موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ مايو / أيار ٢٠٢٣

رِسالَة الرُّوح القُدُس كما رواها إنجيل يوحنا

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
أحَد العنْصرة: رِسالَة الرُّوح القُدُس كما رواها إنجيل يوحنا (يوحنا 20: 19-23)

أحَد العنْصرة: رِسالَة الرُّوح القُدُس كما رواها إنجيل يوحنا (يوحنا 20: 19-23)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-23)

 

19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: ((السَّلامُ علَيكم!)) 20 قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذُ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ. 21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: ((السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً)). 22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: ((خُذوا الرُّوحَ القُدُس. 23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم)).

 

 

مقدمة

 

نحتفل اليوم بعيد العنصرة المجيدة، وهو خاتمة الأعياد الفصحية. إنه عيد حلول الرُّوحَ القُدُس الذي وعد المسيح به؛ يأتي الرُّوح بناره ونوره وقوته لتثبيت الرُّسُل، ولمنحهم سلطان غفران الخطايا تمهيدًا لحلوله على الكنيسة جمعاء المُتمثلة بالسيّدة العذراء أمِّ الكنيسة والرُّسُل الأطهار والتّلاميذ الأبرار، مع النّسوة القدّيسات، وذلك يوم العنصرة في اليوم الخمسين بعد قيامة يسوع من الموت (أعمال الرُّسُل 2: 1)؛ وحدث العنصرة يُشكّل جوهر الحياة المسيحيّة ومنطلقاً أساسياً لتأسيس الكنيسة حيث مانحها السيد المسيح سلطة غفران الخطايا وحمل رسالته الخلاصية إلى جميع الشعوب على ممر جميع الأزمنة. ويُعدُّ عيد العنصرة ثالث أكبر الأعياد الدّينيّة السنويّة بعد عيد الميلاد وعيد القيامة، وهو يدعونا لتجديد حياتنا بالرّوح القدس بتقبُّل غفران خطايانا. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولاً: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 20: 19-23)

 

19 وفي مَساءِ ذلك اليَومِ، يومِ الأحد، كانَ التَّلاميذُ في دارٍ أُغْلِقَتْ أَبوابُها خَوفاً مِنَ اليَهود، فجاءَ يسوعُ ووَقَفَ بَينَهم وقالَ لَهم: السَّلامُ علَيكم!

 

تشير عبارة " ذلك اليَومِ، يومِ الأحد" إلى مساء القيامة في أول الأسبوع، وذكر يوحنا الإنجيلي اجتماع الرُّسُل يوم الأحد مرتين. ويُشدّد الإنجيل على وحدة الزمن حيث ظهر يسوع لتَّلاميذه في نفْس اليوم الذي ظهر فيه لمَريم المِجدَليَّة (يوحنا 20: 1)، وظهر للنِسْوة في ذات اليوم (متى 28: 9)، كما ظهر لتلميذي عِمَّاوُس (لوقا 24: 13). ويشعر التَّلاميذ المجتمعون أنَّ يسوع حاضرٌ بينهم في مساء يوم الأحد. وهكذا كان المؤمنون يجتمعون يوم الأحد وما زالوا. وكانت الكنيسة قد استبدلت السبت بالأحد تذكاراً لقيامة الرَّبّ. أمَّا عبارة "التَّلاميذُ" فتشير إلى الرُّسُل العَشْر وغيرهم من التَّلاميذ (لوقا 24: 33) علمًا أنَّ يهوذا الإسخريوطي قد ترك جماعة الرُّسُل وتوما الرسول كان غائبا عن هذا الاجتماع (لوقا 24: 33). أمَّا عبارة " دارٍ" إلى مكان اجتماع التَّلاميذ في اورشليم. والأرجح أنّها العِلِّية التي أكلوا فيها الفِصح مع مُعلمهم يسوع المسيح (مرقس 14: 13 -15). أمَّا عبارة "أُغْلِقَتْ أَبوابُها" فتشير إلى علامة رُعب التَّلاميذ الذين أحكموا إغلاق الأبواب بالمتاريس التي ستُفتح يوم العنصرة بحلول الرُّوح القُدُس. وظهور السيد المسيح في وَسَطِ هم والأبواب مغلقه لم يكن عملاً مُعجزًا، لأنَّ هذه هي طبيعة الجِسْم القائم من الأموات، إنَّمَا ما أراد المسيح تأكيده هو أنه قام بذات الجِسْم، لكنَّه بجِسْم مُمجَّد. فهذا الجِسْم المُمجَّد يسمو على الزمان والمكان والحدود المادية. انه الجِسْم هو ذاته، لكنه لبس عدم الفساد كما جاء في رِسالَة بولس الرسول " فلا بُدَّ لِهذا الكائِنِ الفاسِدِ أَن يَلبَسَ ما لَيسَ بِفاسِد، ولِهذا الكائِنِ الفاني أَن يَلبَسَ الخُلود" (1 قورنتس 15: 53)، ويُعلق القديس أوغسطينوس حول طبيعة الجِسْم القائم بقوله "على أي حال، أيا كانت طبيعة الجِسْم الرُّوحاني، ومهما كانت عظمة نعمته، أخشى أن أتحدث في هذا، لأننا لا زلنا لا نحمل أية خبرة بخصوص هذه الحقيقة". أمَّا عبارة "أبوابُها" فتشير إلى أكثر من باب، ولعَّله كان للعِلية أكثر من باب، أو رُبما يقصد أن باب البيت كان مُغلقًا، كما كان باب العلية، إذ كان التَّلاميذ في رُعبٍ، فلم يكتفوا بغلق باب الدار الخارجي. أمَّا عبارة "خَوفاً مِنَ اليَهود" فتشير إلى خوف التَّلاميذ من اعتداء رؤساء اليَهود المُتطرفين وملاحقتهم لهم، كما لاحقوا يسوع وعاملوه بغضًا. والتَّلاميذ كانوا مُختبئين في اورشليم ظنَّا منهم أنَّه بعد صَلب المسيح ودفنه يأتي الدور عليهم. انغلقوا على ذواتهم وأغلقوا كل الأبواب، وفي ذلك انتحار.  مع أن رؤساء اليَهود لم يقتربوا إليهم منذ القبض على يسوع في بستان الجِسْم قوله للرؤساء: "دَعُوا هؤلاءِ يَذهَبون" (يوحنا 18: 8). أمَّا عبارة "جاءَ يسوعُ" فتشير إلى جِسْم المسيح الذي لم يَعُدْ بعد خاضعاً لنفس قوانين الطبيعة، كما كان قبل موته، فكان يخترق الجدران والحواجز (يوحنا 20: 26)، وهو غير مُقيّد بحدود الزمان والمكان، وغير مُقيّدٌ بالحاجات الماديّة والبيولوجيّة، ولا بقوانين الطبيعة كالجاذبيّة الأرضيّة؛ بل أصبح مُمكنًا له الدخول، والأبواب مُغلقة. إلاَّ أنه لم يكن شبحًا أو خيالًا بل "جِسْمًا رُوحِيًّا" كما دعاه بولس الرسول (1 قورنتس 15: 44). والجِسْم يُطلقُ على البدن الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة. وأمَّا الجَسَدُ فيطلق على التمثالِ الجامد، أو بدن الإنسان بعدَ وفاته وخروجِ روحه. ويتكرِّر مجيء يسوع الحي القائم أكثر من مرة بين تلاميذه مرافقًا لهم، كما يرافق الرَّاعي خرافه (يوحنا 14: 3-18). لم يكن باستطاعة التَّلاميذ معرفة يسوع إلاَّ بعد أن أدخلهم عن طريق الكتب المقدسة في سر موته وقيامته (لوقا 24: 25-27). عاد يسوع من عالم آخر غير خاضع لقوانين الطبيعة: إذ به يدخل والأبواب مغلقة، وفجأة وقف في وَسَطِهم. هو يبادر فيأتي أولا إلينا، ونحن نذهب إلى لقائه، ومجيئه يملأ القلوب تعزية ًوشجاعة. وفي هذا الصدد يكتب العلامة القديس بنافنتورا" يحمل الروح القدس تعزية كبرى حيث هناك محنة كبرى، ليس كما يفعل العالم الذي يُعزِّي في الازدهار ويتملق فيما يسخر في الشدائد ويدين". أمَّا فعل "وقف" فمعناه الرمزي وقفة القيامة. يشرح لنا يوحنا الإنجيلي كيف يُدخل يسوع الاثني عشر في ملء رِسالَة الفصح. َفتَحُ المسيح الأبواب فلا أَحَدَ يُغلِق، ويُغلِقُ فلا أَحَدَ يَفتَح" (رؤيا 3: 7). أمَّا عبارة "بَينَهم" في الأصل اليوناني μέσος (معناه وَسَطِهم) فتشير إلى يسوع القائم الذي هو قريب لكل واحد بنفس الدرجة؛ وأمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" في الأصل اليوناني Εἰρήνη ὑμῖν (السَّلام لكم) فتشير إلى بركة غير عادية تحمل قوة لطرد الخوف؛ وهي تحية سلام يحتاج تلاميذ يسوع إليها بعد خوف يوم الجمعة العظيمة. هذا السَّلام يُبدِّد كل اضطراب أحدثه رحيله عنهم، كما قال لهم يسوع " لا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم. إنَّكم تُؤمِنونَ بِاللهِ فآمِنوا بي أَيضاً" (يوحنا 14: 1) ويبيِّن لهم محبته ومغفرته وشفقته عليهم دون أن يوبِّخهم على تركهم إياه بل حمل لهم بشارة المصالحة والسَّلام. وهذا السَّلام هو ثمر القيامة، سلام داخلي مع الله، ومع الإنسان نفسه ومع إخوته؛ وهو بشارة المصالحة والسَّلام. وهو إتمام وعد يسوع في كلامه الأخير "سَلامي أُعْطيكم" (يوحنا 14: 27). هذا السَّلام يختلف عن أي سلام أرضي يتفاوض عليه البشر، هو السَّلام الذي نرجوه عندما نطلب في كل قداس " المجد لله في العلى وعلى الأرض السَّلام ". وعَّرف بولس الرسول هذا السَّلام بقوله: "سلامَ اللهِ الَّذي يَفوقُ كُلَّ إِدراكٍ يَحفَظُ قُلوبَكم وأَذْهانَكم في المسيحِ يسوع" (فيلبي4 :7). وهو "المسيح سلامنا" (أفسس 2 :14)، "قَد حَقَّقَ السَّلام بِدَمِ صَليبِه" (كولسي 1 :20). هذا هو الظهور الأول لكل التَّلاميذ، لكنَّه الخامس بالنظر إلى ظهوره لبعضهم والأول لظهوره لمريم المجدلية (يوحنا 20: 16) والثاني لرفيقتين (متى 28: 9) والثالث لبطرس (1قرونتس 15: 5) والرابع لتلميذي عماوس (لوقا 24: 13) والخامس في هذا لظهور هنا. 


20 قالَ ذلك، وأَراهم يَدَيهِ وجَنبَه ففَرِحَ التَّلاميذ لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ

 

تشير عبارة "أَراهم يَدَيهِ وجَنبَه" إلى رؤية جسم المسيح، كما كان على الصليب، وهو ذات الجسم في قيامته؛ كان جسدا ميتًا حاملا ذات جراحات الصليب، لكنَّه الآن جِسْمًا حيًا مُمجَّداً. وهكذا يتغلب يسوع على قِلَّة إيمان الاثني عشر بإعطائهم علامات على حقيقة قيامته (أعمال الرُّسُل 1: 3)، لانَّ آثار جراحاته هي بمثابة شهادة حيَّة لقيامته، إذ يُشدِّد يوحنا الإنجيلي هنا على الصِّلة القائمة بين يسوع الذي تألم، يسوع الناصري التَّاريخي، "قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين" (عبرانيين 2: 18) ويسوع القائم من بين الأموات، يسوع الإيمان الذي معهم للأبد، كما قال لتَّلاميذه قبل صعود إلى السماء "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العَالَم " (متى 28: 20). وأراد يوحنا الإنجيلي أيضا إقامة صّلة بين حادثة الطَّعن بالحربة وحدث العِليَّة، إنَّه الحمل الفصحي الذَّبيح على الجلجلة الذي يعود إلى ذويه حاملا ثمار ذبيحته من أجل خلاص البشر، كما وصفه يوحنا الإنجيلي "حَمَلاً قائِمًا كأَنَّه ذَبيح" (رؤيا 5: 6). ويُعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني " اليوم يُظهر لنا الرَّبّ جراحاته المَجيدة، وقلبه نبع النور والحقيقة، ونبع المحبة والغفران الذي لا ينضب. هو قلب الرَّبّ يسوع المسيح! هو "القلب الأقدس" الذي أعطى الإنسان كل شيء: الفِداء والخلاص والقداسة "(عظة لأحد الرّحمة الإلهيّة، 4 -6، تاريخ 22 نيسان 2001).  أمَّا عبارة "فَرِحَ التَّلاميذ" فتشير إلى إتمام وعود يسوع التي قطعها لتَّلاميذه في أحاديثه النهائية معه "قلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً "(يوحنا 15: 11). والفرح ناتج عن اختبار ومشاهدة يسوع؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما قاله يسوع قبل الصلب: " سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح" (يوحنا 16: 22) قد تحقق الآن عمليًا. هذا كله دفعهم إلى الإيمان الصادق"؛ ويشرح البابا القدِّيس بولس السادس طبيعة هذه الفرح بقوله " فرحة عيد الفصح ليست مجرّد فرحة احتمال تجلّي الرَّبّ: بل هي فرحة الوجود الجديد للمسيح الذي قام من الموت، والذي أرسل الرُّوح القُدُس لتلاميذه كي يبقى معهم. هكذا، أُرسِل الرُّوح القُدُس الباراقليط للكنيسة، كأساس لا ينضب لفرحها كعروس للمسيح الممجَّد" (الإرشاد الرسولي عن الفرح المسيحي). لماذا لا ندخل نحن أيضًا في نهر هذا الفرح؟  أمَّا عبارة: مُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ" فتشير إلى تحقق التَّلاميذ من مشاهدتهم الرب من خلال جروحاته، وهذه المشاهدة هي مصدر فرح للتلاميذ، إذ تحقَّقوا من وعد الرَّبّ لهم: "لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً" (يوحنا 15: 11). فإذا كانت مشاهدة المسيح على الأرض عِلة فرحهم فكم يكون فرح المؤمنين بمشاهدتهم إيَّاه في السماء؟

 

21 فقالَ لَهم ثانِيَةً: السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً

 

تشير عبارة "ثانِيَةً" إلى تأكيد المسيح عَطِيَّة السَّلام لتَّلاميذه لإدَّاء شهادتهم للعالم عن حياة المسيح القائم التي يمارسونها في الرُّوح القُدُس.  إن تكرار الأمر مرتين دلالة على أنَّ " الأَمرَ مُقَرَّرٌ من لَدُنِ الله " (التكوين 41: 32). أمَّا عبارة "السَّلامُ علَيكم!" فتشير إلى سلام ثمرة القيامة. والسَّلام هنا ليس لتبديد خوف التَّلاميذ، بل لإعدادهم في مهام المستقبل وإرسالهم للكرازة ولحمل إنجيل الخلاص للعالم؛ إنه سلام ابن الله المُنتصر على العالم والموت. إنَّه السَّلام الذي لا يستطيع العالم أن يمنحه " السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العَالَم" (يوحنا 14: 27). أمَّا عبارة "كما" في الأصل اليوناني καθὼς (معناها مثل) فتشير إلى العلاقة الخاصة بالآب والابن وعلاقة الآب بنا من ناحية، وتُبيّن طريقة مشاركة الابن لتلاميذه في تلك الأُلفة الحميمة القائمة في حياة الله من ناحية أخرى. ولا يشعر يوحنا الإنجيلي بالحاجة إلى كتابة عن متطلبات الإرسال فيلخصها في كلمة "كما": " كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً". رِسالَة التَّلاميذ هي مماثلة لرِسالَة المسيح في مواقفه ومشاعره ونواياه وأفكاره ذاتها. أمَّا عبارة "كما أَرسَلَني الآب" فتشير إلى يسوع الذي هو رسول الله الوحيد لعمل الفداء، كما يؤكِّده صاحب الرِّسالَة إلى العبرانيين " تَأَمَّلوا رَسولَ شَهادَتِنا وعَظيمَ كَهَنَتِها يَسوع"(3: 1). ولم يذكر يوحنا الإنجيلي شروط الإرسال، كما ذكرها في الإرسال الأول حيث قال "اِذهَبوا! فهاءنَذا أُرسِلُكم كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب. لا تَحمِلوا كِيسَ دَراهِم ولا مِزوَداً ولا حِذاءً ولا تُسَلِّموا في الطَّريقِ على أَحد." (لوقا 10: 3-4). إنما يكتفي يوحنا الإنجيلي هنا القول أنَّ رِسالَة التَّلاميذ يجب أن تكون مثل رِسالَة يسوع على صعيد المواقف، والمشاعر، والنوايا، والتفكير، وباختصار نفس الخدمة المتواضعة.  وتعلق هنا القديسة الطوباويّة تيريزا الكالكوتيّة: "أرسلني لأنقل البشرى السارّة للفقراء، وأقول للأسرى إنّهم ليسوا أسرى بعد اليوم، وأقول للعميان إنّهم يستطيعون أن يرَوا، وأعطي الحريّة للمظلومين. وأذهب وأعلن للجميع أنّ ملكوت الله قد أتى، وأذهب وأعلن للجميع أنّ مُلكَ الله قد أتى. كما أرسلني الآب، كذلك أنا أرسلكم لتكونوا شهودًا لي في العالم كلّه، في كلّ مكان، في العالم كلّه" (شيء جميل لله، الصفحة 74). أمَّا عبارة "أُرسِلُكم أَنا أَيضاً" فتشير إلى الرِّسالَة التي أوكلها يسوع إلى تلاميذه التي هي رِسالَة الابن الذي أرسله الآب إلى العالم ليُخلص به العالم.  جعل يسوع تلاميذه سُفراء له، كما صرّح بولس الرسول "نَحنُ سُفَراءُ في سَبيلِ المسيح" (2 قورنتس 5: 20) وشركاء له في المُناداة ببُشرى الخلاص (أعمال الرُّسُل 16: 17)، ويُعلّق أحد مفسّري الكتاب المقدس "لا يوجد إلاّ رِسالَة واحدة من السماء إلى الأرض، وهي رِسالَة يسوع. ورِسالَة التَّلاميذ هي متضمنة في رِسالَة يسوع، ومُكمّلة لها".  فرِسالَة التَّلاميذ قد نشأت عن حدث الفصح، وهي متأصلة في رِسالَة يسوع، كما يظهر في صلاته الكهنوتية: "كَمَا أَرسَلَتني إلى العَالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العَالَم" (يوحنا 17: 18). فيسوع يُخبر تلاميذه بايَّ سلطانٍ قد أتمَّ عمله، ويُوكل إليهم نشر خبر الخلاص في كل العَالَم، ويُحدَّد مهمة الرُّسُل لنشر أخبار الخلاص السارة في كل العَالَم وليكونوا شهودًا لقيامته. 

 

22 قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس

 

تشير عبارة "قالَ هذا" إلى العمل الهام الذي هُيِّأ له فيما سبق مباشرة؛ أمَّا عبارة "نَفَخَ فيهم" في الأصل اليوناني ἐμφυσάω (معناه أن روح يسوع لم يبقى خارج المرءـ بل عبر إلى داخله وأصبح جزءًا من نفسه وكيانه) فتشير إلى خلق الإنسان في البدء (تكوين 2: 7)، فتُوحي بخلق جديد أمام قيامة حقيقية "اللهِ الَّذي يُحيِي الأَموات ويَدعو إلى الوُجودِ غَيرَ المَوجود" (رومة 4: 17). وكما نفخ الرَّبّ الحياة في الخلق الأول، هكذا ينفخ في الخلق الثاني أي القيامة. وكما في الخلق الأول نفخ الله في الإنسان نسمة الحياة، كذلك بنفخة نسمة المسيح ينال الإنسان من الله الحياة الأبدية.  وهنا نفخ يسوع في تلاميذه ليُعطيهم سلطان الحَل والرَّبّط (متى 16: 19). إنَّها حركة خلق جديدة لتدشين الخلق الجديد.  وأمَّا عبارة "خُذوا الرُّوحَ القُدُس" فتشير إلى الرُّوح القُدُس الذي هو قوة الخلاص لغفران الخطايا والذي يُمكّن التَّلاميذ من الشهادة للمسيح: "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء" (يوحنا 15: 26-27). ويقول البابا فرنسيس: "روح الحقّ"، الّذي لا يحلّ مكاننا، بل يدافع عنّا ضدّ أكاذيب الشّرّ ويُلهمنا أفكارًا ومشاعرًا. وهو يقوم بذلك بلطف، دون أن يجبرنا: هو يقترح نفسه ولكنّه لا يفرضها" (عظة 24/5/2021). وكان هذا العطاء الخاص للتلاميذ للامتلاء من الرُّوح القُدُس عربون لِمَا سيختبره المؤمنون في يوم العنصرة (أعمال الرُّسُل 2). وتدل هذه الآية على صدور الرُّوح القُدُس من الابن كصدوره من الآب (يوحنا 15: 26).  ويعلق القدّيس ألريد دو ريلفو " مما لا شكّ فيه أنّ روح الرَّبّ قد أُعطي للتلاميذ قبل صعود الرَّبّ إلى السّماء عندما "نَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم" (يوحنا 20: 23-24). ولكن قبل العنصرة لم نسمع صوت الرُّوح القُدُس ونرى إشراقة قوّته. ولم تصل معرفته إلى التَّلاميذ الذين لم يكونوا قد تحلّوا بالشجاعة بعد، إذ كان الخوف مسيطرًا عليهم مجبرًا إيّاهم على البقاء مختبئين في العلية "(عظة عن العنصرة). أمَّا عبارة " الرُّوحَ القُدُس" فتشير إلى روح الله، الأقنوم الثالث في الثالوث، وسُمِّي روحا، لأنّه مُبدع الحياة، ودُعي قدوساً، لان من ضمن عمله تقديس المؤمنين، وهو يُحيي المائتين بالخطايا والآثام ويُقدِّسهم ويُطهِّرهم، وهكذا يؤهِّلهم لتمجيد الله والتمتع به إلى الأبد، كما اختبره بولس الرسول " شَريعةَ الرُّوحِ الَّذي يَهَبُ الحَياةَ في يسوعَ المسيح قد حَرَّرَتْني مِن شَريعَةِ الخَطيئَةِ والمَوت" (رومة 8: 2). المسيح يعطي رسله قوة بهبته لهم الرُّوح القُدُس لكي ينشروا رِسالَة الغفران. ويُعلق البابا فرنسيس "الرُّوح القُدُس يحمل إلينا غفران الله من خلال جراح يسوع، هذه الجراح افتدانا بها يسوع ولا يزال يحتفظ بها الآن في السماء. بقوة هذه الجراح تُغفر خطايانا، وهذا الأمر رائع" (عظة 20/11/2013). ونعمة الرُّوح القُدُس لم تصل البشر فقط بل الأرض أيضا، كما قال صاحب المزامير: أرسل روحك فيتجدّد وجه الأرض" تُرسِلُ رُوحَكَ فيُخلَقون وتُجَدِّدُ وَجهَ الأَرض" (المزامير 104: 30).  وما نال الرُّسُل من الرُّوح القُدُس هو قوة الإدراك للأمور المختصة بالمسيح وملكوته وفهم النبوءات المتعلقة به وموته وقيامته (لوقا 24: 45-46) وحمل رسالته. يليق بالمسيح الذي يرسل رسله أن يعطيهم القوة بهبته الرُّوح القُدُس لكي ينشروا رسالته.

 

23 مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم

 

تشير عبارة "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" إلى المسيح الذي أخذ من الله سلطة المصالحة والغفران وأعطاها لتلاميذه، كما جاء في تعليم بولس الرسول " وأَعْطانا خِدمَةَ المُصالَحَة" (2 قورنتس 5: 18). ويُعلق البابا فرنسيس "إن يسوع يمنح سلطان غفران الخطايا، والله هو الذي برحمته السامية يغفر لكل إنسان، وهو الذي أراد أن ينال الغفران جميع الذين ينتمون للمسيح وكنيسته بواسطة خَدَمة الجماعة. إن مغفرة الخطايا التي ننالها بواسطة الكنيسة تُنقل إلينا من خلال خدمة أخينا الكاهن الذي هو الأداة لمغفرة الخطايا" (عظة 20/11/2013).  فالمحتوى الوحيد لرِسالَة المسيح الذي يحرص يوحنا الإنجيلي على تدوينه هو غفران الخطايا، والغفران هو الطريق الوحيد للانتصار على الشر. ويُعلق البابا يوحنّا بولس الثاني "إنّ الانتصار على الخطيئة عبر غفران الله هو شفاء وقيامة" (كلمة أمام شباب تشيلي في 02/04/1987). والغفران هي نابعة مباشرة من السرّ الفصحى. يعُلق البابا فرنسيس أيضا "ليست مغفرة خطايانا أمرًا يمكننا أن نعطيه لأنفسنا، لأنَّ المغفرة تُطلب من آخر، ونحن في الاعتراف نطلب المغفرة من يسوع، ومغفرة خطايانا ليست ثمرة جهودنا، إنما هي عَطِيَّة من الرُّوح القُدُس الذي يملأُنا من فيض الرّحمة والنّعمة المُتدفّق من قلب المسيح المصلوب والقائم من الموت"،  ويعلق  القدّيس بطرس خريزولوغُس (نحو 406 - 450)، " مغفرة الخطايا ليست عملاً يستطيع الإنسان أن يقوم به، إنّما هي علامة خاصّة بالرَّبّ" (العظة 50 )َ، كما يؤكده يوحنا  المعمدان "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العَالَم" (يوحنا 1: 29). "فالرَّبّ يسوع المسيح، الذي مات من أجل البشر كلّهم وقام من بين الأموات، يريد أنْ تبقى أبواب التَّوبَة مفتوحة دائمًا في كنيسته أمام كلّ من يتوب عن خطيئته" (التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة§ 976 – 982). أمَّا عبارة " مَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم" فتشير إلى الغفران الذي ليس لكل واحد، بل للتائب. فالأمر إذن يتوقف على اختيار الشخص: هل هو تائب؟ أم غير تائب؟ ويُعلق القدّيس كيرِلُّس الأورشليميّ " مغفرة الخطايا تُعطى للجميع، لكنّ مشاركة الرُّوح القُدُس تُمنح وَفقًا لإيمان كلِّ واحدٍ مِنّا " (تعليم عمادي 1،5)؛ ينبع سرّ التَّوبَة والمصالحة (سر الاعتراف) مباشرة من السرّ الفصحيّ. لكن الاختلاف في تفسير هذه الآية لا يدور حول طبيعة السلطان الذي يمنحه يسوع لتلاميذه (متى 16: 19) بقدر ما يدور حول تحديد الذين يمارسون هذه السلطان. فالسُّلطة الممنوحة هي بمثابة إعلان المغفرة على أساس موت المسيح الذي حمل الخطايا، كما ورد في إنجيل متى "ما رَبطتُم في الأَرضِ رُبِطَ في السَّماء، وما حَلَلتُم في الأَرضِ حُلَّ في السَّماء"(متى 18: 18)؛ أمَّا فيما يتعلق فيمن يمارسون هذه السُّلطة فالتقليد الكاثوليكي يعتقد أنَّ المقصود هم الكهنة الذين مُنحوا السُّلطة بفضل شركتهم الوثيقة مع المسيح أن يتصرَّفوا باسمه، كوكلاء في غفران الخطايا أو إمساكها. لكن التقليد البروتسنتي يعتقد ان المقصود بالذين يمارسون هذه السُّلطة: "الذي هو أداة الرُّوح القُدُس" وذلك بحسب ما جاء في قول بطرس الرسول "بِأَنَّ كُلَّ مَن آمَنَ به يَنالُ بِاسمِه غُفرانَ الخَطايا" (أعمال الرُّسُل 10: 43). يُعلن الرَّبّ يسوع لتلاميذ عن سلطانهم لمغفرة خطايا الناس. ولا يُمكن للإنسان أن ينال رِسالَة الغفران دون قبوله مُعطي الغفران، أي يسوع المسيح. فالكاهن في سر الاعتراف أو المصالحة لا يُمثّل المسيح فقط، وإنما يُمثّل أيضًا الجماعة بأسرها (الكنيسة) التي تجد نفسها في ضَعف كلّ فردٍ من أفرادها، وتُصغي إلى توبته وتتصالح معه، وتشجِّعه وتُرافقه في مسيرة التَّوبَة والنضوج الإنساني والمسيحي. الله يغمرنا ويفرح بعودتنا من خلال الاعتراف، كما فرح الأب في ابنه الضال (لوقا 15: 11-32).  لِنسِرْ إذًا على هذه الدرب!  باختصار، تشير هذه الآية إلى إعطاء الرَّبّ موهبة الكهنوت لتلاميذه بسُلطان الرُّوح القُدُس بصورة مميَّزة عن حلول الرُّوح القُدُس في يوم العنصرة، وهذه الموهبة هي سُلطان مغفرة الخطايا.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 20: 19-23)، يمكن أن نستنتج انه يتمحور حول رِسالَة الرُّوح القُدُس للرسل وسلطتهم لمغفرة الخطايا

 

1) رِسالَة الرُّوح القُدُس للتلاميذ

 

يُشار في أسفار العهد القديم في الكتاب المقدس إلى الرُّوح في الأصل العبري بلفظة "ְר֣וּחַ") معناه النفس والريح، ونَفَس الإنسان، ونَفَس الله، (التكوين 3: 8). الإنسان يعيش بالروح أي التنفس، دون الروح أي التنفس لا حياة للإنسان كما يقول صاحب المزامير: "تَسحَبُ أَرْواحَهم فيَموتون وإِلى تُرابِهم يَعودون"(مزمور 103: 29)، وكذلك روح الله هو القوة التي تعطي الحياة للخليقة، لا حياة للإنسان مع الله دون الروح باعتباره الخالق "كانَتِ الأَرضُ خاوِيةً خالِية وعلى وَجهِ الغَمْرِ ظَلام ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه"(التكوين 1: 2). في أسفار العهد الجديد يحافظ لفظة الرّوح القدس في الأصل اليوناني πνεῦμα على هذا التنوع في المعاني التي يحملها مصطلح رّوح في الكتاب المقدس العبري. 

 

الرِسالَة التي أوكلها يسوع إلى تلاميذه، ليست أقل من رِسالَة الابن الذي أرسله الآب إلى العالم لخلاص البشر، كما صرّح يسوع " كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً (يوحنا 20: 21)؛ أعطى يسوع تلاميذه مهمة الذهاب إلى العالم ونقلِ كلمةِ الله وبشرى القيامة، وكلّفهم بداية جديدة لعالم جديد، فهم مُرسَلوه تمامًا، كما أنَّه هو مُرسَل الآب. ومن هذا المنطلق، لا يوجد إلاّ رِسالَة واحدة من السَّماء إلى الأرض، وهي رِسالَة يسوع. وما رِسالَة التَّلاميذ إلاَّ رِسالَة يسوع نفسها وتكملتها؛ وقد نشأت عن حدث الفصح، وهي مُتأصلة في رِسالَة يسوع، كما يظهر في صلاته الكهنوتية: "كَمَا أَرسَلَتني إلى العَالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إلى العالَم" (يوحنا 17: 18).  ويُعلق أحد الباحثين في الكتاب المقدس "المسيح يطلب من تلاميذه: اخرجوا مني كخروج الشعاع من الشمس، وكخروج النهر من النبع، وكما إنني أذيع اسم الآب كذلك أذيعوا أنتم اسمي".

 

كيف السبيل إلى القيام برِسالَة المسيح التي تفوق القدرة البشرية، بدون قوة الرُّوح القُدُس؟ للقيام برسالتهم، لم يعتمد الرُّسُل على قواهم البشرية وحدها، وإنما كانوا يعتمدون على قوة الرُّوح القُدُس. إنه روح الله، الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، والذي يلعب الدور النهائي في تصميم الله لإدارة العالم بعد ما خلّصه يسوع بموته على الصليب، ويقودنا في صِراعنا بين الرُّوح والمادة لذلك يقول بولس الرسول: "لأَنَّ الخَيرَ الَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، والشَّرَّ الَّذي لا أُريدُه إِيَّاه أَفعَل" (رومة 7: 19). هذا الرُّوح يعضد ضعفنا ويحضّنا على عيش أسرار المصالحة والإفخارستيا والغفران. ويصلّي فينا عندما تتلاشى عندنا كل رغبة للصلاة: "الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف" (رومة 8: 26). وهو الذي يُنير إيماننا. إنه المؤيّد والمدافع والمحامي والمعزّي والشفيع، إنه علامة حلول الأزمنة الجديدة الذي يقود كلَّ شيءٍ نحو كماله. يُعلق القدّيس فرنسيس دي سال " كيف استحقّ الرّب يسوع حلول الرُّوح القُدُس؟ عندما "حَنى رأسَهُ وأَسلَمَ الرُّوح" (يوحنا 19: 30)؛ لأنّه حين أسلم روحَه إلى الآب، استحقّ أن يرسل الآبُ روحَه ليَسكن جسَده السريّ أي الكنيسة" (العظة الأولى للعنصرة). 

 

منذ ظهور يسوع المسيح الأوّل لتلاميذه يوم قيامته منحهم الرُّوح القُدُس، الرَّبّ المُحيي، المنبثق من الآب والابن، كما نُصلي في قانون الإيمان. وكما عَمِلَ يسوع بقوة الرُّوح، كذلك يمنحُ الآن الذين أرسلهم قوة الرُّوح عينه لكي يُبشِّروا به " نَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوح القُدُس" (يوحنا 20: 22). ويستبق عطاء الرُّوح هنا العنصرة أي في اليوم الخمسين بعد قيامته حيث أعطى يسوع لرسله ولكل البشرية الرُّوح القُدُس شريعة العهد الجديد.

 

أعطى يسوع الرُّوح القُدُس إلى تلاميذه بالنفخ وليس بوضع الأيدي (أعمال الرُّسُل 8: 17)؛ وتشير هذه الحركة إلى نسمة الحياة التي نفخها الله في أنف الإنسان الأوَّل في بدء الخليقة (التكوين 2: 7)، كما تُلمح هذه الحركة إلى نبوءة حزقيال عن عطاء روح الله (حزقيال 37: 3-5)، من أجل خلق شعبٍ مُطهّرٍ من خطاياه، ومُتجدِّد في القداسة. وقد تحقَّقت هذه النبوءة في يوم الفصح. فقد نفخ يسوع في تلاميذه الرُّوح القُدُس الذي سيكون مبدأ الحياة لخَلقٍ جديد. والجدير بالذِّكر، أنَّ يوحنا بدأ إنجيله بالكلام عن الخليقة الأولى (يوحنا 1: 1-17)، وأنهاه بالإشارة إلى الخليقة الجديدة بفضل آلام يسوع وموته وقيامته.

 

يُؤمّن حضور يسوع مع تلاميذه تحقيق وعده بإرسال الرُّوح القُدُس لهم، إذ يكون فيهم ويقودهم إلى الحَقّ كلّه مُتمِّماً كل ما بدأ به بواسطة الرُّسُل الذين سيؤلفون نواة الكنيسة الأولى. وهذه الكنيسة تتحوّل بفعل حلول الرُّوح القُدس إلى كنيسة شاهدة للمسيح ولبشارته حيث يُشرك الله القدّوس جميع الشعوب بحياته في الخلاص ويدعوهم إلى فهم لغته الوحيدة، لغة المحبة والغفران والسَّلام. إنَّه علامة حلول الأزمنة الجديدة، فالرُّوح بنوره ومواهبه السبع يقود كل شيء نحو كماله في روح المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف"(غلاطية 5: 22-23). فالرّوح القُدُس يرسم ملامح وجه المسيح على وجه الكنيسة، وبالتالي يعلن إمكانية الاقتداء بالمسيح في العالم، وإعطاء المسيح للعالم وجعله حيّ فينا وبيننا.

 

نستنتج ممَّا سبق أنَّ يسوع وهب تلاميذه نفخة الرُّوح القُدُس لإقامة الحياة الجديدة جاعلاً إيَّاهم تمتعون بعَطِيَّة الرُّوح العامل فيهم، وبهذا الرُّوح يستطيعون القيام بالخدمة والعمل الرسولي.  وغاية هذه الخِدمة الرَّسًولية أن يعمل التَّلاميذ بالرُّوح القُدُس ليتمتَّع العالم بالخليقة الجديدة أو الحياة الجديدة التي نالها لنا يسوع بقيامته، لكي يعيش الإنسان حياة الله وحياة الجماعة الكنسية في الأخوة، لانَّ الرُّوح القُدُس يعضد ضَعفنا ويَحضّنا على عيش أسرار المُصالحة والمغفرة. وهذا الرُّوح لا يُمكن للعالم أن يتلقَّاه، لانَّ العالم مُنغلقٌ على ما يُلمس وما يُرى. لذلك لا يعرف هذا العالم شيئاً عن هذا الحُبِّ. والحُبُّ هو خروج من الذات، فين حين العالم هو انغلاق على الذات. لذلك هذا العالم بحسب الإنجيلي يوحنا يُقسم إلى قسمين: أبناء النور الذي قبلوا كلمة الله وآمنوا به، وأبناء الظلام الذين رفضوا هذا النور. أمَّا نحن فبحاجة دائمة إلى قوة الرُّوح القُدُس لكي يتجدّد كياننا الداخلي تَجدُّداً جذرياً وتتحوّل حياتنا، كما تحوّلت حياة الرُّسُل في العنصرة

 

2) سلطة التلاميذ لمغفرة الخطايا

 

ليس هناك ما هو أهمّ من المغفرة في تعليم المسيح وعمله، إذ يمنح المسيح القائم الغفران لتلاميذه من خلال سرَّي المعمودية والاعتراف (المصالحة) في بوادر الحياة المسيحية. وترتبط عَطِيَّة الرُّوح القُدس ارتباطًا وثيقًا مع عَطِيَّة سلطة مغفرة الخطايا، كما نستشفه من خلال قول يسوع لتلاميذه "خُذوا الرُّوحَ القُدُس. مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" (يوحنا 20: 22-23). والمحتوى الوحيد للرِسالَة التي يهتم يوحنا الإنجيلي بتدوينها في إنجيله هي المغفرة بدون حدود. هذه المغفرة كشفها يسوع على الصليب، وهي الطريق الوحيد للتغلب على الشر.

 

لم يُرسل الله الآب ابنه يسوع ليدين، بل ليُخلص (يوحنا 3: 17-18). إنه يدعو للتوبة كلَّ من هم في حاجة إليها (لوقا 5: 11-32) وهو يَحثُ على هذه التَّوبَة (لوقا 19: 1-10) بإعلانه أن الله هو أبٌ، وتقوم مسرَّته في الصفح عن الزلات (لوقا 15)، ومشيئته في ألاَّ يدعْ أحدًا يهلك (متى 18: 12-14). ولا يكتفي يسوع بإعلان هذا الغفران الذي يقبله المؤمن المُتواضع بينما يرفضه الإنسان المُتكبر (لوقا 7: 47-50)، بل هو يمارس منح الغفران ويستشهد بأعماله أنه يملك هذا السُّلطان الموقوف على الله وحده (مرقس 2: 5-11).

 

لا يقف الله أمام شرِّنا للحُكم علينا ومعاقبتنا، بل لمغفرة خطايانا، كما جاء في تعليم يوحنا الرسول: "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم" (يوحنا 3: 17). ومن هذا المنطلق، فان المغفرة هي الإعلان الأكبر للملكوت: فرِسالَة التَّلاميذ الذين يشاركون في رِسالَة المسيح هي رِسالَة المغفرة، وبالتالي رِسالَة الأمل والرجاء. وهذه السُّلطة للمغفرة أعطاها يسوع لتلاميذه.

 

كما أرسل الآب ابنه يسوع وملأه من روحه، كذلك أرسل يسوع بدوره تلاميذه ومنحهم الرُّوح القُدُس، منحهم قدرة الآب وسُلطانه الإلهي على مَنْح الحياة الإلهية للنَّاس بمغفرة خطاياهم ومصالحتهم مع الله. وذلك أنَّ يسوع أرسل تلاميذه " ليعلنوا بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم"(لوقا 47:24)؛ فالمفعول الأول لعَطِيَّة الرُّوح هو غفران الخطايا، كما صرّح يسوع "خُذوا الرُّوحَ القُدُس مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" (يوحنا 20: 21-22). ويُعلق القدّيس الراهب ألريد دو ريلفو: "مما لا شكّ فيه أنّ روح الرَّبّ قد أُعطي للتَّلاميذ قبل صعوده إلى السّماء (يوحنا 20: 23-24). ولكن قبل العَنْصرة لم نسمع صوت الرُّوح القُدُس ولم نَرَ إشراقة قوّته. ولم تصل معرفته إلى التَّلاميذ الذين لم يكونوا قد تَحلّوا بالشجاعة بعد، إذ كان الخوف لا يزال مُسيطرًا عليهم مُجبرًا إيّاهم على البقاء مُختبئين في العِليَّة. ولكن منذ يوم العنصرة صار " صَوتُ الرَّبّ على المِياه ... صَوتُ الرَّبّ يَقُدُّ شُهُبَ نار... وكلٌّ يقولُ في هَيكَلِه: لَه المَجْد" (عظة حول العنصرة).

 

أعطى يسوع رسله سلطة مغفرة الخطايا بقوة الرُّوح القُدُس، من ملء سُلطانه في السَّماء وعلى الأرض، لأنَّه قدّم ذاته لأبيه من أجل خطايانا (عبرانيين 10: 5-10)، وخطايا العالم، كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "إِنَّه كَفَّارةٌ لِخَطايانا لا لِخَطايانا وحْدَها بل لِخَطايا العَالَم أَجمعَ" (1 يوحنا 2: 2)، وقد رأى فيه يوحنا المعمدان وكشف أنَّه " حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العَالَم" (يوحنا 1: 29)؛ إنَّنا بدمه نتطّهر ونغتسل من خطايانا (1 يوجنا 1: 7) ويؤكد ذلك بولس الرسول بقوله " لنا فيه الفِداءُ وغُفْرانُ الخَطايا " (1 قورنتس 1: 14). وبقوة هذا الرُّوح، أعطى يسوع إلى تلاميذه سُلطانا يفوق السلطة البشرية، انه سُلطان غفران الخطايا، ويظهر ذلك من قوله لتلاميذه بعد القيامة: "خُذوا الرُّوح القُدُس" مكملًا قوله: "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم"(يوحنا 20: 22-23). لذلك الرُّسُل يُكرزون لمغفرة الخطايا (أعمال الرُّسُل 2: 38، 5: 31). فالغفران ليس شرطاً سابقاً للحياة الجديدة فقط، بل هو ركن من أركانها الأساسية.

 

ليس سُلطان مغفرة الخطايا سُلطانا بشريًا، بل هو سُلطان إلهيٌ. وهذا السُّلطان سبق أن مارسه يسوع في حياته (متى 9: 1-8)، لأنّ رُوح الرَّبّ كان عليه. فالآن، كما أرسله الآب وملأه من روحه، كذلك يرسل يسوع بدوره تلاميذه ويمنحهم الرُّوح القُدُس، قدرة الآب وسُلطانه الإلهي على منح الحياة الإلهية للناس بمغفرة خطاياهم ومصالحتهم مع الله. فالرُّوح يمنح نعمة التبرير في سر التَّوبَة.  ولكن هنا، الحياة التي يتلقاها الإنسان هي حياة الله ذاتها القادرة على قهر الموت والخطيئة. إنها حياة جديدة، متصالحة مع الله في موت المسيح، حياة مسامحة، وبالتالي، قادرة على الغفران.

 

يحوّل الرُّوح القُدُس التَّلاميذ إلى مُبشّرين بعظائم الله خاصة غفران الخطايا، وخيرُ مثال على ذلك هو بطرس الرَّسول الذي طلب من مستمعيه التَّوبَة لمغفرة الخطايا "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوح القُدُس" (أعمال الرُّسُل 2: 38).  وقد باشر القديس بولس الرسول في زمانه باستخدام هذه السُّلطة التي قلده إيّاها المسيح في حضن كنيسة قورنتس ذلك الخاطئ الزاني بامرأة أخيه نفسه (2 قورنتس 2: 10). يعلق القديس أمبروسيوس " ليس عند الله محاباة، فلقد وعد برحمته جميع البشر، وقلَّد رسله سُلطان المغفرة، دون أي استثناء" (في التَّوبَة 3: 1-10)؛ ومن هنا جاءت مناشدة القديس قبريانس "أطلب إليكم أيها الأحباء أن تعترفوا بخطاياكم ما دمتم في الحياة الحاضرة حيث أنَّ صفح الخطايا الممنوح من الكهنة مقبولٌ ومرضيٌ عند الله أيضا" (في الساقطين 29).

 

خدمة الكاهن في الكنيسة لمغفرة الخطايا هي عَطِيَّة الرُّوح القُدُس، إذ لديه السُّلطة أن يغفر الخطيئة بالرُّوح القُدُس وأن يُمسكها؛ لان لسُلطان مغفرة الخطايا مفعول مزدوج وهو الحل والرَّبّط: " خُذوا الرُّوحَ القُدُس مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم " (يوحنا 20: 22-23). ويُعلق القديس أمبروسيوس "انظروا كيف أن الخطايا تُغفر بالرُّوح القُدُس، أمَّا البَشر فيستخدمون سُلطانهم لغفران الخطايا، إنهم لا يمارسون حقًا خاصًا بسُلطان من ذواتهم. إذ هم لا يغفرون الخطايا باسمهم بل باسم الآب والابن والرُّوح القُدُس. يسألون اللاهوت أن يهب؛ فالخِدمة من جانب الإنسان والعَطِيَّة من سُلطان العليّ".

 

لا يعترف التائب لشخص الكاهن بل يعترف لله أمام الكاهن الذي يُمثّل الكنيسة وينوب عنها كشاهد على عودة الخاطئ إلى الله والناس، ويتضرّع باسم الكنيسة من أجل التائب العائد كي يقبل الله عودته إلى شركته، عبر قبول الكنيسة له مُجدِّدًا في شركتها. والكاهن يمنح الشخص المعترف الحلّ من الخطايا التي اعترف بها باسم الثالوث الأقدس، وبقوّة السُّلطان المُعطى للكنيسة من يسوع المسيح بالرُّوح القُدُس. والحل لا يقوم بمجرد الإعلان أنَّ الخطايا قد غُفرت كما يقول البروتستانت، إنَّما للكاهن السُّلطان في مغفرة الخطايا. يوضِّح لقديس يوحنا الذهبي الفم ذلك في مقارنته بين كهنوت العهد القديم وكهنوت العهد الجديد: "كان لكهنة اليَهود السُّلطان لا بتطهير المبتلين بالبرص الجِسْم، بل إعلان عن تطهيرهم. أمَّا كهنتنا فقد نالوا السُّلطان لا بإعلان حالة الطهارة بل بالتطهير كاملا" (في الكهنوت 3: 6). 

 

اخذ الرُّسُل يُكرزون بمغفرة الخطايا ، كما جاء في كلام بطرس والرُّسُل " هو الَّذي رَفعَه اللهُ بِيَمينِه وجَعَلَه سَيِّدًا ومُخَلِّصًا لِيَهَبَ لإِسْرائيلَ التَّوبَةَ وغُفرانَ الخَطايا " (أعمال الرُّسُل  5: 31) ، وبولس الرسول أيضًا وعظ الناس بمغفرة الخطايا بقوله : "اعلَموا، أَيُّها الإِخوَة، أَنَّكم عن يَدِه تُبَشَّرونَ بِغُفرانِ الخَطايا(أعمال الرُّسُل  13: 38)، لكنهم لا ينظرون إلى الناحية الشرعية  القانونية في الغفران بقدر ما يركّزون على المحبة الإلهية التي بواسطتها  يسوع يُخلصنا ويُقدّسنا، كما جاء في تعليم بولس الرسول  " إِنَّنا نَفتَخِرُ بِالله، بِرَبِّنا يسوعَ المسيحِ الَّذي بِه نِلْنا الآنَ المُصالَحة " (رومة 5: 11).

 

نستنتج مما سبق، أن الرُّوح القُدُس يُحقِّق وحدة الإنسان الداخليّة، حيث لا يعود الإنسان مُنقسماً بين ما يريد وما يفعل، بين قناعاته وتصرّفاته، بين أقواله وأعماله، بل يُصبح كائناً مُوحَّدًا داخليًا، وغير مُنقسم، إنسان يسعى بكلّ طاقاته إلى أن يكون وفيًّا للدعوة التي دُعي إليها، لأنَّ الإنسان يحصل على مغفرة خطاياه بقوة الرُّوح القُدُس فيتحرر من سلاسل الحقد والانغلاق على الذّات، وعبوديّة الخطيئة في داخله فيتصالح مع ذاته، ومع الآخر، ومع الله، وتُصبح حياته نشيد شكرٍ لله بواسطة الرُّوح السَّاكن فيه. فهل ندرك أن الرُّوح القُدُس يعمل فينا ويبكّتنا على كلّ خطيئة لكي يغفرها؟

 

 

الخلاصة

 

يُعيدنا إنجيل يوحنا الإنجيلي إلى أمُسية عيد الفصح (يوحنا 20: 19-23) حيث زار يسوع القائم تلاميذه المجتمعين في العِلِّيَّة، وأعْطاهم روحَه وحياتَه الجديدة التي تلقَّاها من الآب وأُرسلهم إلى التبشير بالإنجيل الطاهر والشهادة له. فالرُّوح القُدُس هو قلب الحياة الجديدة، حياة الرُّسُل والمُبشِّرين والشُّهود. ومن هذا المنطلق، يؤكِّد لنا يوحنا أنَّ الفصح لا ينتهي بقيامة الرَّبِّ يسوع وصعوده إلى الآب، بل عندما يسكن فينا ويُشاركنا الحياة التي استعادها من خلال الرُّوح القدس.

 

رِسالَة الكنيسة هي تحقيق رِسالَة المسيح نفسها المُوكلة إليه من قبل الآب، كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً (يوحنا 20: 21)، لذلك أعطى يسوع المسيح الرُّوح القُدُس للرسل من أجل خلْقٍ جديدٍ يتحقق فيه غفران الخطايا والسَّلام.

 

ومن هذا المنطلق، زمن العنصرة هو زمن الكنيسة المُبشّرة التي تكمِّل في التاريخ عمل مؤسِّسها وسَيِّدها الخلاصيّ، هو زمن الرُّسُل المُرسلين لإعلان إنجيل الرَّبّ القائم، ودعوة البشرية للتوبة والعودة إلى الرَّبّ، لأنّ الساعة قد اقتربت. ويقول القديس ايرينيوس: "كما أنّ الله قد نفخ روحه في الجسد الذي كوّنه، منح الحياة لكل أعضاء الجسد، هكذا أعطى الرُّوح للكنيسة. وهذا الرُّوح الذي أُعطي للكنيسة تسلّمتْه، هو المبدأ الحَي للاتِّحاد الصميم بالمسيح: هو ثبات إيماننا، والسِّلّم الذي به نرتقي إلى الآب. وهو أخيرًا، وعلى الأخصّ، عربون وبذار لعدم فساد حياتنا حتى النهاية، حيث نُعتَق إلى الأبد من الموت. حيث الكنيسة هناك روح الله، وحيث الله هناك الكنيسة وكلّ نعمة والرُّوح الحق" (ضد الهراطقة 3: 24، 1).

 

ونختتم مع كلمات القديس يوحنا الثالث والعشرون في عام 1964 عندما فتح نوافذ مكتبه وقال للمنتظرين له في ساحة الفاتيكان: كما فتحت الشبّاك الآن فدخل إلى غرفتي هواء نقي جديد، وكذلك أريد أن أفتح شباك الكنيسة وأعلن لكم عن نيتي افتتاح مجمع مسكونيٍّ جديد، حتى يدخل فيها هواء عنصرة جديد، يُنعشها، ويملأُ الكثيرين من روحه المُحيي. فلنفتح قلوبنا وعقولنا لرُوح القُدُس الذي يُجدِّدنا ويُحينا لنحيا لله ومن أجله ومنه، كما سبق وهتف القديس لويس غونزاغا "خُلقتُ لله ولا أريد غير الله بديلاً ".

 

 

دعاء

 

أيها الرُّوح القُدُس، يا من أضرمت قلوب الرُّسُل من نار حُبّك. جَدِّد وجه الكنيسة التي أعطيتها سُلطان المغفرة لكي تعضد ضعفنا وتًحرِّرنا من عبودية الخطيئة وروح البلبلة والتشتّت، أخلق فينا قلبًا جديدًا وروحًا مستقيمًا، وقدّسنا لكيلا نعود نتكلّم سوى لغة حُبّك وغُفرانك، ونعمل من أجل حُبِّك فنكون وجه الرَّبّ الرحيم. أرسل لنا يا رب، الآن، روحك القدوس ليُجدِّد وجه الأرض. لك المجد إلى الأبد.  أمين.

 

 

قصة واقعية: مغفرة الخطايا

 

 بلغت الساعة الحادية عشرة ليلاً وما زال الأب أومالي ينظر من النافذة: يا للعاصفة الهوجاء! كم يحلو له أن يُنزل عن كاهله هموم النهار ويستعد للنوم في هدأة بيت الرعية. غير أنه كان يجهل أن الله يُهيئ لخادمه، ذلك المساء، مشروعًا آخر. رنَّ جرس الهاتف. انه مستشفى أوابون، وصوت الممرضة يقول: "أنا الممرضة بتي. تعال بسرعة يا أبتِ. هناك رجلٌ يحتاج إلى كاهن، حالتُه تسوء، وقد لا يعيش لطلوع الفجر، الأمر طارئ!" يعرف الأب أومالي أن العواصف الشَّديدة على الشاطئ الغربي للولايات المتحدة لا ترحم. وتُنبِّه الإذاعة عن خطر فيضان. في الواقع أنه ينبغي اجتياز نحو 30 ميلا ليلاً! إنَّها مُجازفة حقيقية.  وفي الغد يبدو برنامج الرَّعية حافلاً.  فردَّ الأب أومالي على مضض: "سوف اذهب حالما أستطيع ذلك".

 

 ولكن نداء النفس كان أقوى، وها هو الأب أومالي على الطريق مُتحدِّيا الأمطار الغزيرة التي لا تنفكُّ تهدِّد الطَّريق أمامه. بعد أربع ساعات وصل المستشفى، فقادته المُمرِّضة إلى غرفة المريض توم: الرجل يحتضر.

 

جمع الأب أومالي كل الرَّقة والنعومة اللتين وضعهما المسيح فيه خلال سنواته الكهنوتية. لقد تعلم احترام قيمة النفس اللامحدودة، لا سيما في ساعتها الأخيرة. فلمَّا التقى بالمريض قال له: "قيل لي إنك تودُّ لقاء كاهن". فتح الرجل عينيه: وقال "دعني وشأني! لا أود رؤيتك". بدأ اللقاء بشكل سيِّء للغاية، وبدأ الأب أومالي حزينا، ولكن بدون أن تخمد عزيمته، فجلس قرب المريض واستغرق بالصلاة. ترك الوقت يمضي. وبعد ساعة قام الأب أومالي بمحاولة جديدة قائلا للمريض:" هل ترغب في الكلام قليلاً؟  كرَّر الرجل ردَّة فعله العنيفة ذاتها وألحقها هذه المرة بإنذار وجوب الانسحاب. أمَّا الكاهن فاحتفظ بطول أناته وواصل بهدوء ادعيته بالرحمة للرجل. وأخذ النهار يطلع. هل ستذهب هذه النفس الغالية محرومة من سلام الله؟

 

وبدأ الكاهن من جديد مشدود إلى السرير وقال للمريض "أنا متأكد أنك ترغب بالكلام. أليس صحيحا؟! فأجاب المريض: آه! في جميع الأحوال لا أملك الوقت الكافي لأقول الكثير. إني مُدمن على الكحول وأعيش وحدي منذ مدة طويلة. عندما كنت شابًا كانت لي مكانتي بين عُمَّال سكة الحديد. كنت ميكانيكيًا. ومنذ أكثر من 30 سنة هبَّت عاصفة هوجاء ولجأت مع جميع رفاقي في الخدمة إلى كوخ صغير وشربنا حتى الثمالة. وما كاد القطار يصل في وقت خدمتي حتى أسرعت لأحوّله على الخطوط الصحيحة. غير أنِّي كنت تحت تأثير الكحول المُفرطة فبدَّلت الرافعة في الاتجاه الخطأ. ووقعت المصيبة: اصطدم القطار بسيارة كانت تجتاز المَمرَّ المفتوح. قتلت عائلة بأسرها: الأب، الأم وابنتاهما. حدث ذلك بعد عيد الميلاد، ولم أستطع أن أغفر لنفسي هذا الأمر على الإطلاق ولن أغفر لها أبداً! ولن يستطيع الله أن يغفر لي ذلك. عندئذ غادرت وهجرت إلى الجبال أعيش مُتوحِّداً. وأخذ توم ينتحب. ألقى مأساته في قلب هذا الكاهن الغريب المجهول.

 

كان التأثُّر يبدو جليًا على الكاهن ولكنه تماسك، فالوقت غير مناسب للانجراف وراء العاطفة، فالمريض قد يموت في أية لحظة. وبصوتٍ مُرتجفٍ طلب الكاهن من المريض أن يُودع جميع خطاياه إلى الله، وأن يقبل الحلَّ والمغفرة. وها هي الدموع تسقط من عينيّ الكاهن كونه هو أيضًا استعاد في ذاكرته المأساة الرهيب: فقال للمريض: "تعلم يا توم، في تلك السيارة في ذاك المساء من عيد الميلاد، كان الأب والأم قد أخذا معهما ابنتيهما. إنما كان لهما أيضًا صبيٌ صغيرٌ بقي في المنزل. وهذا الصبي الصغير، هو أنا!

 

حاول المريض أن ينهض مذهولاً، ولكن لم يستطع أن يتلفظ بحرف واحدٍ.  فهمس الكاهن للمريض كما يُهمس سر حميم:" اغْفرْ لك يا توم، إني أغفرْ لك!". عندها رقد الرجل ميتًا، عند طلوع شمس ذاك النهار، لم يكن يشعر بالخوف من الله.  فلقد أفهمه الرَّبّ مدى سعة رحمته في المغفرة ما لا يستطيع إنسانيًا!