موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٤ فبراير / شباط ٢٠٢٤

"سلاح الحياة" بين كاتبي سفر التكويّن والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 22: 1-2 .9- 13؛ مر 9: 1- 9)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 22: 1-2 .9- 13؛ مر 9: 1- 9)

 

مُقدّمة

 

زمن أربعينيّ مبارك، تقترب الأيّام من خلال الأسابيع الست للتمتع بفرح المسيح القائم. كما بدأنا، في مسيرتنا الأربعينيّة، بالبحث عن أسلحة روحيّة، تعاوننا على المواجهة الروحيّة، من خلال قرائتنا فيما بين العهدين، وقد توقفنا بالمقال الأوّل على سلاح "القوس الإلهي". أما في هذا المقال سيكون مضمون مقالنا هو "سلاح الحياة". يعتمد سلاح هذا الأسبوع على مواجهتنا شر الحياة البشريّة، لمعايشة الحياة الحقة الّتي ستتكلل في قيامة الإبن الإلهي. يتلاقيا نصيّ العهديّن لهذا الزمن الأربعينيّ المقدّس، بقرار أبويّ، سواء قرار إبراهيم بالعهد الأوّل أم قرار الله الآب بالعهد الثاني، تجاه إبنيهما، فالإبن الأوّل ما هو إلّا إستباق للإبن الإلهي. ففي العهد الأوّل سنتوقف أمام الحدث الشهير لتقدمة إبراهيم، لإبنه إسحق، ذبيحة  للرّبّ (تك 22: 1- 2. 9- 13). مما تدفعنا قراءة هذا القرار إلى التعمق في حدث تجلّي الإبن فيسمو من قراءة لّاهوتيّة إلى قراءة كريستولوجيّة لرواية البطريرك الأوّل إبراهيم وابنه إسحق. فنحن نعلم بحسب كلمات يوحنّا الإنجيلي أنّ «فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد» (3: 16). نهدف من خلال هذا المقال إلى الإنغماس فيما هو عطية من الآب لكل منا وهو نعمة الحياة الحقة الّتي نلناها بالإبن.

 

 

1. أبّوة إبراهيم (تك 22: 1- 2. 9-13)

 

بعد مسيرة طويلة في العلاقة بين الله وإبراهيم، حيث مرّ رجل الله بفترة إنتظار ليست بقليلة ليولد من أحشائه الإبن الّذي وعده الله به، بالرغم من شيخوختهما هو وسارة وعقمها الجسدي. يأتي اليّوم الّذي يطلّب الله هذا الإبن كذبيحة له على جبل وإذ يأمره قائلاً: «يا إبْراهيم [...] خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إِلى أَرضِ المورِيِّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ» (تك 22: 1- 2). إلّا أنّ الكاتب أعلمنا كقراء بأنّ الله يمتحن إبراهيم من خلال هذا الطلب. فنحن نعلم شيء أعمق عما يعيشه إبراهيم ذاته. وبعد أنّ هيأ إبراهيم كلّ المستلزمات متحاوراً مع الخدم ثمّ مع إبنه نتفاجأ كقراء مؤمنين بسماع الصوت الإلهي: «فناداه مَلاكُ الرَّبِّ مِنَ السَّماءِ قائلاً: "إِبْراهيمُ إِبْراهيم!" [...] لا تَمُدَّ يَدَكَ إِلى الصَّبِيّ ولا تَفْعَلْ بِه شَيئًا، فإِنِّي الآنَ عَرَفتُ أَنَّكَ مُتَّقٍ لله، فلم تُمْسِكْ عنِّي إِبنَكَ وَحيدَكَ» (تك 22: 11- 12). هذا التقدير للرّبّ، والنابع من قبل إبراهيم، حبًا في إستمرار العلاقة معه ولذاته يجعلنا مع إبراهيم نعيش ذات الأحداث لنتأمل الله الّذي يدعو للحياة وليس للموت أو القتل إذّ: «رَفَعَ إِبْراهيمُ عَينَيه ونَظَر، فإِذا بِكَبشٍ واحِدٍ عالِقٍ بِقَرنَيه في دَغَل. فعَمَدَ إِبْراهيمُ إِلى الكَبْشِ وأَخَذَه وأَصعَدَه مُحرَقةً بَدَلَ اَبنِه» (تك 22: 13). هذا الكبش الّذي هيأه الله كذبيحة له قد فدى إسحق إبن الوعد الإلهي. ونحن اليّوم مع إبراهيم لا نعلم الـتجارب الّتي تواجهنا وما علينا إلّا أنّ نسلك مثل إبراهيم حينما وثق في الله بطاعته، فإستعاد إبنه وصار ابن الحياة وليس الموت.

 

 

2. الأبّوة الإلهيّة (مر 9: 1-9)

 

بعد أنّ توقفنا على أبوة إبراهيم المليئة بالحياة والّتي تدعونا اليّوم لنحياها ليس لذاواتنا بل بالثقة في الله الّذي يسمح لأن نعبر ببعض الصعوبات حتى نصل لملء الحياة. بناء على هذا سنقرأ معًا حدث تجلّي يسوع على جبل طابور، بحضور ثلاثة شهود عيّان، وهم بطرس ويعقوب ويوحنا. أمام حدث تجلّي الإبن الإلهي بحسب مرقس (مر 9: 1 – 9). يأتي إله الحياة الله الآب ليمنحنا أداة جديدة، لمحاربة الشر الّذي يتعارض مع الحياة البشرية الكاملة، ومن ناحية أخرى، تتجلى حياتنا البشريّة على نور الله الناتج من الإلتزام بإرادة الله الآب. في إنجيل مرقس، يتم وضع حدث تجلّي يسوع في سياق من التوتر والمعارضة، حيث واجه يسوع معارضة من معاصريه، وكان عليه أنّ يواجه نزاعات صعبة مع العديد من المحاوريّن الدينيّين في عصره، ويختبر عدم فهمهم الجذريّ وعمى تلاميذه معًا. مما يضطره مرارًا إلى تذكيرهم بتكرار شروط التلمذة ومعنى خدمته.

 

 

3. الإستباق القياميّ (مر 9: 2-8)

 

في هذا السيّاق المرقسيّ نتلمس التناقض الّذي يُلمح إلى الآلام والموت المستقبليين، يتم وضع حادثة التجلّي، مما يسمح لنا بإلقاء نظرة خاطفة على مجد القيامة. «بعدَ سِتَّةِ أَيَّام مضى يسوعُ بِبُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا فانفَرَدَ بِهِم وَحدَهم على جَبَلٍ عالٍ، وتَجَلَّى بِمَرأَى منهم. تَلألأَت ثِيابُه ناصِعَةَ البَياض، حتَّى لَيَعجِزُ أَيُّ قَصَّارٍ في الأَرضِ أَن يأَتِيَ بمِثلِ بَياضِها» (مر 9: 2- 3). هذا التجلّي الإلهي ليسوع الإبن، إستبق به، قيامته الّتي يروي مرقس الثوب الأبيض رابطًا بين ما حدث على جبل التجلّي وظهور الشاب «لابسًا حلة بيضاء» (مر 16: 5) في صباح اليوم الأول بعد السبت. تُظهر حلقة التجلّي كيف يمكن لسلاح الحياة أنّ ينتصر ظاهراً في سياق المقاومة والموت، والنضال والألم، لكي يظهر إله الحياة. من الضروري أنّ نستمع إلى كلمة الله الّتي تمَّ نقلها من خلال إيليا وموسى، اللذين تحدثا مع يسوع، فهما رمزي للشريعة والأنبياء، ولكنهما بحسب التقليد اليهودي يرمزان لـمّن تسلحا بالحياة وعاشا بالفعل في شركة مع الله. والآن مدعوين بقبول السلاح الّذي يقدمه يسوع لكلاً منا من خلال في الإستمرار بالإصغاء ليسوع حينما نطيع الصوت الله الآب والقائل لي ولك هذا الأسبوع: «هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا» (مر 9: 7ب).

 

في الواقع، يدعونا صوت الله الآب من السماء إلى الإصغاء وهو عنصر هام لأنه هو الّذي يعبر الموت من أجل أنّ يمنحنا ملءالحياة. بالإضافة إلى أن هناك عنصر آخر يُعبّر عن العلاقة الفريدة بين الآب بيسوع وبين يسوع وتلاميذه. كما هوهنا من قبل من خلال قرائتنا لحدث تقدمة إبراهيم لأسحاق، نجد مرحلة ثانية في رحلة تعاهد الله معنا كشعب ننتمي له ومع البشرية جمعاء من خلالنا. في حدث تقدمة إسحاق، عندما تظهر علامة تساؤل لتحقيق الوعد الإلهي، يُطلب من إبراهيم أيضًا أن يترك مستقبه. هذه هي دعوة كلّ مؤمن اليّوم  فقد نظر إبراهيم إلى ما ناله من يديّ الله على أنّه عطيّة ليس هو مالكها. يطيع إبراهيم كلمة الرّبّ (راج تك 22: 16). لهذا السبب تتحقق دعوته الأوّلى ويصبح مستقبله بركة حقًا. تصبح حياة الإنسان نعمة عندما يعرف كيف يدخل في منطق العطيّة، فيرى الله ويسمح لنفسه أنّ تُرى من خلاله.

 

 

4. الإبنين على الجبلين (تك 22: 3ت؛ مر 9: 2ت)

 

على جبل موريّا ظهر الرّبّ، لأن إبراهيم، يمثلنا جميعًا قبلَّ منطق الحياة كهبة. على جبل طابور تم قبول منطق الهبة، جبل الصليب، حيث بذل يسوع حياته بالحب وحيث بذل الله نفسه ذاته في ابنه الحبيب والوحيد، وستكون هذه الهبة أيضًا بركة وتعاهد للكثيرين. أطفال قادوا إلى المجد، الذي يشرق اليوم بالفعل على جبل آخر، جبل التجلّي! إن عبارة "الابن الحبيب" تخلق رابطًا هامًا بين مقطع الإنجيل بحسب مرقس (مر 9: 7) ونص سفر التكوين (تك 22: 2)، وهما الظهوران الوحيدان في الكتاب المقدس بأكمله فالله لمّ يشفق على إبنه بل منحه عطية حياة لنا جميعًا. وهكذا ندخل بشكل أعمق في موضوع عيد الفصح الّذي سيتم تناوله مرة أخرى واستكشافه بعمق في المقالات اللاحقة.

 

 

الخلّاصة

 

 نودّ أن نختتم مقال هذا الأسبوع من الزمن الأربعينيّ، بتوجيه رسالة لنا ككنيسة مدعوة إلى التأمل في وجه الرب المتجلّي ليمنحنا الحياة بل ملء الحياة. من خلال تقدمة إبراهيم لإسحاق إبنه تسلحنا بشكل إستباقي بحضور إله الحياة منذ القدم بل ساعدنا على الإنفتاح للمستقبل فإلهنا هو الّذي ننتمي له بحاضرنا ومستقبلنا. وعلى ضوء تمتع إبراهيم بتحقيق الوعد الإلهي وبحياة إبنه نجد أن الله الآب يتناقض فيعطينا إبنه مانحًا لنا الحياة ومن خلال حدث التجلّي مدعوين للتمسك بالحياة الّتي بدون فضل منا بل بمجانيّة وحبّ إلهي منحنا إياهم الله الآب. دُمتم متسلحين بسلاح القوس الإلهي والحياة معًا.