موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنجيلي (مرقس 1: 14-20)
14 وبَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إلى الجَليل يُعلِنُ بِشَارة الله، فيَقول: 15 ((تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله)). 16 وكانَ يسوعُ سائرًا على شاطِئِ بَحرِ الجَليل، فرأَى سِمعانَ وأَخاهُ أندَراوس يُلقِيانِ الشَّبَكَةَ في البَحر، ِلأَنَّهما كانا صَيَّادَيْن. 17 فقالَ لَهما: ((اِتبَعاني أَجعَلْكما صَيادَي بَشَر)). 18 فتَركا الشِباك لِوَقتِهما وتَبِعاه. 19 وتَقَدَّمَ قَليلًا فَرأَى يَعقوب بْنَ زَبَدى وأَخاهُ يوحَنَّا، وهُما أَيضاً في السَّفينَةِ يُصلِحانِ الشِباك. 20 فدَعاهُما لِوَقتِه فتَركا أَباهُما زَبَدى في السَّفينَةِ معَ الأُجَراءِ وتَبِعاه.
مقدمة
في الأحد الثَّالث للسَّنة يُقدِّم لنا مرقس الإنجيلي نقطتين هامتين في بدء رسالة يسوع في الجَليل: كرازته ببِشَارة المَلَكوت ودعوته للتلاميذ الأوَّلين الأربعة الذين هم نُواة الكنيسة (مرقس 1: 14-20) ليكونوا له شهودًا على أقواله وآياته، وصولاً إلى صَلبه وقِيامته، ويُكمِّلوا رسالتَه من بعده. ومن هنا تَكمن أهميَّة البَحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولاً: وقائع النَّص الإنجيلي (مرقس 1: 14-20)
14 وبَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إلى الجَليل يُعلِنُ بِشَارة الله، فيَقول:
تشير عبارة " بَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا" إلى الوقت الذي أمر فيه هيرودس انتيباس بسجن يوحَنَّا المعمدان (متى 14: 3) وانتهاء رسالته التي كان جوهرها بالتَّحديد إعداد الطَّريق "للذي يأتي بعده" وبداية خدمة يسوع في الجَليل. كانت هناك فترة بين معموديَّة يسوع وخدمته في الجَليل، ولكن مرقس الإنجيلي لا يُخبرنا ما فعله يسوع في تلك الفترة. أمَّا عبارة " اعتِقالِ يوحَنَّا " فتشير إلى قبض هيرودس انتيباس، ابن هيرودس الكبير على يوحَنَّا المَعْمَدان وإيداعه في السِّجْن (مرقس 6: 17)، لأنَّ يوحَنَّا وبَّخه بسبب مساكنته زوجة أخيه فيليبس. وكان هيرودس آنذاك يحكم الجَليل وبيريه (شرق الأُرْدنّ) منذ موت والده في السَّنة 2 م. (مرقس 6: 17-20). أمَّا عبارة "جاءَ يسوعُ إلى الجَليل" فتشير إلى لجوء يسوع إلى الجَليل بعد العماد والتَّجارب واعتِقالِ يوحَنَّا، ليتفادى الخطر الذي يُهدّد حياته، ويبدأ بالإعلان عن مجيء المَلَكوت. ويعلق القدّيس ايرونيموس "انتقلنا من الشَّريعة إلى الإنجيل حيث يمثّل يوحَنَّا المعمدان الشَّريعة، ويمثّل يسوع الإنجيل" (عظات حول إنجيل القدّيس مرقس). ويستخدم متى الإنجيل فعل لجأ ἐξῆλθεν بدل ذهب ἦλθεν للدلالة على الخطر (متى 2: 12)؛ ويُعلق الأب ثيوفلاكتيوس" لكي يظهر لنا السَّيد المسيح أنَّه يجب أن ننسحب في الاضِّطهادات ولا ننتظرها، لكن إن سقطنا تحتها نثْبت فيها". وفي إنجيل لوقا نقرأ "عادَ يسوعُ إلى الجَليل بِقُوَّةِ الرُّوح"(لوقا 4: 14)، إذ شرع يسوع في خدمة التَّعليم في مجمع النَّاصرة مُداومًا عليها بدافع من الرُّوح القدس الذي نزل عليه عند عماده. ثم أتى إلى كفرناحوم. وكانت عِلة تركه اليهوديَّة ومجيئه إلى الجَليل هو مُقاومة فرِّيسييِّ اليهوديَّة إياه وزيادة ميل الجَليليِّين إلى قبوله والاستماع لكلامه. أمَّا عبارة "الجَليل" في الأصل اليوناني Γαλιλαία مشتقَّة من الاسم العِبري הַגָּלִילָה (معناه دائرة أو مقاطعة) فتشير إلى القسم الشَّمالي من الأقسام الثَّلاثة التي قُسمت إليها فلسطين في زمن المسيح في عصر الدَّولة الرُّومانيَّة في عهد هيرودس. أمَّا عبارة " يُعلِنُ بِشارَةَ الله " فتشير إلى بدء يسوع بإعلان بِشَارة مَلَكوت الله، وهو الخبر السَّار بانّ مُلكَ المسيح المُنتظر قد بدأ منذ زمن طويل. ويُعلق القدّيس ايرونيموس "عندما أقرأ الشَّريعة والأنبياء والمزامير، لا أجد فيها مُطلقًا كلامًا عن مَلَكوت السَّماوات: لكن فقط في الإنجيل، لأنّه عندما جاء ذاك الّذي قيل عنه "ها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ بَينَكم" (لوقا 17: 21)، عندئذٍ فقط فُتِح مَلَكُوت الله" (عظات حول إنجيل القدّيس مرقس). وكان هذا أوَّل نشاط للمسيح في الجَليل الذي وردَ في انجيل مرقس الإنجيلي، إذ ظهر يسوع على مسرح الأحداث، وهو يواصل كرازة يوحَنَّا المعمدان فيفتتح يسوع المسيح رسميًا خدمته الرَّسوليَّة، ويُعرِّف نفسه بالأقوال وبالأعمال. أمَّا عبارة " بِشَارة الله" فتشير إلى موضوع الكرازة. هذه العِبارة لا تعني فقط ان البُشرى تأتي من الله، بل أنَّها "قوة الله للخلاص" (رومة1: 16)، وأنَّها "كَلِمَةِ الحَقّ " (قولسي 1: 5) وإعلان لعمل الله في يسوع المسيح. إن إعلان بِشَارة الله هي مُهمّة الرُّسل أيضًا الذين يتابعون عمل المسيح، كما صرّح بولس الرَّسول " فقَد لَقِينا في فيلِبِّيَ العَذابَ والإِهانَةَ كما تَعلَمون، ولكِنَّنا جَرؤْنا، لِثِقَتِنا بِإِلهِنا، أَن نُكلِّمَكم بِبِشارةِ الله في جِهادٍ كَثير" (1 تسالونيقي 2: 2).
15 تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة
عبارة "تَمَّ الزَّمانُ" في الأصل اليوناني Πεπλήρωται ὁ καιρὸς تشير إلى الوَقت الذي حدَّده الله لتحقيق مواعده، إذ جاء يسوع المسيح الموعود به تاريخنا وصار مثلنا (مرقس 13: 20) وِفقًا لقول بولس الرَّسول: "تَمَّ الزَّمان" (غلاطية 4: 4) و" فأَطلَعَنا على سِرِّ مَشيئَتِه أَي ذلِك التَّدبيرِ الَّذي ارتَضى أَن يُعِدَّه في نَفْسِه مُنذُ القِدَم لِيَسيرَ بِالأَزمِنَةِ إلى تَمامِها" (أفسس 1: 9-10). ولم يعد أمرًا ننتظر حدوثه بل حان زمان مَجيء المسيح الذي عيَّنه الله بقضائه الازلي، وأنْبأ به بفم دانيال النَّبي " إِنَّ سَبْعينَ أُسْبوعًا حُدِّدَت على شَعبِكَ وعلى مَدينَةِ قُدسِكَ لِإفْناءِ المَعصِيَةِ وإِزالَةِ الخَطيئة والتَّكْفيرِ عنِ الإِثْمِ والإِتيانِ بِالبِرِّ الأَبَدِيّ وخَتْمَ الرُّؤيا والنَّبوءَة ومَسْحَ قُدُّوسِ القُدُّوسين" (دانيال 9: 24). لم يَعدْ وقتُ الانتظار، أي وقت انتظار الرَّبّ قد تمّ، وبدأ وقت التَّنفيذ؛ لقد انتهى العهد القديم، وبدأ العهد الجديد الذي عيّنه الله ليفيَ بمواعيده حيث أنَّ النُّبوءات حُدِّدت زمان مجيء المسيح، كما جاء في سفر دانيال " إذهَبْ، يا دانِيال، فإِنَّ الأَقْوالَ مُغلَقَةٌ ومَخْتومَةٌ إلى وَقتِ النَّهاية"(دانيال 12: 9). لقد جاء زمن المَلَكُوت، زمن الخلاص مع ظهور يسوع، فلا ننتظر زمانًا آخرًا. ويقصد بعبارة "تَمَّ الزَّمانُ" بلوغ الشَّريعة نهايتها بمجيء المسيح لتحقيق ما قادتهم إليه الشَّريعة، وتتميم النُّبوات فيه أيضًا. أمَّا عبارة "اقْتَرَبَ" فتشير إلى المَلَكُوت الذي صار قريبًا أو حاضرًا في ظهور شخص يسوع وتعليمه وأعماله، إذ إن المسيح المُنتظر دخل تاريخنا وصار مثلنا. بمعنى أنه افتتح المَلَكُوت افتتاحًا سرّيًا في شخصه ونشاطاته، على أن يظهر علانيَّة للجميع في وقت قريب. إن مجيء المسيح يجعل المَلَكُوت قريبًا من النَّاس. ويريد المسيح أن يهتدي النَّاس الذين يأتون إليه، كما ردَّد بولس الرَّسول تعليم الرَّبّ يسوع بقوله "إِنَّ الرَّبّ قَريب؛ أَمَّا أَنتُم، أَيُّها الإِخوَة، فلَستُم في الظُّلُماتِ حتَّى يُفاجِئَكم ذلِك اليَومُ مُفاجَأةَ السَّارِق (1تسالونقي 5: 4)؛ أمَّا عبارة "مَلَكُوت الله" فتشير إلى مَلَكُوت السَّماوات كما سمّاه إنجيل متى إشارة إلى محل إظهار سُلطان الله ومَجده أي مُلك المسيح. ومُلك المسيح هو واقع حاضرٌ، ورجاء مستقبل. فهو حاضرٌ منذ الآن في شخص يسوع المسيح ومن يصل إلى الكنيسة، وبالكنيسة إلى العَالَم. أتى يسوع بمَلَكُوت الله من السَّماء إلى الأرض للدَّلالة على محبة الله. ومَلَكُوت الله ليس مكان ندخل فيه، بل حالة نعيشها، وهو حكم الله في قلوب النَّاس وفي المجتمع البشري. أمَّا عبارة " فَتوبوا" فتشير إلى جواب الإنسان في كل مكان عن إعلان "تَمَّ الزَّمانُ " وقد بدأت هذه الدَّعوة منذ أيام نوح (التَّكوين 6: 13). ويُعلق البابا القديس كليمنس الأول" كانَ نوحُ أوّلَ نذيرٍ للتَّوبة، فخَلُصَ مَن سَمِعَ له. وتَنَبَّأَ يونانُ بدمارِ نِينَوى. ولكنَّ أهلَ نِينَوى تابوا عن خطاياهم وأرضَوْا اللهَ بصلواتهِم، فنالوا الخَلاص، مع أَنَّهُم غُرباءُ عن الله" (أهل قورنتس الفصل 7، 4-8). وقد عبّر اليهود عن هذه التَّوبة، بقبول المَعموديَّة لمِغفرة الخطايا (متى 3: 6). ويُعلق القديس إسحَق السِّريانيّ الأُسقُف: "المعموديَّة هي الوِلادَةُ الأُولى مِنَ الله. والتَّوبَةُ هي الوِلادَةُ الثَّانيَّة" (كتاب: بستان الرُّهبان). وفعل "توبوا" في الأصل اليوناني μετανοεῖτε يدل على تغيير في العقليَّة؛ أمَّا في الأصل العبري שׁוּבוּ فيدلُّ على تغيير الطَّريق ونمط الحياة والسُّلوك والعودة بلا شرط إلى الله، إله العهد. فالتَّوبة هي تغيير طريقة حياتنا ونظرتنا إلى الأمور لتتوافق مع نظرة يسوع. إنها دعوة إلى عيش الحياة الجديدة. لقد رأى التَّلاميذ الأوَّلون يسوع في المَلَكُوت القريب وغيّروا حياتهم بموجبه. ودعوة التَّوبة موجّهة للجميع، حيث أن الجميع مدعوّون للتَّغيّر. وفي هذا الصَّدد يقول البابا فرنسيس "إِنْ كانَ قلبُكم ليسَ تائِبًا ولا تُصغونَ إلى الرَّبّ ولا تَتَقَبَّلونَ التَّأديبَ ولا تَثِقونَ بِه، فهذا يَعني أَنَّكم لا تَملكون قلبًا تائبًا" (عظته الصَّاحبيَّة 16/12/2014). وهنا يقوم التَّغيير قبل كل شيء في الايمان بالإنجيل، أي في الخبر السَّار بوجود الله في التَّاريخ وفي تاريخنا. وفي هذا الصَّدد يقول بولس الرَّسول "قد حانَت ساعةُ تَنبَهُّكمِ مِنَ النَّوم، فإِنَّ الخَلاصَ أَقرَبُ إِلَينا الآنَ مِنه يَومَ آمَنَّا. قد تَناهى اللَّيلُ واقتَرَبَ اليَوم. فْلنَخلَعْ أَعمالَ الظَّلام ولْنَلبَسْ سِلاحَ النُّور" (رومة 13: 11 – 12)، ويُعلق القديس يوحَنَّا سابا "من ذا الذي لا يُحبُّكِ أيتها التَّوبة، يا حاملة جميع التَّطويبات، إلاَّ الشَّيطان، لأنكِ غنمتِ غناه وأضعت فناياه". وهذا هو الموضوع الرَّئيسي الذي عالجه إرميا النَّبي والأنبياء في العهد القديم. وعبارة أخرى تؤكد هذه الأزمنة قد تمَّت، كما ورد في تعليم بولس الرَّسول " لَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ "(غلاطية 4: 4) وتدعو هذه الآية إلى التَّوبة وإلى قبول البِشَارة بالإيمان، كما صرّح بولس الرَّسول "لأَنَّ بِشارَتَنا لم تَصِرْ إِلَيكم بِالكَلامِ وَحْدَه، بل بِعَمَلِ القُوَّةِ وبِالرُّوحٍ القُدُسِ وبِاليَقينِ التَّامَّ "(1 تسالونيقي 1: 5-6). ونداء يسوع إلى التَّوبة والإيمان بالإنجيل، سيتواصل في الكرازة المسيحيَّة، فيُصبح بعد القيامة نداء لقبول الخلاص الذي يُعطى لنا في يسوع المسيح. ويُعلق القديس إسحَق السِّريانيّ "التَّوبَةُ هي بابُ الرَّحمَةِ المفتوحِ للَّذينَ يُريدونَه. وبِغيرِ هذا الباب لا يدْخُلُ أَحدٌ إلى الحياةِ"(كتاب: بستان الرُّهبان). أمَّا عبارة "آمِنوا بِالبِشَارة" فتشير إلى دعوة قبول البِشَارة بالإيمان (1 تسالونيقي 1: 5-6). وبِشَارة المَلَكُوت افتتحه يسوع المسيح على الأرض بتجسّده ليكون موطن كلّ من يقبل اسمه. والتَّوبة والإيمان هما مفتاح بِشَارة المَلَكُوت من ناحية الإنسان، وهكذا يفتتح القديس مرقس إنجيله، ويعلنُ عن رسالة الخلاص التي حملها يسوع إلى العَالَم. هذا هو موضوع كرازة يسوع الأسَاسيَّة. أمَّا عبارة " البِشَارة " فتشير إلى البشرى التي يعلنها الله للعَالَم بإرساله يسوع المسيح لإنشاء مَلَكُوته، ومن هنا التَّعابير المختلفة: بِشَارة الله (رومة 1: 1) وبِشَارة يسوع المسيح (رومة 15: 19) وبِشَارة المَلَكُوت (متى 4: 23)؛ وإن طابع البِشَارة الجديد يرتبط قبل كلِّ شيء بشخص يسوع المسيح التي تتمُّ فيه المواعد. هذه هي الكلمات الأُولى التي تكلم بها يسوع في إنجيل مرقس، وهي تقدم لنا لُب تعاليمه: إن المسيح الذي طال انتظاره قد جاء ليبدأ مَلَكُوت الله بكلمات بشارته التي تمنح الحريَّة والبركات والوعد بالحياة الأبديَّة.
16 وكانَ يسوعُ سائرًا على شاطِئِ بَحرِ الجَليل، فرأَى سِمعانَ وأَخاهُ أَندَراوس يُلقِيانِ الشَّبَكَةَ في البَحر، ِلأَنَّهما كانا صَيَّادَيْن
تشير عبارة "بَحرِ الجَليل" إلى بُحَيَرَةَ طَبَرِيَّة (يوحَنَّا 6: 1) أو "البَحر" (متى 4: 12)، أو بُحيرة جِنَّاسَرِت (لوقا 5 :1) نسبة للمناطق التي تحيط به؛ وهي بُحيرة عذبة، يبلغ طول شواطئها 53 كم، وطولها 21 كم، وعرضها 13 كم، ومساحتها تبلغ 166 كم2، وأقصى عمق فيها يصل إلى 46 متر، وهي على عمق 213 متر تحت سطح البحر، وهي تعتبر أخفض بحيرة مياه حلوة في العَالَم، وثاني أخفض مسطح مائي في العَالَم بعد البحر الميت. ويُحدها الجَليل غربًا، وجبال الجُولان شرقًا، ويصب فيها نهر الأُردِّن من الشِّمال. أمَّا عبارة "الشَّبَكَةَ" فتشير إلى وسيلة الصَّيد في بحيرة طبريَّة: تُرمى، تغسل، وتهيّأ: هذا ما فعله التَّلاميذ الأولون: سِمعَان بطرس وأندَراوس (مرقس 1 :18؛)، ويَعقوب ويوحَنَّا (متى 4 :20-21). وأشارت الأناجيل إلى مشاهد الصَّيد بالشَّبَكة التي تُمارس ليلاً في بحيرة طبريَّة (يوحَنَّا 21 :1-14). وساعدت هذه المشاهد للحياة اليوميَّة على تعليم حول المَلَكُوت (متى 13 :47-50). ويسوع أحاط نفسه بصَيَّادين، جعل منهم "صَيَّادَي بشر" (لوقا 5 :10). أمَّا عبارة " صَيَّادَيْن " فتشير إلى مهنة الصَّيد. وكان الصَّيد حرفةً هامةً حول بُحيرة طبريَّة، وكان الصَّيد بالشِباك أكثر طرق الصَّيد شيوعًا. وكانت كفرناحوم التي أصبحت الموطن الجديد للسِّيد المسيح (متى 4: 12) أكبر قرية بين نحو ثلاثين قرية كانت تُحيط بُحيرة طبريَّة في ذلك الوقت. وكانت أكثر المِهن المعروفة، آنذاك مهنة الفلاحة ورِعاية المَواشي واصْطياد السَّمك، والسَّمك هو الحيوانَ المُبارَكَ الوحيد، الّذي ما أفناه الطَّوفان أيام نوح.
17 فقالَ لَهما: اِتبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَي بَشَر
تشير عبارة " اِتبَعاني" إلى السَّير وراء يسوع دلالة على أنَّ هذين الصَّيَّادَيْن صارا من تلاميذه. طلب الرَّبّ يسوع من بطرس وأندَراوس أن يتركا صيْد السَّمك ليربحا النَّاس إلى مَلَكُوت الله. كان فعل "تبع" في الدِّين اليهودي في القرن الأول، يتضمن عادة التَّوقير والطَّاعة ومختلف الخدمات المترتّبة على تلاميذ الرَّابيين نحو معلميهم. ولكن إتباع يسوع، يتطلب من تلاميذه أن لا يكونوا سامعين فحسب، إنَّما أيضًا معاونين وشهود لمَلَكُوت الله وعمّال في حصاده (متى 10: 1-27)، ومرافقين له. ويقتضي إتِّباع يسوع أيضًا حمل الصَّليب، كما صرّح يسوع "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني "(متى 16: 24). وهذه الدُّروبَ التي يخطّها الرَّبّ تسيرُ بأتباعه إلى الحياة الأبديَّة. أمَّا عبارة" أَجعَلْكما صَيَّادَي بَشَر" فتشير إلى جواب الشَّرط في حالة إن تبعاه. وهذا الشَّرط بمثابة هدف دعوة يسوع ووعده أن يجعل من سِمعَان وأخيه أندَراوس مُبشِّرين بالإنجيل، رجال يجتذبوا مَن حولهم إلى المسيح مثل الصَّياد الذي يجذب السَّمك بالشِباك إلى قاربه. فهم يعملون مع يسوع في خلاص البشريَّة والعَالَم الذي يعيشوا فيه، وليس فقط مستمعين معه. حين يَكرز الرُّسل بالإنجيل، يجمعون النَّاس، كما يجمع الصَّيّاد السَّمك في شبكته، يجمعونهم من أجل الدَّينونة ودخول مَلَكُوت الله (متى 13:47-50). أمَّا عبارة "صَيَّادَي بَشَر" فلا تشير إلى نُخبة معيّنة من سكان ضواحي الجَليل والنَّاصرة فحسب، إنما إلى كلّ المدعوِّين لتبشير البَشر، خاصة المساكين المرضى والمقعدين والجِّياع والحِزانى والبُسطاء والفقراء والخطأ. وهذه الدعوة ترتبط بالمناداة بالتَّوبة والرجوع إلى الله إلى جميع الناس، كما هو الحال مع دعوة الله إلى يونان النَّبي:" قُمِ انطلق إِلى نينَوى المَدينةِ العَظيمة، ونادِ علَيها المُناداةَ الَّتي أُكَلِّمكَ بِها... فآمَنَ أَهلُ نينَوى بِالله، ونادَوا بِصَوم ولَبِسوا مُسوحاً مِن كَبيرِهم إِلى صَغيرِهم" (يونان 1: 2، 5).
18 فتَركا الشِّباكَ لِوَقتِهما وتَبِعاه
تشير عبارة "فتَركا الشِّباكَ" إلى ترك سِمعَان وأندَراوس الشِباك، أمَّا يَعقوب ويوحَنَّا فتركا أباهما والأُجراء والشِباك أيضًا، إذ "تَركوا كُلَّ شَيءٍ وتَبِعوه" (لوقا 5: 11). امَّا عبارة "تَركا" فيشير إلى ترك العمل، والأسرة، والحياة السَّابقة وبدء حياة جديدة، وهي اتِّباع يسوع المسيح. إنَّه فعل أساسي، وهو الأمر الوحيد الذي يطلبه يسوع ليسكن في قلب الانسان ويُحوِّله إلى الآخرين كما قال الرَّبّ إلى حنانيا بشأن بولس الرَّسول "اِذهَبْ فهذا الرَّجُلُ أَداةٌ اختَرتُها لكِي يَكونَ مَسؤولاً عنِ اسْمي عِندَ الوَثَنِيِّين والمُلوكِ وبَني إِسرائيل" (أعمال الرُّسل 9: 15). وتكرَّر فعل "ترك" مرَّتين (مرقس 1: 18، 20)، فهو فعل أساس في دعوة المسيح؛ فالمَقدرة على ترك العَالَم نعمة وهبة: لا يمكننا الوصول إليها بجهدنا فقط، بل من خلال رؤية جديدة وهبة من الله أيضًا. والتَّخلي هو مطلب ينبع من القلب يفرض ذاته حينما يفهم المدعو طبيعة دعوة المسيح له. أمَّا عبارة "لِوَقتِهما " في الأصل اليونانيεὐθὺς (معناها في الحال أو للوقت) فتشير إلى تعبير مُميَّز في إنجيل مرقس الذي يتكرَّر 41 مرة. ويُعطيه مرقس الإنجيلي أهميَّة كبرى. وهنا تكرَّرت لفظة "للوقت" مرتين ويعني القبول السَّريع لدعوة السَّيد دون تباطؤ، والطَّاعة الفوريَّة لندائه دون تردُّد. أمَّا عبارة "تَبِعاه" فتشير إلى كلِّ من التَّلميذين سِمعَان وأندَراوس أخيه الذين تبعا يسوع فأصبحا تلميذَيْن له دون علمٍ أو معرفة سابقة لمستقبلهما. كل من يتبع يسوع يتحوّل من التَّركيز على ذاته إلى التَّركيز على شخص يسوع وتعليمه. ويُعلق المجمع الفاتيكاني الثَّاني" من يتبع الرَّبّ يسوع المسيح، ذلك الإنسان الكامل، يصبح هو أيضًا إنسانًا كاملًا" (فرح ورجاء، دستور رعائيّ في "الكنيسة في عَالَم اليوم"، عدد 41 ،1)). في العادة، يتبع التَّلميذ المُعلِّم (الرَّابي)، ولكن مع يسوع تتبدّل الأمور، حيث أن التَّلميذ لا يختار معلمه، بل المُعلم يختار تلميذه، كما صرّح يسوع "لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم" (يوحَنَّا 15: 16). يسوع يدعو، فيلبِّي المدعوُّون بطاعة فوريَّة دون تأخر فيها. ثم إنَّ هؤلاء التَّلاميذ لا يكتفون بان يسمعوا، بل يشاركون كشهود للمَلَكُوت وكعاملين في حَصاد الرَّبّ (متى 10: 1-27). فقد تعلّقوا بتعليم يسوع، وتعلّقوا بشخصه أيضًا. والجموع أيضًا تبعت يسوع وحاولت ان ترى فيه المعلم الذي لن تجده عند مُعلميّ المَجامع (متى 4: 25)؛ وفي النِّهاية هذا الاتِّباع يتوجب على كل مؤمن أن يحمل الصَّليب ويسير وراء يسوع، كما صرّح يسوع لتلاميذه "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24). هذا ما فعله سِمعَان وأندَراوس، وهذا ما فعله يَعقوب ويوحَنَّا. سمع الأربعة النِّداء فتركوا كل شيء وتبعوا يسوع. فهم تَخلَّوا عن مهنتهم في سبيل العيش مع المعلم. وهذا الأمر يُعبّر عن حالة جديدة في العيش مع يسوع. واختيار الاثني عشر هو مثال للمؤمنين الذين سيسمعون نداء يسوع ويُصبحون تلاميذ له. فهل نُلبِّي الدَّعوة ونحيا في طاعة الله، ونكون بحق شهودًا ليسوع ولإنجيله الطَّاهر أمام جميع النَّاس؟
19 وتَقَدَّمَ قَليلًا فَرأَى يَعقوب بْنَ زَبَدى وأَخاهُ يوحَنَّا، وهُما أَيضًا في السَّفينَةِ يُصلِحانِ الشِّباك
تشير عبارة " يَعقوب بْنَ زَبَدى " إلى يَعقوبَ الكبير، ويَعقوبَ في الأصل اليُوناني Ἰάκωβος مشتق من اسم عبري יַעֲקב (ومعناه يعقب، يمسك العقب، يحل محل)، وهو وأحد الاثني عشر والأخ الأكبر ليوحَنَّا الرَّسول (متى 4: 21)، وكان والدهما زبدى صيادًا في الجَليل (مرقس 1: 19)، وكانت سالومَة أُمُّهما أخت يسوع (متى 27: 56)، وبالتَّالي فيَعقوبَ هو ابنُ خالة يسوع. وقد ترك مهنة الصَّيد وتبع يسوع (لوقا 5: 10) ويذكره الإنجيل دائمًا مع يوحَنَّا رفيقه في العَمل (متى 10: 2)، وكان الاثنان حاديَّ الطَّبع سريعيِّ الانفعال والغضب (مرقس 10: 35-45)، وهذا ما كان يعنيه يسوع عندما "لقَّبَهما بَوانَرْجِس، أَيِ: ابنَيِ الرَّعْد" (مرقس 3: 17)، وكانا مُقرَّبَين عند يسوع، فكانا معه مع بطرس عند إقامة ابنة يائيرس (مرقس 5: 37)، وعند التَّجلي (متى 17: 1)، وعند نزاعه في الجسمانيَّة (متى 26: 37). وختم يَعقوب شهادته بالموت، لأنَّ هيرودس أغريباس الأول أمر بقطع رأسه (أعمال الرُّسل 12: 1-2)، وكان ذلك على الأرجح سنة 44، وبذلك كان أوَّل الرُّسل الذين ختموا حياتهم بدم شهادتهم. أمَّا عبارة " يوحَنَّا " في الأصل اليوناني Ἰωάννης مشتق من اسم عبري יוֹחָנָן (معناه الله حنون) فتشير إلى يوحَنَّا الرَّسول الذي دعاه يسوع مع أخيه يعقوب. أمَّا أمُّه فهي سالومَة، وكانت سيدة فاضلة تقيَّة. وكانت إحدى النِّساء اللواتي اتبعن المسيح في الجَليل وخدمنه (مرقس 15: 40) وإحدى اللواتي شاهدن الصَّلب (متى 27: 56) وذهبن إلى القبر صباح القيامة وهنَّ يحملن طِيبًا (مرقس 16: 1). وقد اتخذ يوحَنَّا مِهنة الصَّيد حرفة، لأنَّ عادات اليهود كانت تقضي على أولاد الأشراف أن يتعلموا حرفة ما. وكان يوحَنَّا من تلاميذ المَعْمَدان ثم أصبح من تلاميذ يسوع الأوَّلين (متى 4: 21)، وكان معروفًا لدى قيافا رئيس الكهنة (يوحَنَّا 18: 15)، وكان هو واخوه يَعقوب طموحان إلى العَظمة والمجد والسلطة، فقد طلبت أمهما من المسيح ان يجلس واحد منهما على يمينه والآخر على يساره في مُلكه (متى 20: 20-24). وثق يسوع بيوحَنَّا وأحبَّه بنوع خاص بدليل تسميته: " بالتَّلميذ الحبيب". وظلَّ يوحَنَّا أمينًا للمسيح حتى الصَّليب فأخذ منه وصيَّة العناية بأُمِّه مريم، وهو أوَّل من آمن بقيامة المسيح (يوحَنَّا 20: 1-10) وكان أحد أعمدة الكنيسة في اورشليم إلى جانب يَعقوب وبطرس (أعمال الرُّسل 15: 6). ولدينا في العهد الجديد خمسة أسفار نُسبت إلى يوحَنَّا وهي: الإنجيل الرَّابع، والرَّسائل الثَّلاث، وسفر الرُّؤيا. وكان بوليكاربوس وبانياس واغناطيوس من تلاميذه ويقول ايرينيوس أنَّ يوحَنَّا بقي في أفسس حتى وفاته في حكم تراجان ويقول ايرونيموس انه توفي سنة 98 م. أمَّا عبارة "يُصلِحانِ" فلا تعني بالضرورة "يحيكان" الشِباك فقط، بل يجعلانها صالحة للعمل أيضًا. أمَّا عبارة "السَّفينَةِ" في الأصل اليوناني πλοῖον فتشير إلى مركبة تستخدم في التَّنقل خلال الأنهار والبحيرات والبحار والصَّيد، أمَّا القارب πλοιάριον فهو أصغر المركبات البحريَّة من حيث الوزن والحجم. والسَّفينَة هي رمز إلى الجماعة الجالسة حول يسوع وبالتَّالي ترمز إلى الكنيسة.
20 فدَعاهُما لِوَقتِه فتَركا أَباهُما زَبَدى في السَّفينَةِ معَ الأُجَراءِ وتَبِعاه
تشير عبارة "لوقته" في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال أو للوقت) إلى سِمعَان وأندَراوس اللذين تركا الشِباك في الحال. أمَّا عبارة " فتَركا أَباهُما زَبَدى في السَّفينَةِ " فتشير إلى يَعقوب ويوحَنَّا اللذين تركا أباهما والأجراء والشِباك في الحال، بمعنى أن اتباع يسوع يستلزم هجر الحِرفة وقصم عرى الرَّوابط العائليَّة. ومن هنا نجد التَّجرد التَّام المطلوب من تلاميذ يسوع واتباعه. كان هذان الأخوان يعرفان يسوع من قبل (يوحَنَّا 1: 41-42)، وعندما دعاهما يسوع، كانا يعلمان أي رجل هو، وكانا على استعداد لاتباعه، بل كانا مقتنعين بأن اتباعهما له سيغيّر حياتهما إلى الأبد. ها هو يسوع يجتذب إليه أربعة رجال لم ولن يتخلوا عنه، إنما نشاهدهم دومًا يحيطونه. وهؤلاء الرجال هم اللبنة الأولى في صَرح الكنيسة. أمَّا عبارة "الأُجَراءِ" فتشير إلى يَعقوب ويوحَنَّا اللذين كانا على جانب من الغِنى، لأنَّ أبهما كان يمللك عددًا من الخدم المأجورين. لم يتركا اباهما وحده بل تركاه وعنده أجراء. وهذا يدل على أنهما لم يتركا أباهما لقساوة أو عدم اكتراث بواجباتهما له. واقتصر متى الإنجيلي على ذكر أنَّ يوحَنَّا ويَعقوب تركا أباهما وتبعا المسيح، والجدير بالذكر أنَّ أولئك التَّلاميذ الأربعة بطرس وأندَراوس ويَعقوب ويوحَنَّا كانوا مُجتهدين في مهنتهم في الصَّيد عندما دعاهم المسيح إلى خدمة سامية روحيَّة، وهي صيد النُّفوس. قَبِل هؤلاء التلاميذ اختيار الله لهما وهذا القبول يعني أن عليهم أن يتركوا ماضيهم كي يبدأوا حياة جديدة في خدمة المسيح والتبشير في إنجيله المقدس
ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (مرقس 1: 14-20)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي (مرقس 1: 14-20)، نستنتج أنَّه يتمحور حول بدء رِسالة يسوع في الجَليل التي تتضمن نقطتين هامتين: خدمة يسوع ودعوته للتلاميذ الاولين.
اولا: بدء رسالة يسوع العلنيَّة في الجَليل (يوحنا 1: 14-15):
بدأ يسوع بإعلان البشرى السَّارة حول مَلَكُوت الله قائلا "اقْتَرَبَ مَلَكُوت الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشَارة". هذه الكلمات الأولى هي لُب تعليم يسوع في انجيل مرقس. فيسوع لا يكتفي بإعلان المَلَكُوت، إنّه يُجسِّده بنفسه، وكما يقول القديس ايرينيوس "إنّه المَلَكُوت شخصيًا"، إنّه حضور الله في قلب إنسانيتنا وفي عَالَمنا يعلن يسوع هنا عهدًا جديدًا، وهو عهد النِّعمة والخَلاص، ويدعو النَّاس بكلماته إلى قبول النَّبأ الجديد، حقيقة مَلَكُوت الله بالذات، تلك البُشرى العظيمة التي يَضعها في مُتناول الجميع، وهي قريبة من كل إنسان؛ إنَّه يدلُّنا فورًا على الطَّريق التي يجبُ إتِّباعها، طريق التَّوبة والإيمان بالإنجيل، أي التَّغيير الجَذري لحياتنا وقبول الكلمة التي يوجِّهها الله، من خلالِ ابنه سوع، إلى البشريَّة في عبر العصور كلها. والتَّوبة والإيمان مُتلازمان، لا تقوم التَّوبة من دون إيمان، فالاثنان ينبعان من تلاقيهما بالكلمة الحيَّة، ومن حُضور يسوع الذي لا يزالُ يُردِّد اليوم أيضًا " توبوا وآمنوا البِشَارة".
إن المسيح الذي طال انتظاره قد جاء ليبدأ مَلَكُوت الله على الأرض مُتمِّمًا زمن الانتظار؛ وعلى النَّاس في كل مكان ان يتوبوا ويؤمنوا. فالتَّوبة والإيمان هما مفتاح الانجيل. وأمَّا غالبيَّة النَّاس الذين سمعوا تعليمه كانوا من الفَقراء والمَساكين والمَظلومين والخَطأة والعَشَّارين والمَرضى، وبالتَّالي فاقدي الرَّجاء. فكانت كلمات يسوع سارة لهم، لأنها بُشرى الحرِّيَّة والبركة والرجاء والوعد بالحياة الأبديَّة. مَلَكُوت الله هو حكم الله في قلوب النَّاس وفي المُجتمع. وقد عُرف بِشَارة الإنجيل يسوع منذ أكثر من ألفيّ سنة، ولكنّه يُعلنه دائمًا، بواسطة الكنيسة، في كلّ مرّة نسمع فيها: تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوت الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشَارة"(مرقس 1: 15).
ثانيا: دعوة التَّلاميذ الأربعة الأوَّلين:
في بدء رسالته في الجَليل اختار يسوع أربعة تلاميذ له لكي يعترفوا به "رابي" أي معلمًا، وهؤلاء التَّلاميذ هم الصَّياَّدون: سِمعَان وأندَراوس ويَعقوب ويوحَنَّا، وكانوا يعملون بصيد السَّمك على شاطِئِ البحيرة. دعاهم الرَّبّ "لِكَي يَصحَبوه، فيُرسِلُهم يُبَشِّرون» (مرقس 3: 14)، ويشتركون معه في إعلان بِشَارة المَلَكُوت، وحمل لواء الدَّعوة بعد صعوده. وهنا تعلق القدّيسة تيريزا الطَّفل يسوع على سر الدَّعوة بقولها "هذا هو سرّ دعوتي وحياتي كلّها وبخاصّة سرّ امتيازات الرَّبّ يسوع على روحي. إنّه لا يدعو الذين يستحقّونه، بل الذين يختارهم، أو كما أخبر القدّيس بولس: فقَد قالَ لِموسى: ((أَرحَمُ مَن أَرحَم وأَرأَفُ بِمَن أَرأَف)). فلَيسَ الأَمرُ إِذًا أَمرَ إِرادَةٍ أَو سَعيٍ، بل هو أَمرُ رَحمَةِ اللّه. ويكمن الكمال في أن نعمل إرادته، ونكون ما يُريد هو أن نكونَ نحن عليه" (MS A, 2).
رأى هؤلاء التَّلاميذ الأربعة مَلَكُوت الله من خلال يسوع في متناول اليد، فغيّروا حياتهم، إذ تخلَّوا عن نظرتهم إلى العَالَم، من أجل مخطَّط الله. ومخطَّط الله هو تهيئتُهم ليُصبحوا شهودًا للتَّدبير الخلاصيّ الذي جاء يُتمّمه يسوع المسيح، فيكرزوا بمحبّة الله ورحمته لبني البشر. ودفعتهم دعوته إلى ترك أعمالهم فورًا. فلم يحاولوا الاعتذار بان الوقت لم يكن ملائمًا، بل تركوا عملهم في الحال وتبعوه. ويُعلق القديس يوحَنَّا الذهبي الفم "انظروا بإعجاب إلى إيمان التَّلاميذ وطاعتهم. سمعوا في منتصف عملهم نداء يسوع، فلم يتردَّدوا لحظة ولم يقولوا: "دعنا ندخل إلى المنزل لنكلّم أقاربنا". كلاّ، بل تركوا كلّ شيء وتبعوه، كما فعل أليشاع مع إيليّا (1ملوك 19: 20). هذه هي الطَّاعة التي يطلبها المسيح منّا، بدون أيّ تردّد، حتّى لو كانت تضغط علينا أمور ملحّة أكثر ظاهريًّا". المسيح يدعو النَّاس، ليس لَمَا هم عليه، بل لَمَا يجعلهم أن يكونوا رسلا أنقياء وشجعان للقيام بالرسالة. يجعل الرب مختاريه أنقياء، كما حدت مع أشعيا النبي الذي اعترف قائلا " وَيلٌ لي، قد هَلَكتُ لِأَنَّي رَجُلٌ نَجِسُ الشَّفَتَين، فطارَ إِلَيَّ أَحَدُ السَّرافين، وبِيَدِه ومَسَّ بِها فَمي وقال: ((ها أَن هذه قد مَسَّت شَفَتَيكَ، فأُزيلَ إِثمُكَ وكُفِّرَت خَطيئَتُكَ وسَمِعتُ صَوتَ السَّيِّدِ قائلاً: ((مَن أُرسِل، ومَن يَنطَلِقُ لنا؟ فقُلتُ: هاءَنذا فأَرسِلْني " (أشعيا 5:6-8). ويجعل الرَّبُّ مختاريه شجعان دون خوف كما حدث مع ارميا النبي قائلا له "لا تَخَفْ مِنُ وُجوهِهم فإِنِّي مَعَكَ لِأُنقِذَكَ، يَقولُ الرَّبّ ... وأَنتَ فآشدُدْ حَقْوَيكَ وقُمْ وكَلِّمْهم بِكُلِّ ما آمُرُكَ بِه. لا تَفزَعْ مِن وجوهِهم" (ارميا 1: 8، 17). وتلاميذ المسيح هم أيضَا أناس بسطاء، منهم الخطأ كرسول متى العشار (متى 9:9)، ومنهم جبناء مثل بطرس الذي أنكر المسيح (متى 26: 70)، ومنهم الطامحون إلى السُّلطة مثل يوحنا ويعقوب (مرقس 10: 37)، ومنهم المتعلقون بالمال مثل يهوذا الإسخريوطي (متى 26: 15). الشَّرط الأساسي للدعوة أن يكونوا مستعدِّين لتلبية دعوته وطاعته، لأنَّ "لأسمى مظاهر الكرامة الإنسانيَّة تكمن في دعوة الإنسان للاتحاد بالله وطاعته" (دستور راعوي في الكنيسة في عَالَم اليوم، 19).
(ا) ما هو رمز أربعة أشخاص؟
بدأت بِشَارة إنجيل مرقس بدعوة أربعة تلاميذ. سِمعَان وأندَراوس، ويَعقوب ويوحَنَّا ابني زبدي. ويرمز العدَد أربعة إلى العَالَم كله؛ فهم يمثلون العَالَم بأقطاره الأربعة، إذ دُعوا من أجل العَالَم. وهؤلاء الأربعة هم جزء من الحلقة الرَّسوليَّة. وهم اللبنة الأولى في صرح الكنيسة. ويعلق القديس ايرونيموس "أن هؤلاء التَّلاميذ الأربعة هم أربعة حجارة حيَّة أقامها السَّيد المسيح لبناء الكنيسة الحيَّة". وهنا نرى مبادرة يسوع في الدَّعوة وطاعة البَشر في الاستجابة. دعا أربعة صَيَّادَيْن ليكونوا تلاميذه، ومن ثمة أعضاء في جماعة الاثني عشر (مرقس 3: 13-19) وأُرسلهم (مرقس 6: 7-13) ليكونوا رسَله (مرقس 6: 30). ويقول العلامة أوريجانوس" وقد اختارهم أمِّيين لكيلا يُنسب نجاحهم في العمل للفصاحة والفلسفة، وإنَّما لعمله الإلهي فيهم". دعاهم من بَحْر الجَليل، كما من بَحْر هذا العَالَم، لكي يرفعهم فوق أمواجه، وينتشلوا كل نفس سحبتها دوامته".
لِعلَّ هؤلاء الأربعة بأسمائهم يشيرون إلى الفضائل الأربعة اللازمة في الحياة المسيحيَّة أو التَّلمذة للسيد المسيح، فالأول سِمعَان Σίμων ُيعني الاستماع أو الطَّاعة للرَّبِّ ولوصيته، فقد لُقب ببطرس Πέτρος أي الصَّخرة، لأنّ كل طاعة للرَّبِّ إنَّما تقوم على صخرة الإيمان. وأندَراوس Ἀνδρέας يعني الرُّجولة أو الجدِّيَّة، إذ كثيرون يقبلون الإيمان بالفكر لكنهم غير جدِّيين في حياتهم أو عملهم. ويَعقوبἸάκωβος يعني التَّعقب والجهاد أو المصارعة الرُّوحيَّة حتى النِّهايَّة، وأخيرًا يوحَنَّا Ἰωάννης يعني الله حنان أو منعم، إذ لا قبول لدعوة الله والتَّمتع بالتَّلمذة ما لم يُنعم الرَّبّ بها على التَّلميذ ويتحنن عليه. ويُعلق الأب ثيوفلاكتيوس "أن هؤلاء الأربعة بدأوا ببطرس المعروف بانهماكه في العمل وانتهوا بيوحَنَّا المعروف بحياته التَّأمليَّة، الأول يشير للحياة العاملة، والثَّاني للحياة التَّأمليَّة. فلا بلوغ للتمتع بالتَّأمل في الإلهيات ما لم تكن لها الحياة العاملة المُجاهدة أولًا! وإن كان بالحقيقة يصعب عزلهما أو فصلهما إذ هما حياة واحدة".
(ب) ما هي الصَّفات الضروريَّة لهؤلاء التَّلاميذ الأربعة؟
يتبيَّن من كلام يسوع ان هناك أربع صِفات ضروريَّة لكلِّ مُبشِّر بالإنجيل:
الصفة الأولى أن يكون مدعوًا من الله، كما دُعي هؤلاء الأربعة التَّلاميذ من المسيح. ومن لم يُدعَ، فليس أهلا لأنّ يُبشرِ بكلمة الله بدليل قول الرَّبّ لسِمعَان وأخيه أندَراوس "اِتبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَي بَشَر" (مرقس 1: 17). وفي هذا الصَّدد ترتّل الكنيسة البيزنطيَّة: "مُبارك أنت أيّها المسيح إلَهنا، يا مَن أظهرتَ الصَّيَّادَيْن غزيري الحكمة إذ سكبتَ عليهم روح القُدُس، وبهم المسكونة قد اقتنصْتَ، يا مُحبَّ البشر، المَجد لك!"
الصَّفة الثَّانيَّة: إن يكون التَّلميذ ذا غيرة واجتهاد ليأتي بالنَّاس من العَالَم إلى الكنيسة والخلاص، كما يجتهد الصَّيَّادون أن يأتوا بالسَّمك من البحر إلى الشَّبَكة.
الصَّفة الثَّالثة: أن يتمتع المدعو بعرفته وحكمته في صيد النُّفوس واستعداده للتَّعب وصبره وإقدامه على الخطر وأمله في النَّجاح وثباته في عمله، كما جاء في نبوءة أشعيا "فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه" (أشعيا 55: 11). يوضَّح ذلك بولس الرَّسول بقوله "كونوا إِذًا، ثابِتينَ راسِخين، مُتَقَدِّمينَ في عَمَلِ الرَّبّ دائِمًا، عَالَمينَ أَنَّ جَهْدَكُم لا يَذهَبُ سُدً ى عِندَ الرَّبّ" (1قورنتس 15: 58).
الصَّفة الرَّابعة: أن يحقق المدعو نجاحه في التَّبشير في المسيح، كما قال البابا فرنسيس للشباب في ريو دي جانيرو بالبرازيل: "ليس لي ذهبًا ولا فضةً، لكني احملُ لكم أغلي ما أعطي لي: يسوع المسيح"
(ج) لماذا استجاب هؤلاء التَّلاميذ لدعوة المسيح؟
استجاب هؤلاء التَّلاميذ لدعوة المسيح أولاً بسبب شِهادة يوحَنَّا المعمدان للمسيح، وفي هذا الصَّدد يُعلق الأب ثيوفلاكتيوس " أن سِمعَان وأندَراوس كانا تلميذين ليوحَنَّا المعمدان (يوحَنَّا 1: 35-40). إذ سمعا معلمهما يشهد للسيد المسيح فتبعاه، لكنَّهما كانا يعودان للصيد مع أبيهما، لهذا ما ورد هنا في إنجيل مرقس لم يكن اللقاء الأول بين السَّيد وبينهما، لكن دعوة السَّيد لهما سحبتهما من العمل الزَّمني للتكريس الكامل للتلمذة والكرازة".
هناك سبب آخر وهو حوار يسوع معهم لمدة يوم كامل، كما جاء في بدء إنجيل يوحَنَّا (35:1-42)، ورؤية معجزات الشِّفاء التي أجراها أمامهم (متى 24:4) خاصة معجزة صيد السَّمك الكثير جعلتهم يطمئنُّون لتدبير الله لاحتياجاتهم المَاديّة (لوقا 6:5-7)
أخيرًا سمع التَّلاميذ تعليم يسوع للجموع من سفينة سِمعَان (لوقا 5: 3). فمن يعرف المسيح حقيقة يترك كل شيء حاسبًا إياه نفاية ويكرس نفسه للمسيح، كما جاء في خبرة بولس الرَّسول " أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّاميّة، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ" (فيلبي 3: 8). ويعلق فيلوكسين المَنبِجيّ "إنّ كلّ مَن دُعي ولم تكن روحه مُثقلة بمحبّة الأمور الدَّنيويّة، استجاب على الفور إلى الصَّوت الذي دعاه" (العظة رقم 4).
(د) ما هي نتيجة هذه الدَّعوة؟
نرى المسيح يختار أندَراوس وسِمعَان ويَعقوب ويوحَنَّا من بين صيادي السَّمك ليُرقّيهم إلى درجة الرَّسوليّة، ويُجري معجزات عديدة في حياتهم. فوجدوا أنفسهم في دعوة يسوع وحقَّقوا ذواتهم في شخصه الكريم، ومن ثَم وجدوا معنى حياتهم وقيمتها في الارتباط بشخصه، ووجدوا ذواتهم وحُرّيتهم مع يسوع، فانطلقوا معه يرافقونه، ويتعلّمون منه حبّ النَّاس واحترامهم، والكد من أجل سعادتهم وكرامتهم وحرّيتهم. كلّ شيء قد تغيَّير بفضل معرفتهم يسوع. صار لحياتهم معنىً جديدًا، عرفوا طعم الفرح والسَّلام الدَّاخلي الذي لا ينزعه أحد، وامتلأت حياتهم بالشَّفقة والتَّضامن مع سائر النَّاس. إنّ أعظم مُهمّة للإنسان هي أن يجد عَملًا يُلاقي فيه الإنسان نفسه. فدعوة التَّلاميذ هي صورة لدعوة كلِّ منّا لإتباع يسوع. وهذه الدَّعوة تقتضي التَّخلّي عن الكثير في سبيل مَلَكُوت الله.
وأن الرَّبّ لم يتوجّه بدعوته هذه لعُلماء في النَّاموس أو لفُقهاء في العلوم المُختلِفة في ذلك العصر أو لأصحاب مقامات عالية الشَّأن، بل دعا أُناسًا بُسطاء من المُجتمع العَاديّ، لا مراكز اجتماعيّة وسياسيّة يتعلّقون بها، ولا أموال ولا مُمتلكات أرضيّة يخافون عليها. وهذه الدَّعوة لإتباع يسوع هي صورة لدعوته إلى كل مِنَّا، فكلّنا بالأساس مدعوّون كمسيحيّين، "إذ فإِنَّنا جَميعًا، وقَدِ اعتَمَدنا في المسيح، قد لَبِستُنا المسيح" (غلاطية 3: 27)، فنحن، كمسيحيين علينا أن نحيا بموجب دعوة الرَّبّ لنا، وهي دعوة إلى الحياة الشَّاهدة على محبّة الله للبشر من خلال يسوع المسيح. ودعوتنا تقوم بالخروج فقط من ذواتنا للسَّير مع الرَّبّ وعمل مشيئته. ويُعلق الرَّاهب الدُّومنيكاني جان تولير" كيف لنا أن نتبع الله في الحقيقة: كلّ شيء واضح ولكي نقومَ بذلك فعلينا أن نتخلّى عن كلّ ما ليس فيه الله" (العظة 4). والدَّعوة لم تقف عند التَّلاميذ، بل أصبحوا هم بدورهم أصحاب دعوة. ويُكمل الله مسيرة الخلاص إلى منتهى الدَّهر.
(ه) ماذا ترك هؤلاء الصَّيَّادون من أشياء ثمينة تلبيّة لنداء الرَّبّ؟
يُجيب القدّيس غريغوريوس الكبير "هؤلاء الصَّيّادون لا يملكون شيئًا تقريبًا. ومع ذلك فقد تركوا الكثير، لأنّهم تخلّوا عن كلّ شيء، مهما يكن هذا الشَّيء قليلاً. إذ عندما تخلّوا عن ممتلكاتهم، تخلّوا كذلك عن رغباتهم. فإنّ الرَّبّ يكتفي بممتلكاتنا الخارجيّة مهما كانت صغيرة، إنَّه يهتمّ للقلب لا للأسعار، إذ لا يرى كم قدّمنا له، إنّما كم من المحبّة رافقت تقدمتنا". قدّم التَّلاميذ ليس فقط القليل مما يملكون، إنما قدّموا كل شيء، مثل الارملة الفقيرة التي "أَلقَت جَميعَ ما تَملِكُ لِمَعيشَتِها في خزانة الله" (لوقا 21: 4).
ونستنتج مما سبق أنَّ الحياة المسيحيّة هي دعوة الإنسان أن يكون مُستعدًا للتَّضحية بكل شيء من أجل المسيح. وهذا الاستعداد هو لُبُّ الدَّعوة، فما أن طرقت الدَّعوة قلوب الرُّسل الأربعة، حتى تركوا كل شيء في سبيل مَلَكُوت الله، تركوا كل شيء: مالا، ومهنة، وأهلاَ ومتاعًا. وهم لا ينظرون إلى الوراء في شيء مما تركوا. والتَّركة أو التَّخلي هي التَّضحيَّة. فاذا دعانا الرَّبّ هل نلبِّي دعوته ونتبعه؟ هل نتخلى عن كل شيء في سبيله؟ هل نعمل على انجاح مهمته في خلاص البشريَّة على خطى بولس الرَّسول القائل "إِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشَارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن" (رومية 1: 16)؟
الخلاصة
يصف مرقس في أنجيل اليوم، يسوع وهو سائرٌ على ضفاف بحيرة طبريَّة، فيرى أخوَين على مقربة من الشَّاطئ، سِمعَان (بطرس) وأندَراوس ابنَي يونا، وهما يُلقيان شبكتهما. فيبادرهما بالدَّعوة إلى إتباعه، ويُحدّد لهما هدف الدَّعوة: "أن يُصبحا صيّادَين للناس"... فيقومان للحال ويتركان كل شيء وراءهما ويتبعانه.
يُكمِل الرَّبّ مسيرته بصحبة التَّلميذَين الأولَين، وإذا به يُصادف أخوَين آخرَين، يَعقوب ويوحَنَّا بصحبة أبيهما زبدى (على البَرّ هذه المرّة)، وهما يُصلِحان شباكهما. فيتكرّر الطَّلب الأول، وتتكرّر معه الاستجابة نفسها، لكن هذه المرّة، إضافةً إلى تركهما الشِباك والسَّفن، فإنهما يتركان أيضًا أباهما زبدى. بذلك، أصبح لدى يسوع أول فوج من التَّلاميذ المُكوّن من بطرس وأندَراوس ويوحَنَّا ويعقوب. إلا أننا نجد عند إنجيل يوحَنَّا روايةً مختلفة كليًّا عن باقي الإنجيليّين لدعوة التَّلاميذ الأوائل، فلا نرى يسوع يدعو صَيَّادَيْن على شاطئ بحر الجَليل لكي يتبعوه، بل نرى بدايةً إثنين من تلاميذ يوحَنَّا المعمدان يتبعان يسوع بناءً على طلب المَعْمدان، وكان أندَراوس أحدهما. وعاد هذا، فلقِيَ أخاه سِمعَان مُعلنًا له "لقد وجدنا المسيح"، وآتيًا به إلى يسوع، الذي أطلق عليه لقب "كيف -صفا" (الصَّخرة) (يوحَنَّا 1: 35-51). وتدل هذه المقارنة بين الرِّوايات الإنجيليَّة على أن إتباع التَّلاميذ ليسوع لم يأتِ أبدًا من فراغ أو عدم معرفة بشخص يسوع، بل سبقه على الأقل شهادة يوحَنَّا المعمدان أمام تلاميذه "هوذا حمل الله...".
تقابل بطرس وأخوه أندَراوس، ويَعقوب وأخوه يوحَنَّا مع يسوع وعرفوه من قبل (يوحَنَّا 1:15-41)، وآمنوا أن يسوع هو المسيح المُنتظر. والآن هو يدعوهم إلى خطوة أخرى؛ وهي أن يتركوا صيد السَّمك ويتبعوه كي يصبحوا صَيَّادَي البشر لربح النُّفوس للخلاص رغم كلّ التَّزاماتهم مع أهلهم ومشاريعهم. قد اجتذب يسوع هؤلاء التَّلاميذ الأربعة فتخلَّوا عن مهنة الصَّيد وذويهم وصاروا أتباع يسوع. وهم الآن لم ولن يتخلوا عنه بل بقوا دومًا حوله ويصحبونه.
الدَّعوة تختلف باختلاف النَّاس: فمنهم من دُعوا إلى حياة مسيحيَّة خاصة معتنقين المشورات الإنجيليَّة نذورًا. ومنهم دُعوا إلى حياة مسيحيَّة عامة مُتَّخذين الإنجيل قاعدة ودستورًا. ولكن الدَّعوة لا تطلب منّا أن نكون لا مُباليين بخيرات هذا العَالَم؛ إنما فقط يَحثنا على التصرّف في هذا العَالَم والمَلَكُوت والحياة الأبديَّة نصب أعيننا، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "الَّذينَ يَبْكون كأَنَّهم لا يَبْكون، والَّذينَ يَفرَحون كأَنَّهم لا يَفرَحون، والَّذينَ يَشتَرون كأَنَّهم لا يَملِكون، والَّذينَ يَستَفيدونَ مِن هذا العَالَم كأَنَّهم لا يستفيدونَ حَقًّا" (1 قورنتس 7: 30-31). والرَّبّ يسوع لا يزال يدعو كل واحد مِنَّا لنتبعه، وعندما يدعونا الرَّبّ لخدمته، هل نكون مثل أولئك التَّلاميذ الأربعة فنتبعه فورًا؟
دعاء
أيها الآب السَّماوي، يا من أرسلت ابنك الوحيد يدعو التَّلاميذ لكي يُصبحوا رسلا، ويحملوا رسالة إنجيل المَلَكُوت إلى العَالَم، امنحنا النِّعمة أن نكتشف دعوتنا لنا فنتبعها على مثال التَّلاميذ الأوّلين بروح التَّوبة ونتخلى عن كل شيء في سبيله وننقل إنجيله إلى أخوتنا البشر من حولنا وفي كلّ مكان، مُستنيرين بكلماته "فماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العَالَم كُلَّه وخَسِرَ نَفْسَه؟"(مرقس 8: 36). أمين.