موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٢ مارس / آذار ٢٠٢٤

"سلاح الغفران" بين كاتبي نبؤة ارميا والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَيّن (ار 31: 31- 34؛ يو 12: 20- 23)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَيّن (ار 31: 31- 34؛ يو 12: 20- 23)

 

مُقدّمة

 

نتقدم تدريجيًا المؤمنين الأفاضل من سرّ قيامة يسوع الفصحي. وها نحن اليّوم مدعوين للتسلح من جديد بسلاح روحيّ بناء على الكلمة الإلهيّة فيما بين العهدين. سنتوقف في المرحلة الأوّلى على العهد الأوّل الّذي نسمع من خلال نبؤة ارميا (31: 31- 34) الصوت الإلهي، مُجدداً العهد الّذي قطعه قبلاً مع البطاركة بشكل أعمق من الأوّل. هذه النص نعتبره في اللّاهوت النبوي بمثابة قلب نبؤة ارميا. في مرحلة تاليّة سنتوقف أمام آيات قليلة لكاتب الإنجيل الرابع الّذي نقرأ في آخر إصحاح والّذي يختتم به الجزء الأوّل من بشارته وهو حدث فريد حيث يلتقي بعض اليونانيين وهم وثني الأصل بأحد تلاميذ يسوع طالبيّن أنّ يعرفونه (12: 20- 23) ويصير هذا اللقاء علامة حقيقة لبدء فصح يسوع. بناء على هذين النصيين نجد إنهما يدعونا للتسلح بأحد الأسلحة الروحيّة الّتي تعاوننا في هذا الزمن الأربعينيّ وهو سلاح الـغفران.

 

 

 العهد الباطني (ار 31: 31- 34)

 

في قرائتنا لنص العهد الأوّل، نصل إلى ذروة المسيرة الّتي بدأناها في هذا الزمن الأربعينيّ وهي مسيرتنا للكشف الإلهي العميق وهو العهد أي الكشف عن عهد جديد. في قرائتنا لنص ارميا وهو بمثابة نصًا أساسيًا حيث يعلن ارميا، وهو أحد الأنبياء الكبار، على لسان الرّبّ عن عهد جديد. كلمات هذا النص لها الكثير من الأهميّة إذ يقول: «ها إِنَّها تَأتي أَيَّام، يقولُ الرَّبّ، أَقطعُ فيها مع بَيتِ إِسْرائيلَ (وبَيتِ يَهوذا) عَهداً جَديداً، لا كالعَهدِ الَّذي قَطَعتُه مع آبائِهم، يَومَ أَخَذتُ بِأَيديهِم لِأُخرِجَهم مِن أَرضِ مِصْرَ لِأَنَّهم نَقَضوا عَهْدي مع أَنِّي كُنتُ سَيِّدَهم، يَقولُ الرَّبّ» (ار 31: 31- 34). وهذا ليس عهداً جديداً من حيث المحتوى، أو جديداً من حيث الـمستقبلين له. في الواقع، العهد دائمًا يتعلق بالشريعة ويتم عقده مع بيت يهوذا وبيت إسرائيل. ومع ذلك، فقد ذُكر إنّه لنّ يكون عهداً مثل ذلك الّذي تمّ إنعقاده عندما خرج بني إسرائيل مصر!

 

 

أين إذن حداثة العهد الجديد؟ (ار 31: 31- 34)

 

ينص نص إرميا على أنّ حداثة هذا العهد الّذي سيتجدد، ستتعلق بـ "الباطن" الّذي ستكتب عليه الشريعة وهو القلب قائلاً: «لكِنَّ هذا العَهدَ الَّذي أَقطَعُه مع بَيتِ إِسْرائيلَ بَعدَ تِلكَ الأَيَّام، يَقولُ الرَّبّ، هو أَنِّي أَجعَلُ شَريعَتي في بَواطِنِهم وأَكتُبُها على قُلوبِهم، وأَكونُ لَهم إِلهاً وهم يَكونونَ لي شَعبًا» (ار 31 : 33). إن حداثة العهد الجديد تتمثل في إنّه مكتوب في القلب ويشترط في مغفرة خطايا الشعب من قِبل الرّبّ الإله، إنها تجربة الغفران الّتي يمكن أنّ تغير كلّ شيء وتعيد المستقبل لأولئك الّذين خانوا الأمانة والعهد القديم. لقد ظن معاصري ارميا إنّه ليس أمامهم سوى وقت ودون أمل وفرح أمامهم، إلّا أن الرّبّ الإله يفاجئهم بالجديد فهو الّذي بادر بالعهد وهو الّذي يجدده بحسب أمانته لصالح شعبه.  لذا يختتم إله العهد هذا النص بقراره الصريح: «لا يُعَلِّمُ بَعدُ كُلُّ واحِدٍ قَرببَه وكُلُّ واحِدٍ أَخاه قائِلاً: "اِعرِفِ الرَّبّ"، لِأَنَّ جَميعَهم سيَعرِفوَنني مِن صَغيرِهم إِلى كبيرِهم، يَقولُ الرَّبّ، لِأَنِّي سأَغفِرُ إِثمَهم ولن أَذكُرَ خَطيئَتَهم مِن بَعدُ» (ار 31 : 34). فالغفران هو الكلمة الإخيرة الّتي تنتمي فقط لله ويدعونا للتوبة لننتمي لشعبه ونقبل هذا العهد الجديد. هذا النص يسمح بالربط بين العهد الجديد الذي أعلنه ارميا والعمل الكهنوتي الّذي قام به يسوع، والّذي تحقق من خلال هبة حياته في طاعته للآب وهو ما سنتعمق فيه بناء على نص الإنجيل للرابع.

 

 

طلب اليونانيين (يو 12: 20- 23)

 

بناء على ما قرأناه في الرسالة النبوية لارميا، نقرأ قليلاً من الآيات المأخوذة من ختام الجزء الأوّل من إنجيل يوحنّا والّذي يشمل الإصحاحات (2-12)، ونطلق على هذا الجزء في اللّاهوت اليوحنّاويّ "كتاب العلامات". في هذا المقال الأخير من الزمن الأربعيني سنتوقف أمام المقطع الإنجيلي الّذي يروي حدث يشير لرغبة بعض اليونانييّن، الّذين صعدوا لأورشليم في زمن عيد الفصح اليهودي وأرادوا أن يروا يسوع. فعل "يرى" بحسب إنجيل يوحنّا هو فعل له الكثير من الأهميّة إذ يشير ليس لرؤيّة خارجية بل لرؤيّة باطنيّة أيّ رؤية من الداخل. يتكرر كثيراً في لّاهوت يوحنّا داعيًا إيانا أنّ نترك ذاوتنا تحت النظرة الإلهيّة ونتمكن أن نسمو وننظر إلى يسوع في حقيقته الإلهيّة طابن الله ومخلصنا. وهنا يدعونا الإنجيلي في كل مرة ننظر ليسوع الّذي يتقدم تدريجيًا ليعطينا حياته أنّ نطلب منه الغفران فهو الوحيد الّذي يمكنه أن يمنحنا إياه.

 

في هذه الآيات الّتي تأتي مباشرة قبل بدء الجزء الثاني، ونطلق عليه "كتاب المجد أو الألم أو السّاعة" من الإنجيل الرابع الذي سيتم تخصيصه بالكامل لسرد أحداث رواية آلام يسوع وموته وقيامته بالإصحاحات (13-21). والّتي يُقدمها الإنجيليّ من خلال خطاب الوداع الطويل الّذي وجهه يسوع المعلم إلى تلاميذه بالإصحاحات (13-17).

 

يبدأ النصّ اليوحنّاوي بهذ المقال الأخير من الزمن الأربعيني والّذي يسبق أسبوع الآلام المقدس مباشرة، بطلب من بعض اليونانيين (يو 12: 20) أنّ يتمكنوا من رؤية يسوع، وأنّ يتمكنوا من لقائه. فقد لجأوا طالبين وساطة تلاميذ يسوع للقائه فقد قَصَدوا إِلى فيلِبُّس، وكانَ مِن بَيتَ صَيدا في الجَليل، فقالوا له مُلتَمِسين: «يا سَيِّد، نُريدُ أَن نَرى يسوع» (يو 12: 21). تلي هذه الرغبة كلمة يسوع الّتي تنبهنا بتطور الأحداث والّتي تتعلق بفصحه الّذي سيعبره من خلال سرّ آلامه وموته وقيامته قائلاً:  «أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان» (يو 12: 20–23). ونحن اليوم مع اليونانيين وهم من الوثنيّن نرفع قلوبنا طالبين رؤيّة يسوع المخلص لنتسلح بالغفران الّذي يمنحنا إياه، لنتبادله مع إخوتنا. وهنا بمجانيّة القلب الإلهي الّذي يغفر لنا زلاتنا مدعويّن لتقديم الغفران لمّن أساء إلينا.

 

كما نرى بالنص إنّه تمّ طرح سؤالهم على أحد تلاميذ يسوع يُدعى فيلبس، والّذي أشرك أندراوس على الفور في مهمته. وبدروهما يذهبا التلميذان معًا ليخبرا يسوع بما طُلب منهم. ويبدو أنّ هناك إستمرارية بين هذا النص ولقاء يسوع مع تلاميذه الأوائل في بداية الإنجيل. في الواقع، تم ذكر أندراوس وفيلبس بالإصحاح الأوّل من ذات الإنجيل الرابع (را 1: 35-51). فبعد أنّ إلتقيا معًا بيسوع، أعلنوا للآخرين أنهم وجدوا المسيّا، ذلك الّذي تتحدث عنه الكتب المقدسة (را يو 1: 41. 45).

 

هناك تقريبًا حركة إنعاكسيّة، ففي بدايّة الإنجيل، أعلن التلاميذ للآخرين، بطرس ونثنائيل، إنهما التقيا بيسوع؛ والآن، في نهاية الجزء الأول من البشارة اليوحنّاويّة، يقدمون إلى يسوع رغبة بعض الأمم، المنسجميّن مع إيمان بني إسرائيل، لإمكانيّة  لقائهم بالرّبّ. ستكون مهمة تلاميذ يسوع منذ عيد الفصح فصاعدًا: جلب كلّ الناس إلى يسوع.

 

 

السّاعة اليوحنّاويّة (يو 12: 20- 23)

 

كان ردّ فعلّ يسوع على هذا الإعلان مفاجئًا. فهو يعلن أمام هذا الطلب أنّ: "سّاعته قد حانّت" (يو 12: 23). يبدو أنّ تلك السّاعة التي أُعلن عنها منذ بداية الإنجيل (راج يو 2: 4)، في مواجهة طلب اليونانيين أنّ يتمكنوا من مقابلته، قد حلّت. إنّ الخلاص الّذي يصل إلى كلّ إمرأة وكلّ رجل من خلال فصح يسوع. يصير الفصح بمثابة الحدث الّذي يسمح لجميع الشعوب بالدخول في العهد مع الله. وأيضًا الفصح هو علامة أنّ السّاعة قد حلّت. إن سؤال اليونانيين يكشف عن هذا الإتمام الإكتمال. بعد الإعلان الأساسي للسّاعة، ينطق يسوع ببعض التعاليم حول معنى فصحه (را يو 12: 24 ت).

 

في النص اللاحق لهذا النص يأخذ يسوع من صورة البذرة، مثل حيّ ليطبقها على هبة حياته مُعلنًا بأنه: إذا ماتت البذرة تحت الأرض، أعطت ثمرا، وإذا لم تمت، تبقى وحدها (را يو 12: 24). هذا هو المعنى الّذي ينطبق حقيقة على حدث فصح يسوع، باعتباره حياة معطاة ومثمرة، له عواقب على وجود تلاميذه: على صورة يسوع، عليهم أنّ يتعلموا أنّ مَن يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه يحتفظ بها (را يو 12: 26).

 

تحمل لنا كلمات الإنجيل اليوحنّاويّ، دعوة صريحة لتبعيّة يسوع في منطق الحياة هذا، وهو ما يؤكده أيضًا صوت الآب الّذي يقول إنّه في حياة الابن المعطاة، يتمجد اسم الآب. وينتهي المقطع بالإشارة إلى رفع يسوع على الصليب، والّذي بفضله يجذب إليه الجميع. هذا هو قلب موضوع المقال السابق (را يو 3: 14 – 21).

 

 

الخلّاصة

 

سيرنا معًا للربط بين نص من نبؤة ارميا (31: 31- 34)، ونص بحسب يوحنّا (12: 20- 23) لنتعرف على سلاح جديد وهو سلاح الغفران، لنتسلح به روحيّاً في هذا الزمن الأربعيني. سوف يتعرف تلاميذ يسوع على عبارة العهد الجديد، التي تظهر في العهد القديم فقط في هذا المقطع من ارميا (31: 31- 34)، وهو مفتاح لفهم فصح المعلم بعبوره الآلام والموت والقيامة حاملاً خطايانا البشريّة ومانحًا الغفران. في الواقع، يمكننا أنّ نؤكد أنّه بفضل طاعة يسوع للآب أصبح سببًا للخلاص الأبدي. ومن خلال تسليمه الكامل لإرادة الآب ومنحه حياته كحبة الحنطة الّتي لا تأتي بثمر كثير إلا إذا يموت في قلب الأرض. تسلّحنا بسلاح الغفران من خلال هذيّن النصيّن بقلب يرغب في رؤية المخلص ويقطع عهداً جديداً قابلاً غفران الرّبّ ومانحًا إياه لقريبه. دُمتم متسلحين بسلاح الغفران.