستند على الآب السماوي، لأنه هو الكلمة المُتجسد الذي يعرف ما تقوله الاسفار المقدسة وما تعنيه، لأنه هو المرجع النهائي بعكس المعلمين اليهود الذين كثيرا ما كانوا يستشهدون بأقوال المعلمين المشهورين لدعم كلامهم. ويعلق العلامة القدّيس بونافَنتورا  "إننا نقرأ أن الرّب يسوع هو كلمة الآب الكاملة السلطان في نصّ " لأَنَّ كَلامَ المَلِكِ ذو سُلْطان فمَن يَقولُ لَه: ((لِمَ فَعَلتَ؟ " (جامعة 8: 4) والرّب يسوع المسيح هو كلمة الآب، ولذلك السلطان والحكمة، ففي الرّب يسوع إذًا تأسسّت صلابة السلطان واستكملت" (الرّب يسوع المسيح هو المعلّم الأوحد).  عندما كان يسوع يتحدّث لم يكن بحاجة إلى أي سلطان كي يدعم أقواله. لقد كان هو السلطان المتجسّد – كلمة الربّ المتجسّد. وتأتي قوّة تعليم يسوع أيضا من مخاطبته للناس من خلال واقعهم.  ويُعلق القديس كيرلس الكبير" رأوا أمامهم معلمًا لا يُخاطبهم كنبي فحسب، بل كإله عظيم تجثو له الروح قبل الجسد، لأنه رب الناموس". أمَّا عبارة "الكَتَبَة" فتشير الى مفسري الشريعة الرسّميِّين والمُختصِّين بالكتب المقدسة الذين يُكرِّرون فقط الدروس التي تلقّنوها.  وهم خلفاء عزرا (عزرا 7: 6) وكثيرا ما ذُكر في الانجيل انهم معلمو الشعب (متى 23: 2-5)، وسلطتهم التعليمية تستند على التقليد او السُّنة ويستشهدون بأقوال مشاهير المعلمين الربّيين القدماء لتأييد كلامهم (متى 2: 4).

 

23   وكانَ في مَجمَعِهِم رَجُلٌ فيهِ رُوحٌ نَجِس، فصاحَ

 

تشير عبارة " رُوحٌ نَجِس" الى الشيطان الذي تسلط على جسد الرجل وعقله كما أشار إليه لوقا الإنجيلي (4: 33) حيث يجمع بين الروح النجس والشيطان الذي اعتاد استعماله (23 مرة). والشيطان هو الملاك الذي يقاوم الله. امَّا عبارة " نَجِس " فتشير الى موقفه الذي يعارض قداسة الله؛ وتأثيره المناقض لقداسته تعالى وشعبه، امَّا الارواح النجسة فتنتمي الى مملكة الشيطان التي كانت تعمل بنشاط خاص اثناء وجود المسيح بين الناس. وورد تسلَّط الروح النجس على الناس مرتين في العهد القديم، ومرتين في العهد الجديد خارج الاناجيل.  ويجمع مرقس الإنجيلي عدة مرات بين المرض وتأثير الروح الشرير، بين المرضى والممسوسين (مرقس 1: 34، 3: 10-11 و6: 13)؛ أمَّا عبارة " فصاحَ " فتشير الى استخدام الشيطان لفم الرجل، وهذا يبُين ان الشيطان تسلَّط على ذلك الرجل الى حدٍ قد سلب حريته وأخذ قواه.  وهذه الصرخة تدلّ أيضا على انتفاض الروح النجس امام مواجهة المسيح. ان هذا الرجل الممسوس هو صورة لكل إنسان في هذا الوجود، وعذابه صورة لعذاب الناس كما جاء في تعليم يعقوب الرسول " لِكُلِّ إِنسانٍ شَهوَةً تُجَرِّبُه فتَفتِنُه وتُغْويه" (يعقوب 1: 14). ونتساءل اليوم في كنيستنا، هل بيننا إنسان فيه روحٌ نجس؟

 

24  ما لَنا ولكَ يا يَسوعُ النَّاصِريّ؟ أَجِئتَ لِتُهلِكَنا؟ أَنا أَعرِفُ مَن أَنتَ: أَنتَ قُدُّوسُ الله

 

تشير عبارة " لَنا " الى استعمال صيغة الجمع تأكيدا ان في داخل الشخص المتكلم شخصاً آخر يتكلم بلسانه وذلك نيابة عن كثير من الابالسة الذين دخلوا في الرجل النجس ليعذبوه. أمَّا عبارة "ما لَنا ولكَ؟" Τί ἡμῖν καὶ σοί (معناها ما شأنك؟ او " لا علاقة لنا بك ، او في الدارج "شو خصَّك فينا " كما ورد في انجيل يوحنا (2: 4) فتشير الى تعبير مألوف في البيئات اليهودية واليونانية، وهي تدل على بعض التفاوت في المستوى بين المتحاورين، وفي الواقع، مسافة بعيدة بين الله والشياطين حيث ان الشياطين هم اعداء، وحيث يكون الواحد لا يكون الآخر. كما أشار إلى ذلك بولس الرسول وأَيُّ ائتِلافٍ بَينَ المسيحِ وبَليعار؟  (2 قورنتس 6: 14-15)، أَيُّ صِلَةٍ بَينَ البِرِّ والإِثْم؟ وأَيُّ اتِّحادٍ بَينَ النُّورِ والظُّلْمَة؟   وتدل هذه العبارة على التصدِّي لكل تدخّل في غير مكانه او للتعبير عن الرفض. والمعارضة التي تأتي من قبل الشيطان، لا تبني، بل تُعيق وتهدم فقط. وتصف الآية الصلة بين المرض وتأثير الشيطان (الروح النجس) حيث حين يمتلك الشيطان انساناً يُعذِّبه ويُدمّر ذاك المخلوق على صورة الله. أمَّا عبارة " يا يَسوعُ النَّاصِريّ " فتشير الى   "النذير" بصفة يسوع "قدوس الله " (قضاة 13: 5) كما تدل أيضا على لفظ جليلي (متى 26: 69)، وقد دُعي بهذا اللقب لأنه من سكان الناصرة كما ورد في الانجيل "وجاءَ مَدينةً يُقالُ لها النَّاصِرة فسَكنَ فيها، لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ الأَنبِياء: إِنَّه يُدعى ناصِريّاً (متى 2: 23) او ربما إهانة للمسيح " أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شيء صالِح؟ " (يوحنا 1: 46).  أمَّا عبارة "أَجِئتَ لِتُهلِكَنا؟ " فتشير الى غاية عمل يسوع، وهي التعزيم بطرد الشياطين والقضاء على تأثيرهم. كما تدل العبارة أيضا على اعتراف الشيطان أن يسوع هو خصم قوي له قادر ان يدمّره. ان الشيطان الذي يتكلم بلسان الرجل المريض، فَهِم ان سلطانه على هذا الرجل أوشك على النهاية كما أعلن يسوع لتلاميذه " كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق" (لوقا 10: 18).  أمَّا عبارة "أَنا أَعرِفُ مَن أَنتَ" فتشير الى معرفة الشياطين هوية يسوع ومركزه باعتباره "المسيح" قبل ان يعرفه التلاميذ. الشياطين يعرفون الله جيداً، عرفوه وهم ملائكة واختبروا محبته. وعرفوه بعد سقوطهم وأدركوا عدله. وهم يعرفون قوة الله وسلطانه. ولكن يسوع لم يسمح لهم بإعلان تلك الحقيقة، لان الشياطين هم السباقون الأوائل الذين اكتشفوا هوية يسوع وأعلنوا عن ألوهيته. عرفوا من اول وهلة ان يسوع هو ابن الله، هو المسيح المنتظر. أمَّا عبارة "أَنتَ قُدُّوسُ الله" فتشير الى كشف الشيطان عن هوية يسوع الحقيقية، لأنه لم يكن فقط الناصري ولكنه ايضا قدوس الله. وهذا لقب مسيحاني قديم (أشعيا 53: 11، أعمال الرسل 2: 27)، حيث انَّ يسوع هو بكل معنى الكلمة "قدوس الله، لأنه ابن الله. الله وحده قدوس، يسوع قدوس، لأنه يشارك الآب في طبيعته الالهية.  ويُعلق القديس اوغسطينوس " يظهر في هذه الكلمات أن الشياطين أصحاب معرفة لكن بلا محبة، والسبب في هذا أنهم كانوا يرتعبون من عقوبتهم بواسطته ولا يحبون برّه. الإيمان له قدرته، لكنه بدون المحبة لا ينفع شيئًا". الشياطين تعرف المسيح ديانًا لها يأتي ليُهلكها، وترتعب منه، لأنَّ ملؤهم كراهية وحقد. وهم يعرفون الله لكن معرفتهم بلا حب ولا رجاء، فهم يؤمنون ويقشعرون كما صرّح يعقوب الرسول "الشَّياطينُ هي أيضًا تُؤمِنُ بِه وتَرتَعِد" (يعقوب 2: 19).

 

25  فانتَهَرَه يسوعُ قال: اِخْرَسْ واخرُجْ مِنه!

 

 تشير عبارة " فانتَهَرَه يسوعُ " الى قدرة يسوع الخارقة بالتحدِّي والتصدِّي والمجابهة العلنية للشيطان، رئيس الشر. لقد رفض السيد المسيح شهادته زاجرا إياه؛ لان الربّ يفرّق بين الإنسان وبين ما يقوم به الروح الشرير في داخله. أمَّا عبارة "اخْرَسْ" فتشير الى فرض يسوع السكوت على الشياطين مع انهم يُعبّرون عن حقيقة كشفها الله في عماد يسوع (مرقس 1: 11) لكن يسوع لم يكن يسمح لها بإعلان هويته (مرقس 1: 34). ولا يريد يسوع ان يُفشي هذا السر (مرقس 1: 25)، لأنه لم يحن وقت كشف معناها بوجه نهائي (مرقس 1: 44). وشهد الايمان المسيحي ان يسوع هو المسيح ابن الله وقدوس الله. لكن يسوع لا يريد ان يُفشى هذا السر إلاَّ تدريجيا كي يتجنب حماسة الجمهور التي قد تشوّه وتحرّف رسالته. فقدرة يسوع تسيطر على عالم الشر وتُسكته كما تُسكت شخصاً حياً. لم يسمح يسوع للشيطان بأن يتكلم، لأنه لا يوجد تفاوض بينهما كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "فاخضَعوا للهِ وقاوِموا إِبليسَ يُوَلِّ عنكُم هارِبًا" (يعقوب 4: 7). وقد فرضَ يسوع السكوت على الشياطين، لان عظمته تخفى على البشر (مرقس 1: 27) لكن الشياطين يعرفون من هو كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "الشَّياطينُ هي تُؤمِنُ بِه "(يعقوب 2: 19).  والمجابهة بين يسوع والشيطان هنا هي علنية، وتدل على قدرة الله الخارقة التي تحدُّ من قدرة الشيطان، فهو لا يستطيع ان يفعل شيئا بدون إذنه. وفي كل مرة واجه الرب يسوع الشيطان، فقدَ الشيطان قوته وانهزم. أمَّا عبارة " اخرُجْ مِنه " فتشير الى وجود شخصين في جسد واحد. ومن هذا المنطلق يأمر يسوع الروح النجس ان يترك الرجل في حالته الطبيعية محقِّقا نبوءة النبي زكريا "ويَكونُ في ذلك اليَوم، يَقولُ رَبُّ القُوَّات، ...وأُزيلُ الرُّوحَ النَّجِسَ عنِ الأَرض" (زكريا 13: 2). ويعلق القدّيس ايرونيموس "الحقيقة ليست بحاجة إلى شهادة أبي الكذب. لم آتِ لأثبت نفسي بشهادتك ولكن لأخرجك من الّذي خلقتُه... اخرس واخرج من الرّجل! كما لو كان يقول: أخرج من مَسكِني؛ ماذا تفعل في منزلي؟ أنا أرغب في أن أدخل: إذًا اخرس واخرج من الرّجل، هذا المخلوق العاقل. اخرج من الرّجل! اخرج من هذا المنزل المُعَدّ لي! الربّ يريد بيته، اخرج من الرّجل. أنظروا إلى أيّ مدى هي ثمينة روح الإنسان "(العظات عن إنجيل مرقس، العظة 2). وفي هذه المعجزة الثالثة أعلن سلطته على القوات الشيطانية. وعجائب يسوع ليست مقصورة على زمانها بل يجب أن نفتح عيوننا، حتى نرى أن عجائب الله لا حدود ولا زمان لها، بل هي وسط حياتنا اليومية.

 

26 فخَبَطَه الرُّوحُ النَّجِس، وصرَخَ صَرخَةً شَديدة، وخَرجَ مِنه:

 

تشير عبارة "خَبَطَه"   σπαράξαν(معناه صرعه) الى اوقعه في حال الصرع من التشنج واضطراب الأعضاء من شدة الألم او الانفعالات. وبدون هذا الألم لا يمكن للرجل أن يتحرّر من الروح النجس. أمَّا عبارة "خَبَطَه الرُّوحُ النَّجِس" فتشير الى الشيطان الذي صرع الرجل، الا انه لم يؤذِه كما يخبرنا لوقا الإنجيلي (لوقا 4: 35). ويُعلق القديس ايرونيموس "هذه هي طريقة الشيطان للتعبير عن ألمه: من خلال الخبط. كون الشيطان عجز عن إفساد نفس الإنسان، أخذ يمارس العنف على جسده. هذه التجليّات الجسديّة كانت الطريقة الوحيدة المتوفّرة لديه ليُظهر أنّه كان يخرج." أمَّا عبارة "صرَخَ صَرخَةً شَديدة" فتشير الى غيظ الشيطان وعجزه، وكان ذلك بلا كلام، لانَّ المسيح منعه من التكلم. أمَّا عبارة "خَرجَ مِنه" فتشير الى الروح النجس الذي عندما سمع امر يسوع، صرع الرجل وخرج منه. لم يلمس يسوع ابداً رجلاً به روح نجس ليُخلصه، بل كانت كلمته كافية. هذه حالة نموذجية لسيطرة الشيطان، وطريقة المسيح في علاجها. تصف الآية انتصار يسوع على الشيطان بطرده إياه، وهذا دليل على ان ملكوت الله قريب. كما ورد في انجيل لوقا "إذا كُنتُ بإِصبَعِ اللهِ أَطرُدُ الشَّياطين، فقَد وافاكُم ملَكوتُ الله" (لوقا 11: 20). وقد بدأ مرقس التكلم عن معجزات السيد المسيح بهذه المعجزة، ليعلن للأمم التي يكتب لها أن السيد المسيح أتى ليعطي الراحة للمتعبين إذ يحررهم من الأرواح النجسة التي سيطرت عليهم زمانًا وأتعبتهم بل استعبدتهم. ومن بين هذه العلامات المسيحانيّة نرى طرد الأرواح، الّذي يُثبت بوضوح أنّ ملكوت الربّ هو أيضاً التحرير من الشرّير كما يُثبت أيضا ان يسوع، هو الأقوى كما وضح يسوع للكتبة " فَما مِن أَحدٍ يَستَطيعُ أَن يَدخلَ بَيتَ الرَّجُلِ القَوِيِّ وينهَبَ أَمتِعَتَه، إِذا لم يُوثِقْ ذلكَ الرَّجُلَ القَوِيَّ أَوَّلاً، فعِندئذٍ يَنهَبُ بَيتَه " (مرقس 3، 27).

 

27 فدَهِشوا جَميعاً حتَّى أَخذوا يَتَساءَلون: ما هذا؟ إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان! حتَّى الأَرواحُ النَّجِسَةُ يأمُرُها فَتُطيعُه! فدَهِشوا:

 

تشير عبارة "فدَهِشوا جَميعاً" الى تعبير جديد ينفرد بها انجيل مرقس للدلالة على تعجّب الناس وذعرهم وتساؤلهم (لوقا 4: 36) الذي تُثيره معجزات يسوع وأقواله (مرقس 10: 24). نحن هنا نرى سلطان كلمة يسوع ليس فقط في تعليمه بل في سلطان كلمته الآمرة ايضا. أمَّا عبارة "يَتَساءَلون: ما هذا؟"  فتشير الى محاولة انجيل مرقس بكامله الاجابة عن هذا السؤال. لم تكن أعمال يسوع المسيح أقلّ تأثيراً من تعليمه، فقد جعلت الناس يقفون مندهشين منها. أمَّا عن عبارة "إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ" فيتساءل القديس ايرونيموس "ما الجديد بهذا التعليم؟ لقد أمر الأرواح النجسة بسلطانه. لم يذكر أيّ شخص آخر: لقد أصدر الأوامر بنفسه؛ لم يتكلّم باسم شخص آخر، بل بسلطانه الخاص" أمَّا عبارة " يأمُرُها فَتُطيعُه " الى المسيح الذي ليس كمن لهم موهبة إخراج الشياطين بالصلاة والتضرعات، لكن بكلمة واحدة يأمر الشيطان فيخرج فوراً أمَّا عبارة " يُلْقى بِسُلْطان " فتشير الى سلطة يسوع التي يُظهرها آتية من الله (مرقس 1: 27، 2: 10) ولا يعتصم بسلطة النصوص او السُنة كما يفعل الكتبة. كان الكتبة يقولون، الناموس يقول... أو المعلم فلان يقول، أمَّا السيد المسيح فكان يقول. أمَّا أنا فأقول كذا وكذا (متى 5: 20-38)، ويُظهر مرقس سلطان كلمة يسوع في تعليمه (مرقس 1: 21) وفي طرده الشيطان (مرقس 1: 26).

 

28 وذاعَ ذِكرُهُ لِوَقتِه في كُلِّ مَكانٍ مِن ناحِيَةِ الجَليلِ بِأَسْرِها

 

تشير عبارة "لِوَقتِه" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال) فتشير الى تعبير مرقس الإنجيلي الذي تكرر 41 مرة.  ويعطيه مرقس الإنجيلي أهمية كبرى. وتدل هنا على السرعة في التنفيذ. أمَّا عبارة "في كُلِّ مَكانٍ مِن ناحِيَةِ الجَليلِ بِأَسْرِها" فتشير الى سرعان ما طبقت شهرة يسوع في ناحية الجليل وقد قال يوسيفوس فلافيوس المؤرخ اليهودي ان في الجليل نحو 240 من المدن والقرى.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 1: 21-28)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (مرقس 1: 21-28)، نستنتج انه يتمحور حول نقطتين: سلطة يسوع ومجابهته لسلطة الشيطان.

 

النقطة الاولى: سلطة يسوع

 

منذ اليوم الاول لكرازته في كفرناحوم كشف يسوع عن سلطته في التعليم وطرد الشياطين وشفاء المرضى. فأدرك المستمعون "إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان" (مرقس 1: 27). ومن هذا المنطلق، نستنتج ان تعليم يسوع جديد لأنه يبدو يسوع في حياته العامة صاحب سلطة فريدة من نوعها حيث أنه يعظ مثل من له سلطان (متى 7: 29).  ومن هنا لماذا تعليم يسوع يعتبر جديد وما هي مجال سلطته.

 

(ا) تعليم يسوع جديد

 

تعليم يسوع جديد لأنه لا يقتصر على تعليم الشريعة او تفسيرها، إنما يتكلم يسوع عن نفسه وهويته وانتمائه وخبرته وحياته، انه رب الشريعة، حيث ان سلطة يسوع التعلمية تحرِّر النفس وتُعيد إليها كرامتها، وتمنحها الراحة كما جاء في قوله "لأَنَّ نِيري لَطيفٌ وحِملي خَفيف" (متى 11: 30)، بعكس علماء الشريعة من الكتبة والفريسيين الذين "يُحَمِّلونَ النَّاسَ أَحمالاً ثَقيلة بتعاليمهم (لوقا 11: 46) ويظلمونهم.

 

وتعليم يسوع جديد ليس لأنه يقول شيئا جديداً فإنه جاء يسوع كما صرّح "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل"(متى 5: 17)، انما الجديد في تعليمه لأنه يجُدد الحياة ويُغيِّرها ليس بزيادة معرفة المستمعين بل بالعمل على توبتهم لله ومنحهم الحياة الجديدة كما صرّح يسوع "أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 11).

 

تعليم يسوع جديد لأنه "قادِرُ على أَن يُخَلِّصَ ويُهلِك" (يعقوب 4: 12). لقد صاريسوع، كلمة الله إنسانا، ليكون قريبا من البشر، ويقدرَ أن يساعدهم. وفي مقدّمة برنامجه، قرّر أنَّ يخلص المرضى والمرذولين والمساكين والمحتقرين والخطأة من ناحية، كما ورد في الانجيل " العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون" (متى 11: 5)"العمي يبصرون والبكم يسمعون والعرج يمشون والموتى يقومون، وطوبى لمن لا يشكُّ فيَّ. "إن كنتُ أنا أُخرج الشّياطين من بينكم بروح الله، فقد أقبل عليكم ملكوت الله"(متى 12: 28)؛ أبتدأ َ الله أ بتطهير العالم مع دخول ابنه فيه، بل ابتدأ ملكُه يمتدُّ وينتشر على الأرض مع ابنه يسوع. ومن ناحية أخرى، إن يسوع قادرٌ ان يُهلك كما صاح الروح النجس "أَجِئتَ لِتُهلِكَنا؟ " (مرقس 1: 24)، ان تعاليمه تهلك اولئك الذين يظلمون الآخرين، ويحطوّن من كرامتهم كما فعل الروح النجس التي استولى على الرجل الذي كان حاضرا في المجمع. إن تعاليمه تهلك أيضا أولئك الذين يرفضون دعوة يسوع للتوبة والتغيير في حياتهم الشهوانية " شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى " (1 يوحنا 2: 16)؛ واخير ان تعليم يسوع تهلك اولئك الذين يرون في المسيح وتعليمه عائقا في التمسك في سلطتهم الظالمة ونشر انواع الفساد والعنف والخوف والانقسام والنزاعات والعبث في حياة الاخرين كما تنبأ عنه سمعان الشيخ "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض".  

 

(ب) سلطة يسوع في مجالات متعددة

 

تظهر سلطة يسوع في مجالات متعددة: له سلطة على طرد الشياطين والارواح النجسة كما لاحظ اهل كفرناحوم بقولهم " حتَّى الأَرواحُ النَّجِسَةُ يأمُرُها فَتُطيعُه!" (مرقس 1: 27)، وله سلطة غفران الخطايا (متى 9: 6-8)، وهو سيّد السبت (مرقس 2: 28). ويشمل سلطانه، حتى الأمور السياسية. وفي هذا الميدان، يرفض أن يستمدّ سلطانه من إبليس (لوقا 4: 5-7)، لان سلطانه تقلّده من الله.

 

ولا يتباهى يسوع بهذا السلطان أمام الناس. وبينما يستغل رؤساء هذا العالم ما لديهم من سلطة للسيطرة على الآخرين، يقف يسوع بين خاصته موقف من يخدم (لوقا 22: 25-27). هو ربّ ومعلم (يوحنا 13: 13)، ولكنه أتى ليخدم وليبذل نفسه "مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيراً فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِماً. لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس". (مرقس 10: 42-44) ولأنه هكذا اتخذ صورة العبد، فسوف تجثو له كلّ ركبة في النهاية (فيلبي 2: 5-11). لذلك بعد قيامته، سوف يستطيع القول لخاصته "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض" (متى 28: 18).

 

وتتميّز سلطة يسوع بان لها طابعاً روحياً محضاً، لا يتمالك أمامها اليهود من طرح هذا التساؤل باندهاش. "بِأَيِّ سُلطانٍ تَعمَلُ هذِه الأَعمال؟ " (متى 21: 23). وعلى هذا السؤال لا يُعطي يسوع إجابة مباشرة (متى 21: 27)، ولكنه يُعطي علامات توجَه الأذهان نحو الإجابة: له سلطان على المرض (متى 8: 8-9)، وعلى عناصر الطبيعة (مرقس 4: 41)، وعلى الشياطين (مرقس 1: 25، ومتى 12: 28). لقد آتى المسيح إلى العالم لكي يُحرِّر الإنسان من الشيطان وأذنابه. ومن هنا نسأل كيف واجه يسوع الشياطين؟

 

النقطة الثانية: مجابهة يسوع لسلطة الشياطين

 

قبل البحث عن مواجهة يسوع للشيطان نطرح سؤال ما هو مفهوم الشيطان.

 

(ا) التسمية الشيطان وتعريفه

 

 تدلّ كلمة شيطان في العبريّة שָׂטָן بشكل عام على الخصم، على المتّهم في المحكمة (مزمور 109 :6)، وهو يعني المفتري أو المشوه للسمعة. لكن الكلمة تنطبق بصورة خاصة على كائن علوي مهمّته أن يتَّهم الناس بلا رحمة أمام منبر الله ويقف في طريقهم ليُعرقلهم.  فهو المجرِّب (1أخبار 21 :1) الذي يحاول أن يُبلبل علاقات الله مع شعبه فيدفع الناس إلى الخطيئة ثم يشكوهم أمام الله، وهكذا يعرقل مخطّط الله الخلاصي.

 

في العهد الجديد يسمّى الشيطان Σατανᾶ (متى 4: 10) لا اسم علم له إلا اسم "بَعلَ زَبول" (مرقس 3: 22) وله القاب أخرى، ومنها: "سيِّدَ هذا العالَمِ" (يوحنا 14: 30) المُتَّهِمُ (رؤيا 12 :10)، "الشِّرِّيرُ " (متى 13 :19)، "العَدُوُّ" (متى 13 :39). وتتضمّن فكرة الشيطان في العهد الجديد ميزتين: إنّه الملاك الجاحد (2 بطرس 2: 4) وعدو الله العظيم وسيّد هذا العالم (يوحنا 14: 30). إنّه سيُغلب أمام المسيح ومملكته. ويطلق اسم "شياطين" على الذين يسلكون سلوك الشيطان من البشر. فالشيطان هو عدو الإنسان الدائم إلى يوم القيامة.

 

وهناك اسم آخر مستخدم للشيطان هو "إبليس". يعتقد أن أصل كلمة إبليس في اللغة العربية هو من الفعل بَلَسَ (بمعنى طُرِدَ)، عندها يكون معنى إبليس هو "المطرود من رحمة الله". ولكن العديد من اللغويين يجمع على ان معنى الفعل هو "يئس" وبالتالي يكون المعنى "الذي يئس من رحمة الله". وأمَّا المستشرقون فيرجعون أصل كلمة ابليس الى اللغة اليونانية "διάβολος"؛ ويعني من "يلقي بذاته ليعيق قصد الله" و "عمله الخلاصيّ " الذي أتمّه في الرّب يسوع المسيح كما جاء في تعليم يوحنا الرسول " كانَ مُنذُ البَدءِ قَتَّالاً لِلنَّاس ولَم يَثبُتْ على الحَقّ لأَنَّه ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ الحقّ. فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب" (يوحنا 8: 44)، إنّه "إِبْليسُ والشَّيطان، مُضَلِّلُ المَعْمورِ كُلِّه" (رؤيا 12: 9). إنه يتّهم بالكذب، ويُشهّر وينتقد ظلما لإفساد العلاقة بين الله والناس وبين الناس فيما بينهم. ولذلك اسم ابليس يعني المخالف أو "المعترض". لقد رافق إبليس قصّة البشر منذ البداية، وأظهر قوّته وتملُّكَه من الإنسان تحت وجوه الشر المختلفة، التي كانت وتبرز في العالم: في الحروب، والمناوشات المسلّحة الشّرِسة، والأمراض والآلام على أنواعها، ونقدر أن نقول عن آلامنا اليوم تحت سيطرة كورونا، هي أيضا من عمل الشرير.

 

ويُعرِّف الكتاب المقدس ابليس أنه كائن ملائكي، خلقه الله، لكنه سقط من مركزه في السماء نتيجة لخطيئته. ويُطلق أشعيا النبي على ابليس قبل السقوط اسم "لوسيفر" Lucifer) ) كلمة لاتينية تعني "حامل الضوء" كما قال أشعيا " كَيفَ سَقَطتِ مِنَ السَّماء أَيَّتُها الزُّهرَةُ، اِبنُ الصَّباح؟ " (أشعيا 12:14). وأمَّا النبي حزقيال فيقول إن ابليس قد خُلق كملاك، وكان يفوق الملائكة المخلوقة مكانة وجمالا (حزقيال 12:28-14) وقرَّر أنه يريد الجلوس على عرش أعلى من عرش الله (حزقيال 15:28 و1 طيموتاوس 6:3). وأدَّى غرور ابليس وكبرياؤه الى سقوطه. وبسبب خطيئته طُرد خارج السماء، وأصبح رئيس هذا العالم (يوحنا 31:12). وهو المُشتكي (رؤيا يوحنا 10:12)، والمُجرِّب (متى 3:4) والمُخادع (تكوين 3). وبالرغم من أنه طُرد من الجنة، الاَّ انه ما زال يسعى الى رفع سلطانه الى درجة أعلى من الله. ويقوم بتزوير كل ما يفعله الله، كي يحصل على عبادة العالم ويبني جبهة معارضة لملكوت السماوات. وهذا الابليس وراء كل بدعة ودين واعتقاد خاطئ. وسيفعل كل ما في وسعه ليخالف الله. ولكن نهايته محتومة أبدية في بحيرة النار (رؤية 10:20).

 

(ب) مواجهة يسوع للشيطان

 

إنَّ الشيطان كائن روحي شرير نجس يتميز بالكبرياء والفجور ويقوم بتعذيب البشر، ويسعى لإيقاعهم في الشر (طوبيا 6: 8 ومتى 12: 17). لذلك يواجهه يسوع شخصياً وينتصر عليه (متى 4: 11) ويواجه أيضاً الأرواح الشريرة ذات السلطان على البشرية الخاطئة، ويهزمها في عقر دارها. هذا هو المعنى في العديد من المشاهد بين يسوع وممسوسين: ممسوس كفرناحوم (مرقس 1: 23-27)، وممسوس الجراسيين (مرقس 5: 1-20)، وابنة المرأة الكنعانية (مرقس 7: 25-30)، والصبي المصروع (مرقس 9: 14-29)، والممسوس الأخرس (متى 12: 22-24)، ومريم المجدلية (لوقا 8: 2) وفي أغلب الأحيان، يختلط الاستحواذ الشيطاني مع المرض (راجع متى 17: 15-18). ولهذا يقال أحياناً إن المسيح يشفي الممسوسين (لوقا 6: 18)، وأحياناً إنه يطرد الشياطين (مرقس1: 34-39).

 

وفي ممسوس كفرناحوم الذي نحن بصدده (مرقس 1: 23-27) نجد ان يسوع أعلن تعليمه عن ملكوت الله القريب واعطى علامات لهذا الملكوت بأقواله وأفعاله، ولكنه لم يتكلم عن شخصه.  الا ان الشيطان حاول ان يكشف عن شخصية يسوع وهويته بعبارة "ما لَنا ولكَ يا يَسوعُ النَّاصِريّ؟ أَجِئتَ لِتُهلِكَنا؟ أَنا أَعرِفُ مَن أَنتَ: أَنتَ قُدُّوسُ الله" (مرقس 1: 24)، ويسوع منعه من التكلم، ويعلق القديس أوغسطينوس " الحق لا يحتاج إلى شهادة أرواح نجسة".

 

وقام يسوع بإسكاته على الفور؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" لم يدع المسيح الشياطين أن يعترفوا به لأنه لا يليق أن يغتصبوا حق الوظيفة الرسولية.  كذلك لا يجوز أن يتكلموا بألسنة نجسة عن سرّ المسيح الفدائي، نعم يجب ألا تصدق هذه الأرواح الشريرة حتى ولو تكلمت صادقًا، لأن النور لا يُكشف بمساعدة الظلام الدامس، كما أشار إلى ذلك رسول المسيح بالقول أَيُّ صِلَةٍ بَينَ البِرِّ والإِثْم؟ وأَيُّ اتِّحادٍ بَينَ النُّورِ والظُّلْمَة؟  وأَيُّ ائتِلافٍ بَينَ المسيحِ وبَليعار؟ (2 قورنتس: 5: 14-15). لان هناك سرٌّ لا يريد يسوع الناس ان يعرفوه. غير ان الناس "أَخذوا يَتَساءَلون: ما هذا؟ إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان! حتَّى الأَرواحُ النَّجِسَةُ يأمُرُها فَتُطيعُه! فدَهِشوا" (مرقس 1: 27). ان الوحي السابق لأوانه كما أراد الشيطان افشاءه هو أفضل وسيلة لإفشال الإنجيل وهوية المسيح التي لا تُفهم الا في خبر الآلام، وفي خارج هذا الإطار ستفهم هوية المسيح في معنى سياسي معادٍ للرومان، والسيد المسيح كان لا يريد في البداية الإعلان عن أنه المسيح المنتظر حتى لا تحدث ثورة سياسية، إذ يظن الشعب خطأ أنه جاء ليُحرِّرهم من الرومان. وهذا التفسير خاطئ لنوايا يسوع ومسيرة حياته. حيث انَّ الإيمان المُعلن في بداية إنجيل مرقس لا يمكن إعلانه الا بعد الآلام والقيامة، وإذا أُعلن قبل ذلك، نكون قد ضللنا الطريق التي تقود الى المسيح، ابن الله القدوس. 

 

وبكلمة أخرى، الشياطين هي أرواح نجسة تسعى لتجربة الناس بالخطيئة. وفي حالتها هذه الفاسدة المنحطَّة تستطيع ان تجعل الشخص أبكماً أو اصماً أو أعماً أو مجنوناً، ولكنها في كل مرة واجهت فيها المسيح، فقدت قوتها. حيث ان المسيح يحدّ من قدراتها، فلا تستطيع ان تفعل أي شيء بدون إذنه تعالى. ومن الواضح في نص إنجيل مرقس ان شيطانا كان يسيطر على الرجل. (مرقس 1: 21-28)، ويسوع واجه القوى الشريرة ليبيِّن تفوقه عليها. ولم يكن بحاجة الى إجراء طقوس معينة لطرد الشياطين، بل كانت كلمة منه تكفي لطردهم لان الشياطين أدركت من أول وهلة ان يسوع هو" قُدُّوسُ الله " ابن الله، وهو المسيح المنتظر.

 

وكل مرض هو علامة لقدرة إبليس على البشر (لوقا 13: 11). حيث ان المسيح عندما يواجه المرض إنما يواجه إبليس. وفي منحه الشفاء، إنما يظهر انتصاره على الشيطان (مرقس 1: 24). وأمام السلطان الذي يظهره تجاهه، تدهش الجموع (متى 12: 23)، ويتّهمه أعداؤه أنه ببعل زبول سيّد الشياطين، يطرد الشياطين (مرقس 3: 22). ولكن يسوع يقدّم التعليل الحقيقي: إنه بروح الله يطرد الشياطين، وهذا يدلّ على أن ملكوت الله قد وافى البشر كما أعلن يسوع " أَمَّا إِذا كُنتُ أَنا بِروحِ اللهِ أَطرُدُ الشَّياطين، فقد وافاكُم مَلكوتُ الله"(متى 12: 28).

 

كان إبليس يعتقد أنه قوي، ولكن يسوع أقوى منه فطرَده (متى 12: 29). ومن الآن وصاعداً سيتم إذن طرد الشيطان باسم يسوع (مرقس 9: 38-39). وعندما يوفد يسوع التلاميذ للرسالة، يمنحهم سلطاناً على الأرواح الشريرة كما جاء في انجيل مرقس "ودَعا الآثَنيْ عَشَر وأَخَذَ يُرسِلُهُمُ اثنَينِ اثنَين، وأَولاهُم سُلْطاناً على الأَرواحِ النَّجِسَة"(مرقس 6: 7). وبالفعل يتحقق التلاميذ أن الشياطين قد أخضعت لله: هذا برهان جليَ على سقوط إبليس حيث "رَجَعَ التَّلامِذَةُ الاثنانِ والسَّبعونَ وقالوا فَرِحين: ((يا ربّ، حتَّى الشَّياطينُ تَخضَعُ لَنا بِاسمِكَ)) (لوقا 10: 17). وهكذا سيشكلّ إخراج الشياطين، على مدى الأجيال، علامة من العلامات التي ستصاحب البشارة بالإنجيل، بالإضافة إلى المعجزات.

 

وفي الأزمنة الأخيرة، نرى الشيطان يضاعف جهوده ليدمّر مملكة الله ويطغي الشعوب (رؤيا 20 :7). ويحاول الشيطان ان يسيطر على الانسان من خلال صور جذَّابه وأقنعة يموّه بها على الناس حقيقة أمره، ومنها صور: المال، والهوى، والشهوة الجنسية والمخدرات وحب الدنيا وكراهية القريب والكبرياء.  فلنبحث في ذاتنا عن الصور التي استحوذت علينا، ونأتي بها الى اقدام يسوع لأنه هو وحده القادر ان يحرِّرنا منها بقوة كلمته وسلطانه. فالمسيح نزع سلطان الشيطان (متى 12 :28)، وبدأ هذا النصر بمجيئه على الأرض (لوقا 10 :18) وموته على الصليب (يوحنا 12 :31) وظهر هذا النصر بصورة واضحة في إخراج الشياطين من الممسوسين. وسيتمّ التنصر النهائي عند مجيئه الثاني (رؤيا 12 :12).

 

 

الخلاصة

 

قدَّم لنا مرقس الإنجيلي، في بدء رسالته في الجليل، أول عمل للسيد المسيح في يوم سبت داخل المجمع اليهودي في كفرناحوم حيث كان يعلم بسلطان وليس كالكتبة، وأخرج روحًا شريرًا بعد أن أنتهره رافضًا شهادته له، لذلك " فدَهِش الناس جَميعاً حتَّى أَخذوا يَتَساءَلون: ما هذا؟ إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان! (مرقس 1: 27)، لأنه ابن الله، الكلمة المتجسّد. إله حق وإنسان حق، لذا فهو يعلم بسلطان ولكونه إله متجسّد فهو يعلن أسرار الله ومشيئته ويعلن رسالة الخلاص للبشر أجمعين.

 

أراد مرقس الإنجيلي أن يعلن أن المسيح معلمٌ فريد ٌ في نوعه، شهد له السامعون أنفسهم الذين بهتوا من تعليمه، وعلَّم بسلطته وليس مثل الكتبة الذين كانوا يكرِّرون الدروس التي تلقنوها، وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس الكبير: "رأوا أمامهم معلمًا لا يخاطبهم كنبي فحسب، بل كإله عظيم تجثو له الروح قبل الجسد، رب الناموس".    

 

وتعرَّف الشيطان أو الروح النجس على السيد المسيح بكونه قدوس الله الذي تجسَّد بتواضع. ويُعلق الأب ثيؤفلاكتيوس "عرفته الشياطين بالقدر الذي سمح الله لهم أن يعرفوه، لكنهم لم يعرفوه كما يعرفه الملائكة القديسون الذين ينعمون بشركة أبدية بكونه كلمة الله".  وتحدى المسيح الروح النجس الذي كان تسيطر على رجل من الحاضرين في المجمع، حيث ان بقوة سلطة كلمته استطاع ان يطرد الشيطان الرجيم الذي كشف هوية يسوع والسر المسيحاني، الاَّ ان يسوع اسكته كي يتجنَّب حماسة الناس التي تشوّه وتحرّف رسالته، لان يسوع أراد ان يكشف هذا السر تدريجيا، حيث ان الدرجة الأولى هي ان الناس كانوا يتساءلون ويندهشون.

 

نستنتج مما سبق ان كلمة المسيح لها القدرة على تحريرنا من كلّ ما عبودية الشيطان والخطيئة والخداع واليأس.  وفي سرّ العماد، يُمارَس طرد الأرواح النجسة وتتمّ نجاتنا من سلطان الشرّ، حيث نُقلنا من الظلمات إلى ملكوت النور، الّذي هو المسيح الربّ.  وأصبحت حياتنا في يد الربّ، ولا يستطيع أيّ أحد أن يختطفها منّا، ما لم نتخلّىَّ عنها نحن من تلقاء أنفسنا حيث أنّ الشيطان لا يستطيع حرماننا من حرّيتنا، وفي هذا الصدد يقول القدّيس يوحنّا فم الذهب "ليس الشيطان، بل إهمال البشر، هو سبب كل سقطاتهم والويلات الّتي يشكون منها". ومن هنا يحذِّرنا صاحب المزامير عن التخلّي عن كبريائنا وقساوة قلوبنا وأنانيّة فينا. اليوم إِذا سَمِعتُم صَوتَه فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم كما في مَريبة وكما في يَوم مَسَّة في البَرِّيَّة حَيثُ آباؤكَمُ اْمتَحَنوني واْختَبَروني وكانوا يَرَونَ أَعْمالي" (مزمور 95، 5-9).

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، يا من ارسلت ابنك ليُحرِّرنا بكلمته من الروح النجس، نسألك ان يُلقي نوره على الزوايا المظلمة في حياتنا ويكشف لنا حقيقة حالنا، فتطهرنا من الأرواح النجسة ومن كل ما يُكبل عقولنا وقلوبنا وأجسادنا كي نتغلب على كبريائنا وأنانية فينا وتعلّقنا بالخطيئة فنعيش حياة جديدة مع الرب.