موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥

عِمادُ يَسوعَ – وظهورُهُ نَبِيًّا ومَسيحًا وابنَ اللهِ

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحدُ الثالثُ بعدَ الميلادِ: عِمادُ يَسوعَ – وظهورُهُ نَبِيًّا ومَسيحًا وابنَ اللهِ (لوقا 3: 15-16، 21-22)

الأحدُ الثالثُ بعدَ الميلادِ: عِمادُ يَسوعَ – وظهورُهُ نَبِيًّا ومَسيحًا وابنَ اللهِ (لوقا 3: 15-16، 21-22)

 

النَّصُّ الإنْجيلي (لوقا 3: 15-16، 21-22)

 

15 وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح.  16 فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: ((أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. 21 ولَمَّا اعتَمَدَ الشَّعبُ كُلُّه واعتَمَدَ يَسوعُ أَيضاً وكانَ يُصَلِّي، اِنفَتَحَتِ السَّماء، 22  ونَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة، وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: ((أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت)).

 

 

المُقِّدمَة

 

نَحْتَفِلُ اليومَ بعيدِ عِمَادِ يَسُوع، ويُمَثِّلُ هذا العِمَادُ على يَدِ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ في نهرِ الأُرْدُنِّ ظُهُورَ يَسُوعَ لِلْجُمُوعِ. وكان النَّاسُ يَنتَظِرُونَ مَسِيحًا ذا طَابَعٍ وَطَنِيٍّ وعَسْكَرِيٍّ وسِيَاسِيٍّ، ولكن لُوقَا الإِنْجِيلِيَّ أَوْضَحَ أنَّ يَسُوعَ تمَّ تَنْصِيبَه مِنْ قِبل الرُّوح القُدس نَّبِيًا و"المَسِيحُ الآتِي" وابنُ اللهِ، الذي تَضَامَنَ مع شَعْبِهِ لِيُخَلِّصَهُمْ من خَطَايَاهُمْ؛ ومن هنا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ في وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وتَطْبِيقَاتِهِ.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا ((لوقا 3: 15-16، 21-22)

 

15 وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح

 

تشيرُ عبارةُ "وكانَ الشُّعْبُ يَنتَظِر" إلى انتظارِ الشَّعبِ اليهوديِّ لِلمَسِيحِ المُخَلِّص، لأنَّهُ لم يَكُنْ هناكَ نَبِيٌّ في إِسْرائيلَ لِفَتْرَةٍ تَزيدُ على أَرْبَعِمِئَةِ عامٍ. واعتَقَدَ كَثِيرونَ أَنَّ النُّبُوءَةَ ستَعودُ إلى الظُّهُورِ مع مَجِيءِ المَسِيحِ (يُوئِيل 2: 27)؛ ومِن هذا المُنطَلَقِ، نَجِدُ يُوحَنَّا المَعْمَدَانَ يَشهَدُ شَهادَتَهُ الأَخِيرَةَ لِيَسُوعَ: "أَنتُم بِأَنفُسِكُم تَشهَدونَ لِي بِأَنِّي قُلتُ إِنِّي لَستُ المَسِيحَ، بَل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يُوحَنَّا 3: 28). نَحنُ نَعِيشُ في زَمَنٍ لَمْ يَعُدِ النَّاسُ يَنتَظِرُونَ فيهِ شَيئًا، واستَسْلَمُوا لِعَيْشِ الوَقْتِ الحاضِرِ فقط، وهُم يَئِنُّونَ تَحتَ نِيرِ الظُّلْمِ والإرهاقِ. فَهَلْ نَسمَحُ لِكَلِمَةِ الرَّبِّ أَنْ تَعمَلَ وتُوقِظَ فينا الأَمَلَ؟ أمَّا عبارةُ "كُلٌّ يَسأَلُ نَفسَهُ عن يُوحَنَّا" فتشيرُ إلى تَساؤُلِ أَفرادِ الشَّعبِ عن هُويَّةِ يُوحَنَّا المَعْمَدَان، إذا كانَ هوَ المَسِيحَ المُنتَظَر: "إِذ أَرسَلَ إِلَيهِ اليَهودُ مِن أُورَشَليمَ بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيِّينَ يَسأَلونَهُ: مَن أَنتَ؟" (يُوحَنَّا 1: 19). وأمَّا عبارةُ "هل هوَ الـمَسِيح" فتُشيرُ إلى سُؤالِ تَلامِيذِ يُوحَنَّا المَعْمَدَان، هذا السُّؤالُ الذي بَقِيَ زَمَنًا طَوِيلًا يُراوِدُ أَذهَانَهُم: هل مُعَلِّمُهُم هوَ المَسِيحُ المُنتَظَرُ الذي تَتَكَلَّمُ عنهُ النُّبُوءَاتُ أَم لا؟ لَعَلَّ السَّبَبَ في ذلكَ ما رَأَوهُ فيهِ مِن تَقَشُّفٍ شَدِيدٍ في أَكْلِهِ وشُربِهِ ومَلبَسِهِ، وقُوَّةِ كَلِماتِهِ وحَزمِهِ في تَوبِيخِ الخطأة (مَتَّى 3: 4-7)، ومِن جُرأَتِهِ وسُلطانِهِ على قُلوبِهِم، فَظَنُّوهُ قادِرًا على أَنْ يُخَلِّصَهُم مِنَ الرُّومانِ. ويُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس قائلاً: "مِنَ المُؤَكَّدِ أَنَّ يُوحَنَّا كانَ إِنسانًا غَرِيبًا يَستَحِقُّ إِعجابًا شَدِيدًا مِن كُلِّ النَّاسِ، حيثُ كانَت حَياتُهُ مُختَلِفَةً تَمامًا عن بَقِيَّةِ النَّاسِ". ومِنَ الواضِحِ أَنَّ يُوحَنَّا المَعْمَدَانَ كانَ نَبِيًّا عَظِيمًا، وكانَ الشَّعبُ واثِقًا مِن أَنَّ عَصرَ المَسِيحِ الذي طالَما انتَظَروهُ قد جاءَ. ولَكِن يُوحَنَّا المَعْمَدَانَ أَوْضَحَ قائِلًا: "لَستُ المَسِيحَ، بَل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يُوحَنَّا 3: 29)، وأَكَدَ مَرَّةً أُخرى قَبلَ نِهايَةِ رِسالَتِهِ قائِلًا: "لَمَّا أَوشَكَ يُوحَنَّا أَنْ يُنْهِـيَ شَوطَهُ قال: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاهُ. ها هُوَذا آتٍ بَعْدِي ذاكَ الَّذِي لَستُ أَهْلًا لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِهِ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 13: 25). وشَهِدَ يُوحَنَّا شَهادَتَهُ الأَخِيرَةَ: "أَنتُم بِأَنفُسِكُم تَشهَدونَ لِي بِأَنِّي قُلتُ إِنِّي لَستُ المَسِيحَ، بَل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يُوحَنَّا 3: 28). أمَّا عبارةُ "المَسِيح" في الأَصلِ اليُونانِيِّ Χριστός (فَمَعناها: المَمسُوحُ بِالزَّيتِ لأَجلِ خِدمَةٍ مُعَيَّنَةٍ: المَلِكُ (1 صموئيل 16: 10) والكاهِنُ (خُرُوج 40: 13-15)، فَتُشيرُ إلى "المَشِيح" הַמָּשִׁיחַ المُنتَظَرِ المُخَلِّصِ، وليسَ مَسِيحًا مِثلَ سائِرِ المَسِيحِينَ، بَل "المَسِيح". وفي المَسِيحِيَّةِ، المَسِيحُ هوَ الكَلِمَةُ المُتَجَسِّدُ وابنُ اللهِ. ولَكِنَّ اليَهودَ كانُوا يَنتَظِرُونَ مَسِيحًا ذا طابِعٍ وَطَنِيٍّ وعَسكَرِيٍّ وسِيَاسِيٍّ وقَومِيٍّ، كما يَبدو مِن اتِّهامَاتِهِم لِيَسُوعَ المَسِيحِ أَمامَ بِيلاطُسَ: "وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفعِ الجِزيَةِ إلى قَيصَرَ، ويَقولُ إِنَّهُ المَسِيحُ المَلِكُ" (لُوقَا 23: 2).

 

16  فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: ((أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار.

 

تشيرُ عبارةُ "فأَجابَ يُوحَنَّا قالَ لَهُم أَجمعين" إلى جَوابِ يُوحَنَّا، الذي انتَهَزَ الفُرصَةَ لِيُوَضِّحَ الفَرْقَ بينَهُ وبينَ المَسِيحِ. ويُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ هذهِ الحَقِيقَةَ في وَعْظَتِهِ في أَنْطَاكِيَةَ بِسِيدِيَةَ: "لَمَّا أَوشَكَ يُوحَنَّا أَن يُنهِيَ شَوطَهُ قالَ: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاه. ها هُوَذا آتٍ بَعدي ذاكَ الَّذي لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 13: 25). أمَّا عِبَارَةُ "أَنا أُعَمِّدُكُم بِالماءِ" فَتُشِيرُ إلى المَعْمُودِيَّةِ الخَاصَّةِ بِيُوحَنَّا المَعْمَدَان، المُرتَبِطَةِ بِالتَّوبَةِ، والتي تُمهِّدُ لِمَعْمُودِيَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ التي أَتَى بِهَا يَسُوعُ (مَتَّى 3: 11)؛ فَمَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا تُعرَضُ على الجَمِيعِ، ولا تُمنَحُ إِلَّا مَرَّةً واحِدَةً، كَاسْتِعْدَادٍ أَخِيرٍ لِلدَّينُونَةِ، وإلى مَعْمُودِيَّةِ آخِرِ الأَزْمِنَةِ (مَرقُس 1: 8). وهذهِ المَعْمُودِيَّةُ تَشْتَرِطُ تَحَوُّلًا بَاطِنِيًّا (مَتَّى 3: 2)، وتَهدِفُ إلى "مَغْفِرَةِ الخَطَايَا" التي كانَ الشَّعبُ يَنتَظِرُهَا مُنْذُ ذَلِكَ الحِينِ. وهي تَخْتَلِفُ أَيضًا عنِ الاغتِسَالِ الذي كانَ يُمَارَسُ يَومِيًّا في الدِّينِ اليَهُودِيِّ للتَّطَهُّرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الطَّقْسِيَّةِ، كما كانَ الحالُ في جَمَاعَةِ الأَسِينِيِّينَ في قُمْرَان، وكَذَلِكَ تَخْتَلِفُ عن مَعْمُودِيَّةِ الدُّخَلَاءِ التي كانت تُطَهِّرُهُم لِتُمهِّدَ لهُم الوُصُولَ إلى العَلاقَةِ بِاليَهُودِ (مَرقُس 1: 4). أمَّا عِبَارَةُ "مَن هُو أَقوَى مِنِّي" فَتُشِيرُ إلى شَهَادَةِ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ الذي اعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ أَقوَى مِنهُ، رَغْمَ أَنَّهُ أَتَى بَعدَهُ في التَّارِيخِ. ويُضيفُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ: "بَينَكُم مَن لا تَعرِفُونَه" (يُوحَنَّا 1: 27)؛ وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ القِدِّيسُ أَمبروسيوس، أَحَدُ آباءِ الكَنِيسَةِ: *"لَم يَقصِدْ يُوحَنَّا بهذهِ المُقارَنَةِ إِثبَاتَ أَنَّ المَسِيحَ أَقوَى مِنهُ، حيثُ أَنَّهُ لا مُقارَنَةَ بينَ ابنِ اللهِ والإنسانِ؛ إِذْ يُوجَدُ أَقوِيَاءُ كَثِيرُونَ، فَإِبليسُ قَوِيٌّ (مَرقُس 3: 27)، وَلَكِن لا يُوجَدُ مَن هُوَ أَقوَى مِنَ المَسِيحِ، دَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ يُوحَنَّا لَم يَشَأْ أَنْ يُقَارِنَ نَفسَهُ بالمَسِيحِ بِقَولِهِ: "لَستُ أَهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَّ رِباطَ حِذائِه". تُطلَقُ وَصفَةُ القُوَّةِ على اللهِ في العَهدِ القَدِيمِ كما وَرَدَ في نُبُوءَةِ دَانِيال: "أَيُّها السَّيِّدُ الإِلهُ العَظِيمُ الرَّهِيبُ" (دَانِيال 9: 4). والقُوَّةُ هِيَ صِفَة مِن صِفَاتِ المَسِيحِ كما أَعلَنَ أَشعِياءُ النَّبِيُّ: "يَحِلُّ علَيهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الحِكمَةِ والفَهْمِ، ورُوحُ المَشُورَةِ والقُوَّةِ، رُوحُ المَعرِفَةِ وتَقوَى الرَّبِّ" (أَشعِياء 11: 2). وتَظهَرُ قُوَّةُ يَسُوعَ في قَهرِهِ الشَّيَاطِينَ أَثناءَ التَّجارِبِ الثَّلاثَةِ (مَرقُس 3: 27)، وسُلطَانِهِ على المَرَضِ والمَوتِ والطَّبِيعَةِ والإنسانِ؛ حيثُ تَمَتَّعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ اللهِ القَدِيرِ، فَأَقَامَ المَوتَى، ومَنَحَ البَصَرَ لِلعُمْيِ، وَشَفَى الكُسْحَانَ والعُرْجَ، كما وَرَدَ في إِنجِيلِ مَتَّى: فَتَعَجَّبَ الجُموعُ لَمَّا رَأَوا الخُرسَ يَتَكَلَّمُونَ، والكُسْحَانَ يَصحُّونَ، والعُرْجَ يَمشُونَ مَشياً سَوِيّاً، والعُميَ يُبصِرُونَ" (مَتَّى 15: 31). وَهَدَّأَ البَحرَ الهَائِجَ (مَتَّى 8: 26)، وغَفَرَ الخَطَايَا (مَتَّى 9: 6)، وغَيَّرَ حَيَاةَ كَثِيرِينَ مِثلَ بُطرُسَ ويَعقُوبَ ويُوحَنَّا (مَرقُس 5: 37). أمَّا عِبَارَةُ "مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" فَتُشِيرُ إلى عَمَلٍ مِن أَعمَالِ العَبِيدِ (يُوحَنَّا 13: 4-17)، ويُعَدُّ عَمَلًا مُذِلًّا لا يُفرَضُ حَتَّى على عَبدٍ يَهودِيٍّ. فالتِّلمِيذُ يُعفَى مِن هذا العَمَلِ تِجَاهَ مُعَلِّمِهِ، لكنَّهَا إِشَارَةٌ إلى إِعلَانِ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ عَنِ اكتِشَافِ سِرِّ عَظَمَةِ يَسُوعَ الإِلهِيَّةِ، وعَن عَجزِهِ لإِدرَاكِ سِرِّ تَجَسُّدِهِ، كيفَ صَارَ كَلِمَةُ اللهِ إِنسَانًا. كانَ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ يَعتَبِرُ نَفسَهُ أَقَلَّ مِن تِلمِيذِ المَسِيحِ، مِمَّا يَدُلُّ على وِدَاعَتِهِ المَشهُورَةِ: "لا بُدَّ لَهُ مِن أَن يَكبُرَ، ولا بُدَّ لِي مِن أَن أَصغُرَ" (يُوحَنَّا 3: 30). ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "اليَدُّ التي أَكَّدَ أَنَّهَا غَيرُ مُستَحِقَّةٍ أَن تَمَسَّ حِذَاءَهُ، سَحَبَهَا المَسِيحُ على رَأْسِهِ!". فَأَعلَنَ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ هنا أَنَّهُ خَادِمٌ لِسَيِّدِهِ، وأَنَّ المَجدَ والكَرَامَةَ والسُّجُودَ والعَظَمَةَ لا تَلِيقُ إِلَّا بالمَسِيحِ الذي اسمُهُ يَفُوقُ كُلَّ اسمٍ. وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "هذا هوَ دَورُ الخَادِمِ الأَمِينِ، لَيسَ لأَنَّهُ لا يَنسبُ لِنَفسِهِ كَرَامَةَ سَيِّدِهِ فَحَسب، إِنَّمَا لأَنَّهُ يَمقُتُ ذَلِكَ أَيضًا عِندَمَا يُقدِّمُهَا لَهُ كَثِيرُون". أمَّا عِبَارَةُ "النَّار" فَتُشِيرُ إلى عَمَلِ اللهِ الذي يُطَهِّرُ (مَلاخِي 3: 2) ويَمتَحِنُ (1 بُطرُس 1: 7). وقد تَتَّخِذُ النَّارُ مَعنَى الغَضَبِ (مَتَّى 3: 12)، والغَضَبُ يَدُلُّ على مَوقِفِ اللهِ مِنَ الخَطِيئَةِ وتَعامُلِهِ مَعَهَا وعِقَابِهِ لَهَا، كما جاءَ في نُبُوءَةِ أَشعِياءَ النَّبِيِّ: "هُوَذا آسمُ الرَّبِّ آتٍ مِن بَعيدٍ، غَضَبُهُ مُضطَرِمٌ، ووَعِيدُهُ شَدِيدٌ، وشَفَتَاهُ مُمتَلِئَتَانِ سُخْطاً، ولِسانُهُ كَنَارٍ آكِلَة" (أَشعِياء 30: 27-33). لَكِن يَسُوعَ يَظهَرُ بِمَظهَرِ العَبدِ الوَدِيعِ المُتَواضِعِ (مَتَّى 12: 18-21)، الذي يَقُولُ عَنهُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّهُ يُنَجِّي مِن الغَضَبِ: "تَنتَظِرُوا أَن يَأتِيَ مِنَ السَّمَاوَاتِ ابنُهُ الَّذي أَقامَهُ مِن بَينِ الأَمْوَاتِ، أَلا وهوَ يَسُوعُ الَّذي يُنَجِّينَا مِنَ الغَضَبِ الآتِي" (1 تَسَالُونِيكِي 1: 10). أمَّا عبارة "إِنَّهُ سَيُعَمِّدُكُمْ فِي الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ" فَتَشِيرُ إِلى الفَرْقِ بَيْنَ عَمَلِ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ الَّذِي يَمْتَازُ بِمَعْمُودِيَّةِ المَاءِ وَعَمَلِ المَسِيْحِ الَّذِي يَمْتَازُ بِمَعْمُودِيَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ. وَلَيْسَ المَقْصودُ هُنَا العَنصِرَةُ (أَعْمَالُ الرُسُلِ 1: 5) أَوْ المَعْمُودِيَّةُ المَسِيْحِيَّةُ (أَعْمَالُ الرُسُلِ 11: 16)، بِقَدْرِ مَا هُوَ عَمَلُ الخَلَاصِ الَّذِي افْتَتَحَهُ يَسوعُ وَالتَّطْهِيرُ وَالتَّقْدِيسُ بِالرُّوحِ القُدُسِ. وَتُعْلِنُ هَذِهِ الآيَةُ تَفَوُّقَ يَسوعَ المَسِيْحِ عَلَى يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ، خَاصَّةً تِجَاهَ بَعْضِ الجَمَاعَاتِ الَّتِي ظَلَّتْ ترْتِبِطُ بِيُوحَنَّا المَعَمدَانِ (أَعمَالُ الرُسُلِ 19: 1-7). وَتَرْمِزُ مَعمودِئةٟ يُوحَنَّا إِلى الاغتِسٔالِ مِنٔ الخَطَائا لِلتَّوْبَةِ وَالإِصلاحِ، أَمَّا مَعمٔودِئةٟ يَسوعَ بِالرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ فَتَتَضَمّٔنُ القُوَّةَ الْمَطلؤبَةَ لِعَمَلِ إِرَادَةِ اللّهِ. شَهِدَ يُوحَنَّا لِلمَسِيْحِ الْحَقِيِقِيِ، مُعْلِنًا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلمُقَارَنَةِ بِيْنَ السَّيِدِ المَسِيْحِ وَبَيْنَهُ، وَبِينَ مَعمودِئةِ السَّيد ِ وَمَعمؤدِئتِهِ. أَمَّا عَبْارَةُ "الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ" فَتَشِيرُ إِلى شَيْءٍ وَاحِدٍ، الرُّوحُ القُدُسُ الَّذِي يَمْتَحِنُ كَالنَّارِ، وَفِي هَذِهِ الحَالَةِ تَكُؤنُ "وَاوُ" العَطْفِ التفسيرِيَةً. فَقَدْ جَعَلَ اللهُ الآبُ طَرِيقَ ابْنِهِ الَّذِي صَارَ إِنْسَانًا هُوَ ذَاتُهُ طَرِيقَنَا لِنَصِلَ إِلَى اللهِ ذَاتِهِ مِنْ خِلَالِ مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ فِي الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ. وَيُعَلِقُ الْقُدِيِسُ إِيْرَونِيمُوسُ قَائِلًا: "الرُّوحُ القُدُسُ هُوَ نَارٌ، كَمَا جَاءَ فِي أَعمَالِ الرُسُلِ، إِذْ حَلَّ عَلَى المُؤْمِنِينَ عَلَى شَكْلِ أَلسِنَةٍ نَارِية.  وهكذا تحقَّقت كلمةُ المسيح: "جِئتُ لأُلقيَ على الأَرضِ نارًا، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). والرُّوحُ القُدُسُ هو نارُ اللهِ التي تُحرِقُ الحُثالةَ في حياةِ المؤمنِ وتُلهِبُه من أجلِ الله. وفي الواقع، ترمزُ المعموديَّةُ بالنَّارِ إلى عملِ الرُّوحِ القُدُسِ في جلبِ دينونةِ اللهِ على مَن يرفضُ التَّوبة، كما جاءَ في تعليمِ بولسَ الرَّسولِ: "هذِهِ النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 13). وقد حلَّ الرُّوحُ القُدُسُ في يومِ الخمسين. وفي هذا اليوم يُرجَّحُ أنَّ المعموديَّةَ التي تنبَّأَ بها المعمدانُ كوِّنت: "لَمَّا رَفَعَهُ اللهُ بِيَمينِهِ، نالَ مِنَ الآبِ الرُّوحَ القُدُسَ المَوعودَ بِهِ فأَفاضَه" (أعمال الرُّسُل 2: 33). وقبل صعودِ يسوعَ إلى السَّماءِ، وعدَ تلاميذَهُ بأنَّهُم سيتعمَّدون بالرُّوحِ القُدُسِ: "وأمَّا أَنتُم فتتُعَمَّدونَ بالرُّوحِ القُدُسِ بَعدَ أَيَّامٍ غَيرِ كثيرةٍ" (أعمال الرُّسُل 1: 5). وهكذا حدَّدت شهادةُ يوحنَّا المعمدانِ دورَ يسوعَ وشخصَهُ، وأظهرت كرازتُهُ تفوُّقَ المعموديَّةِ بالرُّوحِ القُدُسِ والنَّارِ على معموديَّتهِ بالماءِ (متى 3: 14، ويوحنَّا 3: 23-30).

 

 21ولَمَّا اعتَمَدَ الشَّعبُ كُلُّه واعتَمَدَ يَسوعُ أَيضاً وكانَ يُصَلِّي، اِنفَتَحَتِ السَّماء

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "وَلَمَّا اعْتَمَدَ الشَّعْبُ كُلُّهُ" إِلَى اعْتِمَادِ الشَّعْبِ كُلِّهِ عَلَى يَدِ يُوحَنَّا المَعْمَدانِ كَتَمْهِيدٍ لِاعْتِمَادِ يَسُوعَ وَالوَحْيِ الَّذِي يَلِيهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "اعْتَمَدَ" في الأَصْلِ اليُونَانِيِّ (ἐβαπτίσθη) فَتُشِيرُ إِلَى التَّغْطِيسِ في المَاءِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِهِ وَتَقْدِمَةِ ذَاتِهِ. فَالمَاءُ الَّذِي يَرْمُزُ إِلَى المَوْتِ، صَارَ يَرْمُزُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ إِلَى الحَيَاةِ وَالخَلِيقَةِ الجَدِيدَةِ (التَّكْوِين 1: 2). وَبِاعْتِمَادِهِ، خَضَعَ يَسُوعُ لِإِرَادَةِ الآبِ وَوَضَعَ نَفْسَهُ فِي عِدَادِ الخَاطِئِينَ، مُتَضَامِنًا مَعَهُم، وَحَامِلًا عَلَى نَفْسِهِ خَطِيئَتَهُمْ؛ فَإِنَّهُ "حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ العَالَمِ" (يُوحَنَّا 1: 29). وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنْسِيس قَائِلًا: "بِمَجِيئِهِ إِلَى الأُرْدُنِّ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى يَدِ يُوحَنَّا، أَظْهَرَ يَسُوعُ تَوَاضُعَهُ وَشَفَقَتَهُ عَلَى الجُمُوعِ، وَانْحِنَاءَهُ عَلَى الجِرَاحِ البَشَرِيَّةِ لِيَشْفِيَهَا". وَسَارَ يَسُوعُ فِي مَسِيرَةِ التَّوْبَةِ الَّتِي سَارَ فِيهَا شَعْبُهُ لِيَأْخُذَ مَكَانَ الخَاطِئِ، وَلَمْ يُلَاحِظْ وُجُودَهُ أَحَدٌ؛ فَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الآخَرِينَ، وَاحِدٌ بَيْنَ كَثِيرِينَ، مُتَضَامِنًا مَعَهُمْ لِيُخَلِّصَهُمْ. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ عَدَمِ كَوْنِهِ خَاطِئًا، إِلَّا أَنَّهُ اصْطَفَّ مَعَ الخُطَاةِ كَي يَتَلَقَّى المَعْمُودِيَّةَ، وَيَكُونَ إِنْسَانًا وَسَطَ البَشَرِ مُتضَامِنًا مَع البَشر. فَعُمَّادُ يَسُوعَ يُدِلُّ عَلَى بَدَايَةِ خِدْمَتِهِ العَلَنِيَّةِ حَوَالَيْ سَنَةِ 27، وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ ثَلاثِينَ سَنَةً (لوقا 3: 23). وَبِكَلِمَةٍ أُخْرَى، اعْتَمَدَ يَسُوعُ لَيْسَ لِأَنَّهُ خَاطِئٌ، بَلْ لِأَجْلِ تَتْمِيمِ كُلِّ بَرٍّ (مَتَّى 3: 15)، وَلِأَجْلِ تَضَامُنِهِ مَعَ الخُطَاةِ: "أُحْصِيَ مَعَ العُصَاةِ" (أَشَعْيَا 53: 12)، وَكَعَمَلٍ تَكْرِيسِيٍّ لِرِسَالَتِهِ لِيَبْدَأَ رَسْمِيًّا فِي خِدْمَتِهِ العَلَنِيَّةِ (يُوحَنَّا 1: 31-34)، وَلِأَجْلِ تَقْدِيسِ المِيَاهِ وَلِتَقْدِيمِ مِثَالٍ لَنَا لِاتِّبَاعِهِ. وهنا يُعلِّق القدِّيسُ مكسيموس: "اعتمدَ يسوعُ لا ليُقدَّسَ بالمياه، بل ليُقدِّسَ المياهَ، فيُطهِرَ بطهارتِهِ كلَّ ما تمسُّهُ المياه"(CLL 23; 398-400) . وَأَخِيرًا، تَقَدَّمَ ٱلْمَسِيحُ إِلَى ٱلْمَعْمُودِيَّةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتَّبِعَهُ ٱلشُّعُوبُ ٱلْمَسِيحِيَّةُ بِثِقَةٍ وَإِيمَانٍ. وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى أَضَافَهَا ٱلْقِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس: "لَقَدْ تَلَقَّى يَسُوعُ مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: ٱلْأَوَّلُ، وَبِمَا أَنَّهُ وُلِدَ إِنْسَانًا، أَرَادَ تَحْقِيقَ جَمِيعِ ٱلْفَرَائِضِ ٱلْوَضِيعَةِ لِلشَّرِيعَةِ؛ وَٱلثَّانِي، لِتَشْرِيعِ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا مِنْ خِلَالِ مَعْمُودِيَّتِهِ؛ وَٱلثَّالِثُ، لِيُظْهِرَ – عِنْدَمَا قَدَّسَ مَاءَ ٱلْأُرْدُنِّ – حُلُولَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فِي مَعْمُودِيَّةِ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ خِلَالِ هُبُوطِهِ فِي شَكْلِ حَمَامَةٍ" (ٱلْقِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس، شَرْحٌ لِإِنْجِيلِ ٱلْقِدِّيسِ مَتَّى، 3). وَلَمْ يُذْكَرْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، وَذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى ٱنْتِهَاءِ زَمَنِ يُوحَنَّا، عِلْمًا أَنَّ لُوقَا رَوَى قِصَّةَ يُوحَنَّا مُنْذُ وِلَادَتِهِ حَتَّى إِلْقَائِهِ فِي ٱلسِّجْنِ عَلَى يَدِ هِيرُودُسَ (لُوقَا 3: 19-20).  أَمَّا عِبَارَةُ "يَسُوعُ" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ Ἰησοῦς مُشْتَقَّةٌ مِنَ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ יֵשׁוּעַ (مَعْنَاهَا ٱللهُ يُخَلِّصُ)، فَتُشِيرُ إِلَى ٱسْمِ عِلْمٍ أَطْلَقَهُ ٱلْمَلَاكُ جِبْرَائِيلُ عَلَى ٱبْنِ مَرْيَمَ: "فَسَتَحْمِلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْنًا فَسَمِّيهِ يَسُوعَ" (لُوقَا 1: 31). وَيُعَبِّرُ هَذَا ٱلِاسْمُ عَنْ هُوِيَّةِ يَسُوعَ وَرِسَالَتِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ مِنْ خِلَالِهِ يُلَخِّصُ ٱللهُ كُلَّ تَارِيخِهِ ٱلْخَلَاصِيِّ فِي سَبِيلِ ٱلْبَشَرِ، لِأَنَّ ٱللهَ بِهِ "يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (مَتَّى 1: 21). وَفِي هَذَا ٱلصَّدَدِ يَقُولُ بُطْرُسُ ٱلرَّسُولُ: "لَا خَلَاصَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ مَا مِنِ ٱسْمٍ آخَرَ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ أُطْلِقَ عَلَى أَحَدِ ٱلنَّاسِ نَنَالُ بِهِ ٱلْخَلَاصَ" (أَعْمَالُ ٱلرُّسُلِ 4: 12). أَمَّا عِبَارَةُ "كَانَ يُصَلِّي " فَتُشِيرُ إِلَى لِقَاءِ يَسُوعَ مَعَ أَبِيهِ ٱلسَّمَاوِيِّ بِحَسَبِ عَادَتِهِ قَبْلَ جَمِيعِ ٱلْأَحْدَاثِ ٱلْحَاسِمَةِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِرِسَالَتِهِ. وَصَلَاتُهُ هُنَا كَانَتْ هِيَ ٱلسَّبَبَ فِي ٱنْفِتَاحِ ٱلسَّمَاءِ وَظُهُورِ ٱلْأَقَانِيمِ ٱلثَّلَاثَةِ. وَيَنْفَرِدُ لُوقَا ٱلْإِنْجِيلِيُّ فِي ذِكْرِ حَيَاةِ ٱلصَّلَاةِ فِي يَسُوعَ فِي تِسْعِ مُنَاسَبَاتٍ أُخْرَى فِي إِنْجِيلِهِ، وَهِيَ: بَعْدَ إِبْرَاءِ ٱلْأَبْرَصِ (لُوقَا 5: 16)، وَلَدَى ٱخْتِيَارِ ٱلرُّسُلِ ٱلِاثْنَيْ عَشَرَ (لُوقَا 6: 12)، وَقَبْلَ كَشْفِ هُوِيَّتِهِ ٱلْإِلَهِيَّةِ (لُوقَا 9: 18)، وَقَبْلَ ٱلتَّجَلِّي (لُوقَا 9: 29)، وَلَدَى كَشْفِهِ أَسْرَارَ ٱلْمَلَكُوتِ (لُوقَا 10: 21)، وَلَدَى تَعْلِيمِهِ ٱلصَّلَاةَ ٱلرَّبِّيَّةَ (لُوقَا 11: 1)، وَصَلَاتِهِ لِبُطْرُسَ كَيْلَا يَفْقِدَ إِيمَانَهُ (لُوقَا 22: 32)، وَفِي بُسْتَانِ ٱلزَّيْتُونِ (لُوقَا 22: 44)، وَلَدَى مَوْتِهِ عَلَى ٱلصَّلِيبِ (لُوقَا 23: 34، 46). أَمَّا مُضْمُونُ صَلَاتِهِ فَنَجِدُهُ فِي ٱلصَّلَاةِ ٱلرَّبِّيَّةِ أَوِ ٱلصَّلَاةِ فِي بُسْتَانِ جِسْمَانِيَّةَ. يُمكِنُ أَنْ تُصْبِحَ الصَّلَاةُ لَنَا وَالإِصْغَاءُ لِلكَلِمَةِ المَكَانَ الَّذِي نَسْمَحُ فِيهِ لِلهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ إِلَى قُلُوبِنَا، وَاتِّخَاذَ القَرَارِ لِتَوْبَتِنَا. أَمَّا عِبَارَةُ "اِنْفَتَحَتِ ٱلسَّمَاءُ" فَتُشِيرُ إِلَى رُؤْيَةٍ رُؤْيَوِيَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ سِفْرِ حِزْقِيَالَ: "اِنْفَتَحَتِ ٱلسَّمَوَاتُ" (حِزْقِيَال 1: 1)، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَلَامَةِ تَدَخُّلِ ٱللهِ لِتَحْقِيقِ مَوَاعِدِهِ، خَاصَّةً بِإِرْسَالِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ (أَشَعْيَا 63: 19). وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ بِٱلْإِمْكَانِ رُؤْيَةُ ٱلْأُمُورِ ٱلسَّمَاوِيَّةِ (يُوحَنَّا 3: 12-13، وَأَشَعْيَا 64: 1) وَٱلْكَشْفُ عَنْ وَحْيٍ سَمَاوِيٍّ (أَشَعْيَا 63: 19). ٱنْفَتَحَتِ ٱلسَّمَاءُ وَبَدَأَ عَهْدٌ جَدِيدٌ بَيْنَ ٱلْأَرْضِ وَٱلسَّمَاءِ. قَدِ ٱنْفَتَحَتْ ٱلسَّمَاءُ وأَمَامَ أَعْيُنِنَا ٱلرُّوحِيَّةِ فَصَارَتْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَاءِ مَفْتُوحَةً أَمَامَنَا، مِفْتَاحُهَا فِي يَدَيْ عَرِيسِنَا وَرَأْسِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، بَلْ صَارَتْ حَيَاتُنَا ٱلدَّاخِلِيَّةُ ذَاتُهَا سَمَاوَاتٍ مَفْتُوحَةً يَسْكُنُهَا رَبُّ ٱلسَّمَاءِ! وَكَمَا يَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ كِيرِلُّسُ أُسْقُفُ ٱلإِسْكَنْدَرِيَّةِ: "ٱنْفَتَحَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ فَٱقْتَرَبَ ٱلْإِنْسَانُ مِنَ ٱلْمَلَائِكَةِ ٱلْمُقَدَّسِينَ". وَٱنْفِتَاحُ ٱلسَّمَاءِ يَضَعُ حَدًّا لِكُلِّ ٱلْمَسَافَاتِ ٱلَّتِي تَفْصِلُ مَا بَيْنَ ٱللهِ وَٱلْإِنْسَانِ. وَهَكَذَا أَصْبَحَتِ ٱلْحَيَاةُ ٱلْإِلَهِيَّةُ فِي مُتَنَاوَلِ ٱلْجَمِيعِ مِنْ خِلَالِ إِنْسَانِيَّةِ يَسُوعَ. وَمُنْذُ ذَاكَ ٱلْحِينِ لَمْ يَعُدِ ٱللهُ يُرْسِلُ أَنْبِيَاءَ، لِأَنَّهُ فِي يَسُوعَ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّمَاءُ مِنَ ٱلْأَرْضِ: "هَا إِنِّي أَرَى ٱلسَّمَوَاتِ مُتَفَتِّحَةً، وَٱبْنَ ٱلْإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ ٱللهِ" (أَعْمَالُ ٱلرُّسُلِ 7: 56). لَقَدْ غَيَّرَ ٱللهُ ٱلتَّارِيخَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.

 

 22نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة، وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: ((أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت))

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَيهِ" إِلَى يَسُوعَ ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمُخَلِّصُ ٱلْمَوْعُودُ بِهِ كَمَا تَنَبَّأَ أَشَعْيَا: "هُوَذَا عَبْدِيَ ٱلَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِيَ ٱلَّذِي رَضِيَتْ عَنْهُ نَفْسِي، قَدْ جَعَلْتُ رُوحِي عَلَيهِ" (أَشَعْيَا 42: 1). وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ وَاحِدًا مَعَ ٱلرُّوحِ مُنْذُ وِلَادَتِهِ أَوْ بِٱلْأَحْرَى مُنْذُ ٱلْأَزَلِ، وَلَكِنْ ٱلرُّوحُ نَزَلَ ٱلْآنَ لِيُجَهِّزَهُ لِخِدْمَتِهِ ٱلْعَلَنِيَّةِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ كِيرِلُّسُ أُسْقُفُ ٱلْإِسْكَنْدَرِيَّةِ": نَزَلَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيهِ وَذَلِكَ كَإِنْسَانٍ. هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْآبِ، مَوْلُودٌ مِنْهُ وَمُسَاوٍ لَهُ فِي ٱلْجَوْهَرِ (PG 73: 751). يَنَالُ يَسُوعُ ٱلرُّوحَ كَسَائِرِ ٱلْأَنْبِيَاءِ لِيَنْقُلَ كَلِمَةَ ٱللهِ: "رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ ٱلْفُقَرَاءَ، وَأَرْسَلَنِي لِأُعْلِنَ لِلْمَأْسُورِينَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ، وَلِلْعُمْيَانِ عَوْدَةَ ٱلْبَصَرِ إِلَيهِمْ، وَأُفَرِّجَ عَنِ ٱلْمَظْلُومِينَ، وَأُعْلِنَ سَنَةَ رِضًى عِنْدَ ٱلرَّبِّ" (لُوقَا 4: 18-19). ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ حَلَّ عَلَى جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ، لِيَحِلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى كَنِيسَةِ ٱلْمَسِيحِ، أَي جَسَدِهِ ٱلسِّرِّيِّ، وَعَلَى ٱلْبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ. أَمَّا عِبَارَةُ "فِي صُورَةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمَامَةٌ" فَتُشِيرُ إِلَى ٱلصُّورَةِ ٱلَّتِي ظَهَرَ بِهَا ٱلرُّوحُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ لِلْعِيَانِ، خَاصَّةً لِيُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ، كَيْ تَدُلَّ عَلَى خَلْقِ ٱلْعَالَمِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي تَمَّ خِلَالَ مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ. وَذَلِكَ وَفْقًا لِلتَّقَالِيدِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، إِذْ كَانَتْ تَرَى فِي ٱلْحَمَامَةِ رُوحَ ٱللهِ ٱلْمُرَفْرِفَ عَلَى ٱلْمِيَاهِ، كَمَا جَاءَ فِي بَدْءِ سِفْرِ ٱلتَّكْوِينِ: "وَرُوحُ ٱللهِ يُرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ" (ٱلتَّكْوِين 1: 2). نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَى يَسُوعَ فِي هَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ كَحَمَامَةٍ، عَلاَمَةً عَلَى المَسْحَةِ الإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِلْقِيَامِ بِدَوْرِهِ كَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ. فِي مَجْمَعِ النَّاصِرَةِ، يُعْلِنُ يَسُوعُ رِسَالَتَهُ النَّبَوِيَّةَ قَائِلًا: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ» (لُوقَا 4: 18).  وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ كِيرِلُّسُ أُسْقُفُ ٱلْإِسْكَنْدَرِيَّةِ: " قائلا :" كَانَ ٱلْمَسِيحُ هُوَ أَوَّلَ مَنْ قَبِلَ ٱلرُّوحَ، لِكَوْنِهِ بَكْرَ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلْمُجَدَّدَةِ" . (PG 73: 751) . َمَّا عِبَارَةُ "حَمَامَةٌ" فَتُشِيرُ إِلَى ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي حَلَّ عَلَى ٱلْمِيَاهِ فِي بَدْءِ ٱلْخَلِيقَةِ ٱلْأُولَى (ٱلتَّكْوِين 1: 3)، وَهُوَ يَحِلُّ ٱلْآنَ عَلَى مِيَاهِ نَهْرِ ٱلْأُرْدُنِّ لِيُخْرِجَ ٱلْخَلِيقَةَ ٱلثَّانِيَةَ، أَبْنَاءَ ٱللهِ. وَهُنَاكَ مَنْ يَرَى فِي ٱلْحَمَامَةِ إِشَارَةً إِلَى ٱلْحَمَامَةِ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ ٱلَّتِي تَحْمِلُ غُصْنَ ٱلسَّلَامِ، وَٱلَّتِي تَدُلُّ عَلَى ٱلْحَيَاةِ بَعْدَ ٱلْمَوْتِ (ٱلتَّكْوِين 8: 8-12)، وَبَعْضُهُمْ ٱعْتَبَرَهَا أَنَّهَا تُمَثِّلُ شَعْبَ ٱللهِ، أَوْ تُشِيرُ إِلَى مَحَبَّةِ ٱللهِ ٱلَّذِي نَزَلَ عَلَى ٱلْأَرْضِ (نَشِيدُ ٱلْأَنَاشِيدِ 2: 14). وَآخَرُونَ أَشَارُوا بِٱلْحَمَامَةِ إِلَى ٱلرَّبِّ ٱلَّذِي يُشْبِهُ طَيْرًا يَغْمُرُ فِرَاخَهُ لِحِمَايَتِهَا: "قَدْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِٱلْمِصْرِيِّينَ، وَكَيْفَ حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ ٱلْعِقْبَانِ، وَأَتَيْتُ بِكُمْ إِلَيَّ" (خُرُوج 19: 4). وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمِ: "لِمَاذَا ظَهَرَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَى شَكْلِ حَمَامَةٍ؟ لِأَنَّ ٱلْحَمَامَةَ نَاعِمَةٌ وَنَقِيَّةٌ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ هُوَ رُوحُ ٱلنَّقَاوَةِ وَٱلسَّلَامِ(عِظَاتٌ حَوْلَ إِنْجِيلِ ٱلْقِدِّيسِ مَتَّى، ٱلْعِظَةُ رَقْمُ 12).  أَمَّا عِبَارَةُ "وَأَتَى صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ" فَتُشِيرُ إِلَى صَوْتِ ٱلْآبِ ٱلسَّمَاوِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ نَبَوِيٌّ، أَنَّ يَسُوعَ ٱلَّذِي وَضَعَ نَفْسَهُ فِي عِدَادِ ٱلْخَاطِئِينَ هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ فِي ٱلْوَاقِعِ، كَمَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ: "أَنَا رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّهُ هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ" (يُوحَنَّا 1: 34). وَهَذَا ٱلصَّوْتُ كَانَ مُوَجَّهًا لَا إِلَى يَسُوعَ وَحْدَهُ، بَلْ إِلَى ٱلْحَاضِرِينَ وَبِوَاسِطَتِهِمْ لِجَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ.  لا أَحَدَ لَاحَظَ مَا حَدَثَ لِيَسُوعَ سِوَى الآبِ: وَحْدَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الابْنَ، بِعِمَادِهِ، تَبَنَّى إِنْسَانِيَّتَنَا الجَرِيحَةَ بِالكَامِلِ. نَزَلَ يسوع إِلَى أَعْمَاقِ إِنْسَانِيَّتِنَا الهَشَّةِ وَالفَقِيرَةِ، وَحَمَلَ إِلَيْهَا جَمَالَ حَيَاتِهِ البُنُوِيَّةِ. فَيَعِيشُ الابْنُ فِي التَّضَامُنِ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَنْتَ ٱبْنِيَ ٱلْحَبِيبُ" فَتُشِيرُ إِلَى تَنْصِيبِ يَسُوعَ مَلِكًا لِلْقِيَامِ بِرِسَالَتِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ ٱلْمَزَامِيرِ: "أَنْتَ ٱبْنِي وَأَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" (مَزْمُور 2: 7)، وَإِلَى إِعْلَانِ ٱلْآبِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱبْنُهُ ٱلْحَبِيبُ وَمَوْضُوعُ مَسَرَّتِهِ وَمَعَزَّتِهِ. وَيَسْتَعِيدُ هَذَا ٱلْقَوْلُ نُبُوءَةَ نَاثَانَ: "أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْنًا" (2 صَمُوئِيل 7: 14). فَيَسُوعُ هُوَ ٱبْنُهُ ٱلْحَبِيبُ (مَزْمُور 2: 7)، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا ٱلتَّعْبِيرُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ مَرَّةً فِي إِنْجِيلِ مَرْقُسَ، وَهُوَ مَوْضِعُ مَعَزَّةِ ٱللهِ ٱلْخَاصَّةِ (أَشَعْيَا 42: 1). وَيَدُلُّ هَذَا ٱلإِعْلَانُ عَلَى قَبُولِ ٱلْآبِ لِتَكْرِيسِ ٱلِابْنِ نَفْسَهُ، وَمُصَادَقَتِهِ عَلَى ٱلسَّنَوَاتِ ٱلثَّلَاثِينَ ٱلسَّابِقَةِ فِي حَيَاتِهِ غَيْرِ ٱلْعَلَنِيَّةِ. وَٱلِابْنُ ٱلْحَبِيبُ تَعْنِي ٱلِابْنَ ٱلْوَحِيدَ ٱلَّذِي يَرْتَبِطُ بِٱلآبِ بِعَلَاقَةٍ لَا مَثِيلَ لَهَا، بِعَلَاقَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِأَيِّ إِنْسَانٍ. وَتَلْمِحُ إِلَى مَا قَالَ صَاحِبُ ٱلْمَزَامِيرِ: "أَنْتَ ٱبْنِي وَأَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" (مَزْمُور 2: 7). إِنَّهُ نَفْسُ ٱلإِعْلَانِ ٱلَّذِي نَطَقَ بِهِ ٱلآبُ وَقْتَ ٱلتَّجَلِّي: "هَذَا هُوَ ٱبْنِيَ ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي عَنْهُ رَضِيتُ، فَلَهُ ٱسْمَعُوا" (مَتَّى 17: 5). الابن هنا يَكْشِفُ وَجْهَ الآبِ، أَيْ جَوْهَرَهُ نَفْسَهُ، وَطَرِيقَتَهُ فِي الوُجُودِ. أَمَّا كَلِمَةُ "ٱلْحَبِيبُ" فَتُشِيرُ إِلَى ذَبِيحَةِ إِسْحَاقَ: "خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ" (ٱلتَّكْوِين 22: 2). وَيَنْبَغِي أَلَّا نَفْهَمَ مِنْ هَذِهِ ٱلْكَلِمَاتِ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ أَدْرَكَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ عِلَاقَتَهُ ٱلْفَرِيدَةَ بِٱلآبِ، بَلْ كَانَ مُدْرِكًا لَهَا مُنْذُ طُفُولَتِهِ كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ لِأَبَوَيْهِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ: "وَلِمَ بَحَثْتُمَا عَنِّي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ عِنْدَ أَبِي؟" (لُوقَا 2: 49). وَأَمَّا عِبَارَةُ "عَنْكَ رَضِيتُ" فَتُشِيرُ إِلَى ٱقْتِبَاسٍ مِنَ ٱلنَّشِيدِ ٱلأَوَّلِ لِلْعَبْدِ ٱلْمُتَأَلِّمِ لِأَشَعْيَا ٱلنَّبِيِّ: "هُوَذَا عَبْدِيَ ٱلَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِيَ ٱلَّذِي رَضِيَتْ عَنْهُ نَفْسِي" (أَشَعْيَا 42: 1)، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ ٱخْتِيَارَ ٱللهِ لِيَسُوعَ ٱبْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَبَثًا، بَلِ ٱخْتِيَارًا لِلْقِيَامِ بِرِسَالَتِهِ. ٱخْتَارَ ٱللهُ يَسُوعَ، مَوْضِعَ مَعَزَّتِهِ ٱلْخَاصَّةِ، كَيْ يُحَمِّلَهُ رِسَالَةً، مُعْلِنًا أَنَّهُ ٱبْنُهُ ٱلْوَحِيدُ وَٱلْحَبِيبُ (مَرْقُسَ 12: 16). فَكَانَ صَوْتُ ٱلآبِ إِعْلَانًا رَسْمِيًّا مِنَ ٱلآبِ لِلِابْنِ، وَتَصْدِيقًا لِرِسَالَتِهِ، وَقَبُولًا لِتَكْرِيسِ ٱلِابْنِ نَفْسِهِ ٱلْعَلَنِيِّ لِذَاتِهِ ٱلْقُدُّوسِ لَدَى شَعْبِ ٱللهِ. وَهَكَذَا يُشِيرُ لُوقَا ٱلْإِنْجِيلِيُّ فِي هَذِهِ ٱلْآيَةِ إِلَى صُورَتَيْنِ نَبَوِيَّتَيْنِ: صُورَةِ ٱبْنِ ٱلْمَلِكِ دَاوُدَ (2 صَمُوئِيل 7: 14)، وَصُورَةِ ٱلْخَادِمِ (ٱلْعَبْدِ) ٱلَّذِي يَأْخُذُ عَلَى عَاتِقِهِ خَطَايَا جَمَاعَةِ ٱلنَّاسِ (أَشَعْيَا 53: 12). وَفِي خَلْفِيَّةِ ٱلْمَسِيحِ ٱلْمَلِكِ يَظْهَرُ ٱلْعَبْدُ ٱلْمُتَأَلِّمُ (أَشَعْيَا 53).  وَمِثْلَمَا اعْتَبَرَ الآبُ السَّمَاوِيُّ إِبْرَاهِيمَ بَارًّا، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ يَسُوعَ بَارًّا أَيْضًا. وَنُلَاحِظُ، أَخِيرًا، فِي هَذَا ٱلْمَشْهَدِ ٱلْأَقَانِيمَ ٱلثَّلَاثَةَ: ٱللهُ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ فِي نَفْسِ ٱلْوَقْتِ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: ٱلآبُ يَتَكَلَّمُ، وَٱلِابْنُ يُعَمَّدُ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَنْزِلُ عَلَى ٱلِابْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ ٱلْمُخَلِّصُ ٱلْمَوْعُودُ بِهِ (أَشَعْيَا 11: 12). وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس: "إِنَّهُ سِرُّ ٱلثَّالُوثِ ٱلَّذِي ظَهَرَ فِي هَذِهِ ٱلْمَعْمُودِيَّةِ. ٱلرَّبُّ يَسُوعُ قَبِلَ ٱلْعُمَّادَ، وَٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ نَزَلَ عَلَى شَكْلِ حَمَامَةٍ، وَسَمِعْنَا صَوْتَ ٱلآبِ ٱلَّذِي شَهِدَ لِٱبْنِهِ" (شَرْحٌ لِإِنْجِيلِ ٱلْقِدِّيسِ مَتَّى، 3). وَمَعَ أَنَّ ٱللهَ ثَالُوثٌ، فَإِنَّ أَوَّلَ لِقَاءِ لِلْإِنْسَانِ مَعَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا فِي ٱلْمَسِيحِ. وَهَذِهِ ٱلْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بَدَايَةِ رِسَالَةِ يَسُوعَ لَدَى شَعْبِ ٱللهِ، وَهِيَ ٱلْخَلَاصُ ٱلَّذِي دَشَّنَهُ يَسُوعُ تَطْهِيرًا مِنَ ٱلْخَطَايَا وَتَقْدِيسًا لِلشَّعْبِ.

 

 

ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 3: 15-16، 21-22)

 

بَعْدَ دِرَاسَةِ وَقَائِعِ ٱلنَّصِّ ٱلإِنْجِيلِيِّ (لُوقَا 3: 15-16، 21-22)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّ لُوقَا ٱلإِنْجِيلِيَّ لَا يُرَكِّزُ ٱلِٱهْتِمَامَ عَلَى مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا، بَلْ يُرَكِّزُ عَلَى ٱلْوَحْيِ ٱلسَّمَاوِيِّ ٱلَّذِي تَبِعَهَا. فِي هَذَا ٱلْمَشْهَدِ، يَظْهَرُ يَسُوعُ لِلْبَشَرِيَّةِ، مُعْلِنًا نَفْسَهُ ٱلنَّبِيَّ، وَٱلْمَسِيحَ ٱلْمُنْتَظَرَ، وَٱبْنَ ٱللهِ.

 

1) يسوع هو النبي (لوقا 3: 22) 

 

يَذْكُرُ إِنْجِيلُ لُوقَا أَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ نَزَلَ عَلَى يَسُوعَ (لُوقَا 3: 22) لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ يَسُوعَ نَالَ ٱلرُّوحَ كَسَائِرِ ٱلْأَنْبِيَاءِ لِنَقْلِ كَلِمَةِ ٱللهِ: "رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ ٱلْفُقَرَاءَ، وَأَرْسَلَنِي لِأُعْلِنَ لِلْمَأْسُورِينَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ، وَلِلْعُمْيَانِ عَوْدَةَ ٱلْبَصَرِ إِلَيْهِمْ، وَأُفَرِّجَ عَنِ ٱلْمَظْلُومِينَ، وَأُعْلِنَ سَنَةَ رِضًى عِنْدَ ٱلرَّبِّ" (لُوقَا 4: 18-19).

 

ٱلنَّبِيُّ هُوَ ٱلَّذِي أَنْبَأَ عَنِ ٱللهِ، وَٱلنُّبُوءَةُ هِيَ تَبْلِيغُ وَحْيِ ٱللهِ إِلَى ٱلنَّاسِ، حَيْثُ إِنَّ ٱلتَّعْرِيفَ ٱلْكِتَابِيَّ لِلنَّبِيِّ هُوَ أَنَّهُ ٱلشَّخْصُ ٱلَّذِي يُعْلِنُ إِرَادَةَ ٱللهِ وَٱلْمُسْتَقْبَلَ لِلشَّعْبِ، كَمَا يَرْشِدُهُ ٱلْوَحْيُ ٱلإِلَهِيُّ. وَعَلَاوَةً عَلَى مُنَادَاتِهِ بِٱلْقَضَاءِ عَلَى ٱلْخَطَإِ، وَٱلدِّفَاعِ عَنِ ٱلْحَقِّ وَٱلْبِرِّ، وَٱلشَّهَادَةِ لِسُمُوِّ ٱلْأَخْلَاقِ عَلَى ٱلطُّقُوسِ ٱلشَّكْلِيَّةِ، فَإِنَّ ٱلنُّبُوءَةَ هِيَ وَثِيقَةُ ٱلِارْتِبَاطِ بِمَقَاصِدِ نِعْمَةِ ٱللهِ نَحْوَ شَعْبِهِ (مِيخَا 7: 20، أَشَعْيَا 60: 3).  وَمِنْ هَذَا ٱلْمُنْطَلَقِ، ٱلنَّبِيُّ هُوَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنَ ٱللهِ، فَأَقْوَالُهُ لَيْسَتْ مِنْ بَنَاتِ أَفْكَارِهِ، وَلَكِنَّهَا مِنْ مَصْدَرٍ أَسْمَى. فَٱلْأَنْبِيَاءُ ٱلْحَقِيقِيُّونَ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَضَعُهُ ٱللهُ فِي أَفْوَاهِهِمْ، أَوْ يَكْشِفُهُ لِعُقُولِهِمْ (أَشَعْيَا 2: 1). كُلُّ هَذَا ٱلْوَصْفِ يَنْطَبِقُ عَلَى ٱلْمَسِيحِ، لِأَنَّهُ هُوَ كَلِمَةُ ٱللهِ نَفْسُهُ، مِنْ ذَاتِ ٱللهِ.

 

يَخْتَلِفُ مَفْهُومُ ٱلنُّبُوءَةِ وَٱلْأَنْبِيَاءِ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ قَلِيلًا عَنْ مَفْهُومِ ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ كَانَتْ وَسِيلَةُ ٱتِّصَالِ ٱللهِ بِٱلشَّعْبِ مِنْ خِلَالِ ٱلنَّبِيِّ فَقَطْ، أَيْ مِنَ ٱللهِ لِلنَّبِيِّ ثُمَّ لِلشَّعْبِ، وَلَكِنْ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ جَاءَ ٱلرَّبُّ نَفْسُهُ إِلَى ٱلشَّعْبِ. كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ صَاحِبِ ٱلرِّسَالَةِ لِلْعِبْرَانِيِّينَ: "بَعْدَمَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ قَدِيمًا بِٱلأَنْبِيَاءِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَبِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي آخِرِ ٱلأَيَّامِ هَذِهِ بِٱبْنٍ جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَبِهِ أَنْشَأَ ٱلْعَالَمِينَ" (ٱلْعِبْرَانِيِّينَ 1: 1-2). فَٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ هُوَ ٱبْنُ ٱللهِ، أَيْ مِنْ ذَاتِ ٱللهِ، فَلَهُ مِلْءُ ٱلْلَاهُوتِ، وَهُوَ كَلِمَةُ ٱللهِ ذَاتُهُ، هُوَ ٱلَّذِي يُكَلِّمُ ٱلْبَشَرَ وَيُخْبِرُهُمْ بِٱلْأَشْيَاءِ ٱلْخَفِيَّةِ وَٱلْمُسْتَقْبَلِيَّةِ أَيْضًا. وَتَعْرِيفُ ٱلنَّبِيِّ هَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى ٱلْمَسِيحِ، لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِأُمُورٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُلْغِي أُلُوهِيَّتَهُ.

 

نُشَاهِدُ فِي يَسُوعَ كَثِيرًا مِنَ ٱلْمَلَامِحِ ٱلنَّبَوِيَّةِ. فَهُوَ يَكْشِفُ مُضْمُونَ "عَلَامَاتِ ٱلْأَزْمِنَةِ" (مَتَّى 16: 2-3)، وَيُعْلِنُ نِهَايَتَهَا: "فَهَا إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكُمْ" (مَتَّى 24: 25). وَمَوْقِفُهُ إِزَاءَ ٱلْقِيَمِ ٱلتَّقْلِيدِيَّةِ هُوَ عَوْدَةٌ إِلَى ٱلنَّقْدِ ٱلَّذِي أَبْدَاهُ ٱلْأَنْبِيَاءُ بِصَرَامَةٍ إِزَاءَ عُلَمَاءِ ٱلشَّرِيعَةِ: "ٱلْوَيْلُ لَكُمْ يَا عُلَمَاءَ ٱلشَّرِيعَةِ، قَدِ ٱسْتَوْلَيْتُمْ عَلَى مِفْتَاحِ ٱلْمَعْرِفَةِ، فَلَمْ تَدْخُلُوا أَنْتُمْ، وَٱلَّذِينَ أَرَادُوا ٱلدُّخُولَ مَنَعْتُمُوهُمْ" (لُوقَا 11: 52)، وَغَضَبُهُ "ضِدَّ ٱلرِّيَاءِ" أَوْ ٱلْمُرَاءَةِ ٱلدِّينِيَّةِ: "أَيُّهَا ٱلْمُرَاؤُونَ، أَحْسَنَ أَشَعْيَا فِي نُبُوءَتِهِ عَنْكُمْ إِذْ قَالَ: هَذَا ٱلشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَبَعِيدٌ مِنِّي" (مَتَّى 15: 7).  وَفَتْحُهُ ٱلْجِدَالَ فِي صِفَةِ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ، مَوْضِعِ ٱفْتِخَارِ ٱلْيَهُودِ: "إِنَّ أَبَانَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ أَبْنَاءَ إِبْرَاهِيمَ، لَعَمِلْتُمْ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ" (يُوحَنَّا 8: 39)، وَتَوْضِيحُهُ لِلْمِيرَاثِ ٱلرُّوحِيِّ، وَتَطْهِيرُهُ لِلْهَيْكَلِ (مَرْقُسَ 11: 15-17)، وَإِعْلَانُهُ عَنْ عِبَادَةٍ حَقِيقِيَّةٍ كَامِلَةٍ بَعْدَ وُقُوعِ خَرَابِ بِنَاءِ ٱلْهَيْكَلِ (يُوحَنَّا 2: 16).

 

وَأَخِيرًا، يَشْهَدُ يَسُوعُ – وَهَذَا مَا يَرْبِطُهُ خَاصَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْأَنْبِيَاءِ ٱلْقُدَمَاءِ – كَيْفَ أَنَّ رِسَالَتَهُ تُرْفَضُ (مَتَّى 13: 13-15)، وَتُنْبَذُ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ، أُورَشَلِيمَ، قَاتِلَةِ ٱلْأَنْبِيَاءِ: "أُورَشَلِيمُ، أُورَشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ ٱلْأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا! كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَبْنَاءَكِ، كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا! فَلَمْ تُرِيدُوا. هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ قَفْرًا" (مَتَّى 23: 37-38). وَبِقَدْرِ مَا تَكُونُ نِهَايَتُهُ تَقْتَرِبُ، يَتَوَلَّى يَسُوعُ إِعْلَانَهَا وَيَشْرَحُ مَعْنَاهَا، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ نَبِيًّا يَتَنَبَّأُ عَنْ نَفْسِهِ، مُبَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ سَيِّدًا لِمَصِيرِهِ، وَيَقْبَلُهُ بِرِضًى حَتَّى يُتِمَّمَ قَصْدَ ٱلآبِ، كَمَا صَوَّرَتْهُ ٱلْكُتُبُ ٱلْمُقَدَّسَةُ.

 

فَلَا غَرْوَ، مَعَ هَذِهِ ٱلْمَوَاقِفِ ٱلْمُصْحُوبَةِ بِعَلَامَاتٍ إِعْجَازِيَّةٍ، أَنْ تُلَقِّبَ ٱلْجُمُوعُ يَسُوعَ تِلْقَائِيًّا بِلَقَبِ نَبِيٍّ، كَمَا حَدَثَ بَعْدَ إِحْيَاءِ ٱبْنِ أَرْمَلَةِ نَائِينَ: "فَٱسْتَوْلَى ٱلْخَوْفُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، فَمَجَّدُوا ٱللهَ قَائِلِينَ: قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَٱفْتَقَدَ ٱللهُ شَعْبَهُ" (لُوقَا 7: 16)، وَكَمَا ٱعْتَرَفَ بِهِ ٱلْأَعْمَى بَعْدَ شِفَائِهِ عِنْدَ بَرَكَةِ سِلْوَامَ: "فَقَالُوا أَيْضًا لِلْأَعْمَى: وَأَنْتَ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ" (يُوحَنَّا 9: 17). وَكَذَلِكَ ٱعْتَرَفَتْ بِهِ نَبِيًّا ٱلْمَرْأَةُ ٱلسَّامِرِيَّةُ: "يَا رَبُّ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ" (يُوحَنَّا 4: 19)، لِأَنَّهَا شَعَرَتْ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرَى مَا لَا يَرَاهُ ٱلْآخَرُونَ، وَيَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ، فَهُوَ نَبِيٌّ. "وَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا ٱلْكَلَامَ، قَالُوا: هَذَا بِٱلْحَقِيقَةِ هُوَ ٱلنَّبِيُّ" (يُوحَنَّا 7: 40).

 

وَفِي بَعْضِ ٱلْحَالَاتِ يَدُلُّ هَذَا ٱللَّقَبُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ ٱلْأَعْظَمِ، ٱلَّذِي سَبَقَ وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ ٱلْكُتُبُ ٱلْمُقَدَّسَةُ، فَأَعْلَنَهُ وَأَعْلَنَ أَتْبَاعُ ٱلْمَسِيحِ، وَمَنْ شَفَاهُمْ وَأَعْدَاؤُهُ فِي حَيَاتِهِ، عَنْهُ: فَبَعْدَ مُعْجِزَةِ ٱلْخُبْزِ وَٱلسَّمَكْتَيْنِ حَوْلَ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ: "لَمَّا رَأَى ٱلنَّاسُ ٱلْآيَةَ ٱلَّتِي أَتَى بِهَا يَسُوعُ، قَالُوا: حَقًّا، هَذَا هُوَ ٱلنَّبِيُّ ٱلْآتِي إِلَى ٱلْعَالَمِ" (يُوحَنَّا 6: 14). وَيَرَى فِيهِ ٱلنَّاسُ أَنَّهُ نَبِيُّ ٱلْأَزْمِنَةِ ٱلْأَخِيرَةِ ٱلَّذِي يُرْسِلُهُ ٱللهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَتَزَعَّمَ حَرَكَةَ تَحْرِيرٍ قَوْمِيٍّ وَيُقِيمَ سُلْطَانَ إِسْرَائِيلَ (يُوحَنَّا 1: 21)؛ وَقَدِ ٱعْتَرَفَ بِهِ نَبِيًّا أَيْضًا "أُنَاسٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا كَلَامَهُ عَنِ ٱلْمَاءِ ٱلْحَيِّ: "هَذَا هُوَ ٱلنَّبِيُّ حَقًّا!" (يُوحَنَّا 7: 40).

 

وَبَعْدَ أَنْ ضَرَبَ يسوع ٱلْأَمْثَالَ فِي ٱلْهَيْكَلِ لِلشَّعْبِ عَلَى سَمَاعِ عُظَمَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: "حَاوَلُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ خَافُوا ٱلْجُمُوعَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعُدُّهُ نَبِيًّا" (مَتَّى 21: 46)؛ وَكَذَلِكَ قَالَ كُلُّ ٱلْجُمُوعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا فِي ٱنْتِظَارِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى أُورَشَلِيمَ: "هَذَا يَسُوعُ ٱلنَّبِيُّ ٱلَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ ٱلْجَلِيلِ" (مَتَّى 21: 10-11). غَيْرَ أَنَّ يَسُوعَ لَا يُطْلِقُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا ٱللَّقَبَ إِلَّا عَرَضًا، حِينَ قَالَ: "لَا يُزْدَرَى نَبِيٌّ إِلَّا فِي وَطَنِهِ وَبَيْتِهِ" (مَتَّى 13: 57). وَمِنْ ثَمَّ، لَنْ يَكُونَ لِهَذَا ٱللَّقَبِ إِلَّا مَجَالٌ بَسِيطٌ فِي فِكْرِ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلنَّاشِئَةِ، كَمَا جَاءَ فِي عِظَةِ بُطْرُسَ لِلشَّعْبِ: "فَلَقَدْ قَالَ مُوسَى: سَيُقِيمُ لَكُمُ ٱلرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِكُمْ نَبِيًّا مِثْلِي، فَإِلَيْهِ أَصْغُوا فِي جَمِيعِ مَا يَقُولُ لَكُمْ" (أَعْمَالُ ٱلرُّسُلِ 3: 22)، حَيْثُ يَظْهَرُ يَسُوعُ هُنَا بِمَظْهَرِ ٱلنَّبِيِّ ٱلشَّبِيهِ بِمُوسَى، كَمَا وَصَفَهُ قَلاُوبَا، أَحَدُ تِلْمِيذَيْ عِمَّاوُسَ بَعْدَ قِيَامَةِ ٱلرَّبِّ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ: "كَانَ نَبِيًّا مُقْتَدِرًا عَلَى ٱلْعَمَلِ وَٱلْقَوْلِ عِنْدَ ٱللهِ وَٱلشَّعْبِ كُلِّهِ" (لُوقَا 24: 19).

 

وَنَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ يَسُوعَ بِتَجَسُّدِهِ أَخَذَ جَسَدًا بَشَرِيًّا، مِمَّا أَضْفَى عَلَيْهِ صِفَةَ ٱلنَّبِيِّ، لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِفَمِهِ ٱلْبَشَرِيِّ أُمُورَهُ ٱللَّاهُوتِيَّةَ وَٱلْخَفِيَّةَ وَٱلْمُسْتَقْبَلِيَّةَ. وَلَكِنَّهُ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ نَبِيٍّ، لِأَنَّ رِسَالَتَهُ هِيَ ٱلْبُشْرَى ٱلنِّهَائِيَّةُ، وَهُوَ نَفْسُهُ مَوْضُوعُهَا، إِنَّهُ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ، وَشَخْصِيَّتُهُ تَتَجَاوَزُ مِنْ كُلِّ ٱلْوُجُوهِ ٱلتَّقْلِيدَ ٱلنَّبَوِيَّ. فَيَسُوعُ هُوَ ٱلْمَسِيحُ وَ"عَبْدُ ٱللهِ ٱلْمُتَأَلِّمُ" وَٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ.  أَمَّا ٱلسُّلْطَانُ ٱلَّذِي أُعْطِيَ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، فَهُوَ أَيْضًا بِجُمْلَتِهِ سُلْطَانُهُ ٱلْخَاصُّ كُلِّيًّا: إِنَّهُ سُلْطَانُ ٱلِٱبْنِ، ٱلْأَمْرُ ٱلَّذِي يَضَعُهُ فَوْقَ كُلِّ صُفُوفِ ٱلْأَنْبِيَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ صَاحِبِ ٱلرِّسَالَةِ إِلَى ٱلْعِبْرَانِيِّينَ: "إِنَّ ٱللهَ، بَعْدَمَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ قَدِيمًا بِٱلْأَنْبِيَاءِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي آخِرِ ٱلْأَيَّامِ هَذِهِ بِٱبْنٍ جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَبِهِ أَنْشَأَ ٱلْعَالَمِينَ. هُوَ شُعَاعُ مَجْدِهِ وَصُورَةُ جَوْهَرِهِ، يَحْفَظُ كُلَّ شَيْءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِهِ. وَبَعْدَمَا قَامَ بِٱلتَّطْهِيرِ مِنَ ٱلْخَطَايَا، جَلَسَ عَنْ يَمِينِ ذِي ٱلْجَلَالِ فِي ٱلْعُلَى" (عِبْرَانِيِّينَ 1: 1-3).

 

إِنَّهُ يَسْتَمِدُّ مِنَ ٱللهِ ٱلآبِ كَلَامَهُ، وَلَكِنَّهُ – كَمَا يَقُولُ يُوحَنَّا ٱلْإِنْجِيلِيُّ – هُوَ: "ٱلْكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا" (يُوحَنَّا 1: 14). وَفِي ٱلْوَاقِعِ، فَأَيُّ نَبِيٍّ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَدِّمَ ذَاتَهُ بِٱعْتِبَارِهِ مَصْدَرًا لِلْحَقِّ وَٱلْحَيَاةِ؟ "أَنَا ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ" (يُوحَنَّا 14: 6). إِنَّ ٱلْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يُرَدِّدُونَ: "هَذَا وَحْيُ ٱللهِ!"، أَمَّا يَسُوعُ فَيَقُولُ: "ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ". وَإِذَنْ، فَإِنَّ رِسَالَتَهُ وَشَخْصَهُ لَيْسَا مِنْ ذَاتِ ٱلْمُسْتَوَى ٱلنَّبَوِيِّ. وَٱلْفَارِقُ ٱلْهَائِلُ بَيْنَ ٱسْتِعْلَانِ ٱللهِ بِٱلْكَلِمَةِ عَلَى فَمِ ٱلْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنَ ٱسْتِعْلَانِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ، كَٱلْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ نَعْرِفَ شَيْئًا عَنْ ٱللهِ وَبَيْنَ أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَهُ وَنَلْمِسَهُ. وَإِنْ كَانَ كَلَامُ ٱللهِ بِٱلْأَنْبِيَاءِ لَا يَزُولُ بَلْ يَتَحَقَّقُ فِي ٱلْحَالِ، فَبِٱلْأَوْلَى كَلِمَةُ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّتِي تَخْلُقُ. وَنَرَى هُنَا وَحْدَةَ ٱلْعَهْدَيْنِ، فَٱللهُ ٱلَّذِي كَلَّمَنَا فِي ٱلْأَنْبِيَاءِ هُوَ نَفْسُهُ ٱلَّذِي كَلَّمَنَا فِي ٱبْنِهِ، وَلَكِنَّهُ ٱلآنَ فِي صُورَةٍ أَكْمَلَ لِإِعْلَانِهِ. فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ رَأَيْنَا ظِلَالَ ٱلْحَقَائِقِ، أَمَّا ٱلآنَ فَنَرَى ٱلْحَقَّ عَيْنَهُ، بَلْ أَعْطَانَا ٱللهُ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ ٱلَّذِي بِهِ نَعْرِفُ عَقْلَ ٱللهِ وَفِكْرَ ٱللهِ، وَنَرَى صُورَةً لِلْمَجْدِ (1 قُورِنْتُسَ 2: 9-11).

 

 

2) يسوع هو المسيح (لوقا 3: 15)

 

يُبيِّن لنا نصُّ إنجيل لوقا أنَّ يسوع ليس نبيًّا فحسب، بل هو المسيح المنتظَر. فقد ورد: "وكانَ الشَّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحنَّا: هل هو الـمَسيح؟" (لوقا 3: 15). لفظة "المسيح" مشتقَّة من اللغة العبرية والآرامية (המשיח) وتعني "المسيا"، وأمَّا اللفظة اليونانية فهي Χριστός، أي "المسيح"، وتُشير إلى "الممسوح". ويُعلِّق القدِّيس إيرينيوس قائلًا: "إنَّ في اسم المسيح يُضمَر معنى المسح، والممسوح، والدهن الذي به مُسح: فالماسح هو الآب، والممسوح هو الابن، وقد مُسح بالروح، الذي هو الدُّهن" (الرد على الهرطقات 3: 18، 3).

 

يُشِيرُ ٱلِاسْمُ "ٱلْمَسِيحُ" إِلَى رَبْطِ شَخْصِ يَسُوعَ بِرَجَاءِ أَبْنَاءِ ٱلشَّعْبِ ٱلْعِبْرِيِّ، فِي كِلَا ٱلْعَهْدَيْنِ: ٱلْقَدِيمِ وَٱلْجَدِيدِ. فَفِي ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ، كَانَتْ لَفْظَةُ "ٱلْمَسِيحُ" – ٱلَّذِي مُسِحَ بِٱلزَّيْتِ – تُطْلَقُ عَلَى ٱلْمَلِكِ وَٱلنَّبِيِّ وَٱلْكَاهِنِ. وَقَدْ جَعَلَتِ ٱلْمَسْحَةُ ٱلْإِلَهِيَّةُ هَؤُلَاءِ ٱلْمُكَرَّسِينَ أَدَوَاتٍ لِتَنْفِيذِ مَقَاصِدِ ٱللهِ فِي خِدْمَةِ شَعْبِهِ، فَكَانَتْ تَكْرِيسًا رَسْمِيًّا لِوَظِيفَتِهِمْ ٱلْمُلْكِيَّةِ أَوِ ٱلنَّبَوِيَّةِ أَوِ ٱلْكَهَنُوتِيَّةِ.

 

وَبِفَضْلِ هَذِهِ ٱلْمَسْحَةِ بِٱلزَّيْتِ – ٱلَّتِي كَانَتْ تَرْمُزُ إِلَى تَقْلِيدِ ٱلسُّلْطَةِ وَٱلتَّثْبِيتِ مِنْ قِبَلِ رُوحِ ٱللهِ – كَانَ يُنْظَرُ إِلَى ٱلْمَلِكِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ ٱللهِ فِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا فِي حَالِ شَاوُلَ (1 صَمُوئِيلَ 9: 16، 10: 1)، وَدَاوُدَ (2 صَمُوئِيلَ 2: 4، 5: 3)، وَسُلَيْمَانَ (1 مُلُوكَ 1: 39)، وَأُولَئِكَ ٱلَّذِينَ ٱرْتَقَوْا بَعْدَهُمْ إِلَى ٱلْعَرْشِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ (2 مُلُوكَ 11: 12، 23).

 

وَهَكَذَا، فَبِتِلْكَ ٱلْمَسْحَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ يَصِيرُ ٱلْمَلِكُ "مَسِيحَ ٱللهِ" (2 صَمُوئِيلَ 19: 22)، أَيْ شَخْصًا مُخَصَّصًا لِخِدْمَةِ ٱللهِ، يَتَوَجَّبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُبَجِّلَهُ وَيُقَدِّمَ لَهُ إِكْرَامًا دِينِيًّا، كَمَا نَرَى فِي ٱقْتِدَارِ دَاوُدَ وَتَوَقِّيهِ مَسَّ "مَسِيحِ ٱلرَّبِّ" شَاوُلَ، حِينَ قَالَ: "حَاشَا لِي مِنَ ٱلرَّبِّ أَنْ أَمُدَّ يَدِي إِلَى مَسِيحِ ٱلرَّبِّ!" (1 صَمُوئِيلَ 24: 7).

 

لَمْ تكُنِ ٱلْمَسْحَة عادةً مَلْزِمَةً للأنبياءِ في تَكْرِيسِهم لِوَظيفَتِهِمْ بِمَسْحِ الزَّيْتِ، وإنَّما كانَ يَحْدُثُ ذلِكَ بِطَريقَةٍ عارِضَةٍ. مَثَلًا، أَمَرَ اللهُ إيليَّا أن "يَمْسَحَ أَلِيشَاعَ نَبِيًّا بَدَلًا مِنْهُ" (1 ملوك 19: 16). وفي الحَقيقَةِ، فإنَّ المَسْحَ الرُّوحيَّ الذي يَنالُهُ النَّبِيُّ هو ما أشارَ إليهِ النَّبِيُّ أَشَعْيا في قَوْلِهِ: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراءَ" (أَشَعْيا 61: 1)، وهو النَّصُّ الذي اقتَبَسَهُ يسوعُ في إِنْجيلِ لوقا، حيث قال: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراءَ" (لوقا 4: 18). وقد استُخْدِمَ لَفْظُ "مَسْحَاءَ" مَرَّةً في الإشارةِ إلى أَعْضاءِ شَعْبِ اللهِ، بوصْفِهِمْ أَنْبِياءَ الرَّبِّ، كما جاءَ في المَزْمُورِ: "لا تَمَسُّوا مُسَحَائِي، ولا تُسِيئُوا إلى أَنْبِيَائِي" (مَزْمُور 105: 15).

 

أمَّا مَسْحُ الكَهَنَةِ فيَعودُ إلى ما بَعْدَ السَّبْي، إذْ كانَ يُمْنَحُ المَسْحُ لِعَظيمِ الأحْبارِ (خروج 29: 7). ومُنْذُ ذَلِكَ العَصْرِ يُصْبِحُ عَظيمُ الأحْبارِ المَمْسُوحُ "المَسِيّا" في زَمانِهِ (الأحبار 4: 3). وكانَ المَسْحُ يَشْمَلُ أيضاً جَميعَ الكَهَنَةِ (خروج 28: 41). وبِهَذا، أعْطى الفِكْرُ اليَهُودِيُّ عنِ الأزْمِنَةِ الأخِيرَةِ مَكانَةً هامَّةً لانتِظارِ المَسِيحِ: مَسِيحٍ مَلِكٍ يَنْتَظِرُهُ الجَمِيعُ، ومَسِيحٍ كاهِنٍ فِي رَأيِ بَعْضِ الأوْساطِ اليَهُودِيَّةِ. غيرَ أَنَّ مَواعِيدَ الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ لا تَنْحَصِرُ فِي هَذِهِ المَسِيحانِيَّةِ ضِمْنَ أَحْلامِ نَهْضَةٍ سِيَاسِيَّةٍ، بَلْ تُعْلِنُ أَيْضاً تَأْسِيسَ مَلَكُوتِ اللهِ على يَدِ يَسُوعَ المَسِيحِ.

 

وفي العَهْدِ الجَدِيدِ، بَشَّرَ المَلاكُ الرُّعَاةَ بِمِيلادِ يَسُوعَ بوصْفِهِ المَسِيحَ المَوْعُودَ لإسْرائِيل: "وُلِدَ لَكُمُ اليَوْمَ مُخَلِّصٌ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ، وهُوَ المَسِيحُ الرَّبُّ" (لوقا 2: 11). وَظَهَرَ تَكْرِيسُهُ المَسِيحانِيُّ الأَزَلِيُّ فِي حَياتِهِ الأَرْضِيَّةِ أَثْناءَ اعْتِمادِهِ على يَدِ يُوحَنَّا المَعْمَدانِ: "اللهَ مَسَحَهُ بِالرُّوحِ القُدُسِ وَالقُدْرَةِ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 10: 38)، "لِكَي يَظْهَرَ أَمْرُهُ لِإسْرائِيلَ" (يُوحَنَّا 1: 31) بِصِفَتِهِ المَسِيحَ المَوْعُودَ.

 

وأَدْهَشَ يَسُوعُ النَّاسَ بِقُداسَتِهِ وسُلْطانِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَكانَ مَوْقِفُ مُعاصِرِيهِ مَوْقِفَ تَساؤُلٍ مُسْتَمِرٍّ: "أَتُراهُ المَسِيح؟" (يُوحَنَّا 4: 29، 7: 31). وأَلَحُّوا عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِنَ عَنْ نَفْسِهِ صَراحَةً قَائِلِينَ: "إِنْ كُنْتَ المَسِيحَ، فَقُلْهُ لَنا صَراحَةً" (يُوحَنَّا 10: 24). وانْقَسَمَ النَّاسُ تُجاهَ يَسُوعَ بِوَصْفِهِ المَسِيحَ، كَما وَرَدَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: "فَوَقَعَ بَيْنَ الجَمْعِ خِلافٌ فِي شَأْنِهِ" (يُوحَنَّا 7: 43). فَمِنْ جِهَةٍ، اتَّفَقَتِ السُّلُطاتُ اليَهُودِيَّةُ على طَرْدِ كُلِّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ مِنَ المَجْمَعِ (يُوحَنَّا 9: 22). ومِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، اعْتَرَفَ كَثِيرُونَ صَراحَةً بِأَنَّهُ هُوَ المَسِيحُ، وكانَ أَوَّلَهُمْ تَلامِيذُهُ (يُوحَنَّا 1: 41)، ثُمَّ مَرْثا حِينَ أَعْلَنَ أَنَّهُ القِيَامَةُ وَالحَياةُ (يُوحَنَّا 11: 27). وأَخِيراً، جاءَ جَوابُ بُطْرُسَ لِيُضْفِي طابِعاً رَسْمِيّاً خاصّاً على اعْتِرافِهِم: "أَنْتَ المَسِيحُ" (مَرْقُس 8: 29). غَيْرَ أَنَّ هَذا الجَوابَ بَقِيَ ناقِصاً، لأَنَّ لَقَبَ "المَسِيحِ" كانَ مُعَرَّضاً لِلفَهْمِ الخاطِئِ ضِمْنَ إِطارِ التَّطَلُّعِ إلى مَلِكٍ زَمَنِيٍّ سِيَاسِيٍّ (يُوحَنَّا 6: 15).

 

لم يُطْلِقْ يَسُوعُ على نَفْسِهِ لَقَبَ "المَسِيحِ" سوى مَرَّةٍ واحِدَةٍ، وذلكَ في حِوارِهِ مَعَ المَرْأَةِ السّامِرِيَّةِ: "إِنِّي أَعلَمُ أَنَّ المَشيحَ آتٍ، وهو الَّذي يُقالُ لَه المَسِيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيءٍ". قالَ لَها يَسُوعُ: "أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يُوحَنَّا 4: 25-26). وفي الواقِعِ، كانَ يَسُوعُ يَحظُرُ على الشَّياطِينِ أَنْ يُعْلِنوا أَنَّهُ هوَ المَسِيحُ (لوقا 4: 41). ولكنَّه، بَعْدَ اعْتِرافِ بُطْرُسَ، أَوْصى الاثنَيْ عَشَرَ بأَلَّا يُخْبِروا أَحَداً بأَنَّهُ المَسِيحُ (مَتَّى 16: 20).

 

قَبِلَ يَسُوعُ لَقَبَ "المَسِيحِ" الَّذي كانَ مِنْ حَقِّهِ (يُوحَنَّا 4: 25-26)، وَلَكِنْ لا على سَبِيلِ الإطْلاقِ، لأَنَّ فِئَةً مِنْ مُعاصِرِيهِ كانُوا يَنْظُرونَ إلى هذا اللَّقَبِ نَظْرَةً بَشَرِيَّةً سِياسِيَّةً فِي جَوْهَرِها (مَتَّى 22: 41-46). لِذَلِكَ، شَرَعَ يَسُوعُ في تَنْقِيَةِ مَفهومِ فِكْرَةِ "المَسِيحِ". فَعِنْدَما كانَ النَّاسُ يَقولونَ لِيَسُوعَ "أَنْتَ المَسِيحُ"، كانَ يُجِيبُهُم: "على ابْنِ الإِنْسانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ"، وهَكَذا يَرْبِطُ بَيْنَ فِكْرَةِ المَسِيحِ وإِعْلانِ الآلامِ والقيامَةِ (مَتَّى 16: 16). ولَمْ يُنْكِرْ يَسُوعُ هذا اللَّقَبَ في مُحاكَمَتِهِ الدِّينِيَّةِ واسْتِحْلافِ عَظيمِ الأَحْبارِ لَه، بَلْ أَعْطاهُ مَعْنًى مُتَسامِياً، بِأَنَّهُ هوَ ابْنُ الإِنْسانِ المُزْمِعُ أَنْ يَجْلِسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ (مَتَّى 26: 63-64). وَبَدَأَ هذا الاعْتِرافُ مَعَ بَدْءِ آلامِهِ. وكانَ هذا الاعْتِرافُ سَبَبَ الحُكْمِ عَلَيْهِ، كَما أَكَّدَهُ عَظيمُ الكَهَنَةِ: "أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الحَيِّ لَتَقولَنَّ لَنا: هَلْ أَنْتَ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟"، فَقالَ لَهُ يَسُوعُ: "هُوَ ما تَقولُ" (مَتَّى 26: 65-66). فَلَمْ يَعُدْ لَقَبُ المَسِيحِ مَجالاً لِمَجْدٍ زَمَنِيٍّ، بَلْ صارَ في المَجالِ الرُّوحِيِّ.

 

لَمْ تَتَرَدَّدِ الكَنِيسَةُ في إِعْلانِ لَقَبِ "المَسِيحِ"؛ فَإِنَّها، على ضَوْءِ قِيامَةِ يَسُوعَ، قامَتْ بِإِعْلانِ أَنَّ يَسُوعَ هوَ المَسِيحُ Χριστός (خريستوس). ويَظْهَرُ يَسُوعُ هَكَذا بِاعْتِبارِهِ ابْنَ داوُدَ الحَقِيقِيَّ، كَما وَرَدَ في نَسَبِهِ في إِنْجِيلِ مَتَّى: "نَسَبُ يَسُوعَ المَسِيحِ ابْنِ داوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ" (مَتَّى 1: 1)، حُبِلَ بِهِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ، كَما بَشَّرَ المَلاكُ مَرْيَمَ العَذْراءَ (لوقا 1: 35)، لِيَرِثَ عَرْشَ داوُدَ أَبِيهِ (لوقا 1: 32) ويَقُودَ هذا المَلَكُوتَ إلى غايتِهِ، بِتَأْسِيسِ مَلَكُوتِ اللهِ على الأَرْضِ، عَنْ طَرِيقِ قِيامَتِهِ مِنْ بَيْنِ الأَمْواتِ. ولِذَلِكَ لَمْ يَتَرَدَّدْ بُطْرُسُ الرَّسُولُ، بَعْدَ قِيامَةِ يَسُوعَ، في أَنْ يُعْلِنَ أَمْرَهُ أَمامَ شَعْبِ اللهِ قائِلاً: "فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً بَيْتُ إِسْرائِيلَ أَجْمَعُ أَنَّ يَسُوعَ هذا الَّذي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُم، قد جَعَلَهُ اللهُ رَبّاً وَمَسِيحاً" (أَعْمالُ الرُّسُلِ 2: 36).

 

نستنتجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّهُ بَعْدَ قِيامَةِ يَسُوعَ فَقَط، اسْتَطاعَ التَّلامِيذُ أَنْ يَفْهَمُوا ماذا يَنْطَوِي عَلَيْهِ هَذا اللَّقَبُ: "أَمَّا كانَ يَجِبُ على المَسِيحِ أَنْ يُعانِيَ هَذِهِ الآلامَ فَيَدْخُلَ في مَجْدِهِ؟" (لوقا 24: 26)؛ لأنَّهُ، كَما وَرَدَ في الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ: "كُتِبَ أَنَّ المَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِن بَيْنِ الأَمْواتِ في اليَوْمِ الثَّالِثِ، وَتُعْلَنُ بِاسْمِهِ التَّوبَةُ وَغُفْرانُ الخَطايا لِجَمِيعِ الأُمَمِ" (لوقا 24: 46-47).

 

لقد أَصْبَحَتْ تَسْمِيَةُ "المَسِيحِ" في زَمَنِ الرُّسُلِ اسْمَ عِلَمٍ لِيَسُوعَ، وَلَمْ تَتَرَدَّدِ الكَنِيسَةُ الأُولَى في الاعْتِرافِ بِيَسُوعَ بأَرْفَعِ الأَلْقابِ، أَلا وهُوَ لَقَبُ الرَّبِّ، كَما جاءَ في عِظَةِ بُطْرُسَ الرَّسُولِ الأُولَى: "أَنَّ يَسُوعَ هذا الَّذي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُم، قد جَعَلَهُ اللهُ رَبًّا وَمَسِيحًا" (أَعْمالُ الرُّسُلِ 2: 36)، و"المَسِيحُ الرَّبُّ" (لوقا 2: 11)، و"رَبُّنا يَسُوعُ المَسِيحُ" (أَعْمالُ 15: 26)، وهو ابْنُ اللهِ بِالمَعْنى الحَصْرِيِّ (رُومَةَ 1: 4)، وهو الإِلَهُ الحَقُّ (رُومَةَ 9: 5).

 

لَمْ يَعُدْ أيضاً لَقَبُ "المَسِيحِ" بالنِّسْبَةِ إلى بُولُسَ الرَّسُولِ لَقَباً مِنَ الأَلْقابِ، بَلْ أَصْبَحَ اسْمَ عِلَمٍ خاصٍّ دونَ أَلِ التَّعْرِيفِ: "فَإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسِيحٍ مَصْلُوبٍ" (1 قورِنْتُس 1: 23)، وَلِذَلِكَ تَقومُ بَشارَةُ بُولُسَ بِمَثابَةِ إِعْلانٍ أَيْضاً عَنِ المَسِيحِ المَصْلُوبِ الَّذي ماتَ مِنْ أَجْلِ قَوْمٍ كافِرِينَ: "لَمَّا كُنَّا لاَ نَزالُ ضُعَفاءَ، ماتَ المَسِيحُ في الوَقْتِ المُحَدَّدِ مِنْ أَجْلِ قَوْمٍ كافِرِينَ" (رُومَةَ 5: 6-8). وأَخيراً، يَجْمَعُ لَقَبُ "المَسِيحِ" في ذاتِهِ كُلَّ الأَلْقابِ الأُخْرَى، وَيَحْمِلُ كُلَّ الَّذينَ خَلَّصَهُمُ المَسِيحُ، بِحَقٍّ، اسْمَ "المَسِيحِيِّينَ" (أَعْمالُ 11: 26).

 

 

3) يَسُوعُ هوَ ابْنُ اللهِ (لوقا 3: 22).

 

لَمْ يَكُنْ يَسُوعُ مُجَرَّدَ واحِدٍ مِنْ بَيْنِ الأَنْبِياءِ، أَوِ المَسِيحَ المُنْتَظَرَ فَحَسْب، بَلْ كانَ أَيْضاً ابْنَ اللهِ الوَحِيدَ الَّذي يَفُوقُ سُلْطانَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ، كَما أَوْحى اللهُ بِهذا اللَّقَبِ في العُمَّادِ: "وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقولُ: أَنْتَ ابْنِيَ الحَبِيبُ، عَنْكَ رَضِيتُ" (لوقا 3: 22). لَقَدْ شَهِدَ صَوْتُ اللهِ في العُمَّادِ أَنَّ يَسُوعَ هوَ ابْنُ اللهِ حَقّاً. أُلُوهِيَّةُ المَسِيحِ سِرٌّ عَظِيمٌ، وَلَيْسَ بِالأَمْرِ السَّهْلِ تَأْكِيدُ مِثْلِ هَذا السِّرِّ وَإِثْبَاتُهُ. فَكانَ يَسُوعُ إِنْساناً، وكانَ مِنَ الصَّعْبِ أَنْ نَعْرِفَهُ لأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّهُ كانَ الرَّبَّ، اللهَ المُحْجُوبَ، اللهَ المُسْتَتِرَ في ناسوته.

 

كانَ لَقَبُ "ابْنِ اللهِ" في العَهْدِ القَدِيمِ يُعْطَى لِلمَلائِكَةِ، كَما وَرَدَ في سِفْرِ أَيُّوب: "وَاتَّفَقَ يَوْماً أَنْ دَخَلَ بَنو اللهِ لِيَمْثُلُوا أَمَامَ الرَّبِّ" (أيُّوب 1: 6)، وكانَ يُعْطَى أَيْضاً لِلشَّعْبِ المُخْتارِ: "إِسْرائيلُ هوَ ابْنِيَ البِكْرُ" (خُروج 4: 22)، وَكَذَلِكَ يُعْطَى هذا اللَّقَبُ أَيْضاً لِأَبْناءِ إِسْرائيلَ: "أَنْتُمْ أَبْناءٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ" (تَثْنِيَةُ الاشْتِراعِ 14: 1)، وَلِمُلُوكِهِمْ: "أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً" (2 صَموئِيل 7: 14). في ذَلِكَ العَهْدِ، كانَ لَقَبُ "ابْنِ اللهِ" يَعْنِي بُنُوَّةً بِالتَّبَنِّي، وَالَّتي تَجْعَلُ بَيْنَ اللهِ وَخَليقَتِهِ عَلاقاتِ أُلْفَةٍ خاصَّةٍ.

 

أَمَّا في العَهْدِ الجَدِيدِ، فَيَكْشِفُ لوقا الإِنْجِيلِيُّ في فَتْرَةِ اعْتِمادِ المَسِيحِ عَنْ صَوْتِ الآبِ يُعْلِنُهُ ابْنَهُ الحَبِيبَ: "وَأَتى صَوْتٌ مِنَ السَّماءِ يَقولُ: أَنْتَ ابْنِيَ الحَبِيبُ، عَنْكَ رَضِيتُ" (لوقا 3: 22). مَعْمُودِيَّةُ يَسُوعَ وَظُهُورُ الرُّوحِ القُدُسِ وَصَوْتُ الآبِ يُظْهِرُونَ أَنَّهُ هُوَ المَسِيحُ الَّذِي أُعْلِنَ عَنْهُ فِي النُّبُوءَاتِ القَدِيمَةِ. لَقَدْ أُعْلِنَ يَسُوعُ مَلِكًا رُوحِيًّا، لَيْسَ لِيُقِيمَ مَلَكُوتًا سِيَاسِيًّا، بَلْ لِيُؤَسِّسَ مَلَكُوتَ اللهِ فِي القُلُوبِ، مَلَكُوتَ المَحَبَّةِ وَالبِرِّ وَالقَدَاسَةِ.

 

 

وَلَقَدْ ذَكَرَ لوقا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ يَسُوعَ كانَ ابْناً مُنْذُ اللَّحْظَةِ الأُولَى مِنْ حَياتِهِ، كَما بَشَّرَ المَلاكُ جِبْرائيلُ مَرْيَمَ العَذْراءَ قائِلاً: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَيَنْزِلُ عَلَيْكِ، وَقُدْرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، لِذَلِكَ يَكُونُ المَوْلُودُ قُدُّوساً، وَابْنَ اللهِ يُدْعَى" (لوقا 1: 35). وَأَنَّ يَسُوعَ أَدْرَكَ هذا الأَمْرَ لَمَّا بَلَغَ سِنَّ الرُّشْدِ، أَلَمْ يَقُلْ لِمَرْيَمَ وَيُوسُفَ عِنْدَما بَحَثا عَنْهُ في الهَيْكَلِ: "أَلَمْ تَعْلَما أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ عِنْدَ أَبِي؟" (لوقا 2: 49).

 

لَمْ يَتَرَدَّدْ يَسُوعُ في أَنْ يُعْلِنَ عن نَفْسِهِ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ الوَحِيدُ: "فَإِنَّ اللهَ أَحَبَّ العالَمَ حَتَّى إِنَّهُ جَادَ بِابْنِهِ الوَحِيدِ، لِكَي لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونَ لَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ" (يُوحَنَّا 3: 16). ويُؤَكِّدُ يَسُوعُ هَذِهِ الهُوِيَّةَ لِلْيَهُودِ بِقَوْلِهِ لَهُمْ: "فَكَيفَ تَقولونَ لِلَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وأَرْسَلَهُ إِلَى العالَم: أَنْتَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلتُ إِنِّي ابْنُ الله؟" (يُوحَنَّا 10: 36). وَهُوَ يَطْلُبُ الإِيمَانَ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ الوَحِيدِ: "مَن آمَنَ بِهِ لا يُدان، وَمَن لَمْ يُؤمِنْ بِهِ فَقَدْ دِينَ مُنْذُ الآن، لأَنَّهُ لَمْ يُؤمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ الوَحِيدِ" (يُوحَنَّا 3: 18). وَقَدْ أَشارَ يَسُوعُ إِلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ: "قَدْ سَلَّمَنِي أَبِي كُلَّ شَيْءٍ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَعْرِفُ الابْنَ إِلَّا الآبُ، وَلا مِنْ أَحَدٍ يَعْرِفُ الآبَ إِلَّا الابْنُ" (مَتَّى 11: 27). وَقَدْ مَيَّزَ يَسُوعُ بُنُوَّتَهُ عَنْ بُنُوَّةِ تَلامِيذِهِ بِقَوْلِهِ: "أَبِي وَأَبِيكُم، وَإِلَهِي وَإِلَهِكُم" (يُوحَنَّا 20: 17).

 

وَلَمْ يَتَرَدَّدِ النَّاسُ أَيْضاً في أَنْ يَكْشِفُوا وَيُؤمِنُوا بِأَنَّ يَسُوعَ هوَ ابْنُ اللهِ. نَرَى الأَعْمى في أُورَشَلِيمَ يَتَدَرَّجُ إِيمَانُهُ بِيَسُوعَ: فَبَدَأَ بِقَولِهِ إِنَّهُ الإِنْسَانُ الَّذِي يُفَضِّلُهُ على باقي البَشَرِ، ثُمَّ أَعْلَنَ "إِنَّهُ نَبِيٌّ"، ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ مِنَ اللهِ: "فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرَّجُلُ مِنَ اللهِ، لَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئاً". ثُمَّ آمَنَ بِهِ كَابْنِ اللهِ وَسَجَدَ لَهُ، وَهَذِهِ هي الاسْتِنَارَةُ الحَقِيقِيَّةُ (يُوحَنَّا 9: 1-41).

 

اعْتَرَفَ بُطْرُسُ الرَّسُولُ في قَيْصَرِيَّةِ فِيلِبُّسَ قَائِلاً: "أَنْتَ المَسِيحُ، ابْنُ اللهِ الحَيّ" (مَتَّى 16: 16)، وَكَانَ يَدُلُّ على المَعْنَى الحَرْفِيِّ، كَمَا يَتَبَيَّنُ مِنْ جَوابِ يَسُوعَ لَهُ: "طُوبى لَكَ يا سِمْعانَ بْنَ يُونَا، فَلَيْسَ اللَّحْمُ وَالدَّمُ كَشَفَا لَكَ هَذَا، بَلْ أَبِي الَّذِي في السَّمَاوَاتِ" (مَتَّى 16: 17). وَإِيمَانُ بُطْرُسَ الَّذِي أَعْلَنَهُ سَيَكُونُ مُنْذُ البِدْءِ رَكِيزَةَ الإِيمَانِ الرَّسُولِيِّ وَأَساساً لِلْكَنِيسَةِ. وَتُؤَيِّدُ حَادِثَةُ التَّجَلِّي اعْتِرافَ بُطْرُسَ الرَّسُولِ بِأَنَّ يَسُوعَ هوَ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ، الَّذِي تَمَّ إِعْلَانُهُ في قَيْصَرِيَّةِ فِيلِبُّسَ (لوقا 9: 18-21). فَتَكْشِفُ حَادِثَةُ التَّجَلِّي مَجْدَ يَسُوعَ بِإِعْلانِ أُلُوهِيَّتِهِ؛ فَهُوَ لَيْسَ مُجَرَّدَ نَبِيٍّ عَظِيمٍ، بَلْ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ بِذَاتِهِ الَّذِي طالَ انْتِظَارُهُ. وَظَهَرَ يَسُوعُ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ مِنْ خِلالِ النُّورِ الإِلَهِيِّ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ على هَذِهِ الأَرْضِ، وَقَدْ ظَلَّ مُخْتَبِئاً وَرَاءَ تَوَاضُعِ جَسَدِهِ، لَكِنَّهُ ظَهَرَ في التَّجَلِّي، إِذْ "تَبَدَّلَ مَنْظَرُ وَجْهِهِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بِيضاءَ مُتَلَأْلِئَةً كَالبَرْقِ"؛ وَحَيْثُ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، فَهُوَ "شُعَاعُ مَجْدِهِ وَصُورَةُ جَوْهَرِهِ" (عِبْرَانِيِّينَ 1: 3). أَمَّا صَوْتُ الآبِ "هَذَا هوَ ابْنِيَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، فَلَهُ اسْمَعُوا" (لوقا 9: 35)، فَيُذَكِّرُنَا بِنُبُوءَةٍ تَخُصُّ المَسِيحَ وَبُنُوَّتَهُ الإِلَهِيَّةِ، مُؤَكِّدَةً مَا جَاءَ في سِفْرِ المَزَامِيرِ: "أُعْلِنُ حُكْمَ الرَّبِّ: قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي وَأَنَا اليَوْمَ وَلَدْتُكَ" (مَزْمُور 2: 7).

 

لَمْ يَتَرَدَّدْ يَسُوعُ في إِنْجِيلِ لوقا في أَنْ يُعْلِنَ أَمَامَ مَجْلِسِ شُيُوخِ الشَّعْبِ، وَبِطَلَبٍ مِنَ المُدَّعِينَ عَلَيْهِ، أَنَّهُ ابْنُ اللهِ: "فَقالَ لَهُم: أَنْتُمْ تَقولونَ إِنِّي هوَ" (لوقا 22: 70). فَكانَ الجَوابُ غَيْرَ مُبَاشِرٍ. أَمَّا في إِنْجِيلِ مَرْقُسَ، فَنَجِدُ جَوابَ يَسُوعَ كان مُبَاشِراً أَمَامَ مَحْكَمَةِ المَجْلِسِ اليَهُودِيِّ، لَدَى سُؤَالِ عَظِيمِ الكَهَنَةِ لِيَسُوعَ: "فَسَأَلَهُ عَظِيمُ الكَهَنَةِ ثَانِيَةً، قالَ لَهُ: أَأَنْتَ المَسِيحُ ابْنُ المُبَارَكِ؟" فَقالَ يَسُوعُ: "أَنا هوَ. وَسَوْفَ تَرَوْنَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ القَدِيرِ، وَآتِياً في غَمَامِ السَّمَاءِ" (مَرْقُسَ 14: 61-62). فَكانَ جَوابُ يَسُوعَ واضِحاً أَنَّهُ ابْنُ اللهِ. وَيَنْسِبُ يَسُوعُ إِلَى نَفْسِهِ صَلاحِيَّاتٍ إِلَهِيَّةً وَوَظَائِفَ مَحْفُوظَةً لِلَّهِ؛ فَهُوَ يَجْلِسُ عَنْ يَمِينِ اللهِ، فَيُقَاسِمُهُ قُدْرَتَهُ، وَيُمارِسُ الدَّيْنُونَةَ الَّتِي تَشْمَلُ الكَوْنَ كُلَّهُ. وَهَذِهِ هيَ البُشْرَى الَّتِي افْتَتَحَ مَرْقُسُ إِنْجِيلَهُ بِهَا: "بَدْءُ بِشَارَةِ يَسُوعَ المَسِيحِ ابْنِ اللهِ" (مَرْقُسَ 1: 1). وَأَخِيراً، اعْتَرَفَ قَائِدُ المِئَةِ أَمَامَ يَسُوعَ المَصْلُوبِ قَائِلاً: "كَانَ هَذَا الرَّجُلُ ابْنَ اللهِ حَقّاً!" (مَرْقُسَ 15: 39).

 

يَسْتَطِيعُ المُؤْمِنُ أَنْ يُعْطِي يَسُوعَ المَسِيحَ اسْمَ "ابْنِ اللهِ" بَعْدَ السِّرِّ الفِصْحِيِّ فَقَط؛ إِذْ ظَهَرَتْ في قِيَامَتِهِ بُنُوَّةُ يَسُوعَ الإِلَهِيَّةُ في قُوَّةِ بَشَرِيَّتِهِ المُـمَجَّدَةِ، كَمَا جاءَ في تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "جُعِلَ ابْنَ اللهِ في القُدْرَةِ، بِحَسَبِ رُوحِ القَدَاسَةِ، بِقِيَامَتِهِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، أَلا وهوَ يَسُوعُ المَسِيحُ رَبُّنا" (رُومَةَ 1: 4). وَاعْتَرَفَ يُوحَنَّا الرَّسُولُ بِهَذِهِ البُنُوَّةِ الإِلَهِيَّةِ قَائِلاً: "رَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً مِنْ لَدُنِ الآبِ لابْنٍ وَحِيدٍ مِلْؤُهُ النِّعْمَةُ" (يُوحَنَّا 1: 14). كَذَلِكَ اعْتَرَفَ بُولُسُ الرَّسُولُ بِأَنَّ يَسُوعَ "ابْنُ اللهِ" لَدَى اهْتِدَائِهِ على طَرِيقِ دِمَشْقَ: "لَمَّا حَسُنَ لَدَى اللهِ، الَّذِي أَفْرَدَنِي مُذْ كُنْتُ في بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ، أَنْ يَكْشِفَ لِيَ ابْنَهُ لِأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الوَثَنِيِّينَ" (غَلاطِيَّةَ 1: 15-16)، "فَأَخَذَ لِوَقْتِهِ يُنَادِي في المَجَامِعِ بِأَنَّ يَسُوعَ هوَ ابْنُ اللهِ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 9: 20).

 

نَتَذَكَّرِ اليَوْمَ، في عِيدِ عُمَّادِ الرَّبِّ يَسُوعَ، يَوْمَ مَعْمُودِيَّتِنَا؛ وَأَنَّنَا جَمِيعاً مُعَمَّدُونَ. إِنَّهَا فُرْصَةٌ لِنُجَدِّدَ مَعْمُودِيَّتَنَا، الَّتِي تَتَطَلَّبُ الالْتِزَامَ بِشَخْصِ يَسُوعَ النَّبِيِّ وَالمَسِيحِ وَابْنِ اللهِ، وَبِتَعَالِيمِهِ وَوَصَايَاهُ، لِنَحْيَا نَحْنُ أَيْضاً حَيَاةً جَدِيدَةً كَأَبْنَاءِ اللهِ وَوَرَثَةِ المَلَكُوتِ، وَأَعْضَاءً حَيَّةً في الكَنِيسَةِ (رُومَةَ 6: 3-4)، وَلْنَرْفَعِ الشُّكْرَ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ العَطِيَّةِ السَّنِيَّةِ.

 

 

الخلاصة

 

يُعْتَبَرُ عِيدُ عُمَّادِ يَسُوعَ مِنَ الأَعْيَادِ المُهِمَّةِ فِي اللِّيتُورْجِيَا المَسِيحِيَّةِ، إِذْ يُظْهِرُ فِيهِ يَسُوعُ بِوَصْفِهِ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَالمَسِيحَ الَّذِي أُعْلِنَ عَنْهُ فِي العَهْدِ القَدِيمِ، وَابْنَ اللهِ الَّذِي تَجَلَّتْ فِيهِ الأُلُوهِيَّةُ. فِي هَذَا اليَوْمِ، نَحْتَفِلُ بِبِدَايَةِ يَسُوعَ حَيَاتَهُ العَلَنِيَّةِ الَّتِي تَمَيَّزَتْ بِرِسَالَتِهِ الخَلاَصِيَّةِ لِلْبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ.

 

عُمَّادُ يَسُوعَ هوَ مِنَ الأَحْدَاثِ النَّادِرَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الإِنْجِيلِيُّونَ الأَرْبَعَةُ؛ إِذْ يُشَكِّلُ هَذَا العُمَّادُ في كُلِّ الأَناجِيلِ نُقْطَةَ الِانْطِلاقِ في حَياتِهِ العَلَنِيَّةِ. فَيَتَلَقَّى يَسُوعُ، في أَثْناءِ هَذَا الحَدَثِ العَلَنِيِّ، وَحْياً خَفِيّاً في مَطْلَعِ تَبْشِيرِهِ، كَما كانَتْ دَعْوَةُ الأَنْبِياءِ في مَطْلَعِ رِسالَتِهِمْ: أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي يَنْزِلُ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَيْهِ (لوقا 4: 18)، وَابْنُ اللهِ وَالمَسِيحُ الَّذِي أَنْبَأَ بِهِ العَهْدُ القَدِيمُ. وَحَيْثُ كانَتْ مَعْمُودِيَّتُهُ بِالماءِ فُرْصَةً سَانِحَةً لِلوَحْيِ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ، جاءَتْ شَهادَةُ الآبِ: "أَنْتَ ابْنِيَ الحَبِيبُ، عَنْكَ رَضِيتُ" (مَرْقُسَ 3: 11).

 

نَرَى في نَصِّ لوقا الإِنْجِيلِيِّ أَوَّلاً: شَهادَةَ يُوحَنَّا المَعْمَدانِ لِيَسُوعَ، ثانِياً: انْفِتاحَ السَّماءِ فَوْقَهُ بَعْدَ صَمْتٍ طَوِيلٍ، وَثالِثاً: نُزُولَ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَى يَسُوعَ، مانِحاً إِيّاهُ طابِعَ المَلَكِيَّةِ وَالنُّبُوءَةِ وَالحِبْرِيَّةِ الكَهَنُوتِيَّةِ، وَرابِعاً: صَوْتَ الآبِ عَنْهُ: "أَنْتَ ابْنِيَ الحَبِيبُ، بِكَ رَضِيتُ". وَهَذا اسْتِشْهادٌ مِنْ نَشِيدِ "العَبْدِ المُتَأَلِّمِ" في فَصْلِ 53 مِنْ سِفْرِ أَشَعْيا، الَّذِي يَرْبِطُ عُمَّادَ الرَّبِّ يَسُوعَ بِآلامِهِ وَمَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ، وَيُعْطِي لِعِيدِ عُمَّادِ الرَّبِّ طابِعَ عِيدِ القِيَامَةِ.

 

إَنَّ عُمَّادَ المَسِيحِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، فَهُوَ عَلامَةٌ عَلَى تَنْصِيبِهِ مَلِكاً وَتَكْرِيسِهِ عَلانِيَةً لِرِسالَتِهِ الجَدِيدَةِ، الَّتِي بَدَأَتْ بِنُزُولِ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَيْهِ وَبِشَهادَةِ الآبِ لِابْنِهِ يَسُوعَ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ وَالمَسِيحُ وَابْنُ اللهِ. وَمِنْ هَذا المُنْطَلَقِ، اعْتَمَدَ يَسُوعُ، لا لِأَنَّهُ بِحاجَةٍ إِلَى مَغْفِرَةٍ أَوْ رَحْمَةٍ، إِنَّما اعْتَمَدَ لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ بِأَنَّهُ المَسِيحُ الآتِي وَالمُنْتَظَرُ، وَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَلِيَتِمَّ أَمَامَ النَّاسِ كُلُّ بَرٍّ.

 

انْتَهَزَ يُوحَنَّا هَذِهِ الفُرْصَةَ، مُوَضِّحاً الفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَسِيحِ؛ فَيُوحَنَّا لا يَمْلِكُ إِلَّا أَنْ يُعَمِّدَ بِالماءِ، إِذْ هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُعِدُّ الطَّرِيقَ فَقَط، وَهُوَ يُحاوِلُ أَنْ يُمَهِّدَ القُلُوبَ لِتَسْتَطِيعَ أَنْ تَقْبَلَ مَعْمُودِيَّةَ يَسُوعَ الَّتِي تَمْنَحُ الرُّوحَ القُدُسَ، فَيُطَهِّرُ المُعَمَّدِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ وَيُنَقِّيهِمْ كَتَنْقِيَةِ الذَّهَبِ مِنَ الشَّوَائِبِ بِالنَّارِ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النُّفُوسِ الَّتِي أَمَامَهُ، أَمَّا المَسِيحُ ابْنُ اللهِ، فَهُوَ قَادِرٌ أَنْ يَدِينَ وَيَفْصِلَ بَيْنَ النُّفُوسِ التَّائِبَةِ وَالنُّفُوسِ الرَّافِضَةِ.

 

أُعْطِيَ لَنَا المَسِيحُ ابْنُ اللهِ الرُّوحَ القُدُسَ في المَعْمُودِيَّةِ، وَهَذَا الرُّوحُ لَيْسَ كَلِمَةً وَلا صُورَةً، بَلْ هُوَ شَخْصٌ حَيٌّ يَعْمَلُ فِينَا. فَمِنْ خِلالِ المَعْمُودِيَّةِ يَدْخُلُ المُعَمَّدُ إِلَى حَياةِ اللهِ الَّتِي ظَهَرَتْ بِيَسُوعَ المَسِيحِ، وَيَدْخُلُ يَسُوعُ إِلَى حَياةِ المُعَمَّدِ، فَيُصْبِحُ الاثْنَانِ شَخْصاً واحِداً، فَتُصْبِحُ القَدَاسَةُ في مُتَنَاوَلِ أَيْدِينَا وَضِمْنَ إِمْكَانِيَّاتِنَا البَشَرِيَّةِ. وَمِنْ هَذا المُنْطَلَقِ، تُصْبِحُ المَعْمُودِيَّةُ بِاسْمِ يَسُوعَ هِيَ الدُّخُولَ إِلَى الخَلاصِ الَّذِي حَقَّقَهُ المَسِيحُ؛ إِذْ بِالمَعْمُودِيَّةِ تَمُوتُ طَبِيعَتُنَا الخَاطِئَةُ مَعَ المَسِيحِ، فَنَقُومُ مَعَهُ إِلَى حَياةٍ جَدِيدَةٍ. وَبِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، بِالمَعْمُودِيَّةِ نَدْخُلُ إِلَى الأَسْرَارِ الفِصْحِيَّةِ: نَمُوتُ وَنَقُومُ مَعَ المَسِيحِ، وَنُشارِكُ في مَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ (رُومَةَ 6: 1).

 

هَذَا العِيدُ هُوَ دَعْوَةٌ لِكُلِّ المُؤْمِنِينَ لِتَجْدِيدِ عَهْدِ مَعْمُودِيَّتِهِمْ، وَلِتَذَكُّرِ أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا أَبْنَاءً لِلهِ بِالمَعْمُودِيَّةِ، مَدْعُوِّينَ إِلَى حَيَاةِ البِرِّ وَالقَدَاسَةِ. نَحْنُ أَيْضًا مَدْعُوُّونَ لِلالتِزَامِ بِرِسَالَتِهِ فِي حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ، لِنَكُونَ شُهُودًا حَقِيقِيِّينَ لِلمَسِيحِ فِي العَالَمِ، فِي حَيَاتِنَا الشَّخْصِيَّةِ وَالعَائِلِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ. نَحْنُ مَدْعُوُّونَ أَيْضًا إِلَى تَقْدِيسِ حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ بِجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِتَجْسِيدِ مَحَبَّةِ اللهِ وَعَمَلِهِ الخَلاَصِيِّ فِي العَالَمِ.

 

 

دعاء

 

أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، نَسْأَلُكَ بِاسْمِ ابْنِكَ يَسُوعَ، الَّذِي اعْتَمَدَ في مِيَاهِ نَهْرِ الأُرْدُنِّ، أَنْ تُعَمِّدَنَا بِالرُّوحِ القُدُسِ، فَنَرَى في يَسُوعَ النَّبِيَّ وَالمَسِيحَ وَابْنَ اللهِ حَقّاً، فَنَعِيشَ على صُورَتِهِ وَخُطَاهُ في البِرِّ وَالقَدَاسَةِ، وَنُصْبِحَ هَيَاكِلَ لِسُكْنَى الرُّوحِ القُدُسِ، لِنَكُونَ "بِلا لَوْمٍ وَلا شَائِبَةٍ، وَأَبْنَاءَ اللهِ بِلا عَيْبٍ في جِيلٍ ضَالٍّ فَاسِدٍ، نُضِيءُ ضِيَاءَ النَّيِّرَاتِ في الكَوْنِ، مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الحَيَاةِ" (فِيلِبِّي 2: 15-16). آمِين.