موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤

العَائِلة المُقدَّسَة وأُسْلوبُ تَرْبيَتِها

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الأوَّل بَعد المِيلاد: العَائِلة المُقدَّسَة وأُسْلوبُ تَرْبيَتِها (لوقا 2: 41-52)

الأحد الأوَّل بَعد المِيلاد: العَائِلة المُقدَّسَة وأُسْلوبُ تَرْبيَتِها (لوقا 2: 41-52)

 

النَّص الإنجيلي (لوقا 2: 44-52)

 

41 وكانَ أَبَواهُ يَذهَبانِ كُلَّ سَنَةٍ إلى أُورَشَليمَ في عيدِ الفِصْح. 42 فلَمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، صَعِدوا إِلَيها جَرْياً على السُّنَّةِ في العيد. 43 فَلَمَّا انقَضَت أَيَّامُ العيدِ ورَجَعا، بَقيَ الصَّبيُّ يسوعُ في أُورَشَليم، مِن غَيِر أَن يَعلَمَ أَبَواه. 44 وكانا يَظُنَّانِ أَنَّه في القافِلة، فَسارا مَسيرَةَ يَومٍ، ثُمَّ أَخذا يَبحَثانِ عَنهُ عِندَ الأَقارِبِ والـمَعارِف. 45 فلَمَّا لَم يَجداه، رَجَعا إلى أُورَشَليمَ يَبحَثانِ عنه. 46 فَوجداهُ بَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الـهَيكَل، جالِساً بَينَ المُعَلِّمين، يَستَمِعُ إِلَيهم ويسأَلُهم. 47 وكانَ جَميعُ سَامِعيهِ مُعجَبينَ أَشَدَّ الإِعجابِ بِذَكائِه وجَواباتِه. 48 فلَمَّا أَبصَراه دَهِشا، فقالَت لَه أُمُّه: ((يا بُنَيَّ، لِمَ صَنَعتَ بِنا ذلك؟ فأَنا وأَبوكَ نَبحَثُ عَنكَ مُتَلَهِّفَيْن)) 49 فقالَ لَهُما: ((ولِمَ بَحثتُما عَنِّي؟ أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟)) 50 فلَم يَفهَما ما قالَ لَهما.51 ثُمَّ نَزلَ مَعَهما، وعادَ إلى النَّاصِرَة، وكانَ طائِعاً لَهُما، وكانَت أُمُّه تَحفُظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها. 52 وكانَ يسوعُ يَتسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس.

 

 

مُقدِّمة

 

يَصِفُ لوقا الإنجيليُّ يَسوعَ في الهَيْكَلِ بَيْنَ العُلَماءِ مُتَفَوِّهًا بِأَقْوَالِهِ الأُولَى: مُنْذُ بُلُوغِ وَعْيِهِ الإنسانيِّ، عَرَفَ يَسُوعُ أَنَّهُ الابْنُ، وَأَنَّ رِسَالَتَهُ تَكْمُنُ فِي مَا هُوَ لِلْآبِ السَّمَاوِيِّ، حَيْثُ يُصْبِحُ كُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ أَمْرًا نِسْبِيًّا وَثَانَوِيًّا (لوقا ٢: ٤٤-٥٢). وَدَلَّ يَسُوعُ، أَثْنَاءَ حَجِّهِ إِلَى هَيْكَلِ أُورُشَلِيمَ، عَلَى عَلاقَتِهِ البَنَوِيَّةِ مَعَ اللهِ. وَمَعَ ذَلِكَ، تَصَرَّفَ يَسُوعُ، ابْنُ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ، كَابْنٍ: ابْنُ اللهِ، وَابْنُ مَرْيَمَ العَذْرَاءِ. يُعَلِّقُ الفَيْلَسُوفُ الرُّوسِيُّ فِيودُور دُوستُويِفْسْكِي قَائِلًا:"لَا شَيْءَ (وَلَا أَحَدَ!) أَكْثَرُ جَمَالًا، وَأَكْثَرُ عُمْقًا، وَأَكْثَرُ رِقَّةً، وَأَكْثَرُ حِكْمَةً، وَأَكْثَرُ شَجَاعَةً، وَأَكْثَرُ مِثَالِيَّةً مِنَ المَسِيحِ!" وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 2: 44-52)

 

41 وكانَ أَبَواهُ يَذهَبانِ كُلَّ سَنَةٍ إلى أُورَشَليمَ في عيدِ الفِصْح.


تُشيرُ عِبَارَةُ "أَبَوَاهُ" إِلَى العَذْرَاءِ لِأَنَّهَا حَمَلَتْهُ، وَيُوسُفَ الَّذِي خَدَمَهُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُس الأُورُشَلِيمِيُّ قَائِلًا:"كَمَا أَنَّ مَرْيَمَ دُعِيَتْ أُمًّا لِيُوحَنَّا الإِنْجِيلِيِّ فِي المَحَبَّةِ وَلَيْسَ لِأَنَّهَا أَنْجَبَتْهُ، هَكَذَا دُعِيَ يُوسُفُ أَبًا للْمَسِيحِ لَا لِأَنَّهُ أَنْجَبَهُ، وَإِنَّمَا لِاهْتِمَامِهِ بِإِعَالَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ." أَمَّا عِبَارَةُ "يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الفِصْحِ" فَتُشِيرُ إِلَى مَا تَفْرِضُهُ الشَّرِيعَةُ المُوسَوِيَّةُ، الَّتِي تَقْتَضِي الحَجَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ إِلَى الهَيْكَلِ فِي أُورُشَلِيمَ، فِي عِيدِ الفِصْحِ، وَعِيدِ الخَمْسِينَ، وَعِيدِ المَظَالِّ، كَمَا وَرَدَ فِي العَهْدِ القَدِيمِ: "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ، يَحْضُرُ جَمِيعُ ذُكْرَانِكَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلَهِكَ فِي المَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ: فِي عِيدِ الفَطِيرِ، وَفِي عِيدِ الأَسَابِيعِ، وَفِي عِيدِ الأَكْوَاخِ، وَلَا يَحْضُرُوا أَمَامَ الرَّبِّ فَارِغِينَ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 16: 16). لَعَلَّ لُوقَا الإِنْجِيلِيَّ يَسْتَوْحِي هُنَا السِّيَاقَ مِنْ سِفْرِ صَمُوئِيلَ: "وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَصْعَدُ مِنْ مَدِينَتِهِ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَسْجُدَ وَيَذْبَحَ لِرَبِّ القُوَّاتِ فِي شِيلُو. وَكَانَ هُنَاكَ ابْنَا عَالِي، حُفْنِي وَفِنْحَاسُ، كَاهِنَيْنِ لِلرَّبِّ" (1 صَمُوئِيلَ 3: 3 و7). لَمْ يَكُنِ الحَجُّ مَفْرُوضًا عَلَى النِّسَاءِ وَلَا مَمْنُوعًا عَلَيْهِنَّ، وَالأَرْجَحُ أَنَّ النِّسَاءَ التَّقِيَّاتِ كَثِيرًا مَا رَافَقْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِلَى هُنَاكَ (1 صَمُوئِيلَ 1: 7/ 22، 24). وَقَالَ هِلِّيلُ الرَّبَّانِيُّ المَشْهُورُ بِوُجُوبِ حُضُورِ النِّسَاءِ فِي أُورُشَلِيمَ عِيدَ الفِصْحِ كُلَّ سَنَةٍ. وَالأَرْجَحُ أَنَّ مَرْيَمَ قَصَدَتْ أُورُشَلِيمَ حُبًّا بِاللهِ وَلِبَيْتِهِ طَوْعًا. وَإِنْ كَانَ يَسُوعُ تَرَبَّى تَرْبِيَةَ أَوْلَادِ عَصْرِهِ مِنَ اليَهُودِ، فَلَا بُدَّ أَنَّهُ عِنْدَمَا بَلَغَ الثَّلَاثَةَ مِنْ عُمُرِهِ لَبِسَ ثَوْبًا عَلَى هُدْبِ ذَيْلِهِ عِصَابَةٌ مِنَ البِرْفِيرِ البَنَفْسَجِيِّ كَمَا وَرَدَ فِي أَمْرِ اللهِ: "خَاطَبَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُرْهُمْ أَنْ يَصْنَعُوا لَهُمْ أَهْدَابًا عَلَى أَذْيَالِ ثِيَابِهِمْ مَدَى أَجْيَالِهِمْ، وَيَجْعَلُوا عَلَى هُدْبِ الذَّيْلِ سِلْكًا مِنَ البِرْفِيرِ البَنَفْسَجِيِّ. فَيَكُونَ ذَلِكَ لَكُمَا هُدْبًا فَتَرَوْنَهُ وَتَذْكُرُونَ جَمِيعَ وَصَايَا الرَّبِّ وَتَعْمَلُونَ بِهَا" (عَدَد 15: 37-39). وَلَمَّا بَلَغَ سِنَّ الخَامِسَةِ، اسْتَظْهَرَ بَعْضَ أَجْزَاءِ الشَّرِيعَةِ مِثْلَ "الشَّمَعَةِ": "لَا تَزِيدُوا كَلِمَةً عَلَى مَا آمُرُكُمْ بِهِ وَلَا تَنْقُصُوا مِنْهُ، حَافِظِينَ وَصَايَا الرَّبِّ إِلَهِكُمْ الَّتِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهَا" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 4: 222). كَمَا اسْتَظْهَرَ الهِلِّيلَ (مَزْمُورَ 126: 114-118). وَعِنْدَمَا بَلَغَ سِنَّ الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ، مَارَسَ كُلَّ طُقُوسِ الشَّرِيعَةِ المُوسَوِيَّةِ مِثْلَ زِيَارَةِ أُورُشَلِيمَ فِي الأَعْيَادِ وَتَعَلُّمِ صِنَاعَةٍ يَدَوِيَّةٍ كَسَائِرِ الأَوْلَادِ اليَهُودِ مِنْ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءِ، وَأَصْبَحَ "ابْنَ النَّامُوسِ." أَمَّا عِبَارَةُ "عِيدِ الفِصْحِ" فَتُشِيرُ إِلَى أَحَدِ أَعْيَادِ الحَجِّ، وَهُوَ إِحْيَاءٌ لِذِكْرَى إِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ (خُرُوجِ 12: 1-12). وَكَانَ اليَهُودُ يَقْضُونَ فِي أُورُشَلِيمَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مِنْ عِيدِ الفِصْحِ إِلَى عِيدِ الفَطِيرِ. كَانُوا يَأْكُلُونَ خَرُوفَ الفِصْحِ فِي اليَوْمِ الأَوَّلِ، وَخُبْزَ الفَطِيرِ فِي الأَيَّامِ السَّبْعَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ عِيدُ الفِصْحِ أَحْيَانًا بِعِيدِ الفَطِيرِ (خُرُوجِ 12: 15). هَذَا الْحَدَثُ يُظْهِرُ احْتِرَامَ عَائِلَةِ يَسُوعَ لِلشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، إِذْ كَانُوا يَذْهَبُونَ سَنَوِيًّا إِلَى أُورُشَلِيمَ لِحُضُورِ عِيدِ الْفِصْحِ. يُشِيرُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ يَسُوعَ نَشَأَ فِي بِيئَةٍ دِينِيَّةٍ مُلْتَزِمَةٍ. وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ النَّمُوذَجُ الْأَسْمَى فِي الِالْتِزَامِ بِالشَّرِيعَةِ وَالتَّقْوَى، مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى جَوْهَرِ الْإِيمَانِ.الِاقْتِدَاءُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ نُفَعِّلَ إِيمَانَنَا فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ، وَلَيْسَ فَقَطْ فِي الْأَعْيَادِ. أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الْمُمَارَسَةِ الدِّينِيَّةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَخَاصَّةً فِي الْأَعْيَادِ الْكُبْرَى؟

 

42 لَمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، صَعِدوا إِلَيها جَرْياً على السُّنَّةِ في العيد

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً" إِلَى سِنِّ البُلُوغِ الدِّينِيِّ القَانُونِيِّ حَسَبَ الدِّينِ اليَهُودِيِّ، حَيْثُ يُصْبِحُ الوَلَدُ בַּר מִצְוָה، أَيْ ابْنَ الوَصِيَّةِ، بِمَعْنَى "ابْنَ التَّوْرَاةِ" أَوْ "ابْنَ الشَّرِيعَةِ". وَهُوَ العُمُرُ الَّذِي يُصْبِحُ فِيهِ الصَّبِيُّ اليَهُودِيُّ عُضْوًا فِي الجَمَاعَةِ اليَهُودِيَّةِ، وَمُؤَهَّلًا لِقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ أَمَامَ الشَّعْبِ، وَمُكَلَّفًا بِتَأْدِيَةِ جَمِيعِ الفَرَائِضِ المَفْرُوضَةِ عَلَيْهِ حَسَبَ الشَّرِيعَةِ اليَهُودِيَّةِ. مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، كَانَ يَسُوعُ يَنْمُو فِي الجِسْمِ وَالعَقْلِ وَالرُّوحِ، كَمَا وَرَدَ:"وَكَانَ الطِّفْلُ يَتَرَعْرَعُ وَيَشْتَدُّ مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ" (لُوقَا 2: 40). كَانَتْ طَبِيعَةُ يَسُوعَ الإِنسَانِيَّةُ تَامَّةً وَكَامِلَةً فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِ النُّمُوِّ، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ، أَيْ مَجْدُ اللهِ، ظَاهِرَةً فِيهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "صَعِدُوا إِلَيْهَا جَرْيًا عَلَى السُّنَّةِ فِي العِيدِ" فَتُشِيرُ إِلَى صُعُودِ يَسُوعَ مَعَ وَالِدَتِهِ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الفِصْحِ، لِأَوَّلِ مَرَّةٍ لِزِيَارَةِ بَيْتِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ. وَيُسْتَنْتَجُ مِنْ هَذَا أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُنْذُ خِتَانِهِ وَتَقْدِيمِهِ لِلْفِدَاءِ. رَافَقَ يَسُوعُ وَالِدَيْهِ، مَرْيَمَ وَيُوسُفَ، إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُشَارِكَهُمَا فِي إِتْمَامِ فُرُوضِ العِيدِ. وَكَانَتِ المَسَافَةُ بَيْنَ النَّاصِرَةِ وَأُورُشَلِيمَ نَحْوَ 129 كِيلُومِتْرًا (80 مِيلًا)، وَكَانَ يَقْطَعُهَا الرَّاكِبُ عَلَى فَرَسٍ فِي ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. في القافلة. أَمَّا عِبَارَةُ "جَرْيًا عَلَى السُّنَّةِ" فَتُشِيرُ إِلَى الفَرِيضَةِ عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ، بِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ، أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي العَامِ لِلاِحْتِفَالِ بِالأَعْيَادِ الكُبْرَى، كَمَا وَرَدَ:"ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ يَحْضُرُ جَمِيعُ ذُكْرَانِكَ أَمَامَ الرَّبِّ إِلَهِكَ فِي المَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ: فِي عِيدِ الفَطِيرِ، وَفِي عِيدِ الأَسَابِيعِ، وَفِي عِيدِ الأَكْوَاخِ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 16: 16). إِنَّ يَسُوعَ احْتَفَلَ بِالأَعْيَادِ اليَهُودِيَّةِ، وَسَرْعَانَ مَا أَخَذَ يُبَيِّنُ أَنَّ شَخْصَهُ وَعَمَلَهُ هُمَا مَا يُعْطِيَانِ لِلأَعْيَادِ مَعْنَاهَا الكَامِلَ، كَمَا هُوَ الحَالُ فِي: عِيدِ المَظَالِّ (يُوحَنَّا 7: 37-39)، عِيدِ التَّدْشِينِ (يُوحَنَّا 10: 22-38). وَخَاصَّةً عِيدِ الفِصْحِ، حَيْثُ خَتَمَ يَسُوعُ عَهْدَ ذَبِيحَتِهِ الجَدِيدَةِ فِي إِطَارٍ فِصْحِيٍّ (يُوحَنَّا 13: 1-19). غَالِبًا مَا يَتَحَوَّلُ الِاحْتِفَالُ بِالْأَعْيَادِ إِلَى طُقُوسٍ ظَاهِرِيَّةٍ أَوْ عَادَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ، وَقَدْ نَنْسَى الْهَدَفَ الرُّوحِيَّ الْعَمِيقَ مِنْهَا.

 

 43 فَلَمَّا انقَضَت أَيَّامُ العيدِ ورَجَعا، بَقيَ الصَّبيُّ يسوعُ في أُورَشَليم، مِن غَيِر أَن يَعلَمَ أَبَواه.

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "فَلَمَّا انقَضَت أَيَّامُ العِيدِ" إِلَى مُدَّةِ أَيَّامِ العِيدِ الثَّمَانِيَةِ، وَكَانَ الاِحْتِفَالُ بِعِيدِ الفِصْحِ يَشْمَلُ عِيدَ الفَطِيرِ، وَكَانَ يُقَامُ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ. كَانَ اليَهُودُ يَأْكُلُونَ خَرُوفَ الفِصْحِ فِي اليَوْمِ الأَوَّلِ، وَخُبْزَ الفَطِيرِ فِي الأَيَّامِ السَّبْعَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ عِيدُ الفِصْحِ أَحْيَانًا "عِيدَ الفَطِيرِ" (خُرُوجُ 12: 15). بَقيتْ العَائلة المُقدَّسة هناكَ الأيَّامَ اللازِمةَ لِلمُشاركةِ في طُقوسِ العيدِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "بَقِيَ الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورَشَلِيمَ" فَتُشِيرُ إِلَى عِلَاقَةِ يَسُوعَ بِالآبِ السَّمَاوِيِّ، الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِقَطْعِ كُلِّ شَيْءٍ عَنِ الأُسْرَةِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ لَا يَلْتَحِقُ بِالقَافِلَةِ الَّتِي تَعُودُ إِلَى النَّاصِرَةِ، بَلْ يَخْتَارُ البَقَاءَ وَحْدَهُ فِي أُورُشَلِيمَ، دونَ عِلمِ أحدٍ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينُوس قَائِلًا: "إِنَّ اللهَ لَا يَبْتَعِدُ عَنِ الإِنْسَانِ، بَلِ الإِنْسَانُ هُوَ الَّذِي يَبْتَعِدُ عَنِ اللهِ، حَيْثُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَقِيسُ المَسَافَةَ عِنْدَمَا يَبْتَعِدُ عَنِ اللهِ بِرُؤْيَةٍ بَشَرِيَّةٍ، وَيَظُنُّ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَبْتَعِدُ عَنْهُ." أَمَّا عِبَارَةُ "مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَبَوَاهُ" فَتُشِيرُ إِلَى بَقَاءِ يَسُوعَ فِي الهَيْكَلِ، فِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ رَحِيلِ القَافِلَةِ، وَذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ بَعْضِ المَفَاهِيمِ وَالعَادَاتِ العَائِلِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا هَرَبًا وَلَا رَغْبَةً فِي الحُرِّيَّةِ وَالاِسْتِقْلَالِ عَنْ عَائِلَتِهِ، بَلْ حُبًّا لِلْعَمَلِ بِمَشِيئَةِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ. كَانَ يَسُوعُ مُسْتَغْرِقًا فِي النِّقَاشِ مَعَ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ أَبَوَيْهِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ لَيْسَا مَرْجِعِيَّتَهُ، إِنَّمَا الآبُ السَّمَاوِيُّ. إِنَّهُ بَالِغٌ وَرَاشِدٌ، وَيُطِيعُ أَبَاهُ أَوَّلًا السَّمَاوِيَّ.

 

 44وكانا يَظُنَّانِ أَنَّه في القافِلة، فَسارا مَسيرَةَ يَومٍ، ثُمَّ أَخذا يَبحَثانِ عَنهُ عِندَ الأَقارِبِ والـمَعارِف.

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "القافِلَةِ" فِي اليُونَانِيَّةِ συνοδίᾳ (مَعْنَاهَا الرِّفْقَةُ) إِلَى فَوْجٍ مِنَ الحُجَّاجِ الجَلِيلِيِّينَ المُسَافِرِينَ فِي قَافِلَةٍ، حَيْثُ كَانَتِ العَادَةُ أَنْ يُسَافِرَ الحُجَّاجُ فِي قَوَافِلَ خَوْفًا مِنَ اللُّصُوصِ. وَكَانَ مِنَ المُعْتَادِ أَنْ يَكُونَ الأَطْفَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي المُقَدِّمَةِ، أَمَّا الرِّجَالُ فَكَانُوا فِي المُؤَخِّرَةِ لِحِمَايَتِهِمْ. وَلَعَلَّ الصَّبِيَّ فِي الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ كَانَ لَهُ الحَقُّ فِي السَّيْرِ مَعَ أَيٍّ مِنَ المَجْمُوعَتَيْنِ. وَلِذَلِكَ ظَنَّ يُوسُفُ أَنَّهُ فِي جَمَاعَةِ المُقَدِّمَةِ، وَحَسِبَتْ مَرْيَمُ أَنَّهُ فِي المُؤَخِّرَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَسَارَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ" فَتُشِيرُ إِلَى مَسَافَةٍ يَسِيرُهَا الإِنْسَانُ فِي النَّهَارِ (تَكْوِينُ 31: 23، وَخُرُوجُ 3: 18). أَمَّا عِبَارَةُ "يَبحَثَانِ عَنهُ" فَتُشِيرُ إِلَى البَحْثِ عَنْ يَسُوعَ لَدَى نُزُولِ القَافِلَةِ مَسَاءً وَاجْتِمَاعِ كُلِّ عَائِلَةٍ عَلَى جَانِبٍ. "كَانَا يَبْحَثَانِ عَنْهُ بَيْنَ الأَقَارِبِ وَالمَعَارِفِ، مِمَّا يدلُّ أنَّ هذا الحَجَّ كانَ طقسًا عائليًّا، يُظهِرُ الانتماءَ الوَثيقَ لِعَشيرةٍ.  وَلَكِنَّ يَسُوع اخْتَارَ أَنْ يَبْقَى وَحِيدًا فِي أُورُشَلِيمَ، فِي بَيْتِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ." هَذَا البَحْثُ شَبِيهٌ بِبَحْثِ عَرُوسِ نَشِيدِ الأَنَاشِيدِ: "نَهَضْتُ وَأَطُوفُ فِي المَدِينَةِ فِي الشَّوَارِعِ وَفِي السَّاحَاتِ، أَلْتَمِسُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، إِنِّي التَمَسْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ." إنَّها صُورةٌ لِلبَحثِ الذي يَقومُ بِهِ كُلُّ إنسانٍ لِيَكتَشِفَ حُضورَ الرَّبّ في حياتِهِ. هل أدركنا أنَّ فقدان الله في حياتنا هو "فنُّ التَّربية" المعتمد لدى الله؟ يوفِّر اللهُ أَوْقَاتًا لِنَنْمُو فِيهَا رُوحِيًّا، فَيَسْمَحُ أَنْ نَشْعُرَ أَحْيَانًا بِبُعْدِهِ عَنَّا. وَلَكِنَّ هَذَا "الفِقْدَانَ" لَيْسَ غَايَةً، بَلْ وِسِيلَةٌ لِنَبْدَأَ البَحْثَ عَنْهُ بِكُلِّ قَلْبِنَا وَقُوَّتِنَا.

 

45 فلَمَّا لَم يَجداه، رَجَعا إلى أُورَشَليمَ يَبحَثانِ عنه

 

تُشِيرُ العِبَارَةُ "فلَمَّا لَمْ يَجِداهُ"، إِلَى مَرْيَمَ وَيُوسُفَ الَّذَيْنِ لَمْ يَجِدَا يَسُوعَ لَمَّا تَوَقَّفَتِ القَافِلَةُ أَثْنَاءَ اللَّيْلِ. وَيُحَدِّدُ التَّقْلِيدُ مَكَانَ فَقْدَانِ يَسُوعَ فِي مَنْطِقَةِ البِيرَةِ، عَلَى طَرِيقِ الحُجَّاجِ، حَيْثُ بَنَى الصَّلِيبِيُّونَ كَنِيسَةً هُنَاكَ بِاسْمِ القِدِّيسَةِ مَرْيَمَ، أَو كَنِيسَةِ العَائِلَةِ المُقَدَّسَةِ، أَو كَنِيسَةِ الِافْتِقَادِ. وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَجْنِحَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا بَقَايَا قَلِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ. وَهِيَ تَقَعُ وَسَطَ مَدِينَةِ البِيرَةِ إِلَى الشَّمَالِ مِنَ الجَامِعِ العُمَرِيِّ. كُلُّ هَذَا يُجْعِلُنَا نُدْرِكُ إِلَى أَيِّ حَدٍّ سَارَتْ مَرْيَمُ بِالإِيمَانِ دُونَ أَنْ تَفْهَمَ! عِنْدَمَا يُغَافِلُنَا أَوْلَادُنَا، فَإِلَى أَيْنَ يَتَوَجَّهُونَ؟ هَلْ نَهْتَمُّ بِأُمُورِ عِشْرَتِهِمْ؟ أَمَّا عِبَارَةُ: "رَجَعَا إِلَى أُورَشَلِيمَ يَبْحَثَانِ عَنْهُ"، فَتُشِيرُ إِلَى رُجُوعِ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ فِي الغَدِ يَسْأَلَانِ عَنْهُ كُلَّ مَنْ رَأَيَاهُ فِي الطَّرِيقِ.

 

 46فَوجداهُ بَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الـهَيكَل، جالِساً بَينَ المُعَلِّمين، يَستَمِعُ إِلَيهم ويسأَلُهم.

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "ثَلاثَةِ أَيَّامٍ" إِلَى يَوْمٍ فِي الذَّهَابِ، وَيَوْمٍ فِي العَوْدَةِ، وَبَقِيَتْ مَرْيَمُ وَيُوسُفُ يَوْمًا كَامِلًا آخَرَ يَسْأَلَانِ عَنْهُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. هَذِهِ الأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ تُدِلُّ عَلَى غِيَابِ يَسُوعَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي المَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَجِدَهُ تَلَامِيذُهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "فِي الـهَيكَلِ" فَتُشِيرُ إِلَى فِنَاءِ النِّسَاءِ، حَيْثُ اعْتَادَ عُلَمَاءُ اليَهُودِ أَنْ يُعَلِّمُوا النَّاسَ مَجَّانًا، وَيُفَسِّرُوا الشَّرِيعَةَ، وَيَتَبَاحَثُوا فِي المَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "بَيْنَ المُعَلِّمِينَ" فَتُشِيرُ إِلَى عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الفَرِّيسِيِّينَ وَالكَتَبَةِ، الَّذِينَ كَانُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَجَّانًا فِي أَرْوِقَةِ النِّسَاءِ فِي الهَيْكَلِ، فِي حَلَقَاتٍ مِنَ الصَّبَاحِ حَتَّى وَقْتِ التَّقْدِمَةِ المَسَائِيَّةِ، لِلرَّدِّ عَلَى التَّسَاؤُلَاتِ وَالاِسْتِفْسَارَاتِ وَالتَّبَاحُثِ فِي المَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ. وَكَانَ المُعَلِّمُونَ يَجْلِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى كَأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ (مَتَّى 23: 2)، وَيَجْلِسُ تَلَامِيذُهُمْ عِنْدَ أَقْدَامِهِمْ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 22: 3). وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَةً لَهُمْ حَسَبَ مَا ذَكَرَهُ التَّلْمُودُ. وَهَذَا مَا سَيَفْعَلُهُ يَسُوعُ فِيمَا بَعْدُ.وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس قَائِلًا:"اِبْحَثْ عَنْ يَسُوعَ فِي هَيْكَلِ اللهِ. اِبْحَثْ عَنْهُ فِي الكَنِيسَةِ. اِبْحَثْ عَنْهُ عِنْدَ المُعَلِّمِينَ الَّذِينَ لَا يُبْرِحُونَ الهَيْكَلَ. اِبْحَثْ عَنْهُ هُنَاكَ فَسَتَجِدَهُ. إِنَّنَا نَجِدُ يَسُوعَ عِنْدَ المُعَلِّمِينَ الحَقِيقِيِّينَ كَقَوْلِ لُوقَا البَشِيرِ. " أَمَّا عِبَارَةُ "يَسْتَمِعُ إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى أُسْلُوبِ التَّعْلِيمِ الَّذِي كَانَ يَتَّخِذُ غَالِبًا شَكْلَ حِوَارٍ. فَكَانَ التِّلْمِيذُ يَسْأَلُ عَمَّا يَجْهَلُ، وَالمُعَلِّمُ يَسْأَلُ لِيَعْرِفَ مَدَى مَعْرِفَةِ التِّلْمِيذِ كَيْ يَبْنِيَ كَلَامَهُ عَلَى هَذِهِ المَعْرِفَةِ. وُجُودُ يَسُوعَ فِي الْهَيْكَلِ وَسَعْيُهُ لِلتَّعَلُّمِ يُظْهِرُ أَهَمِّيَّةَ التَّعَلُّمِ الْمُسْتَمِرِّ وَالسَّعْيِ لِفَهْمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "يَسْتَمِعُ إِلَيْهِمْ" فَتُشِيرُ إِلَى المَوْقِفِ الأَسَاسِيِّ لِكُلِّ اِبْنٍ، وَهُوَ بَدَايَةُ كُلِّ حِكْمَةٍ، وَهَذَا عَلَامَةٌ عَلَى النُّضُوجِ. أَمَّا عِبَارَةُ "يَسْأَلُهُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى مَوْقِفِ يَسُوعَ الَّذِي يَبْحَثُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ.لَا يَدَّعِي مَعْرِفَةَ كُلِّ شَيْءٍ بِالفِعْلِ، وَلَا يَعْتَبِرُ كُلَّ شَيْءٍ أَمْرًا مُسَلَّمًا بِهِ. وَهَذَا أَيْضًا عَلَامَةُ نُضُوجٍ. وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ، كَانَ مَوْضُوعُ النِّقَاشِ هُوَ "المَسِيحُ الآتِي"."كَانَ الشُّعْبُ يَنْتَظِرُ، وَكُلٌّ يَسْأَلُ نَفْسَهُ عَنْ يُوحَنَّا: هَلْ هُوَ المَسِيحُ؟" (لُوقَا 3: 15). وَطَبِيعَةُ مَمْلَكَتِهِ وَتَفْسِيرُ النُّبُوءَاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِهِ، أَوْ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ أَنَّ الحِوَارَ دَارَ حَوْلَ مَعَانِي الفِصْحِ. فَعُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ يَسْتَغِلُّونَ هَذِهِ المَوَاسِمَ لِشَرْحِ مَعَانِيهَا لِلشَّعْبِ. وَرُبَّمَا أَظْهَرَ الصَّبِيُّ يَسُوعُ المَعَانِيَ المُخْتَفِيَةَ فِي رُمُوزِ الفِصْحِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَدُورُ حَوْلَ المَسِيحِ المُخَلِّصِ، حَمَلِ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ العَالَمِ (أَيْ هُوَ نَفْسُهُ).

 

 47وكانَ جَميعُ سَامِعيهِ مُعجَبينَ أَشَدَّ الإِعجابِ بِذَكائِه وجَواباتِه.

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "جَميعُ سَامِعِيهِ مُعجَبينَ أَشَدَّ الإِعجابِ" إِلَى أَسْئِلَةِ يَسُوعَ وَأَجْوِبَتِهِ، الَّتِي تَثِيرُ الدَّهْشَةَ لِسَامِعِيهِ، لَا لِصِغَرِ سِنِّهِ، بَلْ لِعُمْقِ فَهْمِهِ وَقُوَّةِ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ عِلْمِهِ، الَّتِي تُظْهِرُ الْحِكْمَةَ الْفَائِقَةَ الَّتِي يَمْتَلِكُهَا، وَهِيَ عَلَامَةٌ عَلَى طَبِيعَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ وَامْتِلَائِهِ بِرُوحِ اللَّهِ. هَذَا مَا حَدَثَ لَهُ خِلَالَ حَيَاتِهِ العَلَنِيَّةِ، حَيْثُ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى حِيرَةِ السَّامِعِينَ وَدَهْشَتِهِمْ، كَمَا وَرَدَ: "فَلَمَّا جاءَ إِلى وَطَنِهِ كانَ يُعَلِّمُهُم في مَجمَعِهِم، حتَّى بُهِتوا وقالوا: مِن أَينَ له هذِهِ الحِكمَةُ وهذهِ المُعجِزات؟" (مَتَّى 13: 54). وَإِذَا "كَانَ يَسُوعُ يَتَسَامَى فِي الحِكمَةِ وَالقَامَةِ وَالحُظْوَةِ عِندَ اللهِ وَالنَّاسِ" (لُوقَا 2: 52)، نَفْهَمُ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّمُ مِثْلَ بَاقِي الأَوْلَادِ الَّذِينَ فِي سِنِّهِ. وَلَكِنْ عِلَاقَتُهُ بِالآبِ وَالرُّوحِ القُدُسِ أَعْطَتْهُ أَنْ يَتَفَوَّقَ بِشَكْلٍ عَجِيبٍ عَلَى مَنْ كَانُوا فِي سِنِّهِ. وَهَذَا مَا جَعَلَ عُلَمَاءَ الشَّرِيعَةِ يَتَعَجَّبُونَ بِذَكَائِهِ وَجَوَابَاتِهِ، كَما وَرَدَ: "وَكَانَ الصَّبِيُّ يَسُوعُ يَبْقَى في أُورَشَلِيمَ... جَالِسًا بَيْنَ المُعَلِّمِينَ يَستَمِعُ إِلَيْهِم وَيَسْأَلُهُمْ، وَكُلُّ مَنْ سَمِعَهُ بُهِتَ مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ" (لُوقَا 2: 46-47). وَجَعَلَ الشَّعْبَ يَتَعَجَّبُ أَنَّهُ لَمْ يَتَلَقَّ تَعْلِيمًا عِنْدَ كِبَارِ المُعَلِّمِينَ، كَمَا تَعَلَّمَ شَاوُلُ "عِنْدَ قَدَمَيْ جِمْلَائِيلَ، تَرْبِيَةً مُوَافِقَةً كُلَّ المُوَافَقَةِ لِشَرِيعَةِ الآبَاءِ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 22: 3). وَقَدْ قَالَ اليَهُودُ عَنْهُ فِي دَهْشَتِهِمْ: "فَتَعَجَّبَ اليَهُودُ وَقَالُوا: كَيْفَ يَعْرِفُ هَذَا الكُتُبَ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ؟"(يُوحَنَّا 7: 15) أما عبارة "بِذَكائِه وجَواباتِه" "فَتُشِيرُ إِلَى شَخْصِيَّتِهِ الاِسْتِثْنَائِيَّةِ وَعَلَاقَتِهِ المُتَمَيِّزَةِ بِالْآبِ السَّمَاوِيِّ وَرِسَالَتِهِ الفَرِيدَةِ الَّتِي بَدَأَتْ تَتَجَلَّى حَتَّى فِي طُفُولَتِهِ."

 

 48-فلَمَّا أَبصَراه دَهِشا، فقالَت لَه أُمُّه: ((يا بُنَيَّ، لِمَ صَنَعتَ بِنا ذلك؟ فأَنا وأَبوكَ نَبحَثُ عَنكَ مُتَلَهِّفَيْن))

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ: "دَهِشَا" إِلَى إِعْجَابِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ مِنْ تَعْلِيمِ يَسُوعَ، الصَّادِرِ إِمَّا عَنِ النِّعْمَةِ أَوْ مِنْ خِلَالِ تَعْلِيمِهِ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ، كَمَا حَدَثَ مَعَ بُولُسَ الرَّسُولِ وَبَرْنَابَا وَهُمَا يُبَشِّرَانِ فِي أَيقُونِيَةَ: "مَكَثَا مُدَّةً طَوِيلَةً يَتَكَلَّمَانِ بِجُرْأَةٍ فِي الرَّبِّ، وَهُوَ يَشْهَدُ لِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ فَيَهَبُ لَهُمَا أَنْ تَجْرِيَ الآيَاتُ وَالأَعَاجِيبُ عَنْ أَيْدِيهِمَا"(أَعْمَالُ الرُّسُلِ 14: 3). وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ تَعْلِيمَ يَسُوعَ لَا يَخْضِعُ لِتَقْلِيدٍ مَدْرَسِيٍّ أَوْ لِتَعْلِيمٍ شَخْصِيٍّ، بَلْ يَصْدُرُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ المُبَاشِرَةِ وَالْكَلِمَةِ لِلآبِ، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ فِي الْهَيْكَلِ: "لَيْسَ تَعْلِيمِي مِنْ عِنْدِي بَلْ مِنْ عِنْدِ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يُوحَنَّا 7: 16). أَمَّا عِبَارَةُ: "يَا بُنَيَّ، لِمَ صَنَعْتَ بِنَا ذَلِكَ؟"، فَتُشِيرُ إِلَى عِتَابِ أُمِّهِ عَلَى صَعِيدِ الِالْتِزَامِ العَاطِفِيِّ، بِنَاءً عَلَى ظَنِّهَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلَازِمَهُمَا وَلَا يُفَكِّرَ إِلَّا بِهِمَا. كَثِيرًا مَا يُحَاوِلُ الأَهْلُ البَحْثَ عَنِ الأَخْطَاءِ الَّتِي يَرْتَكِبُهَا ابْنُهُم، لَا عَنْ سَبَبِ ضَيَاعِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ: "فَأَنَا وَأَبُوكَ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ πατήρ σου κἀγὼ (مَعْنَاهَا: فَأَبُوكَ وَأَنَا)، وَتُشِيرُ إِلَى ذِكْرِ الأَبِ قَبْلَ ذِكْرِ الأُمِّ، وَذَلِكَ احْتِرَامًا لِمَكَانَةِ الأَبِ فِي الأُسْرَةِ. وَالعَذْرَاءُ، بِالرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا نَالَتْهُ مِنْ كَرَامَةٍ، نَجِدُهَا فِي تَوَاضُعٍ تُقَدِّمُ يُوسُفَ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِهَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ مُعْلِنًا أَنَّ مَرْيَمَ، مَعَ مَا نَالَتْهُ مِنْ كَرَامَةٍ بِتَجَسُّدِ كَلِمَةِ اللَّهِ فِي أَحْشَائِهَا، سَلَكَتْ بِرُوحِ التَّوَاضُعِ أَمَامَ يُوسُفَ، فَقَدَّمَتْهُ عَلَيْهَا. فَالأُبُوَّةُ عَطِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "لِهَذَا أَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيَّ لِلآبِ، فَمِنْهُ تَسْتَمِدُّ كُلُّ أُسْرَةٍ اسْمَهَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" (أَفَسُسَ 3: 14-15). وَنَجِدُ هُنَا أَنَّ مَرْيَمَ اعْتَادَتْ فِي مُخَاطَبَتِهَا يَسُوعَ أَنْ تُسَمِّيَ يُوسُفَ أَبَاهُ، لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا حِينَئِذٍ أَنَّ اللَّهَ أَبُوهُ. أَمَّا عِبَارَةُ: "نَبْحَثُ عَنْكَ مُتَلَهِّفَيْنَ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: ὀδυνώμενοι (مَعْنَاهَا: مُعَذَّبِينَ)، وَتُشِيرُ إِلَى بَحْثِ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ عَنْ يَسُوعَ لِأَنَّهُمَا جَهِلَا أَيْنَ هُوَ، وَخَافَا مِنْ أَنْ يُعْرَضَ لَهُ سُوءٌ، وَأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ أَوْ ضِيقٍ. يَبْحَثَانِ عَنْهُ بِصُورَةٍ مَحْمُومَةٍ وَمُتَضَايِقَةٍ خَوْفًا عَلَيْهِ كَوْنَهُ عَطِيَّةَ اللَّهِ لَهُمَا. وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوسُ: "لَا تَبْحَثْ عَنْ يَسُوعَ بِتَرَاخٍ وَفُتُورٍ وَتَرَدُّدٍ، كَمَا يَفْعَلُ البَعْضُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَجِدُونَهُ".

 

 49فقالَ لَهُما: ((ولِمَ بَحثتُما عَنِّي؟ أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي ؟)) 

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "وَلِمَ بَحَثْتُمَا عَنِّي؟" إِلَى عِتَابِ يَسُوعَ لِوَالِدَيْهِ عَلَى صَعِيدِ الاِلْتِزَامِ اللَّاهُوتِيِّ وَالرَّسُولِيِّ، حَيْثُ إِنَّ التِزَامَهُ يَقْتَضِي مِنْهُ التَّحَرُّرَ مِنْ رَوَابِطِهِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ. وَيَرَى عُلَمَاءُ التَّرْبِيَةِ وَعِلْمِ النَّفْسِ أَنَّ كَلِمَاتِ يَسُوعَ بِمَثَابَةِ ثَوْرَةٍ جَدِيدَةٍ فِي عَالَمِ الطُّفُولَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَلَمْ تَعْلَمَا؟" فَتُشِيرُ إِلَى إِجَابَةِ يَسُوعَ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ دَهْشَتِهِ. هُنَاكَ شَيْءٌ مَا عَنْ يَسُوعَ كَانَ مَجْهُولًا لَدَى أَبَوَيْهِ، فَتَعَجَّبَ عَنْ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمَا. وَمِنَ الغَرِيبِ أَنَّ أَبَوَيْهِ لَمْ يَفْهَمَا مَعْنَى كَلَامِهِ (لُوقَا 2: 50). أَمَّا عِبَارَةُ "يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ عِنْدَ أَبِي" فَتُشِيرُ إِلَى الكَلِمَاتِ الأُولَى الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا يَسُوعُ فِي بَشَارَةِ إِنْجِيلِ لُوقَا، بَلْ وَالوَحِيدَةِ عَلَى مَدَى فَتْرَةِ الثَّلَاثِينَ سَنَةً.  وَبِهَا يُدْرِكُ يَسُوعُ هَويَّته ودَوْرَهُ بِصِفَتِهِ ابْنَ اللهِ، وَرِسَالَتَهُ أَنْ يُتَمِّمَ مَشِيئَةَ أَبِيهِ، الآبِ السَّمَاوِيِّ. يَبْحثُ يَسُوع عن الآبِ للبَقاءُ في عَلاقَةٍ مَعَهُ، وعَيشُ حياتِهِ كَابنٍ في طاعَةٍ تامَّةٍ لِإرادتِهِ. فَكَانَ اِنْشِغَالُهُ دَائِمًا بِمَا لِأَبِيهِ، وَسَيَذْكُرُ الأَبَ مَرَّةً أُخْرَى فِي سَاعَاتِ حَيَاتِهِ الأَخِيرَةِ عَلَى الصَّلِيبِ: «يَا أَبَتِ، فِي يَدَيْكَ أَجْعَلُ رُوحِي!» (لُوقَا 23: 46)." لِيُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ كُلِّيًّا عَلَى الصَّلِيبِ بِثِقَةٍ وَطَاعَةٍ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِيرُ قَائِلًا: "يُشِيرُ المَسِيحُ هُنَا إِلَى أَبِيهِ الحَقِيقِيِّ، وَيَكْشِفُ عَنْ أُلُوهِيَّتِهِ. هُنَا يَذْكُرُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ عَلَانِيَةً مَنْ هُوَ أَبَاهُ الحَقِيقِيُّ، وَيُعْلِنُ عَنْ لَاهُوتِهِ هُوَ نَفْسُهُ، وَيُعَلِّمُ مَرْيَمَ أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ أَدَاةً لِلتَّدْبِيرِ بِوِلَادَتِهِ بِالجَسَدِ، وَلَكِنَّهُ بِالطَّبِيعَةِ وَالحَقِيقَةِ هُوَ إِلَهٌ وَابْنُ الآبِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ." وَمِنَ الأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ أَنَّ يَسُوعَ سَيَذْكُرُ الآبَ مَرَّةً أُخْرَى فِي سَاعَاتِ حَيَاتِهِ الأَخِيرَةِ، لِيُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ كُلِّيًّا، عَلَى الصَّلِيبِ، بِثِقَةٍ وَطَاعَةٍ كَامِلَتَيْنِ: "فَصَاحَ يَسُوعُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ قَالَ: ((يَا أَبَتِ، فِي يَدَيْكَ أَجْعَلُ رُوحِي!" (لُوقَا 23: 46). إِنَّ الآبَ، إِذًا، مَشْمُولٌ فِي كُلِّ بَشَارَةِ لُوقَا. أَمَّا عِبَارَةُ "يَجِبُ عَليَّ" في الأصِلِ اليُونَاني δεῖ εἶναί με (مَعْنَاها يِنْبَغي) فَتُشِيرُ إلى اسْتخْدام يسوعُ فِعلًا يَتَكرر مِرارًا في الإِنجيلِ للدَلالَة أن يَسُوع يَنبَغي أن يَنشغِلَ بِأُمورِ الآبِ. أَمَّا عِبَارَةُ "عِنْدَ أَبِي" فَتُشِيرُ إِلَى أَوَّلِ كَلِمَةٍ تَفَوَّهَ بِهَا يَسُوعُ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، حَيْثُ يُثْبِتُ بِهَا هُوِيَّتَهُ الشَّخْصِيَّةَ وَرِسَالَتَهُ وَمَعْنَى حَيَاتِهِ:" طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ بِمَشِيئَةِ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأَنْ أُتِمَّ عَمَلَه" (يُوحَنَّا 4: 34). وَيَذْكُرُ يَسُوعُ أَبَاهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي سَاعَاتِ حَيَاتِهِ الأَخِيرَةِ، لِيُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ كُلِّيًّا، عَلَى الصَّلِيبِ، بِثِقَةٍ وَطَاعَةٍ كَامِلَتَيْنِ: "يَا أَبَتِ، فِي يَدَيْكَ أَجْعَلُ رُوحِي!" (لُوقَا 23: 46). هُنَاكَ مَكَانٌ وَحِيدٌ يَسْتَقِرُّ يَسُوعُ فِيهِ، وَهُوَ الآبُ. وَقَدْ حَسَبَ بَيْتَ اللهِ بَيْتَ أَبِيهِ، كَمَا قَالَ لِبَاعَةِ الحَمَامِ: "اِرْفَعُوا هَذَا مِنْ هُنَا، وَلَا تَجْعَلُوا مِنْ بَيْتِ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ" (يُوحَنَّا 2: 16). فَكَانَ أَبُوهُ السَّمَاوِيُّ مِحْوَرَ حَيَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ طَائِعًا لِوَالِدَيْهِ (لُوقَا 2: 51)، كَوْنُهُ إِلَهًا وَإِنْسَانًا مَعًا. لِأَنَّ طَاعَةَ الآبِ السَّمَاوِيِّ لَا تَمُرُّ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الطَّاعَةِ لِلْوَالِدَيْنِ، كَمَا يَقُولُ المَثَلُ الشَّعْبِيُّ: "رِضَا اللهِ مِنْ رِضَا الوَالِدَيْنِ."عَلِمَ يُوسُفُ أَنَّهُ لَيْسَ أَبَاهُ، وَأَنَّ أَبَاهُ هُوَ اللهُ، وَأَنَّهُ أَتَى مِنَ السَّمَاءِ. وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ أَبًا لَهُ حَسَبَ الشَّرِيعَةِ مِنْ أَجْلِ التَّبَنِّي، وَكَانَتْ مَرْيَمُ أُمَّهُ حَسَبَ الجَسَدِ، وَلَكِنَّهُ يُعْلِنُ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ الآبِ!  تُبرزُ هَذه الآية يُبرز إدراك يسوع المبكر لهويته الإلهية، وعلاقته بالآب السماوي، وطاعته للآب من خلال طاعته لوالديه على الأرض. يُظهر أيضًا أن يسوع منذ صغره كان مركز حياته هو تنفيذ مشيئة الآب السماوي بثقة وطاعة كاملتين.

 

50 فلَم يَفهَما ما قالَ لَهما

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "فَلَمْ يَفْهَمَا مَا قَالَ لَهُمَا" إِلَى سُوءِ التَّفَاهُمِ بِشَأْنِ سِرِّ يَسُوعَ، لِأَنَّ بُنُوَّةَ يَسُوعَ تَفُوقُ كُلَّ إِدْرَاكٍ بَشَرِيٍّ، حَتَّى أَشَدِّهِ انْفِتَاحًا عَلَى كَلِمَةِ اللهِ. لَمْ يُدْرِكَ يُوسُفُ وَمَرْيَمُ أَنَّ يَسُوعَ كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الآبِ الأَرْضِيِّ وَالآبِ السَّمَاوِيِّ، وَلَمْ يَفْهَمَا مَضْمُونَ رِسَالَتِهِ. يَجِدانِهُ يَحمِلُ في داخِلِهِ سِرًّا يُفوِقُهُما.  وَلَكِنَّهُمَا أَخَذَا يَدْرِكَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ هَذَا السِّرِّ. تَلَامِيذُهُ أَيْضًا لَمْ يَفْهَمُوا سِرَّهُ بِسُهُولَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ دَخَلُوا شَيْئًا فَشَيْئًا فِي هَذَا السِّرِّ، مَعَ تَقَدُّمِهِمْ فِي الإِيمَانِ وَالقُرْبِ مِنْ يَسُوعَ. وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس قَائِلًا: "لَمْ يُدْرِكْ يُوسُفُ وَمَرْيَمُ مَغْزَى كَلِمَاتِ يَسُوعَ: "يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ عِنْدَ أَبِي"، أَيْ أَنْ أَكُونَ فِي الهَيْكَلِ... بَيْتُ يَسُوعَ هُوَ الأَعَالِي. لِذَا يُوسُفُ وَمَرْيَمُ، إِذْ لَمْ يَكُونَا بَعْدُ قَدْ بَلَغَا كَمَالَ الإِيمَانِ، لَمْ يَسْتَطِيعَا بَعْدُ أَنْ يُحَلِّقَا مَعَهُ فِي الأَعَالِي." تُبرز هذه الآية صُعوبة فَهم سر يسوع الإلهي حتى على أقرب النَّاس إليه، كيوسف ومريم، بسببِ طبيعته التي تفوق الإدراك البشري.

 

51 ثُمَّ نَزلَ مَعَهما، وعادَ إلى النَّاصِرَة، وكانَ طائِعاً لَهُما، وكانَت أُمُّه تَحفُظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "نَزَلَ مَعَهُمَا" إِلَى عَوْدَةِ يَسُوعَ مَعَ أَبَوَيْهِ، مَرْيَمَ وَيُوسُفَ، وَالعَوْدَةِ إِلَى السُّلْطَةِ الأَبَوِيَّةِ وَالطَّاعَةِ البَنَوِيَّةِ كَأَسَاسٍ فِي العَائِلَةِ المُقَدَّسَةِ. يَستَمِرُّ يسوعُ في العَيشِ مَعَه الأب ليسَ فَقَط في هَيكلِ القُدسِ، بَل في الحياةِ الِعائِليَّةٍ. وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس قَائِلًا: "كَثِيرًا مَا يَنْزِلُ يَسُوعُ مَعَ تَلَامِيذِهِ وَلَا يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ عَلَى الجَبَلِ." الصِّرَاعُ فِي العَائِلَةِ يَنْجُمُ عَنْ نَزْعَةِ التَّسَلُّطِ عِنْدَ الأَهْلِ، وَنَزْعَةِ التَّحَرُّرِ عِنْدَ الأَبْنَاءِ، حَيْثُ إِنَّ مَنْطِقَ الأَهْلِ يَخْتَلِفُ عَنْ مَنْطِقِ أَبْنَائِهِمْ. وَانْتَهَى العِتَابُ بِاحْتِرَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقِفَ الآخَرِ بِكُلِّ صَبْرٍ وَمَحَبَّةٍ. أمَّا عِبَارَةُ "النَّاصِرَةِ" فَتُشِيرُ إِلَى وَطَنِ السَّيِّدِ المَسِيحِ، الَّذِي أَقَامَ فِيهِ حَتَّى بَلَغَ سِنَّ الثَّلَاثِينَ. وَكَانَتْ نِسْبَةُ يَسُوعَ إِلَى النَّاصِرَةِ ذَاتَ دَلَالَةٍ حَتَّى فِي عُنْوَانِ صَلِيبِهِ: "كَتَبَ بِيلاطُسُ رُقْعَةً وَجَعَلَهَا عَلَى الصَّلِيبِ، وَكَانَ مَكْتُوبًا فِيهَا: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ اليَهُودِ" (يُوحَنَّا 19: 19). أَمَّا عِبَارَةُ "كَانَ طَائِعًا لَهُمَا" فَتُشِيرُ إِلَى مَسْلَكِ يَسُوعَ فِي النَّاصِرَةِ تَحْتَ سُلْطَانِ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ، لِمُدَّةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا لَاحِقَةً، عَلْمًا أَنَّ: "يَسُوعَ كَانَ عِنْدَ بَدْءِ رِسَالَتِهِ فِي نَحْوِ الثَّلَاثِينَ مِنْ عُمُرِهِ" (لُوقَا 3: 23). لِأَنَّ طَاعَةَ الآبِ السَّمَاوِيِّ لَا تَمُرُّ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الوَالِدَيْنِ، وَالأَشْخَاصِ الَّذِينَ ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ. َيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أمْبْرُوسِيُوس قَائِلًا: "إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَخْضَعْ عَنْ ضُعْفٍ، وَإِنَّمَا عَنْ حُبٍّ." َيَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ، وَهُوَ الاِبْنُ" (العِبْرَانِيِّينَ 5: 19). هَذِهِ الطَّاعَةُ لَازَمَتْهُ مُنْذُ مَوْلِدِهِ حَتَّى الجُلْجُلَةِ، حَيْثُ قَالَ:"هاءَنَذا آتٍ، أَللَّهُمَّ لِأَعْمَلَ بِمَشِيئَتِكَ "(العِبْرَانِيِّينَ 10: 5-7)، وَكَذَلِكَ:" َجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبْدِ، وَصَارَ عَلَى مِثَالِ البَشَرِ، وَظَهَرَ فِي هَيْئَةِ إِنْسَانٍ، فَوَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتِ، مَوْتِ الصَّلِيبِ" (فِيلِبِّي 2: 7-8). وَاعْتَبَرَ يَسُوعُ نِسْبَتَهُ فِي الجَسَدِ مِنْ تَكْمِيلِ البِرِّ، كَمَا وَرَدَ: "بِمَعْصِيَةِ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ جُعِلَتْ جَمَاعَةُ النَّاسِ خَاطِئَةً، فَكَذَلِكَ بِطَاعَةِ وَاحِدٍ تُجْعَلُ جَمَاعَةُ النَّاسِ بَارَّةً" (رُومَا 5: 19). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ بَرْنَارْدُس قَائِلًا: "مَنْ هُوَ المُطِيعُ؟ وَمَنْ هُوَ المُطَاعُ؟ إِلَهٌ يَخْضَعُ لِلْبَشَرِ! وَفِي كُلِّ شَيْءٍ! يَا لِلأَمْرِ المُذْهِلِ! يَا لِلأَمْرِ العَجِيبِ! أَنْ يُطِيعَ اللهُ أَمْرًا، هَذَا مَا لَا مَثِيلَ لَهُ. أَيُّهَا الإِنْسَانُ، تَعَلَّمِ الطَّاعَةَ!" يَسُوعُ، رَغْمَ وَعْيِهِ بِهُوِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ، كَانَ مُلْتَزِمًا بِعَائِلَتِهِ، مِمَّا يُعَكِسُ أَهَمِّيَّةَ الْحِفَاظِ عَلَى التَّوَازُنِ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ الرُّوحِيَّةِ وَالْعَائِلِيَّةِ. وَلَكِنْ فِي حَيَاتِهِ العَلَنِيَّةِ، لَنْ يَقْبَلَ يَسُوعُ أَوَامِرَ إِلَّا مِنَ الآبِ السَّمَاوِيِّ وَحْدَهُ. أين نحن من الطاعة؟ لِلأَهْلِ؟ لِلْمَسْؤُولِينَ؟ لِلْقَوَانِينِ وَالوَاجِبِ؟ لِلضَّمِيرِ وَالكَنِيسَةِ؟ وَخَاصَّةً لِلآبِ السَّمَاوِيِّ؟  وَيَقُولُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس: "لِنَتَعَلَّمْ يَا أَبْنَائِي الخُضُوعَ لِوَالِدَيْنَا... خَضَعَ يَسُوعُ، وَصَارَ قُدْوَةً لِكُلِّ الأَبْنَاءِ فِي الخُضُوعِ لِوَالِدِيهِمْ أَوْ لِأَوْلِيَاءِ أُمُورِهِمْ." هُنَا يَكُونُ آخِرُ ذِكْرٍ لِيُوسُفَ فِي بَشَارَةِ لُوقَا. وَنَعْرِفُ مِنْ بَشَارَتَي مَتَّى وَمَرْقُسَ أَنَّهُ كَانَ نَجَّارًا، وَأَنَّ يَسُوعَ عَمِلَ مَعَهُ (مَتَّى 13: 55). وَبَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ مِنْ عَائِلَتِهِ إِلَّا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ (يُوحَنَّا 2: 12)، وَيُظَنُّ أَنَّ يُوسُفَ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ يَسُوعُ يُبَشِّرُ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ تِلْكَ الأُمُورَ كُلَّهَا فِي قَلْبِهَا"، فَتُشِيرُ إِلَى تَعْبِيرٍ تَكَرَّرَ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا (لُوقَا 2: 19)، وَيَدُلُّ عَلَى مَرْيَمَ كَمُؤْتَمَنَةٍ عَلَى وَدِيعَةِ الوَحْيِ، الَّذِي تَحْفَظُهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا حَدَثَ مَعَ يَعْقُوبَ: "وَأَمَّا أَبُوهُ فَكَانَ يَحْفَظُ هَذَا الأَمْرَ" (التَّكْوِينُ 37: 11). وَكَذَلِكَ مَعَ دَانِيَالَ النَّبِيِّ فِي رُؤْيَا قَدِيمِ الأَيَّامِ وَابْنِ الإِنْسَانِ: "حَفِظْتُ الكَلَامَ فِي قَلْبِي" (دَانِيَالُ 7: 28).  تُبرز الآية طاعةَ يَسوع الكاملة في طفولتِه وشبابِه، كجزء من اسْتعدادِه لإتمام مشيئة الآبِ السَّماوي. طاعتُه لم تكن عن ضُعفٍ، بل كانت عن حبِ ورَغبةٍ في تَحقيق خطة الخلاص. هذا يدعونا للتّأمل في مدى التزامنا بالطاعة للأهل والمسؤولين، وللآب السماوي الذي يجب أن يكون محور حياتنا.

 

52 وكانَ يسوعُ يَتسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس.

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "يَتَسَامَى فِي الحِكْمَةِ وَالقَامَةِ وَالحُظْوَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ" إِلَى نُمُوِّ يَسُوعَ الْمُتَوَازِنِ فِي كُلِّ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ نَمُوذَجٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ يَسْعَى لِلنُّمُوِّ الرُّوحِيِّ وَالْجَسَدِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ. وهذه الخَاتِمَة تُكَرِّرُ مَا وَرَدَ سَابِقًا: "كَانَ الطِّفْلُ يَتَرَعْرَعُ وَيَشْتَدُّ مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ" (لُوقَا 2: 40). يَبْدُو أَنَّهَا مُسْتَوْحَاةٌ مِمَّا وَرَدَ فِي العَهْدِ القَدِيمِ: "أَمَّا صَمُوئِيلُ الصَّبِيُّ، فَكَانَ يَتَسَامَى فِي القَامَةِ وَالحُظْوَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ" (1 صَمُوئِيلَ 2: 26).   يَبْقَى صَمُوئِيلُ أَمَامَ اللهِ كَمَا فَعَلَ يَسُوعُ، "لَمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، صَعِدُوا إِلَيْهَا جَرْيًا عَلَى السُّنَّةِ فِي العِيدِ" (لُوقَا 2: 42). لَمْ يَذْكُرِ الإِنْجِيلُ أَيَّ حَدَثٍ مِنْ حَيَاةِ يَسُوعَ فِي الثَّمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً الَّتِي قَضَاهَا فِي بَيْتِهِ فِي النَّاصِرَةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّمُ وَيَكْبُرُ وَيَنْضُجُ. كَانَ يَنْمُو بِصُورَةٍ مُتَنَاسِقَةٍ فِي جَمِيعِ المَجَالَاتِ: الجَسَدِيَّةِ، الفِكْرِيَّةِ، الاِجْتِمَاعِيَّةِ، الرُّوحِيَّةِ. وَكَانَ يُسَاعِدُ يُوسُفَ فِي عَمَلِهِ فِي النَّجَارَةِ، كَمَا وَرَدَ: "أَلَيْسَ هَذَا النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ؟" (مَرْقُسَ 6: 3). أَمَّا عِبَارَةُ "فِي الحِكْمَةِ وَالقَامَةِ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ، ابْنَ اللهِ، كَانَ كَإِنْسَانٍ يَتَقَدَّمُ فِي الجَسَدِ وَالعَقْلِ كَسَائِرِ النَّاسِ. هَذِهِ الآيَةُ تُدِلُّ عَلَى أَنَّ لِيَسُوعَ نَفْسًا بَشَرِيَّةً كَمَا أَنَّ لَهُ جَسَدًا بَشَرِيًّا، وَهَذَا خِلَافٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُولِيَانُوس، الَّذِي قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَسِيحِ نَفْسٌ بَشَرِيَّةٌ، بَلْ إِنَّ رُوحَهُ، الكَلِمَةَ الأَزَلِيَّةَ، أَخَذَتْ مَحَلَّ النَّفْسِ فِي جَسَدِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "الحُظْوَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ" فَتُشِيرُ إِلَى نُمُوِّ يَسُوعَ نُمُوًّا رُوحِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا. كَانَ يُظْهِرُ يَسُوعُ المَسِيحُ مِنَ الأَخْلَاقِ الحَمِيدَةِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا جَعَلَ اللهَ يَسُرُّ بِهِ، وَمَا جَعَلَهُ مَحْبُوبًا لَدَى النَّاسِ. كَانَ يَسُوعُ فِي تِلْكَ المُدَّةِ يَعْمَلُ مَشِيئَةَ اللهِ لِأَجْلِنَا بِطَاعَتِهِ شَرِيعَةَ اللهِ، كَمَا وَرَدَ: "وَلَمْ يَرْتَكِبْ خَطِيئَةً، وَلَمْ يُوجَدْ فِي فَمِهِ غِشٌّ" (1 بُطْرُسَ 2: 22). اِهْتَمَّ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ بِكُلِّ مَرَاحِلِ حَيَاةِ المَسِيحِ: رَآهُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، رَآهُ طِفْلًا، رَآهُ صَبِيًّا، ثُمَّ رَآهُ مُكْتَمِلَ الرُّجُولَةِ. فَالمَسِيحُ، إِذًا، قَدَّسَ كُلَّ مَرَاحِلِ الحَيَاةِ البَشَرِيَّةِ.  ـُبرز الآية النُّمو المتوازن ليسوع في الجَسدِ والعَقل والرُّوح، ويُؤكد إنسانيته الكاملة بجانب ألوهيته. كما يُشير إلى أنه قَدَّسَ كل مراحل الحياة البَشريَّة من الجنين إلى الرجولة، مما يجعل حياته نموذجًا لكلِّ إنسان يعيش وفق مشيئة الله.  هَذِهِ الآيَةُ هِيَ دَعْوَةٌ لِلْإِنْسَانِ لِلنُّمُوِّ لَيْسَ فَقَطْ رُوحِيًّا بَلْ أَيْضًا جَسَدِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا وَعَقْلِيًّا.

 

 

ثانيًا: تَطْبِيقَاتُ نَصِّ الإِنْجِيلِ (لُوقَا 2: 44-52)

 

بَعْدَ دِرَاسَةِ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لُوقَا 2: 44-52)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّ النَّصَّ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ يَسُوعَ فِي الهَيْكَلِ بَيْنَ العُلَمَاءِ، مَعَ التَّرْكِيزِ عَلَى سُلْطَةِ العَائِلَةِ المُقَدَّسَةِ وَتَرْبِيَتِهَاـ إذ أنَّ العَائِلَةُ المُقَدَّسَةُ هِيَ مِثَالٌ لِلْعَائِلَاتِ فِي سُلْطَتِهَا وَتَرْبِيَتِهَا.

 

1) سُلْطَةُ العَائِلَةِ:

 

العَائِلَةُ فِي المَفْهُومِ المَسِيحِيِّ هِيَ كَنِيسَةٌ صَغِيرَةٌ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ لِتِلْمِيذِهِ فيلمون: "الكَنِيسَةِ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِي بَيْتِكَ" (فليمون 2:1). وَأَمَّا فِي المَفْهُومِ الِاجْتِمَاعِيِّ، فَهِيَ الخَلِيَّةُ الأُولَى الَّتِي تُكَوِّنُ المُجْتَمَعَ. وَلَا يُوجَدُ عَائِلَةٌ دُونَ أَبٍ، وَالأَبُ هُوَ رَمْزُ السُّلْطَةِ. وَيُقِرُّ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّ كُلَّ سُلْطَةٍ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِقَوْلِهِ: " لِيَخْضَعْ كُلُّ امْرِئٍ لِلسُّلُطَاتِ الَّتِي بِأَيْدِيهَا الأَمْرُ، فَلَا سُلْطَةَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالسُّلُطَاتُ القَائِمَةُ هُوَ الَّذِي أَقَامَهَا" (رُومَةَ 13: 1). تَنْبَعُ كُلُّ سُلْطَةٍ مِنْهُ تَعَالَى: سُلْطَةُ الإِنْسَانِ عَلَى الطَّبِيعَةِ (تَكْوِينُ 1: 28)، وَسُلْطَةُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ (تَكْوِينُ 3: 16)، وَسُلْطَةُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الأَوْلَادِ (الأَحْبَارُ 19: 3).

 

أَمَّا مُمَارَسَةُ السُّلْطَةِ فَهِيَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً، بَلْ هِيَ مُحَدَّدَةٌ بِالْتِزَامَاتٍ أَخْلَاقِيَّةٍ. فَتَأْتِي الشَّرْعِيَّةُ لِتَنْظِيمِ مُمَارَسَتِهَا، مُوَضِّحَةً حُقُوقَ كُلِّ شَخْصٍ. أَمَّا سُلْطَةُ الوَالِدَيْنِ عَلَى أَبْنَائِهِمْ، فَهَدَفُهَا تَرْبِيَتُهُمُ الصَّالِحَةُ (أَمْثَالُ 23: 13-14) فِي الصَّلَاةِ الجَمَاعِيَّةِ، وَالطَّاعَةِ، وَالنُّمُوِّ، وَالعَيْشِ المُشْتَرَكِ، وَالِاحْتِرَامِ المُتَبَادَلِ.

 

أ) الصَّلَاةُ الجَمَاعِيَّةُ:

 

أَسَاسُ العَائِلَةِ المُحَبَّةُ. وَأَسَاسُ المُحَبَّةِ اللهُ، فَإِنْ لَمْ تَتَأَسَّسِ العَائِلَةُ عَلَى اللهِ، عَبَثًا أَنْ تَكُونَ العَائِلَةُ خَلِيَّةً خَيِّرَةً صَالِحَةً. لِذَلِكَ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَسُوعُ وَمَرْيَمُ وَيُوسُفُ بِالذَّهَابِ إِلَى الهَيْكَلِ فِي الأَعْيَادِ الكُبْرَى وَالذَّهَابِ إِلَى المَجْمَعِ لِتِلَاوَةِ المَزَامِيرِ وَالاِسْتِمَاعِ إِلَى التَّوْرَاةِ، وَتِلَاوَةِ التَّهَالِيلِ الصَّبَاحِيَّةِ وَالمَسَائِيَّةِ.

 

الصَّلَاةُ المُشْتَرَكَةُ تَجْمَعُ وَتُوَحِّدُ، كَمَا يَقُولُ المَثَلُ المَأْثُورُ: "العَائِلَةُ الَّتِي تُصَلِّي مَعًا، تَعِيشُ مُتَّحِدَةً مَعًا". وَالبَابَا بِيُوسُ الثَّانِيَ عَشَرَ يَقُولُ: "عَائِلَةٌ تُصَلِّي هِيَ عَائِلَةٌ تَحْيَا". وَهَكَذَا يَكُونُ شِعَارُ الزَّوْجِ المَسِيحِيِّ وَالزَّوْجَةِ المَسِيحِيَّةِ هُوَ مَا هَتَفَ بِهِ يَشُوعُ بْنُ نُونَ أَمَامَ الشَّعْبِ: "أَنا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ" (يَشُوعُ 24: 15). وَالمِثَالُ هُوَ خَيْرُ دَافِعٍ لِلصَّلَاةِ. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ يَقُولُ الأَبُ دُوفَالَ المَشْهُورُ عَنْ خِبْرَةِ عَائِلَتِهِ فِي الصَّلَاةِ: "كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اللهُ شَخْصًا رَفِيعَ الشَّأْنِ حَتَّى أَرَى أَبِي رَاكِعًا أَمَامَهُ يُصَلِّي! رُكُوعُ وَالِدِي وَشَفَتَا وَالِدَتِي عَلَّمَانِي عَنِ اللهِ أَكْثَرَ بِكَثِيرٍ مِمَّا عَلَّمَنِي إِيَّاهُ كِتَابُ التَّعْلِيمِ المَسِيحِيِّ".

 

ب) الطَّاعَةُ:


وَاجَهَ يَسُوعُ سُلْطَةَ أَبَوَيْهِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ وَحُقُوقَهُمَا عَلَيْهِ بِسُلْطَةِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ وَحُقُوقِهِ عَلَيْهِمَا. اللهُ أَوَّلًا، وَالإِنْسَانُ ثَانِيًا، كَمَا أَعْلَنَ يَوْمًا: "مَن كَانَ أَبُوهُ أَوْ أُمُّهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنِّي، فَلَيْسَ أَهْلًا لِي "(مَتَّى 10: 37). اِمْتَازَ يَسُوعُ فِي طَاعَةِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ أَوَّلًا، فَإِذَا اسْتَقَلَّ عَنْ أَبَوَيْهِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ لَدَى صُعُودِهِمَا إِلَى الهَيْكَلِ فِي أُورُشَلِيمَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَحَرُّرًا سَابِقًا لِأَوَانِهِ، بَلْ طَاعَةً فَائِقَةً لِأَبِيهِ السَّمَاوِيِّ.

 

وَتَقْتَضِي رِسَالَتُهُ مِنْهُ أَنْ يُقَدِّمَ شُؤُونَ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ عَلَى شُؤُونِ أَبَوَيْهِ مَرْيَمَ وَيُوسُفَ. وَيُؤَكِّدُ يَسُوعُ هُنَا اسْتِقْلَالِيَّتَهُ ضِمْنَ إِطَارِ الرِّسَالَةِ المَوْكُولَةِ إِلَيْهِ: "فَقَالَ لَهُمَا: وَلِمَ بَحَثْتُمَا عَنِّي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ عِنْدَ أَبِي؟" (لُوقَا 2: 45). وَمِنْ هَذَا المَبْدَأ، جَاءَ يَسُوعُ يُعْلِنُ أَنَّ الطِّفْلَ مِنْ حَقِّهِ مُمَارَسَةُ الحَيَاةِ حَسَبَ مَا يُنَاسِبُ شَخْصَهُ وَمَوَاهِبَهُ وَإِمْكَانِيَّاتِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ حَقِّ الطِّفْلِ أَوِ الصَّبِيِّ أَنْ يَسْلُكَ فِي رِسَالَتِهِ وَلَا يَكُونَ آلَةً بِلَا تَفْكِيرٍ فِي يَدَيْ الوَالِدَيْنِ. يَلِيقُ بِالوَالِدَيْنِ، بِمَعْنًى آخَرَ، أَنْ لَا يَتَعَامَلَا مَعَ ابْنِهِمَا كَامْتِدَادٍ لِحَيَاتِهِمَا يُشَكِّلَانِهِ حَسَبَ هَوَاهُمَا وَأُمْنِيَّاتِهِمَا، وَإِنَّمَا يُوَجِّهَانِهِ لِتَنْمِيَةِ مَوَاهِبِهِ وَقُدُرَاتِهِ وَيُعَامِلَانِهِ كَشَخْصٍ لَهُ مُقَوِّمَاتُ الشَّخْصِيَّةِ المُسْتَقِلَّةِ وَلَيْسَ تَابِعًا لَهُمَا.

 

وَهَكَذَا يَتَوَجَّبُ عَلَى المَدْعُوِّ مِنَ اللهِ أَلَّا يَضَعَ أَوْلَوِيَّةَ الاِعْتِبَارَاتِ العَائِلِيَّةِ، بَلْ يَتَفَرَّغَ لِلْحَيَاةِ الرَّسُولِيَّةِ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "دَعِ المَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَامْضِ وَبَشِّرْ بِمَلَكُوتِ اللهِ" (لُوقَا 9: 60). وَكَذَلِكَ يَتَوَجَّبُ عَلَى ذَوِي المَدْعُوِّ أَلَّا يَعْتَرِضُوا دَعْوَةَ ابْنِهِمْ لِلْكَهْنُوتِ أَوِ الحَيَاةِ الرُّهْبَانِيَّةِ. "إِنَّ أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا" (لُوقَا 8: 21).

 

وَفِي مَجَالِ الطَّاعَةِ العَائِلِيَّةِ يَحُثُّ بُولُسُ الرَّسُولُ الرِّجَالَ: "يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ حُبَّهُمْ لِأَجْسَادِهِمْ. مَن أَحَبَّ امْرَأَتَهُ أَحَبَّ نَفْسَهُ، فَمَا أَبْغَضَ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يُغَذِّيهِ وَيُعْنَى بِهِ شَأْنَ المَسِيحِ بِالكَنِيسَةِ" (أَفَسُس 5: 28). وَيُطَالِبُ الرَّسُولُ بُولُسُ النِّسَاءَ قَائِلًا: "أَيَّتُهَا النِّسَاءُ، اِخْضَعْنَ لِأَزْوَاجِكُنَّ كَمَا يَجِبُ فِي الرَّبِّ" (قُولُسِّي 3: 18)، وَيَطْلُبُ مِنَ الأَبْنَاءِ: "أَيُّهَا البَنُونَ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَذَاكَ مَا يُرْضِي الرَّبَّ" (قُولُسِّي 3: 20). وَهَذَا التَّعْلِيمُ بِمَثَابَةِ صَدًى لِمَا وَرَدَ فِي العَهْدِ القَدِيمِ: "أَكْرَمَ أَبَاهُ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ، وَمَنْ عَظَّمَ أُمَّهُ فَهُوَ كَمُدَّخِرِ الكُنُوزِ" (يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخَ 3: 1-4). فَإِنْ كَانَ ابْنُ اللهِ قَدْ أَطَاعَ أَبَوَيْهِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُكْرِمَ وَالِدَيْنَا وَأَفْرَادَ عَائِلَاتِنَا.

 

ج) النُّمُوُّ:

 

"وكانَ يَسوعُ يَتَسامَى في الحِكمَةِ والقَامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاسِ" (لُوقَا 2: 52). فَكَانَ يَسُوعُ يَنْمُو فِي الحِكْمَةِ، أَيِ المَعْرِفَةِ، وَالقَامَةِ، أَيِ النُّمُوِّ الجَسَدِيِّ، وَالنِّعْمَةِ، أَي مَحَبَّةِ اللهِ وَمَحَبَّةِ البَشَرِ. وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، يُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّ يَسُوعَ يَعِيشُ لَاهُوتَهُ فِي نَاسُوتِهِ، وَيَعِيشُ نَاسُوتَهُ فِي لَاهُوتِهِ.

 

د) العَيْشُ المُشْتَرَكُ:

 

عَاشَتِ العَائِلَةُ المُقَدَّسَةُ فِي العَيْشِ المُشْتَرَكِ، حَيْثُ اِمْتَازَ يُوسُفُ بِسُلْطَةٍ حَازِمَةٍ وَوَدِيعَةٍ، وَمَرْيَمُ بِمَحَبَّةٍ وَتَضْحِيَةٍ وَسَهَرٍ، وَيَسُوعُ بِرُوحِ طَاعَةٍ بُنُوِيَّةٍ وَاعِيَةٍ وَمُحْتَرِمَةٍ. وَيُلَخِّصُ بُولُسُ الرَّسُولُ صِفَاتِ العَيْشِ المُشْتَرَكِ: "المَحَبَّةُ تَصْبِرُ، المَحَبَّةُ تَخْدُمُ، وَلَا تَحْسُدُ وَلَا تَتَبَاهَى وَلَا تَنْتَفِخُ مِنَ الكِبْرِيَاءِ، وَلَا تَفْعَلُ مَا لَيْسَ بِشَرِيفٍ، وَلَا تَسْعَى إِلَى مَنْفَعَتِهَا، وَلَا تَحْنَقُ وَلَا تُبَالِي بِالسُّوءِ، وَلَا تَفْرَحُ بِالظُّلْمِ، بَلْ تَفْرَحُ بِالحَقِّ. وَهِيَ تَعْذِرُ كُلَّ شَيْءٍ وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيءٍ وَتَرْجُو كُلَّ شَيءٍ وَتَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيءٍ" (1 قُورِنْتُس 13: 4-7).

 

وَقَدِ احْتَمَلَتِ العَائِلَةُ المُقَدَّسَةُ وَصَبَرَتْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: عَلَى الأَلَمِ وَالاِغْتِرَابِ وَالفَقْرِ، وَلَمْ تَتَذَمَّرْ أَبَدًا. وَكَانَ يُوسُفُ وَيَسُوعُ يُقَدِّسَانِ العَمَلَ اليَوْمِيَّ بِإِتْقَانٍ وَقَنَاعَةٍ وَضَمِيرٍ حَيٍّ. وَقَدْ سَادَ بَيْنَ أَفْرَادِ العَائِلَةِ المُقَدَّسَةِ: "الحَنَانُ وَاللُّطْفُ وَالتَّوَاضُعُ وَالوَدَاعَةُ وَالصَّبْرُ، وَثَوْبَ المَحَبَّةِ وَالسَّلَامُ" (قُولُسِّي 3: 12-15). الجَمِيعُ فِي خِدْمَةِ الجَمِيعِ، وَالمَسْؤُولِيَّةُ خِدْمَةٌ.

 

وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، لَا بُدَّ لَنَا مِنْ حَيَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَإِلَّا تَصْبَحُ بُيُوتُنَا عَلَى مِثَالِ "مَحَطَّاتِ البِنْزِينِ"، حَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ صَاحِبُ السَّيَّارَةِ إِلَّا الوَقْتَ اللَّازِمَ لِتَعْبِئَةِ الخَزَّانِ وَمَسْحِ الزُّجَاجِ وَنَفْخِ الدَّوَالِيبِ. فَيُصْبِحُ البَيْتُ مَحَطَّةً لِلْأَكْلِ الفَرْدِيِّ السَّرِيعِ وَتَبْدِيلِ الثِّيَابِ وَالنَّوْمِ، لَا أَكْثَرَ.

 

هـ) الاِحْتِرَامُ:

 

يَعْمَلُ أَفْرَادُ العَائِلَةِ عَلَى احْتِرَامِ بَعْضِهِمُ البَعْضَ، وَهَذَا مَا نَجِدُهُ فِي حَادِثَةِ فَقْدَانِ الطِّفْلِ يَسُوعَ فِي الهَيْكَلِ. فَمَرْيَمُ ذَكَرَتْ يُوسُفَ أَوَّلًا عِنْدَمَا وَجَدَتْ يَسُوعَ، بِقَوْلِهَا: "يَا بُنَيَّ، لِمَ صَنَعْتَ بِنَا ذَلِكَ؟ فَأَبُوكَ وَأَنَا نَبْحَثُ عَنْكَ مُتَلَهِّفَيْنِ" (لُوقَا 2: 49). إِنَّهُ احْتِرَامٌ لِمَكَانَةِ الأَبِ فِي الأُسْرَةِ، فَالأُبُوَّةُ عَطِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ، كَمَا جَاءَ فِي صَلَاةِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "أَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيَّ لِلْآبِ، فَمِنْهُ تَسْتَمِدُّ كُلُّ أُسْرَةٍ اسْمَهَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" (أَفَسُس 3: 14-15). وَأَمَّا عَنْ يَسُوعَ، فَيَقُولُ الكِتَابُ إِنَّهُ: "كَانَ طَائِعًا لَهُمَا" (لُوقَا 2: 51). إِنَّهُ احْتِرَامٌ لِمَكَانَةِ الأَبِ وَالأُمِّ فِي الأُسْرَةِ. اِحْتِرَامٌ مُتَبَادَلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَسَاسِ المَحَبَّةِ وَالثِّقَةِ فِي فِعْلِ الرُّوحِ القُدُسِ دَاخِلَ سِرِّ الزَّوَاجِ.

 

2) تَرْبِيَةُ العَائِلَةِ

 

التَّرْبِيَةُ فِي العِبْرِيَّةِ מוּסָר تَعْنِي فِي آنٍ وَاحِدٍ التَّعْلِيمَ (هِبَةَ الحِكْمَةِ) وَالتَّهْذِيبَ (التَّوْبِيخَ وَالعِقَابَ). فَالغَايَةُ هِيَ الحِكْمَةُ، وَالوَسِيلَةُ المُفَضَّلَةُ هِيَ التَّهْذِيبُ. المُعَلِّمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ تِلْمِيذَهُ الحِكْمَةَ، وَالفِطْنَةَ، وَ"التَّأْدِيبَ" (أَمْثَال 23: 23). أَمَّا السَّبْعِينِيَّةُ، فَتُتَرْجِمُ كَلِمَةَ מוּסָר بِاللَّفْظِ παιδεία اليُونَانِيِّ وَdisciplina اللَّاتِينِيِّ؛ وَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ المَفْهُومَيْنِ.

فِي العِبْرِيَّةِ، اللهُ هُوَ المُرَبِّي المِثَالِيُّ الأَوَّلُ، الَّذِي يُحَاوِلُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى طَاعَةِ شَعْبِهِ لِلشَّرِيعَةِ أَوْ فِي الإِيمَانِ، طَاعَةً مَرِنَةً، وَذَلِكَ لَا بِالتَّعْلِيمِ فَحَسْبُ، بَلْ عَنْ طَرِيقِ التَّجَارِبِ أَيْضًا. وَفِي المُفْهُومِ اليُونَانِيِّ وَاللَّاتِينِيِّ، إِنَّ المُرَبِّي هُوَ رَجُلٌ يُحَاوِلُ إِيقَاظَ شَخْصِيَّةِ فَرْدٍ مَا فِي ظِلِّ أُفُقٍ أَرْضِيٍّ مَحْدُودٍ. وَهَدَفُ التَّرْبِيَةِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: نَصِيرَ الإِنْسَانَ الرَّاشِدَ، وَنَبْلُغَ القَامَةَ الَّتِي تُوَافِقُ كَمَالَ المَسِيحِ" (أَفَسُس 4: 13). وَهَذِهِ التَّرْبِيَةُ تُعَكِّسُ فِي الوَاقِعِ مَظْهَرَيِ التَّرْبِيَةِ العَائِلِيَّةِ: التَّعْلِيمَ وَالتَّأْدِيبَ.

 

أ) التَّعْلِيمُ

 

التَّعْلِيمُ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ هُوَ تَلْقِينُ الحِكْمَةِ عَنْ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ غَايَةَ الشَّرِيعَةِ هِيَ التَّرْبِيَةُ: "مِنَ السَّماءِ أَسمَعَكَ صَوتَه لِيُؤَدِّبَكَ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 4: 36). لَيْسَ ذَلِكَ تَعْبِيرًا عَنْ الإِرَادَةِ الإِلَهِيَّةِ فَقَطْ، فِي صُورَةِ وَصَايَا مَوْضُوعَةٍ، بَلْ لِكَيْ تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ، وَيُرِيدُ أَنْ يُمْنَحَكَ السَّعَادَةَ وَطُولَ الأَيَّامِ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مَدَى الدَّهْرِ: "اِحْفَظْ فَرائِضَهُ وَوَصَايَاهُ الَّتِي أَنا آمُرُكَ بِهَا اليَوْمَ، لِكَي تُصِيبَ خَيْرًا أَنْتَ وَبَنُوكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَلِكَي تُطِيلَ أَيَّامَكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِيَّاهَا جَمِيعَ الأَيَّامِ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 4: 40). وَيُعَدُّ الرَّبُّ كَمُرَبٍّ صَالِحٍ، فِي وَعْدِهِ بِالمُكَافَأَةِ عَنْ حِفْظِ الشَّرِيعَةِ.

 

الشَّرِيعَةُ، مِثْلَهَا مِثْلَ المَحَبَّةِ، يَجِبُ أَنْ تَعْنِي حُضُورَ كَلِمَةِ المُؤَدِّبِ ذَاتِهَا: "إِنَّ هَذِهِ الوَصِيَّةَ الَّتِي أَنا آمُرُكَ بِهَا اليَوْمَ لَيْسَتْ فَوْقَ طَاقَتِكَ وَلَا بَعِيدَةً مِنْكَ. لَا هِيَ فِي السَّمَاءِ ... وَلَا هِيَ عَبْرَ البَحْرِ ... بَلِ الكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ جِدًّا، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ لِتَعْمَلَ بِهَا" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 30: 11-14).

 

وَيَسُوعُ هُوَ خَيْرُ مِثَالٍ عَلَى التَّرْبِيَةِ بِتَعْلِيمِهِ وَمَثَالِهِ. إِنَّهُ مُرَبِّي إِيمَانِ الرُّسُلِ، إِذْ قَادَهُمْ تَدْرِيجِيًّا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ المَسِيحُ. إِنَّ بُطْرُسَ "اِبْتِدَاءً مِنَ اليَوْمِ" الَّذِي فِيهِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ المَسِيحُ، أَخَذَ فِي تَعْدِيلِ تَصَرُّفِهِ (مَتَّى 16: 21). وَأَثَارَ يَسُوعُ حَوْلَ شَخْصِهِ سُؤَالًا مِنْ خِلَالِ تَعْلِيمِهِ (مَتَّى 7: 28-29، مَرْقُس 1: 27)، وَمُعْجِزَاتِهِ (مَتَّى 8: 27، لُوقَا 4: 36).

 

أَلْقَى يَسُوعُ تَعْلِيمَهُ طِبْقًا لِتَقَبُّلِ سَامِعِيهِ، كَمَا فِي أَمْثَالِهِ، الَّتِي قَصَدَ بِهَا، لَا التَّعْلِيمَ فَحَسْبُ، بَلْ إِثَارَةَ أَسْئِلَةٍ لِشَرْحِهَا (مَتَّى 13: 10-13 وَ36)، حَتَّى يَتَوَصَّلُوا إِلَى "فَهْمِهَا" كَمَا جَاءَ فِي سُؤَالِهِ لِلتَّلَامِيذِ بَعْدَ تَعْلِيمِهِ: "أَفَهِمْتُمْ هَذَا كُلَّهُ؟" (مَتَّى 13: 51).

 

وَجَعَلَ التَّلَامِيذَ "يَتَحَقَّقُونَ مِنْ عَجْزِهِمْ وَمِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ الخُبْزِ فِي الصَّحْرَاءِ" (مَتَّى 14: 15-21)، وَيَسْتَخْلِصُ مِنَ الخُبْزِ دَرْسًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ "يَفْهَمُوهُ" (مَتَّى 16: 8-12)، وَيَدْعُوهُمْ لِتَقْدِيمِ حِسَابٍ عَنِ العَمَلِ الَّذِي تَوَلَّوْا تَنْفِيذَهُ: "اجتَمَعَ الرُّسُلُ عِندَ يَسُوعَ، وَأَخبَرُوهُ بِجَميعِ مَا عَمِلُوا وَعَلَّمُوا" (مَرْقُسَ 6: 30). وَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَطِيعُ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِهِ أَنَّهُ المَسِيحُ، أَنْ يَكْشِفَ لَهُمْ سِرًّا يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ قُبُولُهُ، أَلَا وَهُوَ سِرُّ الصَّلِيبِ. وَتُصْبِحُ تَرْبِيَتُهُ أَكْثَرَ تَشَدُّدًا فِي مَطَالِبِهَا، فَيُؤَدِّبُ بُطْرُسَ الَّذِي يَجْرُؤُ وَيُعَاتِبُهُ: "التَفَتَ يَسُوعُ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: إِنسَحِبْ! وَرَائِي! يَا شَيْطَانُ، فَأَنْتَ لِي حَجَرُ عَثْرَةٍ، لِأَنَّ أَفْكَارَكَ لَيْسَتْ أَفْكَارَ اللهِ، بَلْ أَفْكَارُ البَشَرِ" (مَتَّى 16: 23). َيَرْثِي لِعَدَمِ إِيمَانِ التَّلَامِيذِ: "أَيُّهَا الجِيلُ الكَافِرُ الفَاسِدُ، حَتَّامَ أَبْقَى مَعَكُمْ؟ وَإِلَامَ أَحْتَمِلُكُمْ؟ عَلَيَّ بِهِ إِلَى هُنَا!" (مَتَّى 17: 17).

 

لَمْ يَكْتَفِ يَسُوعُ بِأَنْ يَقُولَ مَا يَجِبُ عَمَلُهُ، بَلْ أَعْطَى المِثَالَ. وَهَكَذَا أَعْطَانَا مِثَالًا عَنِ الفَقْرِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَجَرٌ يَسْنِدُ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، كَمَا صَرَّحَ لِتَلَامِيذِهِ: "إِنَّ لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةً، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارًا، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ مَا يَضَعُ عَلَيْهِ رَأْسَهُ" (مَتَّى 8: 20). وَأَعْطَانَا يَسُوعُ مِثَالًا عَنِ الأَمَانَةِ نَحْوَ الرِّسَالَةِ، فَأَدَّى بِهِ ذَلِكَ إِلَى الوُقُوفِ فِي مُوَاجَهَةِ اليَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَيَطْرُدُ مَثَلًا البَاعَةَ مِنَ الهَيْكَلِ. وَجَلَبَتْ هَذِهِ الغَيْرَةُ عَلَيْهِ المَوْتَ: "الغَيْرَةُ عَلَى بَيْتِكَ سَتَأْكُلُنِي" (يُوحَنَّا 2: 17). كَذَلِكَ أَعْطَى يَسُوعُ المِثَالَ عَنِ المَحَبَّةِ الأُخُوِيَّةِ، فَغَسَلَ هُوَ نَفْسُهُ أَرْجُلَ تَلَامِيذِهِ، وَهُوَ المُعَلِّمُ: "فَإِذَا كُنْتُ أَنَا الرَّبَّ وَالمُعَلِّمَ قَدْ غَسَلْتُ أَقْدَامَكُمْ، فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَقْدَامَ بَعْضٍ. فَقَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ مِنْ نَفْسِي قُدْوَةً لِتَصْنَعُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مَا صَنَعْتُ إِلَيْكُمْ" (يُوحَنَّا 13: 14-15). وَبِمَا أَنَّ هَذَا المِثَالَ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، جَعَلَ يَسُوعُ نَفْسَهُ وَاحِدًا مَعَ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَبِّيَهُمْ، إِذْ يَتَحَمَّلُ بِنَفْسِهِ "التَّأْدِيبَ" وَالعِقَابَ الوَاقِعَ عَلَيْهِمْ، كَمَا وَصَفَهُ أَشَعْيَا النَّبِيُّ: "طُعِنَ بِسَبَبِ مَعَاصِينَا وَسُحِقَ بِسَبَبِ آثَامِنَا. نَزَلَ بِهِ العِقَابُ مِنْ أَجْلِ سَلَامِنَا، وَبِجُرْحِهِ شُفِينَا" (أَشَعْيَا 53: 5). وَحَمَلَ أَسْقَامَهُمْ: "هُوَ الَّذِي أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا" (مَتَّى 8: 17)، وَرَفَعَ خَطِيئَةَ العَالَمِ كَمَا شَهِدَ لَهُ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ:"رَأَى يَسُوعَ آتِيًا نَحْوَهُ فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ العَالَمِ" (يُوحَنَّا 1: 29).

 

نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ أَسَاسَ التَّرْبِيَةِ هِيَ المَحَبَّةُ، لِأَنَّ المَحَبَّةَ هِيَ حِوَارٌ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، فَالمُرَبِّي "يُعَلِّمُ، وَيُوحِي، وَيَكْشِفُ، وَيَعِظُ، وَيَعِدُ، وَيُعَاقِبُ، وَيُكَافِئُ، وَيُعْطِي المَثَلَ". ومن أجل ذلك، يجب أن يكون أمينًا على مخطَّطه، وصبورًا من أجل النتائج المنشودة. وَانْطِلَاقًا مِنْ هَذَا المَبْدَأ، فَقَدْ شَاءَ يَسُوعُ أَنْ يَخْتَبِرَ ضَعْفَنَا، هُوَ الَّذِي: "اُمْتُحِنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَنَا، مَا عَدَا الخَطِيئَةَ" (عِبْرَانِيِّينَ 4: 15)، وَهُوَ الَّذِي: "تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ، وَهُوَ الِابْنُ بِمَا لَقِيَ مِنَ الأَلَمِ... وَجَعَلَ كَامِلًا" (عِبْرَانِيِّينَ 5: 8-9). وَبِذَبِيحَتِهِ، أَكْمَلَ يَسُوعُ تَرْبِيَةَ شَعْبِهِ. وَلَقَدْ فَشِلَ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ سَبَقَ وَأَعْلَنَ كُلَّ مَا سَيَحْدُثُ لَهُ: "قُلْتُ لَكُمْ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لِئَلَّا تَعْثُرُوا" (يُوحَنَّا 16: 1). وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ بِنَفْسِهِ أَنْ يَجْعَلَ تَلَامِيذَهُ يَفْهَمُونَهُ تَمَامًا، كَمَا صَرَّحَ: "يَزَالُ عِنْدِي أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ أَقُولُهَا لَكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ الآنَ حَمْلَهَا" (يُوحَنَّا 16: 12). إِنَّهُ لَخَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يَنْطَلِقَ وَيَتْرُكَ المَكَانَ لِلرُّوحِ القُدُسِ (يُوحَنَّا 17: 7-8).

 

ب) التَّأْدِيبُ

 

لَا تَقُومُ التَّرْبِيَةُ عَلَى التَّعْلِيمِ فَقَطْ، بَلْ عَلَى التَّأْدِيبِ. وَيَعْتَرِفُ صَاحِبُ المَزَامِيرِ بِقِيمَةِ التَّأْدِيبِ الإِلَهِيِّ:

 

"فِي اللَّيَالِي وَعَظَتْنِي كُلْيَتَايَ" (المَزْمُورُ 16: 7). وَيُعْلِنُ الحَكِيمُ: "طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يُؤَاخِذُهُ اللهُ، فَلَا تَنْبِذَنَّ تَأْدِيبَ القَدِيرِ" (أَيُّوبَ 5: 17). يَذْهَبُ التَّأْدِيبُ مِنَ التَّهْدِيدِ إِلَى العِقَابِ، مَارًّا بِالتَّوْبِيخِ. وَيُبَيِّنُ هُوشَعَ الطَّابِعَ التَّرْبَوِيَّ فِي العِقَابِ المُرْسَلِ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ، كَمَا يَقُولُ هُوشَعَ النَّبِيُّ: "إِنِّي مُصَمِّمٌ عَلَى تَأْدِيبِهِمْ. وَسَيَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ عَلَيْهِمْ لِتَمَسُّكِهِمْ بِذَنْبِهِمْ" (هُوشَعَ 10: 10). مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، لِلْوَالِدَيْنِ وَالمُعَلِّمِينَ تُجَاهَ الأَطْفَالِ سُلْطَانٌ تُقِرُّهُ الشَّرِيعَةُ: "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِيَّاهَا" (خُرُوجُ 20: 12). وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي السَّمَاعُ لِلأَبِ وَالأُمِّ كَمَا يَنْصَحُ الحَكِيمُ: اِسْمَعْ لِأَبِيكَ الَّذِي وَلَدَكَ، وَلَا تَسْتَهِنْ بِأُمِّكَ إِذَا شَاخَتْ" (أَمْثَالُ 23: 22). تَفَادِيًا لِلتَّعَرُّضِ لِلْعِقَابِ الصَّارِمِ، لِأَنَّ: "العَيْنُ المُسْتَهْزِئَةُ بِالأَبِ، وَالمُسْتَخِفَّةُ بِطَاعَةِ الأُمِّ، إِذَا شَاخَتْ، تَفْقَأُهَا غِرْبَانُ الوَادِي وَتَأْكُلُهَا فِرَاخُ النَّسْرِ" (أَمْثَالُ 30: 17).

 

فَالأَبْنَاءُ المُتَمَرِّدُونَ لَا يَقْبَلُونَ الدَّرْسَ، وَيَرْفُضُونَ الخُضُوعَ لِلتَّعْلِيمِ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ:

 

"هَذِهِ هِيَ الأُمَّةُ الَّتِي لَمْ تَسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ إِلَهِهَا وَلَمْ تَقْبَلِ التَّأْدِيبَ. قَدْ ذَهَبَتْ عَنْهُمُ الأَمَانَةُ وَانْقَطَعَتْ عَنْ أَفْوَاهِهِمْ" (إِرْمِيَا 7: 28). وَيُضِيفُ: "صَلَّبُوا وُجُوهَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الصَّخْرِ" (إِرْمِيَا 5: 3). عِنْدَئِذٍ، يَتَحَوَّلُ التَّأْدِيبُ إِلَى عِقَابٍ، يُضْرِبُ مُبَاشَرَةً، كَمَا قِيلَ: "إِنْ لَمْ تَسْمَعُوا لِي بَعْدَ هَذَا زِدْتُكُمْ تَأْدِيبًا عَلَى خَطَايَاكُمْ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ" (الأَحْبَارِ 26: 18). وَلَكِنْ، بِقَدَرٍ مُعْتَدِلٍ، وَلَيْسَ تَحْتَ طَائِلَةِ الغَضَبِ الَّذِي يَقْتُلُ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ إِرْمِيَا: "أَدِّبْنِي يَا رَبُّ، وَلَكِنْ بِالحَقِّ، لَا بِغَضَبِكَ، لِئَلَّا تُقَلِّلَ عَدَدِي" (إِرْمِيَا 10: 24). فَيُمْكِنُ أَنْ يَتْبَعَ ذَلِكَ الِاهْتِدَاءُ، وَتَنْتَهِي نَدَامَتُهُ بِالتَّضَرُّعِ: "أَعِدْنِي فَأَعُودَ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ إِلَهِي" (إِرْمِيَا 31: 18).

 

يَذْكُرُ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ أَهَمِّيَّةَ التَّأْدِيبِ: "فَمِنْ أَجْلِ التَّأْدِيبِ تَتَأَلَّمُونَ، وَإِنَّ اللهَ يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ البَنِينَ. وَأَيُّ ابْنٍ لَا يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟" (عِبْرَانِيِّينَ 12: 7-8). وَعَلَى ذَلِكَ، يَنْبَغِي أَنْ نَتَوَقَّعَ التَّأْدِيبَ، إِذَا كُنَّا فَاتِرِينَ (رُؤْيَا 3: 9). وَيُبَيِّنُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّ التَّأْدِيبَ يُعْفِينَا مِنَ الإِدَانَةِ بِالهَلَاكِ، كَمَا قَالَ: "إِنَّ الرَّبَّ يَدِينُنَا لِيُؤَدِّبَنَا، فَلَا يُحْكَمَ عَلَيْنَا مَعَ العَالَمِ" (1 قُورِنْتُس 11: 32). وَبَعْدَ أَنْ نَتَأَلَّمَ، تَهَبُنَا النِّهَايَةُ الفَرَحَ: "إِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ لَا يَبْدُو فِي وَقْتِهِ بَاعِثًا عَلَى الفَرَحِ، بَلْ عَلَى الغَمِّ. غَيْرَ أَنَّهُ يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ رَوَّضَهُمْ بِثَمَرِ البِرِّ وَمَا فِيهِ مِنْ سَلَامٍ" (عِبْرَانِيِّينَ 12: 11).

 

وَأَخِيرًا، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّبُ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَنْ يُمَارِسُوا عَمَلَ التَّأْدِيبِ الأُخَوِيِّ، طِبْقًا لِوَصِيَّةِ الرَّبِّ يَسُوعَ: "إِذَا خَطِئَ أَخُوكَ، فَاذْهَبْ إِلَيْهِ وَانْفَرِدْ بِهِ وَوَبِّخْهُ. فَإِذَا سَمِعَ لَكَ، فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ" (مَتَّى 18: 15). ذَلِكَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ بُولُسُ الرَّسُولُ بِقُوَّةٍ، مُوَبِّخًا وَمُحَذِّرًا أَوْلَادَهُ بِلَا اِنْقِطَاعٍ: "أُرِيدُ أَنْ أَنْصَحَكُمْ نَصِيحَتِي لِأَبْنَائِيَ الأَحِبَّاءِ" (1 قُورِنْتُس 4: 14). وَمَا الوَالِدُونَ بِصَدَدِ تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ إِلَّا وُكَلَاءَ عَنْ اللهِ، المُرَبِّي الوَاحِدِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغِيظُوا أَوْلَادَهُمْ، بَلْ يُؤَنِّبُوهُمْ وَيُؤَدِّبُوهُمْ عَلَى غِرَارِ طَرِيقَةِ اللهِ نَفْسِهِ: "وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لَا تُغِيظُوا أَبْنَاءَكُمْ، بَلْ رَبُّوهُمْ بِتَأْدِيبِ الرَّبِّ وَنُصْحِهِ" (أَفَسُس 6: 4).وَهَكَذَا، لَنْ تَكْمُلَ التَّرْبِيَةُ إِلَّا يَوْمَ تُحْفَظُ الشَّرِيعَةُ فِي أَعْمَاقِ القَلْبِ، كَمَا قِيلَ: "وَلَا يُعَلِّمُ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلًا: اِعْرِفِ الرَّبَّ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي، مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ" (إِرْمِيَا 31: 34).

 

 

الخُلاصة

 

لَمْ تَرْوِ لَنَا الأَنَاجِيلُ المُقَدَّسَةُ شَيْئًا عَنْ شَخْصِ السَّيِّدِ المَسِيحِ مُنْذُ عَوْدَتِهِ مِنْ مِصْرَ وَهُوَ طِفْلٌ، رُبَّمَا فِي الثَّالِثَةِ مِنْ عُمُرِهِ، وَحَتَّى بَدْءِ الخِدْمَةِ فِي سِنِّ الثَّلَاثِينَ، سِوَى قِصَّةِ دُخُولِهِ الهَيْكَلَ فِي سِنِّ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ. وَتَدُورُ رِوَايَةُ هذا النَّصِّ عَلَى خَمْسَةِ أَحْدَاثٍ: الحَدَثُ الأَوَّلُ: كَانَ يَسُوعُ، مَعَ عَائِلَتِهِ، يُشَارِكُ فِي الحَجِّ السَّنَوِيِّ إِلَى الهَيْكَلِ فِي أُورُشَلِيمَ، مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْ الِالْتِزَامِ بِالعَادَاتِ اليَهُودِيَّةِ. والحَدَثُ الثَّانِي: فُقْدَانُ يَسُوعَ عِنْدَ عَوْدَةِ العَائِلَةِ، إِذْ أَدْرَكَ يُوسُفُ وَمَرْيَمُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ مَعَهُمَا. فَعَادَا إِلَى أُورُشَلِيمَ لِلبَحْثِ عَنْهُ، وَوَجَدَاهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الهَيْكَلِ. والحَدَثُ الثَّالِثُ: يَسُوعُ فِي الهَيْكَلِ، حَيْثُ وُجِدَ يَسُوعُ بَيْنَ العُلَمَاءِ، يَسْتَمِعُ إِلَيْهِمْ وَيَطْرَحُ أَسْئِلَةً، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وَعْيِهِ وَفَهْمِهِ المُمَيَّزِ. والحَدَثُ الرَّابِعُ: الحِوَارُ مَعَ وَالِدَيْهِ، إِذْ لَامَتْهُ أُمُّهُ عَلَى بَقَائِهِ بَعِيدًا عَنْهُمَا، فَأَجَابَ يَسُوعُ بِوُضُوحٍ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ "فِيمَا هُوَ لِأَبِيهِ"، فِي إِشَارَةٍ وَاضِحَةٍ إِلَى وَعْيِهِ بِرِسَالَتِهِ الإِلَهِيَّةِ. والحَدَثُ الخَامِسُ والأخير: العَوْدَةُ إِلَى النَّاصِرَةِ، حَيْثُ يَعُودُ يَسُوعُ مَعَ وَالِدَيْهِ وَيَعِيشُ فِي طَاعَةٍ لَهُمَا، مِمَّا يُظْهِرُ التَّوَازُنَ بَيْنَ طَبِيعَتِهِ الإِلَهِيَّةِ وَإِنْسَانِيَّتِهِ.

 

للنَّص الأَبْعَادُ المُخْتَلِفَةُ فِي النَّصِّ: البُعْدُ اللَّاهُوتِيُّ: يَكْشِفُ النَّصُّ عَنْ وَعْيِ يَسُوعَ المُبَكِّرِ بِعَلَاقَتِهِ الخَاصَّةِ بِاللهِ الآبِ. بِقَوْلِهِ: "يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا هُوَ لِأَبِي". يُبْرِزُ النَّصُّ رِسَالَتَهُ الإِلَهِيَّةَ وَدَعْوَتَهُ مُنْذُ الطُّفُولَةِ. والبُعْدُ التَّرْبَوِيُّ: الحِوَارُ بَيْنَ يَسُوعَ وَوَالِدَيْهِ يُعَكِسُ أَهَمِّيَّةَ الطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَامِ. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ إِدْرَاكِهِ هُوِيَّتَهُ الإِلَهِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَعُودُ مَعَهُمَا إِلَى النَّاصِرَةِ وَيَعِيشُ فِي طَاعَةٍ لَهُمَا. والبُعْدُ الإِنْسَانِيُّ: يُظْهِرُ النَّصُّ الإِنْسَانِيَّةَ العَمِيقَةَ فِي عِلَاقَةِ يَسُوعَ مَعَ عَائِلَتِهِ، وَمُعَانَاتِهِمْ فِي البَحْثِ عَنْهُ، وَقَلَقِهِمْ عَلَيْهِ. وأخيرًا البُعْدُ الرُّوحِيُّ: اخْتِيَارُ يَسُوعَ البَقَاءَ فِي الهَيْكَلِ يُسَلِّطُ الضَّوْءَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الهَيْكَلِ كَمَكَانٍ لِلِّقَاءِ مَعَ اللهِ. وَيُبْرِزُ دَوْرَهُ كَمُعَلِّمٍ وَمُرْشِدٍ حَتَّى فِي طُفُولَتِهِ.

 

يَطْرَحُ هَذَا النَّصُّ تَّحَدِّي عَلَى حَيَاتِنَا هُوَ أَنْ نُرَاجِعَ أَنْفُسَنَا: هَلْ نَعِيشُ إِيمَانَنَا بِشَكْلٍ يَوْمِيٍّ؟ أَمْ أَنَّ عَلاقَتَنَا بِاللَّهِ مَحْصُورَةٌ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالْأَعْيَادِ؟ الِاقْتِدَاءُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ يَعْنِي تَحْوِيلَ كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ حَيَاتِنَا إِلَى فُرْصَةٍ لِنَقْتَرِبَ مِنَ اللَّهِ وَنُعَكِّسَ إِيمَانَنَا فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ.

 

 

دعاء

 

أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، يَا مَنْ تَجَسَّدَ ابْنُكَ يَسُوعُ المَسِيحُ، حَامِلًا التَّعْلِيمَ الأَزَلِيَّ، وَتَحَرَّرَ مِنَ الرَّوَابِطِ العَائِلِيَّةِ حَتَّى يُصْبِحَ بِكُلِّيَّتِهِ خَادِمًا لِرِسَالَتِكَ السَّمَاوِيَّةِ، فَأَدْهَشَ بِتَعْلِيمِهِ العُلَمَاءَ وَالسَّامِعِينَ، نَسْأَلُكَ بِاسْمِهِ أَنْ تُضْرِمَ نَارَ إِيمَانِنَا لِكَيْ نَبْحَثَ عَنْهُ كَمَا بَحَثَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ عَنْهُ. وَأَعْطِنَا أَنْ نَحْيَا بِالأَمَانَةِ لِرِسَالَتِكَ، فَنَعْمَلَ عَلَى تَرْسِيخِ نَشْرِ كَلِمَتِكَ. فَنَشْكُرَكَ لِأَنَّكَ أَشْرَكْتَنَا فِي رِسَالَتِكَ السَّمَاوِيَّةِ لِكَيْ نَكُونَ شُهُودًا عَلَى قِيَمِ الحَقِّ وَالخَيْرِ وَالعَدَالَةِ فِي مُجْتَمَعِنَا. فَنَجْعَلَ مِنْ عَالَمِنَا مَكَانًا نَشْهَدُ لِحُضُورِكَ بَيْنَنَا. آمِينَ.