موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ أغسطس / آب ٢٠٢٤

خُبْزُ الحَياة والإفخارستيا

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد التَّاسع عشر للسَّنة: خُبْزُ الحَياة والإفخارستيا (يوحنا 6: 41-52)

الأحد التَّاسع عشر للسَّنة: خُبْزُ الحَياة والإفخارستيا (يوحنا 6: 41-52)

 

النَّص الإنجيلي (يوحنا 6: 41-52)

 

فتَذَمَّرَ اليَهودُ علَيه لأَنَّه قال: ((أَنا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء))، 42 وقالوا: ((أَليسَ هذا يسوعَ ابنَ يُوسُف، ونَحنُ نَعرِفُ أَباهُ وأُمَّه؟ فكَيفَ يَقولُ الآن: ((إِنِّي نَزَلتُ مِنَ السَّماء؟)) 43 أَجابَهم يسوع: ((لا تَتَذمَّروا فيما بَينَكم. 44 ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ، إِّلا إِذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني. وأَنا أُقيمُهُ في اليَومِ الأَخير. 45 كُتِبَ في أَسفارِ الأَنبِياء: وسيَكونونَ كُلُّهم تَلامِذَةَ الله. فَكُلُّ مَن سَمِعَ لِلآب وتَعلَّمَ مِنه أَقبَلَ إِليَّ. 46 وما ذلِكَ أَنَّ أَحَدًا رأَى الآب سِوى الَّذي أَتى مِن لَدُنِ الآب فهو الَّذي رأَى الآب. 47 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن آمَنَ فلَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّة. 48 أَنا خُبزُ الحَياة. 49 آباؤُكُم أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة ثَمَّ ماتوا. 50 إِنَّ الخُبزَ النَّازِلَ مِنَ السَّماء هوَ الَّذي يأكُلُ مِنه الإِنسانُ ولا يَموت. 51 أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم)). 52 فخاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضًا وقالوا: ((كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه؟))

 

 

مقدمة

 

يُقدِّم لنا إنجيل يوحنا شخص السَّيد المسيح بصفته "خبز الحياة"، الخبز السَّماوي الذي يقوت النَّفس ويُشبعها لتبقى حيَّة ونامية بعلاقتها مع الله (يوحنا 6: 41-52). إنَّه الكلمة المُتجسِّد الذي بكلمته يُقيمنا للحياة الجديدة، وبجسده الذي هو الخبز السَّماوي يُنعشنا لنثبت فيه. إنَّه واهب الحياة الأبديَّة من خلال الإفخارستيا، وهكذا يسعى يسوع أن يعلم الشعب للتعرف على حاجته الحقيقية بانتقاله من حاجة الجسد إلى الخبز إلى حاجة النفس إلى الخبز الحياة، يسوع.  وما حاجة الجسد للخبز إلاَّ عونًا إلى حاجة النفس للسير للقاء الله حيث يكتشف الحياة الأبدية. ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل يوحنا (يوحنا 6: 41-52)

 

41  فتَذَمَّرَ اليَهودُ علَيه لأَنَّه قال: أَنا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء

 

 تشير عبارة "تَذَمَّرَ " في الأصل اليوناني Ἐγόγγυζον (معناه تحدث في السّر وبصوت منخفض تعبيرًا عن السخط الخفي) إلى ردّ فعل الإنسان، وهو تجربة إغراء قوية في لحظات الضعف فيها تعبير هنا عن سخط اليهود وشكوى ساخطة وعدم رضاهم ورفضهم للحياة، مما يدلُّ على قلَّة إيمانهم بيسوع النَّازل من السَّماء؛ فكما تذمَّر آباءهم على المَنِّ قديما أثناء خروجهم من مصر (الخروج 16: 2-18) كذلك تذمروا هم على المَنِّ الجديد، أَنا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء، لأنَّهم لم يفهموا طبيعة المَنّ السَّماوي غير الطَّبيعي، ولم يفهموا أنَّ المسيح سيعطيهم جسده المقام من الأموات بطريقة عجائبية تحت أعراض الخبز والخمر. ومن تذمروا وانصرفوا فهموا الكلام عن الجسد والدَّم بمعناه الحقيقي وليس الرَّمزي. تذمَّروا كما تذمر آباؤهم في البريَّة على موسى، وبالتَّالي على الله في صحراء سيناء حيث أن التَّذمر هو من طبيعة بنى إسرائيل منذ أن خرجوا من أرض مصر. تذمروا على تدبير الله، فكان لا أمان لهم، ولا ماء، ولا لحم! وكل أنباء مسيرة الخروج تفيض بذكر هذا التَّذمر (خروج 14: 11، 16: 2-3، 17: 2-3, عدد 14: 2- 4، 16: 13- 14، 20: 4- 5، 21: 5). وفي الواقع، تذمر رؤساء اليهود على يسوع، إذ لم يقبلوا ما نادى به عن ألوهيته، إنَّه نازل من السَّماء. ولم يروا فيه سوى النَّجار القادم من النَّاصرة. رأوه بعيونهم البشريَّة ولم يروه بعيون الإيمان كما صرّح يسوع: " فمَشيئةُ أَبي هيَ أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه " (يوحنا 6: 40)، ورفضوا الإيمان بأنَّه ابن الله ولم يتقبلوا رسالته. ولحماية أنفسهم من مسؤوليَّة هذه الرِّسالة أنكروا صاحبها.  فعِلَّة تذمُّر اليهود هو تصريح يسوع بمصدره الإلهي بقوله " نَزَلَ مِنَ السَّماء ". ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم "السَّبب الظَّاهر لتذمرهم هو أنّ ربّنا كشف لهم أنّه نزل من السَّماء، إنّما السَّبب الحقيقي هو أنّهم فقدوا الأمل بالغذاء المادي الذي كانوا ينتظرونه". ينشأ التَّذمر إذًا عندما يفشل المرء في إدراك علامات حضور الله في حياته، لذلك تجربة التذمّر تعيق مسيرة الإنسان لالتقائه حقًا بالله. أن التذمر على عمل الله هي تجربة تؤدي إلى الانغلاق وطلب الموت بل رفض الحياة كما حصل مع إيليا النَّبي (1 ملوك 19: 4). فكلّ تجربة تذمّر نحو لله لا تؤدي إلى الحيّاة، بل إلى الموت.  أمَّا عبارة "اليَهودُ" في إنجيل يوحنا فتشير إلى رؤساء اليهود المُعادين ليسوع وقولهم " ونَحنُ نَعرِفُ أَباهُ وأُمَّه؟ " (يوحنا 6: 42) مما يدلُّ على أنَّهم جليليَّين، وليس على اليهود عامة، الذي كان يعبّر عنهم يوحنا " بالشَّعب"، حيث أن يوحنا ذاته يهودي. أمَّا عبارة " أَنا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء " فتشير إلى اعتراض اليهود على قول يسوع بأنَّه الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء، فهم يرغبون الخبز لحاجة الجسد ولا يدركون أهميّة ما يقدُّمه يسوع من الخبز لحاجة النفس. فالخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء يدلّ على تواضع يسوع الذي تجسَّد واتَّخذ صورة الخبز.  يدعونا يسوع أثناء معاناتنا وتجاربنا أنّ نلتجأ إلى الخبز الحي، حيث ينتظرنا مُرشداً إيَّانا إلى الحياة، فالخبز وسيلة لنحيا! يطلب يسوع من تلاميذه ومنا اليّوم، أنّ نتبعه خاصة لذاته وليس لعطاياه.

 

42  وقالوا: أَليسَ هذا يسوعَ ابنَ يُوسُف، ونَحنُ نَعرِفُ أَباهُ وأُمَّه؟ فكَيفَ يَقولُ الآن: إِنِّي نَزَلتُ مِنَ السَّماء؟

 

تشير عبارة "أَليسَ هذا يسوعَ ابنَ يُوسُف" إلى سؤال تهكُّمي، لأنَّه من الصَّعب على اليهود التَّوفيق بين وضع يسوع البشري (ابن يوسف) واصله الإلهي (نزل من السَّماء). وهذا دليل أنَّ اليهود ما كانوا يعرفون بعد ولادته العجيبة، بل اعتقدوا انه ابن يوسف ومريم. ويُعلق القديس يوحنا الذّهبي الفم: "من الواضح أنّهم لم يكونوا قد تعرّفوا بعد إلى نَسَب المخلّص الرَّائع، بما أنّهم نادوه ابن يوسف". أمَّا عبارة "نَحنُ نَعرِفُ أَباهُ وأُمَّه؟" فتشير إلى انتقاد اليهود ليسوع مُتطلعين إليه باستخفاف كابن لمريم ويوسف المعروفين لديهم تمامًا بالرَّغم من النُّبوءات التي تؤكد أن المسيح يأتي من نسل داود، وأنَّه مولود من عذراء.  لمعرفة المسيح لا بُدَّ من الإيمان. الإيمان ليس شيئًا يتمُّ بالجسد كما يؤكد ذلك بولس الرَّسول: "الإِيمانُ بِالقَلبِ يُؤَدِّي إلى البِرّ"، ماذا يلي ذلك "الشَّهادةُ بِالفمِ تُؤَدِّي إلى الخَلاص" (رومة 10: 10). الله الآب يُجذب من لا يُقسُّون قلوبهم. فالذين يخضعون لمشيئة الله عندهم حسُّ الله، وبالتَّالي فهم وحدهم قادرون على معرفة ما لتعليم يسوع من ميزة إلهيَّة. أمَّا عبارة "فكَيفَ يَقولُ الآن: إِنِّي نَزَلتُ مِنَ السَّماء؟" فتشير إلى تذمُّر اليهود على المسيح بدعواه أنَّه سماوي أزلي الذي تجسَّد حديثا خلافًا لِمَا اعتقدوا في شانه، وذلك بسبب نشأته الوضيعة وولادته البشريَّة. فحسبوا دعواه كذبًا. إنَّ نبا بميلاد المسيح العجيب يُثبِّت إيمان المؤمنين ولا يزيل شكوك غير المؤمنين.  ويُعلق القديس كيرلس الكبير " كان بالأولى بهم أن يدركوا أنَّ المسيح المتوقع مجيئه إلينا يأتي في هيئة بشريَّة كما سبق التَّنبؤ عنه: أن العذراء القديسة " تَحمِلُ فتَلِدُ آبنًا وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل" (أشعيا 7: 14).

 

43 أَجابَهم يسوع: لا تَتَذمَّروا فيما بَينَكم.

 

تشير عبارة "لا تَتَذمَّروا" إلى توبيخ يسوع لليهود والطلب منهم بعدم التَّشكي واللَّوم، لأنَّه في حديثه يؤكِّد لهم أنَّه أعظم من موسى بلا قياس، وأنَّه وحده القادر أن يهبهم الحياة الأبديَّة، وأنَّ أصله سماوي. لقد سمعوا عن ملائكة نزلوا من السَّماء، لكنَّهم لم يسمعوا قط عن إنسانٍ أصله سماوي أزلي، لأنهم لا يصغون بل يقاومون كلمة الله في قلوبهم، فيحرمون ذاتهم من حياة حقّة. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم على جواب يسوع: "لا تَتَذمَّروا فيما بَينَكم"، ما يعني: أعرف لماذا ليس لديكم هذا الجوع الرُّوحيّ، ولماذا لا تفهمون ولا تبحثون عن هذا الخبز: "ما مِن أحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إليَّ، إلاّ إذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني". إنّ تجربة الإنسان الأساسيّة هي التذمّر على عمل الله في حياتنا. وهكذا يصير التذمّر ردّ فعل الإنسان أمام الحبِّ الإلهي. يدعو يسوع في هذه الآية إلى تغيير نظرتنا بالخروج من الذات نحو الله الآب وأبنه يسوع، خبز الحياة.

 

44 ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ، إِّلا إِذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني. وأَنا أُقيمُهُ في اليَومِ الأَخير

 

تشير عبارة "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ" إلى عدم قدرة الإنسان على الإيمان بيسوع بناءً على مبدا عام، وهو "الإِنسانُ البَشَرِيُّ لا يَقبَلُ ما هو مِن رُوحِ الله" (1 قورنتس 2: 14). أمَّا عبارة "اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني" فتشير إلى عمل الآب الذي يوجّه خاصته نحو ابنه يسوع المسيح، فأولئك يُنيرهم الأب ويأتون إليه برضى. ومثل هذه الإنارة تأتي عن طريق عمل الله نفسه وليس عن طريق النَّاس، كما ما ورد في إنجيل متى "زَمَّرْنا لَكم فلَم تَرقُصوا نَدَبْنا لَكم فلَم تَضرِبوا صُدورَكم" (متى 11: 17). "وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إلى النُّور لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله" (يوحنا 3: 21). وكيف يجتذبه الآب؟ يُجيب القديس أوغسطينوس: "إنَّ الإنسان يُجتذب بما يُبتهج به. إن قدَّمت عشبًا يجتذب القطيع إليه، وإن قدَّمت فاكهة تجتذب الطَّفل. هكذا يجتذب الآب الإنسان أن يقدِّم له المُخلص كونه رغبته، فيجتذبه به، إذ يجد في دم المسيح جاذبيَّة له". لكنَّه لن يجتذب أحدًا بغير إرادته. عندما يختار المرء أن يؤمن بيسوع المسيح مخلصًا له، فإنه يفعل ذلك استجابة لحث روح الله القدوس. إن الله هو العامل فينا، وبعد ذلك نُقرِّر نحن إن كنا نؤمن أو لا نؤمن. وهكذا لا يمكن لأحد أن يؤمن بدون معونة الله؟ ومن هنا يؤكِّد يسوع في إجابته لليهود ضرورة النِّعمة: نحن بحاجة ماسة إلى الهام الله الدَّاخلي، كي نفهم أموره تعالى، ونتَّجه بدورنا إلى يسوع، ونحظى بنعمة الإيمان. ألاب هو الذي يجذبنا إلى يسوع شرط ألاّ نُقسِّي قلوبنا كما فعل شعب العهد القديم في البرِّية. فالانجذاب نحو يسوع هي خبرة الإيمان، وليست مسألة مجهود بشريّ، إنّه العمل الّذي يُتمّمه الرَّبّ في البشر بشكل خفيّ.  والرُّوح القدس هو الذي يجذب قلوب النَّاس إلى المسيح بإنارة العقول وإعداد الإرادة كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "الإِنسانُ البَشَرِيُّ لا يَقبَلُ ما هو مِن رُوحِ الله فإِنَّه حَماقةٌ عِندَه، ولا يَستَطيعُ أَن يَعرِفَه لأَنَّه لا حُكْمَ في ذلِكَ إلاَّ بِالرُّوح (1 قورنتس 2: 14). الله مصدر حياتنا، وهو تعالى أراد أنّ يرسل لنا ابنه كخبز، أي قوت لحياتنا. فكيف نأخذ هذا الخبز دون أن نلتقي بالله الآب والابن؟ أمّا عبارة " الَّذي أرسَلَني "فتشير إلى الآب الذي أرسل المسيح من السَّماء الذي يطلب النُّفوس هو نفسه الذي يجتذبها إلى المسيح.  وتعلق القديسة تريزا للطفل يسوع: "هذه هي صلاتي، أطلب إلى الرَّب يسوع أن يجتذبني في لهيب حُبّه، وأن أتّحد معه بشكل وثيق، فَيَحيا فِيَّ ويعمل فِيَّ". (من مخطوطات سيرتها الذَّاتيَّة). أمَّا عبارة " وأَنا أُقيمُهُ في اليَومِ الأَخير" فتشير إلى المرة الثَّالثة التي ذكرت القيامة في الفصل السَّادس مُبينًا أن بداية امر الخلاص من الآب (يوحنا 3: 16) ونهايته من الابن. فالآب يجتذب النُّفوس بالرُّوح القدس ويُعطيها (يوحنا 6: 38) ويُعلمها (يوحنا 6: 45)، والابن يقبلها ويمنحها الحياة (يوحنا 6: 33).

 

45  كُتِبَ في أَسفارِ الأَنبِياء: وسيَكونونَ كُلُّهم تَلامِذَةَ الله. فَكُلُّ مَن سَمِعَ لِلآب وتَعلَّمَ مِنه أَقبَلَ إِليَّ

 

تشير عبارة "كُتِبَ" إلى إثبات يسوع كلامه باقتباسه من نبوءات العهد القديم (أشعيا 54: 13، ارميا 31: 34، يوئيل 2: 28، ميخا 9: 1-4). أَّمَّا عبارة " أَسفارِ الأَنبِياء " فتشير إلى נביאים هو الكتاب الثَّاني من كتب التَّناخ (תנ״ך) وهي مختصرة لكلمة תורה (التَّوراة) أي أسفار الشَّريعة وנביאים أي أسفار الأنبياء وכתובים أي الكتب، ويحوي أسفار الأنبياء الجزء الثَّاني المعروف بهذا الاسم من أسفار العهد القديم على قصص وتاريخ الأنبياء والملوك اليهود. أمَّا عبارة "سيَكونونَ كُلُّهم تَلامِذَةَ الله" فتشير إلى اقتباس من العهد القديم حيث يتعلم جميع البشر من الله مباشرة كما جاء في نبوءة أشعيا: "جَميعُ بَنيكِ يَكونونَ تَلامِذَةَ الرَّبّ" (أشعيا 54: 13). ومن هنا نفهم أن لفظة "كلهم: لا تعمُّ كل البشر بل شعب الله السَّامع لصوته". ويوضِّح إرميا النَّبي هذا الكلام بقوله "يَقولُ الرَّبّ، هو أَنِّي أَجعَلُ شَريعَتي في بَواطِنِهم وأَكتُبُها على قُلوبِهم وأَكونُ لَهم إِلهًا وهم يَكونونَ لي شَعبًا" (ارميا 31: 33).  ويؤكِّد يوحنا الإنجيلي على أهميَّة التَّعلم من قِبل الآب وأهميَّة السِّماع من قِبل الإنسان. إنَّنا نتعلم من الله من خلال الكتاب المقدس، من الأفكار التي يعطيها لنا الرُّوح القدس، ومن الكنيسة والمسيحيَّين الآخرين. فكل تلميذ يتعلم من الله ينال الخلاص. أمَّا عبارة " فَكُلُّ مَن سَمِعَ لِلآب " فتشير إلى مسؤوليَّة الإنسان الحرة في سماع الآب طوعًا، أي الأصغاء بحرص وفرح إلى كلمة الله والتَّعلم منه كي يتوجّه نحو ابنه يسوع المسيح.

 

46 وما ذلِكَ أَنَّ أَحَدًا رأَى الآب سِوى الَّذي أَتى مِن لَدُنِ الآب فهو الَّذي رأَى الآب

 

تشير عبارة "وما ذلِكَ أَنَّ أَحَدًا رأَى الآب" إلى ما ورد في قول الله "أمَّا وَجْهي فلا تَستَطيعُ أَن تَراه لأَنَّه لا يَراني الإِنْسانُ وَيحْيا" (خروج 33: 20)، وذلك لان الهوّة قائمة بين قداسة الله وضُعف الإنسان عمقيه جدًا حتى أن الإنسان يموت حتمًا إن رأى الله (خروج 19: 24) أو سمعه (خروج 20: 19). ونتيجة لذلك نرى أنَّ النَّبي موسى (خروج 3: 6) وإيليا (1 ملوك 19: 13) وحتى السَّرّافون (أشعيا 6: 2) يُحجبون وجوههم أمام الرَّب، وإذا بقي الإنسان على قيد الحياة، بعد رؤية الله، يشعر بدهشة ملؤها عرفان الجميل (تكوين 32: 21) أو بمخافة (قضاة 6: 22-23). وهذه نعمة نادرة يمنَّ الله بها على مختاريه (خروج 24: 12) وعلى موسى خاصة بصفته " صديقه" (خروج 33: 11) وعلى إيليا (1 ملوك 19: 11)، وكلاهما سيكونان شاهدان على تجلِّي المسيح (متى 17: 3). أمَّا عبارة "رأَى الآب" في الأصل اليوناني ἑώρακέν τις εἰ μὴ  ὢν παρὰ τοῦ θεοῦ (معناها أن يُسمَح له بالدخول إلى الحضور المباشر لله (متى 5: 8) أن يصل إلى معرفة حقيقية بالله (3 يوحنا 11) فتشير إلى شوق قلب الإنسان إلى رؤية الله ومعرفته وعيش علاقة حقيقية معه. إنها تُظهر مدى رغبتنا في اختبار محبة الله بطريقة مرئية وملموسة (1 يوحنّا 1: 1-3). كما أن هذه الكلمة تُرشدنا إلى الطَّريق نحو هذه المعرفة، وتوضِّح لنا من يمكنه أن يقودنا إلى رؤية الله واختبار محبته أمَّا عبارة "سِوى الَّذي أَتى مِن لَدُنِ الآب" فتشير إلى يسوع الذي هو من الله نفسه، وهو وحده شاهد لأبيه السَّماوي، كما جاء في إنجيل يوحنا "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه" (يوحنا 1: 18). فالابن، مع الرُّوح القدس، هو وحده الذي يقدر أن يراه كما هو، "لأَنَّ الرُّوحَ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله "(1 قورنتس 10:2). وهكذا الابن الوحيد مع الرُّوح القدس يُدرك أن الآب في كماله إذ قيل: "فما مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن ومَن شاءَ الابنُ أَن يَكشِفَه لَه" (متى 27:11). ويوضِّح يوحنا الإنجيلي السَّبب "وأَمَّا أَنا فَأَعرِفُه لأَنِّي مِن عِندِه وهوَ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 7: 29)، أمَّا سائر النَّاس فلا يرون الله وجهًا لوجه إلاّ في السَّماء كما صرّح يسوع " طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله" (متى 5: 8)؛ أمَّا عبارة "فهو الَّذي رأَى الآب " فتشير إلى الرُّؤية المباشرة التي هي امتياز الابن يسوع الذي وحده رأى الآب، وهو الذي أدخلنا في ملكوته وشملنا بمعرفته، لأنَّه " شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه"(العبرانيَّين 1: 3).  ومن هذا المنطلق، نستطيع بفضل يسوع، ابن الله، أن نعرف الله الآب ونعاينه ونعايشه.

 

47 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن آمَنَ فلَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّة

 

تشير عبارة "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم" إلى أهميَّة تصريح السَّيد المسيح على صدق التَّعليم الذي تذمر اليهود عليه. يؤكد يسوع ما يُعلنه الآن في هذه الآية من حق ثابت لا يتخلف. أمَّا عبارة "آمَن" في الأصل اليوناني πιστεύων فتشير إلى الاستمرار في الإيمان. لأنَّنا لا نؤمن مرة واحدة وحسب، بل نستمر في الإيمان والثِّقة به.  إن الإيمان بالمسيح هو الشَّرط الضُّروري لنيل حياة الخلاص، وبالتَّحديد الحياة الأبديَّة. وهكذا، فإن الحياة الأبدية مرتبطة بالإيمان، إنها تتعلق بتمييز حضور الله في حياتنا وفي كل ما يعكس وجوده. أمَّا عبارة "الحَياةُ الأَبَدِيَّة" فتشير إلى حياة النَّفس الرُّوحيَّة التي يهبها يسوع في السَّماء للمؤمنين به.  إن يسوع ينقلنا من الموت إلى الحياة. فلا ينتمي المؤمن بعد الآن إلى الموت، بل هو يحيا القيامة منذ الحياة الحاضرة، فحتى وإن مات، فهو يتقبل الحياة، كما جاء في قول يسوع: "مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إلى الحَياة" (يوحنا 5: 24). إن الإيمان بالمسيح هو الحصول على الحياة الأبديَّة. ويؤكد سفر التَّكوين، أول سِفر في الكتاب المقدس، أن الله خلّد الإنسان، لأنَّه كان يعيش في بستان تنمو فيه شجرة الحياة. ويؤكد سفر الرُّؤيا، آخر سفر في الكتاب المقدس، إن الله سيمنح الخلود لكل غالب (رؤيا 2: 7). ويؤكد لنا يسوع هنا أنَّ الإيمان به يُعيد إلينا الحياة الخالدة. ويعلق الرَّاهب القدّيس برناردُس: " أنا أنتظر الحضور الإلهي، الذي يصبح فيَّ "نبعًا يفيض بالحياة الأبديّة (يوحنا 4: 14)".

 

48 أَنا خُبزُ الحَياة

 

تشير عبارة "أَنا خُبزُ الحَياة" إلى الخبز النَّازل من السَّماء، وان يسوع نفسه هو ذلك الخبز الذي يستطيع أن يسدَّ الجوع الرُّوحي، لأنَّ كل من يقتات بالمسيح بالإيمان ينال الحياة الأبديَّة.  فيسوع هو الحياة، وهو خبز الحياة، لأنَّه بذل نفسه للمؤمن لكي يقتات به بالإيمان؛ فحياة الرَّبّ بأكملها تُصبح خبزًا للبشر وغذاء لحياة حقيقيَّة.  وقد عرّف يسوع نفسه بأنَّه مصدر كل حياة وخلاص. ولكن لم يُسمع قط أن نبيَّا طالب شعبه بأنَّ الإيمان بشخصه بالذَّات كما فعل يسوع هنا. وذلك أن رؤساء اليهود كانوا يطلبون من يسوع أن يُثبت لهم سبب كونه أفضل من الأنبياء. فقدّم يسوع نفسه أعظم من موسى، إذ أعطى ذاته خبزًا روحيًا نازلا من السَّماء يقود إلى الحياة الأبديَّة، وأعلن أن الإيمان به هو شرط للحصول على الحياة الأبديَّة.

 

49 آباؤُكُم أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة ثَمَّ ماتوا.

 

تشير عبارة "آباؤُكُم أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة ثَمَّ ماتوا" إلى المفارقة بين المنّ الذي أُعطي في البرِّيَّة ولم يستطع أن يمنع الموت والخبز الذي يُعطيه يسوع. إذ أعطى موسى أجداد اليهود المنَّ، وكان يقوت النَّاس جسديًا وقتيًا ليوم واحد، وكان عليهم أن يحصلوا على المزيد منه كل يوم، ولم يقدر هذا المنَّ أن يمنع الموت عنهم. من المؤكّد أنّ المَنَّ كان معجزة رائعة، ومع ذلك لم يكن كافيًا لإبعاد الموت عن آكليه. أكلوا منه، ولكنّهم ماتوا. فهل هناك خبز آخر يُغذّي الحياة إلى الأبد؟

 

50 إِنَّ الخُبزَ النَّازِلَ مِنَ السَّماء هوَ الَّذي يأكُلُ مِنه الإِنسانُ ولا يَموت

 

تشير عبارة "إِنَّ الخُبزَ النَّازِلَ مِنَ السَّماء" إلى خبز الحياة الذي يُعطيه يسوع هوَ الَّذي يأكُلُ مِنه الإِنسانُ ولا يَموت. هذا هو الأمر الذي تذمر منه اليهود. وفي هذه العبارة تصريح بوجود يسوع قبل تجسده وتلميح إلى ولادته الفائقة الطَّبيعة. أمَّا عبارة "هوَ الَّذي يأكُلُ مِنه الإِنسانُ" فتشير إلى الخبز النَّازل من السَّماء، خبز الملائكة، خبز القربان، وهو دليل على حبِّ يسوع الكبير الذي يدفعه إلى التَّلاشي الكلِّي من اجل أحبَّائه.  ويُعلق القديس أوغسطينوس: " لكي يأكل الإنسان خبز الملائكة، صار رب الملائكة إنسانًا. فإنه لو لم يصر إنسانًا ما كان له جسده، وإن لم يكن له جسده ما كنا نأكل خبز المذبح". أمَّا عبارة "لا يَموت" فتشير إلى الموت نتيجة الخطيئة أي الموت الثَّاني (رؤيا 20: 14) بل ينال من يسوع الحياة الأبديَّة، وهذه الحياة تتعارض مع كل أشكال الموت. فكل من يأكل خبز الحياة الذي يُعطيه هو لن يموت أبدأ. يوحّد يسوع الخبز الرُّوحي الذي يعطيه مع تقديمه جسده. الخبز النَّازل من السَّماء يمرّ عبر حياة جسد يسوع، ويسوع يُعطي الإنسان هذا الجسد غذاء وهبة كي يتمكّن الإنسان من أن يحيا أخيرًا حياة تتعدّى الموت وتتواصل ما وراء الموت. وكما أنّ هناك ماء حيّ، يُروي العطش إلى الأبد (يوحنّا 4: 14)، كذلك هناك خبز حقيقيّ يسدّ الجوع للحياة الأبديَّة.

 

51 أنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم

 

تشير عبارة "أنا الخبزُ الحَيُّ" إلى مُطابقةِ يسوع نفسِهِ، جسده ودمه، كونه ذبيحة مع ذاك الخبز. يمرّ الخبز النَّازل من السَّماء عبر حياة إنسان، عبر جسد الإنسان يسوع: ليس هناك حياة إلهيَّة سوى في جسده الّذي يختار أن يعطينا هذا الجسد غذاء وهبة. هكذا أظهر الرَّب يسوع نفسَه أنَّه خبز الحياة المُعطى من الآب الأزلي للبشريَّة. وهذا الخبز الحي يُغدينا بحياة الآب، الحياة الّتي لا تموت، بعكس المَنّ الذي يُغذّي الحياة الأرضيَّة الّتي تموت؛ فيسوع هو واهب الحياة الذي يبقى إلى الأبد، وليس كالمَنِّ الذي يفنى. أمَّا عبارة "مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد" فتشير إلى خبز حيّ، لأنَّه يستطيع أن يُغدينا بالحياة الأبديّة. لقد كان المّنّ يُغذّي الحياة الأرضيّة، تلك الّتي تموت؛ أمّا جسد المسيح فهو يُغدينا بحياة الآب، الحياة الّتي لا تموت.  وهذه الحياة تشتمل على كمال القداسة والسَّعادة، فالذي ينالها لا يدخل في الدَّينونة، لأنَّ يتبرَّر، ثم يتقدَّس ثم يتمجَّد. وفي الواقع، في عشاء الفصح "أَخَذَ يسوع خُبْزًا وشَكَرَ وكَسَرَه وناوَلَهُم إِيَّاهُ وقال: هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم. إِصنَعوا هذا لِذِكْري" (لوقا 22: 19). ومعنى الأكل هنا الاشتراك في التَّناول. وفي هذا الصَّدد قال القدّيس كولومبانُس: "إذا كنت جائعًا، كُل خبز الحياة. طوبى للذين يجوعون إلى هذا الخبز ويعطشون إلى هذا الينبوع! ففيه قال داود الملك: "ذوقوا واْنظروا ما أَطيَبَ الرَّبَّ" (مزمور 34: 9) " (التّعليمات، 13). وما قاله المسيح هنا كان على توافق مع تعاليم الرَّابيَّين، إذ قالوا "إن من يخدم الرَّب حتى الموت سيستحق خبز العَالَم الآتي". ويعنى العَالَم الآتي في تعاليم اليهود هو زمن الخلاص.  أمَّا عبارة "الخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا" فتشير إلى توحيد بين الخبز الذي يُعطيه وجسده من خلال سر الإفخارستيا، كما ورد في تعليم بولس الرَّسول" شَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: "هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري " (1 قورنتس 11: 24). أمَّا عبارة "هو جَسَدي" في الأصل اليونانيσάρξ (معناها لحم ودم تقابل كلمة بشر في العربيَّة) فتشير إلى ما يكوّن واقع الإنسان بكل إمكانياته وضعفه، كما تدل على قيمة التَّجسد الخلاصيَّة والمعنى الذَّبائحي، وبالتَّالي على الإفخارستيا (يوحنا 1: 14). أمَّا عبارة " َبذِلُه" فتشير هنا إلى موت المسيح كفَّارة عن الخطايا. فالمسيح لم يخلصْ النَّاس بمجرد تجسده، بل بموته على الصَّليب لكي ينالوا الغفران والمصالحة مع الله وموهبة الحياة الأبديَّة. إنَّه الفصح الحقيقي كما ورد في تعليم بولس الرسول: "فقَد ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح"(1 قورنتس 5: 7). أمَّا عبارة " العَالَم " فتشير إلى البشر كلهم، لأنَّ ذبيحة المسيح كافيَّة للجميع، ومعروضة على الجميع وَفقَا لقول يوحنا الرَّسول: "إنَّه كَفَّارةٌ لِخَطايانا لا لِخَطايانا وحْدَها بل لِخَطايا العَالَم أَجمعَ" (1 يوحنا 2: 2).  أمَّا عبارة " أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم" فتشير إلى عبارة تقليديَّة تعبّر عن البُعد الفدائي الذي يمتاز به موت يسوع. بالصَّليب يبذل يسوع جسده، وهذه هي الطَّريقة التي نأكل بها الجسد فنحيا. فالإفخارستيا هي نفسها ذبيحة المسيح، فهناك صلة بين يسوع، مصدر الحياة، وبين موته كما جاء في قوله "الرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف (يوحنا 10: 11)، لذلك يدور الكلام على الخبز الذي يعطيه. إن أكْل خبز الحياة يتم بتناول جسد الرَّب ودمه، وهذا يقتضي الإيمان بموت يسوع وقيامته، وتكريس ذواتنا بموجب شريعة الإنجيل.

 

52 فخاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضًا وقالوا: كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه؟

 

تشير عبارة "فخاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضًا" إلى النِّزاع والجدال بين اليهود، حيث أن البعض منهم فهم كلام يسوع على الصعيد الرُّوحي، وأمَّا البعض الآخر رفضه، لأنَّه فهم كلام يسوع على الصعيد الجسدي. وللأسف هذه الخصومة ما زالت حتى اليوم بين الكنائس التَّقليديَّة والكنائس البروتستانتيَّة. فيقولون نفس الكلام! هل يمكن أن يتحوَّل الخبز لجسد، والخمر لدم، ويقول البعض إنَّه رمز فقط. أمَّا عبارة "كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه" فتشير إلى استفهام إنكاري أي لا يقدر، ويتضمن هذا السُّؤال الاستهزاء بالمسيح على وضعه هذا الشَّرط المستحيل، إذ هناك تناقض مع الشَّريعة التي تُحرم شرب دم كما كلم الرَّب موسى "أَنقَلِبُ على آكِلِ الدَّمِ وأَفصِلُه مِن وَسْطِ شَعْبِه. لأَنَّ نَفْسَ الجَسَدِ هي في الدَّم، وأَنا جَعَلتُه لَكم على المَذبَحِ لِيُكَفَّرَ بِه عن نُفوسِكُم، لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عنِ النَّفْس" (الأحبار 17: 10-11). أخطأ اليهود كما أخطأ نيقوديمس (يوحنا 3: 4) والمرأة السَّامريَّة (يوحنا 4: 11) وجهلوا معنى كلام يسوع الرُّوحي. يندهش القديس كيرلس الكبير من اليهود الذين آمنوا أنَّه بأكل لحم خروف الفصح ونضْحِ دمه على الأبواب يهرب الموت منهم، ويُحسبوا مقدَّسين، ولن يَعبر بهم المهلك، فكيف لا يؤمنون بأن تناول جسد حمل الله ودمه يهبهم الحياة الأبديَّة! فإنَّ سبب مخاصمة اليهود هو عدم الإيمان، كما يقول أشعيا "إن كنتم لا تؤمنون فلن تفهموا"(أشعيا 7: 9). وقد استخدم بولس الرَّسول تعبير الجسد والدَّم في حديثه عن التَّناول "أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري. وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري" (1 قورنتس 11: 23-26). قال القديس هيلاريون، أسقف بواتييه في هذا الصَّدد: "بخصوص صدق الجسد والدَّم لا يوجد أي مجال للشَّك. فإنَّه الآن بإعلان الرَّب نفسه وإيماننا، هو جسد حقيقي ودم حقيقي. وما يؤكل ويشرب يعبر بنا لكي نكون في المسيح والمسيح فينا". من الصَّواب أن يتأصل الإيمان فينا أولًا، ثم يأتي بعد ذلك الفهم للأمور التي نجهلها.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يوحنا 6: 41-52)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي (يوحنا 6: 41-52) يمكننا الاستنتاج أن النَّص يتمحور حول يسوع خبز الحياة والإفخارستيا. لقد تجادل اللَّاهوتيون لمعرفة ما إذا كانت تأكيدات يسوع في هذا الفصل تعني التَّجسد، أو الإفخارستيا. فالاحتمال الأول لا يعتبر الخبز الحي الذي نزل من السَّماء، إلا كما يعتبر النُّور والرَّاعي والكرمة، وحمل الله، واحد من الرُّموز الكبرى التي يستخدمها يسوع في الإنجيل الرَّابع ليعرض رسالته مع البشر، والأكل منه يعني في هذه الحال الإيمان به، غير إن المعنى القرباني (الإفخارستي) لا يبدوا قابلا للنقاش.  يسوع يظهر نفسه كأنه حياة البشر مقدمة تحت أعراض الخبز والخمر. وسر القربان يُعبر عن هذه الحقيقة التي ندعوها. الإفخارستيا. ومن هنا نتساءل عن مفهوم الإفخارستيا وعن الوعد به وتأسيسه ومفاعيله.

 

1) مفهوم سر الإفخارستيا (القربان الأقدس(

 

الإفخارستيا هي سرٌّ يحضر فيه المسيح حقيقة من خلال جسده ودمه تحت شكلي الخبز والخمر حيث يقرِّب نفسه للآب السَّماوي بصورة غير دمويَّة، ويَهب المؤمنين نفسه قوتًا لنفوسهم. وسُمي هذا السِّر منذ الأيام للمسيحيَّة "كسر الخبز" وهي العبارة التي استعملها المسيحيون الأوَّلون للدلالة على اجتماعاتهم الإفخارستيا (متى 14: 19)، ثم سُمي "أفخارستيا" وهي كلمة يونانيَّة εὐχαριστέω معناها الشُّكر، وهي تذكرنا بالبركات اليهوديَّة التي كانت تُشيد بأعمال الله: الخلق والفداء والتَّقديس (لوقا 22: 19).

 

عندما تحتفل الكنيسة بالإفخارستيا، ذكرى موت ربّنا وقيامته، يُجعل حاضرًا بالحقيقة هذا الحدث الرَّئيسيُ للخلاص، وهكذا "يتمُّ عمل فدائنا" (نور الأمم 3). وسُمِّيت أيضا "مائدة الرَّب"(1 قورنتس 11: 20) إذ تذكِّر بالعشاء الذي تناوله الرَّب بصحبة تلاميذه عشية آلامه؛ وتسمى "شركة" (1 قورنتس 10: 16-17)، لأننا، بهذا السِّر، نتحد بالمسيح الذي يجعلنا شركاء في جسده ودمه لنكون جسدًا واحدًا. ويُعلق القديس يوستينس: "لا يجوز لأحد أن يشترك فيه ما لم يؤمن بحقيقة ما يُعلَّم عندنا، وما لم يحظ بالغسل لمغفرة الخطايا والحياة الجديدة، وما لم يتقيَّد، في حياته، بوصايا المسيح" (يوستينس دفاع 1: 66). وسُمِّي أيضا "الذَّبيحة المقدسة" (عبرانيَّين 13: 15)، لأنَّه في الإفخارستيا يُعطينا المسيح جسده عينه الذي بذله لأجلنا على الصَّليب، وهذا الدَّم عينه "أراقه مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس لِغُفرانِ الخَطايا" (متى 28:26). وسر الإفخارستيا الذي نأكل فيه جسد المسيح ونشرب دمه هو امتداد لذبيحة الصَّليب. وكل قداس هو نفس الذبيحة. وسُمي "القربان الأقدس" و"مائدة الخلاص" و"خبز الملائكة" و"خبز السَّماء" و"الزَّاد الأخير".

 

يتمُّ حضور شخص المسيح ربنا بطبيعته الإلهيَّة والإنسانيَّة في الإفخارستيا، سواء أكان تحت شكل الخبز أم شكل الخمر، ويكون في كل منهما جوهريًا، أي مجردًا عن أعراض اللون والهيئة والثُّقل...كما جاء في تعليم المجمع الكنيسي: "وفي الإفخارستيا يحضر جسد المسيح ودمه حقيقة وفعلا وجوهريا مع نفسه ولاهوته وبالتَّالي المسيح كاملا" (مجمع ترانت D. 883).  فالغاية من الإفخارستيا هي إن يكون يسوع قربانًا لله بدلاً من قرابين العهد القديم من أجل إن يكون طعامًا روحيًا تتناوله النُّفوس لتغذية الحياة الفائقة الطَّبيعة الكائنة فيها.

 

تمّت الإشارة في أسفار العهد القديم إلى الإفخارستيا بصور عديدة، أهمها: شجرة الحياة في الفردوس الأرضي (تكوين 2: 9)، ذبيحة إبراهيم (تكوين 22: 2) وذبيحة ملكيصادق (تكوين 14: 18)، والمَنّ في البَرِّية (خروج 16: 31)، وخبز التَّقدمة في الهيكل (دانيال 5: 2)، ومختلف ذبائح العهد القديم، ولا سيما الحمل الفصحى (خروج 12: 4). وبيّنَ العلامة اللَّاهوتي توما الأكويني سمو الإفخارستيا على الأسرار كلها: بمضمونه، فهو ليس، كغيره من الأسرار، قوة يمنحها المسيح لتولي النِّعمة، بل المسيح هو نفسه، ينبوع النِّعم. فالإفخارستيا تحتوي على كنز الكنيسة الرُّوحي بأجمعه، أي على المسيح بالذَّات، ويعلق البابا بندكتس السَّادس: "في الإفخارستيا لا يُعطنا يسوع "شيئًا ما"، بل يُعطي نفسه. هو يُقدّم جسده ويهرق دمه. وهكذا يُعطينا مجمل كيانه" (سر المحبة، 7)؛ لذا وصفها المجمع الفاتيكاني الثَّاني: "منبع الحياة المسيحيَّة وقمّتها" (نور الأمم 11)، ولذا تخضع سائر الأسرار لها خضوعها لغايتها (القديس توما 3/ 65: 3). ونحن نؤمن بسر الإفخارستيا مستندين إلى كلام ربنا يسوع المسيح نفسه، الذي وعد برسمه وقد أوفى بوعده.

 

2) الوعد بالإفخارستيا

 

بعد معجزتي تكثير الخبز والمشي على البحر، اللَّتان مهَّد بهما يسوع للوعد بالإفخارستيا، أجاب اليهود، وقد جاءوه وكلهم رغبةً في معجزة أخرى كتكثير الخبز، فقال لهم: " اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان " (يوحنا 6: 27). وعقب هذا القول الخطاب الإفخارستي تكلم فيه يسوع: أولا بوجه عام عن الخبز الحقيقي الذي ينزل من السَّماء ويعطي العَالَم الحياة الأبديَّة (يوحنا 29-34)، ثم دلّ على نفسه بأنَّه هو هذا الخبز السَّماوي الذي يُعطي الحياة، طالبًا الإيمان بذلك (يوحنا 6: 35-51).

 

أعلن يسوع أخيرًا أن الخبز الحقيقي النَّازل من السَّماء هو جسده، وان نيل الحياة الأبديَّة مرتبط ٌبأكل جسده وشرب دمه (يوحنا 6: 51-58): "أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم. فخاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضًا وقالوا: ((كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه " (يوحنا 6: 51-52). فقالَ لَهم يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة. مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير. 55 لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ. مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه" (يوحنا 6: 53-65). ويبيّن هذا الكلام حضور يسوع الحقيقي وتؤيده البراهين التَّالية:

 

ا) معنى الكلام الطَّبيعي: ولا سيما الألفاظ التي تدل على أشياء، مثل: "جَسَدي طَعامٌ حَقّ "وَدمي شَرابٌ حَقّ (يوحنا 6: 55)؛ ولفظة أَكل باليونانيَّة τρώγων (معناها قضم، مضغ، أكل) يستعمل يوحنا مفردات حسيَّة لوصف الاشتراك في الإفخارستيا (يوحنا 6: 54).

 

ب) صعوبة التَّفسير المجازي: إن كلمة أكل جسده وشرب دمه تعني، في لغة الكتاب المقدس بالمعنى المجازي: طارده دمويا وفتك به (المزمور 2:27؛ أشعيا 20:9؛ 26:49؛ ميخا 3:3) ولا يجوز تطبيقه هنا في نص يوحنا الإنجيلي (يوحنا 6: 22-66).

 

ج) فهم السَّامعين لمعنى الكلام: لم يُصحِّح يسوع الوجه الذي عليه فهم السَّامعون كلامه، كما كان يفعل عادة كلما التبس على سامعيه كلامه وأخطأوا فهمه (يوحنا 3:3؛ 32:4).

 

د) تفسير الآباء: إنهم جميعًا يطلقون الفقرة الأخيرة من خطاب الوعد (يوحنا6: 51-58) على الإفخارستيا، كالقديس يوحنا الذَّهبي الفم، والقديس كيرلس الإسكندري، والقديس أوغسطينوس، وتفسير مجمع ترانت (D. 875، 930).

 

 

3)  تأسيس الإفخارستيا 

 

لم يكتفِ يسوع بوعد الإفخارستيا بل أسَّسه. لما عرف الرَّب يسوع أن ساعته قد حانت ليمضي من هذا العَالَم ويعود إلى أبيه، وضع الإفخارستيا تذكارًا لموته وقيامته، وأمر رسله بان يصنعوها إلى يوم عودته "جاعلا إياهم كهنة العهد الجديد".

 

وُلدت الكنيسة يوم العنصرة ولكن اللَّحظة الحاسمة في تشكيل الكنيسة كان تأسيس سرّ الإفخارستيّا في العليّة (كنيسة الإفخارستيا فقرة 5). "أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها" (1 قورنتس 11: 23)، أسَّس ذبيحة جسده ودمه الإفخارستي. لقد تسلّمت الكنيسة الإفخارستيا من المسيح ربّها، عطيّة ذاته، عطيّةُ شخصه في إنسانيّته المقدَّسة، وعطيّة تدبيره الخلاصيّ. وتدبيره هذا لا يبقى محصورًا في الماضي، "لأن الرَّب يسوع المسيح كلَّه بهويّته وبكلّ ما صنعه وكابده في سبيل النَّاس أجمعين يشترك في الأبديّة الإلهية ويُشرف هكذا على جميع الأزمان" (التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، العدد 1085).

 

اختار يسوع زمن الفصح لتحقيق ما وعد به في كفرناحوم: أن يعطي تلاميذه جسده ودمه (لوقا 7: 22-27). ويُعلق توما الأكويني: " قد أراد الرَّبّ أن يُحفر هذا الحبّ الفائق في قلوب المؤمنين بشكل أعمق. لذا، خلال العشاء الأخير، وبعد أن احتفل بالفصح مع تلاميذه، حين كان سينتقل من هذا العَالَم إلى أبيه، أسّس هذا السَّرّ كذكرى دائمة لآلامه، وكتحقيق للنبوءات السَّابقة، وكأعظم المعجزات".  ماذا كان من الممكن أن يفعل الرَّبّ يسوع من أجلنا أكثر ممّا فعل؟ في سرّ الإفخارستيّا يُظهر الرَّبّ يسوع حُبًّا يذهب إلى أبعد الحدود ولا يعرف أي مقياس" (كنيسة الإفخارستيا فقرة 11).

 

حضور الرَّبّ يسوع في سرّ الإفخارستيّا هو حضور حقيقي على أكمل وجه، حيث يكون الرَّبّ يسوع حاضرًا بشكل كاملٍ وتام. واقوى برهان من الكتاب المقدس على حضوره الحقيقي هو في كلام تأسيس سر الإفخارستيا الذي أورده أنجيل متى (متى 26: 26-28)، وإنجيل مرقس (مرقس 14: 22-24)؛ وإنجيل لوقا (لوقا 22: 15-20)؛ والقديس بولس (1 قورنتس 11: 23-25). إنهم مختلفون في بعض الألفاظ، متَّفقون في الموضوع:

 

ا) إن الكلام الذي يقال على الخبز، بالصُّورة المعروفة بالبطرسيَّة التي نقلها إلينا متى ومرقس، هو: "هذا هُوَ جَسَدي" (مرقس 14: 22)؛ وبالصُّورة المعروفة بالبولسيَّة التي نقلها إلينا بولس ولوقا، هو: "هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم" (لوقا 22: 19) فيكون معنى الكلام إذًا أن "ما اقدِّمه لكم هو جسدي الذي يُبذل لأجلكم".

 

ب) أن الكلام الذي يقال على الكأس، بالصُّورة المعروفة بالبطرسيَّة هو (حسب مرقس): "هذا هو دَمي دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس"(مرقس 14: 23)؛ وبالصُّورة المعروفة بالبولسيَّة هو (حسب لوقا): "هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم " (لوقا 22: 20) (ولا يوجد عند بولس: لمغفرة الخطايا). فيكون معنى الكلام إذا: إن ما في هذه الكأس هو دمي الذي ختم به العهد الجديد كما ختم العهد القديم أيضًا بالدَّم "هوذا دم العهد الذي عاهدكم به الرَّب" (الخروج 8:24)، وهذا الدَّم يُسفك لأجلكم.  والتَّكريس في الذَّبيحة الإلهيَّة يُغيّر جوهر الخبز بأكمله إلى جوهر جسد المسيح الرَّبّ، وجوهر الخمر بأكمله إلى جوهر دمه، والكنيسة تدعو هذا التَّغيّر الاستحالة الجوهريَّة (كنيسة الإفخارستيا فقرة 15).

 

نادت الكنيسة الكاثوليكيَّة دائمًا بتاريخيَّة كلام تأسيس الإفخارستيا، وبالحضور الحقيقي ليسوع (مجمع ترانت D. 874). فالكنيسة تعتمد التَّفسير الحرفي لنصِّ يوحنا الإنجيلي (يوحنا 6: 22-66) وليس التَّفسير المجازي الرَّمزي.  والتَّفسير الحرفي يقتضي ما يلي:

 

ا) النَّص: ليس في هذا النَّص ما يدعو إلى حمله على المعنى المجازي. فالخبز والخمر لم يكونا يومًا، لا بطبيعتهما، ولا في عُرف اللَّغة العام، برمزَين للجسد والدَّم. كما ولا يحتمل التَّفسير الحرفي أيه مناقضة، ولا يفترض إلاّ الإيمان بألوهيَّة المسيح.

 

ب) الظُّروف: كان على المسيح إن يكون في متناول عقليَّة الرُّسل الذين فهموا كلامه على الوجه الذي قاله به. وكان عليه، لو أراد ألاَّ تفهم البشريَّة كلامه على غير وجهه، أن يستعمل، لوضع سر الإفخارستيا وإقامة طقس سام وإنشاء العهد الجديد وتدوين وصيته الأخيرة، صيغة من الكلام لا سبيل إلى فهمها على غير وجهها.

 

ج) النَّتائج العمليَّة: التي استنتجها القديس بولس من كلام وضع السَّر. فهو يرى أن تناول الإفخارستيا على خلاف الاستحقاق جرم إلى جسد الرَّب، "فمَن أَكَلَ خُبْزَ الرَّبِّ أَو شَرِبَ كَأسَه ولَم يَكُنْ أَهْلًا لَهما فقَد أذنَبَ إلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِه" (1 قورنتس 27:11). ويُعلق القديس قبريانس (258) "على الذين يتناولون الإفخارستيا دون توبة ولا مصالحة: "انهم يغتصبون جسد الرَّب ودمه، فهم يخطئون الآن إليه باليد والفم، فيأتون جرمًا أكبر من نكرانهم له" (في السَّاقطين 16).

 

تناول الإفخارستيا حسب الاستحقاق هو عبارة عن شركة في جسد المسيح ودمه. أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟ "(1قورنتس 10: 16). "فليَختَبِرِ الإِنسانُ نَفْسَه، ثمَّ يَأكُلْ هكذا مِن هذا الخُبْز ويَشرَبْ مِن هذِه الكَأس. فمَن أَكَلَ وشَرِبَ وهو لا يُمَيِّزُ جَسَدَ الرَّبّ، أَكَلَ وشَرِبَ الحُكْمَ على نَفْسِه" (1 قورنتس 11: 28-29)، إذ لم يميِّز جسد الرَّب.  ويُعلق البابا القديس يوحنا بولس الثَّاني: "تعتبر الإفخارستيّا وجود الوحدة أو الشَّركة بيننا وبين الرَّبّ شيء مُسلّم به. ولهذا فإنّ أيّ شخص يعي وجود خطيئة مميتة في نفسه يجب أن يتقدّم من سرّ التَّوبة قبل التَّقدّم من المناولة "(كنيسة الإفخارستيا فقرة 35 ،36).

 

لم يتردَّد آباء الكنيسة الأوائل في تأكيد حضور يسوع الحقيقي في الإفخارستيا، فيقول القديس يوستينس النَّابلسي (165) واصفًا الاحتفال بالإفخارستيا: "إنَّنا لا نتناول هذا الطَّعام كخبز عمومي وشراب عمومي. ومثلما اتَّخذ يسوع المسيح مخلصنًا، بقوة كلمة الله، جسدًا ودمًا لأجل خلاصنا، كذلك، على ما تعلمناه، الطَّعام الذي كرسته الصَّلاة المأخوذة من كلام المسيح والذي يجب أن يتمثَّله جسدنا ودمنا غذاء، هو جسد ودم يسوع المتجسد" (دفاعه الأول" 2:66). وأمَّا القديس ايرينيوس (202) فيعلن: "إن الخبز الذي تتلى عليه صلاة الشُّكر هو جسد الرَّب، والكأس فيه دمه" (ضد المبتدعين 4: 18: 4). والعلامة ترتليانوس (220) يشهد على الحضور الحقيقي قائلا: "يتغذى جسد (المسيحي) بجسد ودم الرَّب، حتى تتغذى النَّفس بالله" (في قيامه الجسد 8). ولم ينفِ القديس أوغسطينوس الحضور الحقيقي للرب في الإفخارستيا، معلقًا على كلام التَّقديس، شاهدًا مع الكنيسة الأولى على الإيمان بالحضور الحقيقي: "هذا الخبز الذي ترونه على المذبح، وقد قدَّسه كلام الله، هو جسد المسيح؛ وهذه الكأس، أو بالحري ما في هذه الكأس، وقد قدَّسه كلام الله، هو دم المسيح" (العظة 227). وأيضًا: "كان المسيح يحمل نفسه بيديه حين قال وهو يقدِّم لنا جسده: هذا هو جسدي" (في تفسيره للمزمور 33، العظة 10:1).

 

جاءت طقوس الليتورجيا القديمة تدعم شهادة الآباء. ففيها دعوة للرُّوح القدس، لينزل بصلاة الابيكليس "ويجعل الخبز جسد المسيح والخمر دم المسيح". ويمكث يسوع تحت شكل الخبز وتحت شكل الخمر، ما دامت الأشكال سليمة من الفساد والإتلاف. وحينما يحل الفساد والإتلاف في أشكال، يفارقها ربنا المسيح ولا يمكث فيها.

 

 

4) مفاعيل الإفخارستيا 

 

من اهم مفاعيل الإفخارستيا في حياة المؤمنين هي الحياة الأبديَّة، وقيامة الجسد، والوحدة الأخويَّة وفوائد روحيَّة أخرى.

 

أ) الحياة الأبديَّة: يَعد يسوع في نص إنجيل يوحنا بالحياة الأبديَّة: "إِنَّ الخُبزَ النَّازِلَ مِنَ السَّماء هوَ الَّذي يأكُلُ مِنه الإِنسانُ ولا يَموت. أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد" (يوحنّا 6: 50-51). ونحن لا نأكل جسده الميت، فهذا هو ما يسمى الأكل من لحوم البشر، ولكن الأكل سيكون من جسده الحَي الذي قام من الأموات. ولذلك ربط المسيح الأكل من جسده بالحياة الأبديَّة لمن يأكل. فالجسد الذي نأكله فيه حياة أبديَّة.  وما قاله المسيح هنا كان متفقًا مع تعاليم الرَّابيَّين، ففي تفسيرهم قالوا "إن من يخدم الرَّب حتى الموت سيستحق خبز العَالَم الآتي". والعَالَم الآتي في تعاليم اليهود يعني زمن الخلاص. ويُعلق البابا القدّيس يوحنا بولس الثَّاني: " إنّ الّذين يأكلون المسيح الرَّبّ في سرّ الإفخارستيّا ليس بحاجة إلى الانتظار حتّى الحياة الآتيَّة كي يحصل على الحياة الأبديَّة، فهم يمتلكونها منذ الآن كالثِّمار الأولى للامتلاء في المستقبل. ويقول التَّعليم المسيحي: "في الإفخارستيا نتناول يسوع إذا، وتمتلئ النَّفس المنعمة، وتُعطى عربون المجد الآتي" (بند 1323).

 

ب) قيامة الجسد: لقد وعد يسوع بقيامة الجسد "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54). "نحن نحصل، في سرّ الإفخارستيّا، على الوعد بقيامتنا الجسديّة في نهاية العَالَم" كما يعلق البابا يوحنا بولس الثَّاني (كنيسة الإفخارستيا فقرة 18).

 

ج) الوحدة الأخويَّة: نحن جميعًا نتّحد ببعضنا بواسطة الإفخارستيّا، ومع كوننا كثيرين فنحن نُتقاسم الخبز الواحد كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: " أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟  فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد" (1 قورنتس 10: 16-17). ويُعلق البابا القديس يوحنا بولس الثَّاني: " يتكوّن الخبز من حبّات قمح كثيرة ولكن في الخبز لا يظهر الاختلاف بينها، وبالمثل نحن ننضمّ إلى بعضنا البعض ونتّحد في المسيح الرَّبّ من خلال الإفخارستيّا (كنيسة الإفخارستيا فقرة 23). وكتب القدّيس كيرّلس الإسكندري: "كما أننا حينما نجمع بين قطعتين من الشَّمع ونجعلهما تذوبان باستعمال النَّار، فتُشكّلان شيئًا واحدًا، يحدث نفس الشَّيء في المشاركة في جسد المسيح وفي دمه الثَّمين". ليس هناك، في الحقيقة، لا سعادة أعظم من تناول المسيح ذاته.

 

د) فوائد روحيَّة كثيرة: ينتج عن سرّ الإفخارستيّا، في الحياة الرُّوحيّة، أثارًا أخرى. فهي تُقوّي وتُقصي الضَّعف والموت، وتُحرّر من الخطايا العرضيّة الّتي تُسبّب ضعف ومرض النَّفس، وتحفظ من الخطايا المميتة الّتي تُسبب موتها وننتصر على التَّجارب، وننمو في حياة النَّعمة التي نلناها في سر العماد، وتُجدّد قوانا وتقوّي عافيتنا، وتُوفِّر لنا الطَّاقة الأزمة للعمل الرَّسولي والحياة المسيحيَّة وتقوّي المناعة ضد الخطيئة وتجارب الشَّيطان. وتغتني النَّفس عن طريق إفاضة أعظم للفضائل فيها لأنَّ: "الاشتراك في جسد المسيح ودمه لا يفعل شيئًا سوى تحويلنا إلى ما نحن نتناوله" (البابا بولس السَّادس)، وعلى حد تعبير القديس أوغسطينوس: " من يحسن التَّناول يُصبح ما يأكل". ويلخص القديس يوحنا الذَّهبي الفم فوائد التَّناول بقوله: "يكون للذين يشتركون فيهما (جسد الرَّب ودمه) رزانة النَّفس، غفران الخطايا، شركة الرُّوح، بلوغ ملكوت السَّماء، الدَّالة لديه، وليس للحكم والدَّينونة"؛ ومن يقبل في الإيمان عطيَّة يسوع الإفخارستيا، إنَّما يقبله هو نفسه.

 

نستنتج مما سبق أن يسوع جاء ليحمل إلينا ما هو أكثر من الاحتياجات الماديَّة، جاء ليفتح حياتنا على أفق أوسع مقارنة بالقلق اليومي من أجل المأكل والملبس والمسيرة المهنيَّة وما شابه. جاء ليمنحنا "خبز الحياة ليُشبع جوع الإنسان للحقيقة والعدالة والمحبَّة، جاء ليُشبع لا الأجساد فقط، بل النُّفوس أيضًا، وتعلق القديس تريزا دي كالكوتا: "نحن جميعًا نعرف، من خلال النَّظر إلى الصَّليب، إلى أيّ مدى أحبّنا الرَّب يسوع. حين ننظر إلى القربان المقدّس، نعرف كم يحبّنا الآن". لذا، جعل يسوع نفسه خبز حياة لإشباع جوعنا لمحبّته.  فإذا طبَّقنا معاني الإفخارستيا نعيش حياتنا المسيحيَّة على الوجه الأصح. ولهذا، فإن القربان الأقدس هو أعظم الأسرار، بل هو مركز وقمّة جميع الأسرار الأخرى. وهكذا ينبغي أن تكون الإفخارستيا محور حياتنا المسيحيَّة ونقطة ارتكازها بحيث تصبح جميع تصرفاتنا قربان يليق بالله ومجده الأزلي. يعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثَّاني: "ما الذي كان يمكن أن يفعله الرَّب يسوع أكثر من أجلنا؟ في الإفخارستيا، يُظهر لنا حبًّا يصلُ "إلى النِّهاية" (يوحنا 13: 1)، حبًّا لا يعرف مقدارًا" (الرَّسالة العامّة: الإفخارستيّا حياة الكنيسة، العدد 11)

 

 

الخلاصة

 

ليس يسوع هو خبز الكلمة وخبز الإفخارستيا فحسب، إنما هو أيضًا خبز الحياة. ومن هنا نسأل: ما هي الحياة؟ وما معنى يسوع خبز الحياة. أعترض اليهود على قول يسوع أنَّه الخبز الذي نزل من السَّماء، وذلك بسبب نشأته الوضيعة وولادته البشريَّة (يوحنا 41-42)، فأجابهم يسوع بكلام يخص بركة أولئك الذين يؤمنون به حقًا، الذين يجتذبهم الآب سيأتون إليه، ومثل هذه الإنارة تأتي عن طريق عمل الله نفسه (يوحنا 43-51).

 

قال المسيح:" أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم" (يوحنا 6: 51﴾. ومع أنَّ الخبز طعام أساسي وضروري لا يستغني عنه الإنسان إلا أنه "ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله "(متى 4:4﴾. إنّ المسيح لم يقدِّم لنا طعامًا ماديًا، لكنَّه قدَّم لنا جسده هو: "الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي" باعتباره الخبز الحي الذي نزل من السَّماء، الخبز الذي يهب حياة أبدية لكل من يأكله، إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والمسيح هو كلمة الله المتجسد، المن السَّماوي الواهب حياة للعَالَم. خبز حياتنا، وطعامنا اليومي، الطَّعام الذي به "نحيا ونتحرك ونوجد". يسوع هو خبز الحياة اليوم. نحن نحيا منه اليوم، ونحيا ملء الحياة كما جاء في تصريح العلامة أوغسطينوس: "أنت المسيح الحياة الأبديَّة عينها، تهبها في جسدك ودمك فقط اللذين هما أنت".

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، يا من أرسلت يسوع ابنك الوحيد، خبز الحياة إلى العَالَم كي يغدِّينا ويسندنا في هذه الحياة، وفي الأبديّة. أنت وحدك تستطيع أن تَجذبنا إلى ابنك، أنت وحدك تستطيع أن تقودنا إليك. ليتنا نجوع دائمًا للخبز الحقيقي، الّذي ينزل من السَّماء، وأن نجد فيه التَّغذية والقوّة الّتي نحن بحاجة إليها كي نحبّك ونخدمك كلّ أيّام حياتنا مردِّدين مع صلاة الكنيسة "يا لك من وليمة مقدّسة، فيها نتناول المسيح غذاء وتمتلئ نفوسنا نعمة، وتنال عربون الحياة الأبديَّة".  آمين