موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٦ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

"رَوُعَةُ الحَياة" بين كاتبّي سفر الحكمة والإنجيل الثّاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حك 1: 13-15؛ 2: 23-24؛ مر 5: 21-43)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حك 1: 13-15؛ 2: 23-24؛ مر 5: 21-43)

 

الأحد الثالث عشر بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

مضمون مقالنا بهذا الأسبوع، هو موضوع أساسي ومرتبط بوجود كلّ إمرأة ورجل موضوع "رَوعَةُ الحَياة". الموت هو عكس الحياة الّتي يقدمها الوحي بكلّا العهديّن. لذا سنجد كاتب سفر الحكمة في المقطع الأوّل بسفر الحكمة (حك 1: 13 – 15؛ 2: 23 – 24) يعلن بشكل مزدوج عنصر أوّل يتعلق بالله والآخر يتعلق بالإنسان. فمن ناحية يبشرنا الكاتب الحكميّ بأنّ الله لمّ يخلق إنسان للموت. الله لم يخلق الموت بل هو سيّد ومانح الحياة.بناء عليه نجد أنّ رغبته هي منح "رّوُعَةُ الحَياة: لكلّ خلائقه. ثمّ يؤكد على إنّ كلّ إنسان مخلوق لعدم الفساد. وستواصل هذا الفكر بحسب لّاهوت الإنجيليّ مرقس (مر 5: 21 – 43) حيث يُظهر يسوع في أعماله ما أعلنه كاتب سفر الحكمة بالكلمة. بمجرد أنّ نتبع أفعاله تجاه الصّبيّة الميتة والمرأة النازفة، يسطع أمامنا كقراء مؤمنين من خلال أفعل يسوع وجه الله الّذي يحبّ الحياة والّذي يعتبر الموت بالنسبة له نومًا، شيئًا عابرًا يميز حياة الخليقة، حتّى لو لم يكن النوم الكلمة الأخيرة. نحن على مثال تلاميذ يسوع مدعويّن لنكون مقتديّن بالله الّذي يحب الحياة، وما علينا إلّا أن نقبل روعة الحياة الّتي أرادها الله لنا حتّى نحياها كلّ يّوم بحسب مخطط الله بالعهد الأوّل الّذي جسّده يسوع بالعهد الثاني وإنعكس فيه وجه الله الآب.

 

1. إله الحياة (حك 1: 13- 15؛ 2: 23- 24)

 

يتناول السفر الحكمي الشهير النص الّذي دونّه كاتب سفر الحكمة. فهو يخاطب معاصريّه، مع الأخذ في الإعتبار، الحركة العظيمة، في جماعة من أصل يهودي كانت تعيش في الإسكندرية بمصر. وهذا الجماعة والّذي يتميز بقدر كبير من عدم اليقيّن والحيرة فيما يتعلق بحدود العالم الّتي أصبحت كل يّوم واسعة بشكل متزايد واليقينيات الّتي كان يُعتقد إنّها لا تتزعزع في الماضي، والّتي يبدو الآن إنّها تتلاشى في الهواء. فإنّنا كقراء يخاطبنا مؤلف كتاب الحكمة نميل إلى الإعتقاد، مثل العديد من معاصريّ الكاتب، إنّ العالم وحياة البشر ذاتها هي شيء سريعة الزوال، ومُقدرين للتلاشى في الهواء. يبدو إنّ حياة الإنسان لا تحمل في داخلها سوى ما وراء الموت. ففي كلّ يّوم يقترب الإنسان من نهايته فهو بلا شك يقترب من الموت. للتصدي لمواجهة هذا الإغراء، الّذي ربما يكون قريبًا جدًا من طريقة تفكيرنا في هذا العصر، يؤكد مؤلف سفر الحكمة بقوة إنّ وجود العالم والإنسان ليس إعلان عن الموت، بل عن الحياة. وهنا يأتي الوحيّ الإلهي بفكر يتناقض مع الفكر البشري. إذ أنّ السرّ الكامن وراء الوجود الإنساني ليس مصيرًا أعمى وقاسيًا، بل خطة للحياة الطوباويّة. إنّ الله، بحسب  قول كاتب سفر الحكمة: «لم يَصنعِ المَوت ولا يُسَرّ بِهَلاكِ الأَحْياء فإنّه خَلَقَ كُلَّ شيَءٍ لِكَي يَكون وإنّ خَلائِقَ العالَمِ مُفيدة ولَيسَ فيها سَمّ مُهلِك ولا مُلْكَ لمَثْوى الأمْوات على الأرض لإنّ البِرَّ خالِد» (حك  1: 13- 15). فقد نجد هذا منذ السطور الأوّلى بسفر التكوين. مما يؤكد أنّ الشّرّ والموت لمّ يكونا منذ البدء في خطة الله الأصليّة. بل في خطة الله، خُلق كل شيء من أجل وجود الإنسان، وكانت حياة الإنسان دائمًا الحلم الإلهي لخليقته موضحًا: «إنّ اللهَ خَلَقَ الإنسان لِعَدَم الفَساد وجعَلَه صورةَ ذاتِه الإلهِيَّة لكِن بِحَسَدِ إبليسَ دَخَلَ المَوتُ إِلى العالَم فيَختَبِرُه الّذينَ هم مِن حِزبِه. مُقارنة بَينَ مَصيرِ الأَبرارِ ومَصيرِ الكافِرين» (حك 2: 23- 24). هذا الكشف الإلهيّ الّذي يرويه علينا اليّوم، مؤلف سفر الحكمة، لهو قديم منذ القرن الأول قبل الميلاد، وسنراه يُعلن على لسّان يسوع بقوة في مقطع العهد الثاني بحسب إنجيل مرقس.

 

2. نوم الموت! (مر 5: 21- 43)

 

نستكمل مسيرتنا الكتابيّة مع السرّد المرقسيّ تباعًا لما ذكرناه بمقال الأسبوع الماضي "الإله الّذي نجهله" (راج مر 4: 35- 41)، إذّ يواصل مرقس بشارته بعد تهدئة العاصفة، بعمليّ يسوع الإعجازييّن، بعد إنّ عبر للشّاطئ المقابل مع تلاميذه. ونحن بهذا المقال في أرض وثنيّة (راج مر 5: 1- 20) حيث يأتي يائيرس الأب ليقدم طلّبه الضروري ليسوع. لقد ناقشنا نوم يسوع بسفينة التلاميذ (راج مر 4: 38ت). بينما كانت الأمواج تتقاذف السفينة وكانت على وشك أنّ تمتلئ بمياه البحر المضطرب، حيث ينام يسوع. ومن هنا نتواصل بهذا المقال حول قضية النوم الّذي يسود في منهجيّة مرقس اللّاهوتيّة إذّ نجد فعل ينام يستخدمه الإنجيلي بطريقة غريبة جدًا. في حدث إقامة الصّبيّة الّتي ماتت وهي إبنة يائيرس، بينما الأصدقاء والأقارب يبكيون ويغلبهم اليأس، نسمع يسوع قائلاً: «ِماذا تَضِجُّونَ وتَبكون؟ لم تَمُتِ الصَّبِيَّة، وإنّما هيَ نائمة» (مر 5: 39). أمام حقيقة معينة لاحظها الجميع (آ 35)، قال يسوع شيئًا لم يسمع به من قبل وهو نوم الصّبيّة! فقد كان بطرس ويعقوب ويوحنا يذهبون مع يسوع، كتلاميذ مختارين منه ليكونوا بمثابة شهود عيّن في أوقات مهمة وبشكل خاص (وجود التلاميذ على جبل التجلي راج مت 17؛ وببستان الزيتون في ليلة آلام يسوع راج مر 14)، حيث يكشف يسوع عن هويته بشكل خاص، فقط، أمام هؤلاء الثلاث تلاميذ. هذه التفاصيل وحدها تجعلنا نفهم إنّ مرقس لا يودّ أنّ يخبرنا فقط عن إحدى الأعمال الإعجازيّة الّتي أجراها يسوع، ولكنه يساعدنا للإقتراب من أحد أعظم مظاهر هويته كإنسان وكإله معًا.

 

للوهلة الأوّلى لا نطن أنّ الصّبيّة نائمة، إنّها ليست طريقة يعلن بها يسوع قدرته الفائقة الطبيعة بقدر إنّها إعلان إسكاتولوجيّ أي أُخروي. إعلان يسوع هو إعلان مُحدد للغاية حيث يتحدث يسوع عن الموت في شكل إستعارة النوم. هنا يعلن مرقس أُلوهيّة يسوع أمام صّبيّة ميتة، أمام حياة منزوعة منذ خطواتها الأولى بعد؛ مواجهة يسوع للعديد من الأحلام والمشاريع المحطمة الذائبة في عدم الموت. في هذا الوقت يكشف يسوع إنّ سلطان الموت مؤقت، وليس نهائيًا، والموت ليس له الكلمة الأخيرة! النوم البشري، في الواقع، ليس شيئًا نهائيًا، بل هو مؤقت كما أنّ كلّ إنسان ينام ثمّ ينهض من النوم، هكذا يكون الموت بالنسبة ليسوع على الصّليب حيث سيقوم بشكل أبديّ.

 

3. القدرة على الحياة (مر 5: 21- 43)

 

يعلن يسوع هذا في اللحظة الّتي كان على وشك إقامة الصّبيّة من النوم، فله وحده القدرة على إعادتها للتمتبع بروعة الحياة. يشير السلطان ليسوع، فهو بذاته لا يمكن إنّ يملكه إلّا الله كما أشار كاتب سفر الحكمة، وهي القدرة على منح الحياة وهزيمة الموت أيضًا. هذا إعلان إستباقي ليسوع. حيث يكشف بهذا الحدث، المعنى الأعمق لمهمته الواضحة في هزيمة الموت كآخر عدو! بفضل حضوره الشافي والقوة الّتي خرجت منه والّتي تمكنت من نقل الشفاء حتّى لأولئك الّذين لمسوا مجرد رداءه: «جاءَت [إمرأَةٌ مَنزوفَةٌ] بَينَ الجَمعِ مِن خَلْفُ ولَمَسَت رِداءَه [...] فجَفَّ مَسيلُ دَمِها لِوَقتِه، وأَحَسَّت في جِسمِها إنّها بَرِئَت مِن عِلَّتِها. وشَعَرَ يسوعُ لِوَقْتِه بِالقُوَّةِ الّتي خَرجَت مِنه» (مر 5: 27- 30). هذه المرأة كادت أن تفقد حياتها من النزيف المستمر، لكن إيمانها بلمسة ثوبه ستنال الشفاء مما شعر يسوع بقوة الحياة الّتي تخرج منه لوقته.

 

هكذا بفضل إيمان والد الصّبيّة، أصبح موتها مجرد نومًا ولم يعد بعد موتًا نهائيًا. لفهم هذه الحقيقة ليس من الضروري اللجوء إلى تفكير معقد، يكفي أنّ يكون لدينا إيمان، يكفي إنّ نعرف كيف نثق في يسوع فهو قد يكون نائمًا بسّفينة حياتنا ويعلن مرة أخرى، مُعطيًا جسدًا وصوتًا في جميع الكتب المقدسة فهو الإله الفريد، إله إسرائيل هو إله الحياة وإنّ حلمه هو أن يتمتع بروعة الحياة كل حيّ.

 

الخلّاصة

 

إخترنا عنوانًا لهذا المقال يجمع بين النقاط اللّاهوتيّة لسفري الحكمة (حك 1: 13- 15؛ 2: 23- 24) والبشارة المرقسيّة (5: 21- 43). ساعدتنا هذه القراءة فيما بين العهديّن، بالرغم من الإختلاف بين زمن كاتب سفر الحكمة ومكانه وزمن يسوع ومكانه، على أنّ نكتشف روعة الحياة الّتي خُلقنا لأجلها. فقد رأينا كيف كان مقنع رأي كاتب سفر الحكمة لجماعته بالرغم من معرفتهم للشريعة. علينا أن ندخل في معنى الحياة الرائعة الّتي يمنحها الرّبّ بمجانيّة وحب لكلاً منا والتوقف على الجانب الرائع بها. وعلى هذا المنوال رأينا كيف يسوع وهو الإنسان والإله، برفقة تلاميذه منحنا قوته ونحن الّذين ننزف وتهدر أيام حياتنا دّون أنّ ندري إنها تحوي قوة حبّ إلهيّة. يحمل الإعلان الإلهي بهذا المقال دعوتنا للتنعم بالحياة بما فيها من تحديات، فقد منحنا إيّاها الخالق، مدعوين للسعي للتعمق في التعّرف على حقيقة الله. حياتنا هي الحياة الّتي منحنا إياها يسوع حينما قَبِلّ نوم الموت على الصلّيب حبًا بنا. سيكون من جديد أيضًا في ساعة نومنا المؤقت ليرافقنا لمجد الآب سنعيش هذا العبور مع يسوع وسيصبح موتنا نومًا، لأنّ بعبوره الموت هزمه، وجعلنا نلمسه فمنحنا قوته ودخل قبر موتنا وأقامنا، ويستطيع إنّ يقودنا إلى ملء روعة الحياة الّتي خلقنا الله لنحياها. على مثال نازفة الدماء وهو تعبير ينمّ عن فقدان الحياة، والفتاة الّتي نامت ولكن ليس نوم الموت. سواء نزيف المرأة أم نوم الصّبيّة يشيران رمزيًا لنوم يسوع على الصلّيب الّذي منحنا الحياة بل رَوُعةُ الحياة. دُمتم في التمتع بروعة الحياة الّتي منحنا إياها الخالق وجددها في إبنه.