موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنْجيلي (متى 2: 1-12)
1 ولمَّا وُلِدَ يسوعُ في بَيتَ لَحمِ اليهودِيَّة، في أيَّامِ المَلِكِ هيرودُس، إِذا مَجوسٌ قدِمُوا أُورَشليمَ مِنَ المَشرِقِ 2 وقالوا: ((أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه)). 3 فلمَّا بلَغَ الخَبَرُ المَلِكَ هيرودُس، اِضْطَرَبَ واضطَرَبَت مَعه أُورَشليمُ كُلُّها. 4 فَجَمَعَ عُظَماءَ الكَهَنَةِ وكَتَبَةَ الشَّعْبِ كُلَّهم واستَخْبَرهم أَين يُولَدُ المسيح. 5 فقالوا له: ((في بَيتَ لَحمِ اليَهودِيَّة، فقَد أُوحِيَ إِلى النَّبِيِّ فكَتب: 6 ((وأَنتِ يا بَيتَ لَحمُ، أَرضَ يَهوذا لَسْتِ أَصغَرَ وِلاياتِ يَهوذا فَمِنكِ يَخرُجُ الوالي الَّذي يَرْعى شَعْبي إِسرائيل)). 7 فدَعا هيرودُسُ الَمجوسَ سِرّاً وتَحقَّقَ مِنْهم في أَيِّ وَقْتٍ ظهَرَ النَّجْم. 8 ثُمَّ أَرْسَلَهم إِلى بَيتَ لَحمَ وقال: ((اِذْهَبوا فابحَثوا عنِ الطِّفْلِ بَحْثاً دَقيقاً، فإِذا وَجَدْتُموه فأَخبِروني لأذهَبَ أَنا أَيضاً وأَسجُدَ له)). 9 فلمَّا سَمِعوا كَلامَ الَمِلكِ ذَهَبوا. وإِذا الَّنجْمُ الَّذي رأَوهُ في المَشرِقِ يَتَقَدَّمُهم حتَّى بَلَغَ المَكانَ الَّذي فيه الطِّفلُ فوَقفَ فَوقَه. 10 فلمَّا أَبصَروا النَّجْمَ فَرِحوا فَرحاً عَظيماً جِدّاً. 11 وَدخَلوا الَبيتَ فرأَوا الطِّفلَ مع أُمِّه مَريم. فجَثَوا له ساجِدين، ثُمَّ فتَحوا حَقائِبَهم وأَهْدَوا إِليه ذَهباً وبَخوراً ومُرّاً. 12 ثُمَّ أُوحِيَ إِليهِم في الحُلمِ أَلاَّ يَرجِعوا إِلى هيرودُس، فانصَرَفوا في طَريقٍ آخَرَ إِلى بِلادِهم.
مُقَدّمة
نَحتَفِلُ اليومَ بعيدِ الغِطاسِ، ويتميَّزُ هذا العيدُ بثلاثِ ظُهُوراتٍ: ظُهُورُ يسوعَ للأُمَمِ، الذي يُرمَزُ إليهِ بالمَجُوسِ الّذينَ جاؤوا إلى بَيتِ لَحمَ (متّى 2)، وظُهُورُهُ للجُمُوعِ عِندَ اعتِمادِهِ على يَدِ يُوحَنّا المَعمَدانِ في نهرِ الأُردُنِّ (متّى 3: 16-17)، وظُهُورُهُ في مُعجِزَةِ عُرسِ قانا الجَليلِ من خِلالِ تَحويلِ الماءِ خَمرًا (يوحنّا 2: 1-12). وينفَرِدُ متّى الإنجيليُّ بِوصفِ قدومِ المَجُوسِ من المَشرِقِ وسُجُودِهِم ليسوعَ المَسيحِ مَلِكًا ورَبًّا وإِلَهًا واعتِرافِهِم بهِ.
فدَعوةُ المَسيحِ إلى الخَلاصِ ليست مُوَجَّهَةً إلى اليهوديّةِ فَحَسب، إنّما إلى جميعِ شُعُوبِ الأرضِ، كما جاءَ في تَعليمِ بولسَ الرَّسُولِ: «أَنَّ الوَثَنِيِّينَ هُم شُرَكاءُ في المِيراثِ والجَسَدِ والوَعْدِ في المسيحِ يسوع، ويَعُودُ ذلكَ إلى البِشارَةِ» (أفسس 3: 5-6). وهكذا معَ المَجُوسِ بَدَأَت دَعوةُ الشُّعُوبِ إلى الإيمانِ كَبَاكُورَةِ كَنِيسةِ الأُمَمِ. ومِن هُنا تَكمُنُ أَهمّيّةُ البَحثِ في وَقائِعِ النَّصِّ الإِنجيليِّ وتَطبيقاتِهِ.
أولاً: تَحْليل وِقائع نَص إنْجيل متَّى (متى 2: 1-12)
1 ولمَّا وُلِدَ يسوعُ في بَيتَ لَحمِ اليهودِيَّة، في أيَّامِ المَلِكِ هيرودُس، إِذا مَجوسٌ قدِمُوا أُورَشليمَ مِنَ المَشرِقِ
تشيرُ عِبارةُ "لَمَّا وُلِدَ يسوعُ" إلى ميلادِ يسوعَ في سنةِ 4 ق.م، إذ "وَلَدَت مَريمُ ابنَها البِكرَ في مدينةِ داودَ" (لوقا 2: 4-7). أمّا عِبارةُ "أيَّامِ المَلِكِ هيرودُس" فتُشيرُ إلى الفترةِ خلالَ السنةِ الأخيرةِ من حُكمِ هيرودُس، أي قبلَ وَفاتِهِ، كما وردَ في إنجيلِ متّى: «فأَقامَ هُناكَ إِلى وَفاةِ هيرودُس» (متّى 2: 15). ثُمَّ ذَهَبَ يُوسُفُ إلى النَّاصِرَةِ، مُتَجَنِّبًا بَيتَ لَحمَ حيثُ أصبَحَ أرخِلاوُس، وهو أحدُ أبناءِ هيرودُس، واليًا (متّى 2: 22). ومعروفٌ لدَى الجَميعِ أنَّ العَصرَ المَسيحيَّ، كما حدَّدَه ديونيسيوس الأصغرُ في القَرنِ السّادسِ، يَتضمَّنُ خَطأً حِسابيًّا، ويَبدأُ في الوَاقِعِ بعدَ أَربعِ سَنَواتٍ من وِلادةِ يسوع، أي في أَثناءِ حُكمِ هيرودُس الكبيرِ وقَبلَ وَفاتِهِ. أمّا عِبارةُ "بَيتَ لَحمِ اليَهوديَّة" فتُشيرُ إلى اسمٍ عبريٍّ בֵּית־לֶחֶם، مَعنَاهُ "بيتُ الخُبزِ"، ويَرى البَعضُ أنَّهُ يَعني "بيتَ لَخمو"، الإلهِ الأَشوريِّ، ولكنْ لا سَنَدَ لِهذا الرَّأي. والاسمُ الأَصليُّ لها هو "أَفْرَاتَة" אֶפְרָתָה (مَعناهُ: إثمارٌ، مُثمِرٌ) (ميخا 5: 1). وتَقَعُ مَدينةُ بَيتِ لَحمَ على تَلٍّ يَرتَفِعُ 600 مِترٍ عن سَطحِ البَحرِ، وتَبعُدُ 8 كيلومتراتٍ جَنُوبيَّ القُدسِ، وهي غَيرُ بَيتِ لَحمِ الجَليلِ في زَبولون (أشعيا 19: 15). وقد أَسماها التَّقليدُ الكِتابيُّ "مَدينةَ داودَ"، لأنَّهُ فيها وُلِدَ داودُ ومُسِحَ مَلِكًا فيها (1 صموئيل 16: 4). وبِحسبِ نُبوءَةِ ميخا، بَيتُ لَحمَ هي المَكانُ الذي يُولَدُ فيهِ المَسيحُ: «وأَنتِ يا بَيتَ لَحمُ أَفْرَاتَة، إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائرِ يَهوذا، ولكِنْ مِنكِ يَخرُجُ لي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطًا على إِسرائيلَ، وأُصُولُهُ مُنذُ القَديمِ، مُنذُ أَيَّامِ الأَزَلِ» (ميخا 5: 1). لكنَّها لم تَكُن موطِنَ يُوسُفَ ومَريمَ، بل النَّاصِرَةُ بَلدتُهُما الأَصلِيَّة. ولم يَذكُرْ متّى الإنجيليُّ حَياةَ يسوعَ في النَّاصِرَة، إنَّما أَرادَ أن يُبرِزَ عَلاقةَ يسوعَ بِبَيتِ لَحمَ لِما لَها من صِلةٍ مع داودَ المَلِكِ (1 صموئيل 16: 1). عِلمًا أنَّ اليهودَ كانوا يَنتَظِرونَ أن يُولَدَ المَسيحُ في بَيتِ لَحمَ ومِن عَشيرَةِ داودَ، كما وَرَدَ في إنجيلِ يوحنّا: «أَلَم يَقُلِ الكِتابُ إِنَّ المَسيحَ هُوَ مِن نَسلِ داودَ، وإنَّهُ يَأتي مِن بَيتَ لَحمَ، القَريةِ الَّتي مِنها خَرَجَ داودُ؟» (يوحنّا 7: 42). أمّا عِبارةُ "اليَهوديَّة" فتُشيرُ إلى إحدى مَناطِقِ فِلسطينَ السِّياسيَّةِ الأَربَعِ في زَمَنِ المسيحِ، حيثُ كانتِ اليَهوديَّةُ في الجَنوبِ، والسّامِرَةُ في الوَسَطِ، والجَليلُ في الشَّمالِ، وأَدُومُ في الشَّرقِ. أمّا عِبارةُ "هِيرودُس" فتُشيرُ إلى هيرودُسَ الكَبيرِ، الذي كَتَبَ عنهُ المُؤَرِّخُ اليَهوديُّ يُوسيفوس فلافيوس، ووَرَدَ اسمُهُ في العَهدِ الجَديدِ تِسعَ مَرّاتٍ، فَهُوَ مُضطَهِدُ المَسيحِ وقاتِلُ أَطفالِ بَيتِ لَحمَ مِن ابنِ سَنتَينَ فَمَا دونَ (متّى 2: 16). ولم يَكُن هيرودُسَ يَهوديَّ الأصلِ، لأنَّ أُمَّهُ وأَبَاهُ أَدُومِيّانِ. وكان الأَدُومِيُّونَ قد رَضَخوا بالقُوَّةِ للمَذهَبِ اليَهوديِّ سَنَةَ 125 ق.م. وكانَ هيرودُسُ ابنَ أَنتيباتر، خازِنَ يُوحَنّا هِركانوسَ الثّاني، مِنَ الأُسرةِ الحَشمونيَّة. وُلِدَ سنةَ 73 ق.م، وعيَّنَهُ الرُّومانُ سنةَ 47 ق.م قائِدًا لحَرَسِ الجَليلِ، ثُمَّ قائِدًا لحَرَسِ البِقاعِ. وفي سَنَةِ 41 ق.م عُيِّنَ أَميرَ الرُّبعِ على اليَهوديَّةِ، وفي سنةِ 40 ق.م عيَّنَهُ مَجلِسُ الشُّيوخِ الرُّومانيُّ مَلِكًا على اليَهوديَّةِ. اِستَولى هيرودُسُ على أُورَشليمَ في سَنَةِ 37 ق.م، وأَبَادَ الحَشمونيينَ، وحَصَلَ من القَيصَرِ أُوغُسطُسَ على مَقَاطَعَةِ طِراخونيطِس وباشَانَ وحُورَانَ في شَمالِ فِلسطينَ. وعُرِفَ بِمَهارَتِهِ السِّياسيَّةِ وكَثرَةِ المُدُنِ الهِلنِستيَّةِ الَّتي بَناها، مُبتدِئًا بِبِناءِ الهَيكلِ سَنَةَ 19 ق.م، وهو ما جَعَلَهُ مَحبوبًا عندَ كَثيرينَ مِن اليَهودِ. كَما بَنى مَدينةَ قَيسَرِيَّةَ وسَمَّاها تَكريمًا لأُوغُسطُسَ قَيصَرَ، ورمَّمَ مَدينةَ السّامِرَةِ بَعدَ أن تَهَدَّمَت، وأسماها سَبَسطِيَّة، وبَنى قِلاعًا كَثيرةً، مِنها مَسعَدُ وهيروديون وكِبروس. وعُرِفَ بِقَساوَتِهِ، فَقَتَلَ امرَأَتَهُ مَريمَ وثَلاثةً مِن أَبنائِهِ (الإِسكَندَر وأَرسطوبولُس وأنتيباتَر)، وفيما كانَ يُسَلِّمُ أَنفاسَهُ الأَخيرةَ، أَمَرَ بِقَتلِ جَميعِ عُظَماءِ أُورَشَليمَ حتّى يَعمَّ الحُزنُ المدينةَ. تُوفِّيَ هيرودُسُ بَعدَ قَتلِ أَطفالِ بَيتِ لَحمَ بثَلاثةِ شُهُورٍ في سَنَةِ 4 ق.م، عِلمًا أنَّ يسوعَ وُلِدَ قَبلَ وَفاةِ هيرودُسَ بِسَنتَينِ. وانقَسَمَت مَملَكتُهُ على أَبنائِهِ: أَنتيباسَ رَئيسَ الرُّبعِ على الجَليلِ، وأرخِلاوُسَ مَلِكًا على أَدُومَ واليَهوديَّةِ والسّامِرَةِ، وفيليبُسَ رَئيسَ الرُّبعِ على قَيسَرِيَّةَ. وجَعَلَ متّى الإِنجيليُّ صِلَةً بَينَ هيرودُسَ المَلِكِ ويَسوعَ، مُشِيرًا بذلكَ إلى النِّزاعِ الَّذي قامَ بينَ السُّلطاتِ الرَّسميَّةِ والمَلِكِ الحَقيقيِّ الذي سيُخلِّصُ شَعبَهُ (متّى 1: 21). أمّا عِبارةُ "مَجوسٌ" فَهِيَ كَلِمَةٌ يُونانِيَّةٌ μάγος مُعَرَّبَةٌ عن لَفظَةٍ فارِسيَّةٍ، وتَعني مُفَسِّرَ الرُّؤَى والأَحلامِ والتَّنجيمِ. وكانَ المَجُوسُ في بِلادِ فَارسَ والبَابِليّينَ يُعتَبَرونَ مِنَ المُنجِّمينَ، أي الَّذينَ يَتَنَبَّؤونَ عن الأَحداثِ بِقِراءةِ النُّجُومِ (دانيال 1: 20، 5: 11-12؛ وإِرميا 39: 3 و13). وأمّا المُؤَرِّخونَ اليُونانِيُّونَ (هِيرودوت وستِربو)، فَكانوا يَستخدِمونَ كَلِمَةَ "المَجُوسِ" لِلدَّلالَةِ على الكَهَنَةِ والمُنجِّمينَ. وكانَ الحُكّامُ الشَّرقِيُّونَ يَستخدِمونَ مَعرِفَةَ المَجُوسِ بِالتَّنجيمِ وتَفسيرِ الأَحلامِ لِلاستِرشادِ بها في إِدارَةِ شُؤُونِ البِلادِ، اعتِقادًا مِنهُم بأنَّ أَحداثَ التَّاريخِ تَنعَكِسُ على حَرَكَةِ النُّجُومِ وبَعضِ الظَّواهِرِ الفَلكيَّةِ الأُخرى. أمّا في إِنجيلِ متّى، فَتَدُلُّ كَلِمَةُ المَجُوسِ على رِجالٍ حُكَماءَ مُنجِّمينَ كَلدانيِّينَ مِن بَابِلَ، مِن بَينِ النَّهرَينِ، لَرُبَّما كانوا على صِلَةٍ بالمَسيحانيَّةِ اليَهوديَّةِ (متّى 2: 1 و7 و16). وقدِ اعتَبَرَهُم التَّقليدُ الشَّعبيُّ ثَلاثةَ مُلُوكٍ، معَ أنَّ النَّصَّ الإِنجيلِيَّ لم يَذكُرْ شيئًا في هذا المَجالِ.أمّا عِبارةُ "أُورَشَليم" فتُشيرُ إلى القُدسِ، لأنَّ الخَلاصَ يَأتِي مِن هُناكَ، «المَكانَ الَّذي فيهِ يَجِبُ التَّعَبُّدُ هو في أُورَشَليمَ» (يوحنّا 4: 21). وأُورَشَليمُ هي مَقَرُّ حُكومةِ هيرودُسَ الكَبيرِ، الَّذي كانَ مَلِكًا على المَناطِقِ السِّياسيَّةِ الأَربَعِ الوارِدَةِ أَعلاهُ. وعَليهِ، فَإِنَّ المَجُوسَ أَتَوا إلى أُورَشَليمَ لأنَّهُم كانوا بِحاجَةٍ إلى هيرودُسَ، ورُؤَساءِ الكَهَنَةِ، وكُلِّ الكَتَبَةِ، لِيَجِدوا الطِّفلَ ويتَحَقَّقُوا مِن هُوِيَّتِهِ، ولِيُبَيِّنوا لِهيرودُسَ المَلِكِ أنَّ يَسوعَ هُوَ المَلِكُ الحَقيقيُّ. أمّا عِبارةُ "المَشرِقِ" فتُشيرُ إلى البِتراءِ، عاصِمَةِ مَملَكَةِ الأنباطِ، الَّتي اشتَهَرَت بِما حَمَلُوا مِن الذَّهَبِ والمُرِّ واللُّبانِ. وقد تُشيرُ أيضًا إلى «مُلوكُ تَرشيشَ والجُزُرِ ومُلوكُ شَبَأَ وسبَأَ»، كما جاءَ في المَزمُور: «جَميعُ المُلوكِ لَهُ يَسجُدونَ، كُلُّ الأُمَمِ لَهُ يَخدُمونَ... مُلوكُ تَرشيشَ والجُزُرِ الجِزيَةَ يُؤدُّونَ، ومُلوكُ شَبَأَ وسبَأَ الهَدايا يُقَدِّمونَ. جَميعُ المُلوكِ لَهُ يَسجُدونَ، كُلُّ الأُمَمِ لَهُ يَخدُمونَ» (مَزمُور 72: 10-11). وقد قَطَعَ المَجُوسُ مَسافاتٍ بَعيدَةً لِيُشاهِدوا المَلِكَ يَسوعَ المَسيحَ. ونحنُ، هل نَبحَثُ عنِ اللهِ؟ أَم نَنتَظِرُ أن يَأتيَ اللهُ يَبحَثُ عنّا؟!
2 قالوا: أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه.
تشيرُ عِبارةُ "قالوا" إلى سُؤالِ المَجُوسِ، الَّذينَ معَ أنَّهُم كانوا مِنَ الوَثَنيِّينَ، رَأَوا في يَسوعَ مَلِكًا لِليَهودِ (متّى 27: 11)، فَجَاؤُوا يَسجُدونَ لَهُ. أمّا عِبارةُ "أَينَ مَلِكُ اليَهودِ الَّذي وُلِدَ؟" فَهِيَ صَدًى لِلانتِظارِ المَسيحانيِّ اليَهوديِّ. وكانَ المَجُوسُ بِحاجَةٍ إلى إرشاداتِ الكَهَنَةِ والكَتَبَةِ عِندَ وُصُولِهِم إلى أُورَشَليمَ، لِمَعرِفَةِ المَكانِ المُحَدَّدِ الَّذي يَجِبُ أن يَذهَبُوا إليهِ، أي بَيتِ لَحمَ، مَدينةِ داودَ (متّى 2: 5-6؛ ميخا 5: 1). أمّا عِبارةُ "فَجِئْنا لِنَسجُدَ لَهُ" فَتُشيرُ إلى أنَّ يَسوعَ المَسيحَ، الَّذي تَنبِذُهُ سُلطاتُ الشَّعبِ في شَخصِ هيرودُسَ المَلِكِ، تَسجُدُ لَهُ الأُمَمُ الوَثَنِيَّةُ المُمثَّلَةُ بِالمَجُوسِ. وأمّا عِبارةُ "رَأَينا نَجمَهُ" فَتُشيرُ إلى رُؤيةِ المَجُوسِ لِعَلامَةِ النَّجمِ. ومعَ أنَّ هذِهِ العَلامَةَ كانَت في السَّماءِ على مَرأى مِنَ الجَميعِ، إِلّا أنَّهُم وَحدَهُم بَدَؤُوا المَسيرَةَ. إِنَّ اللهَ يُحَدِّثُ كُلَّ إنسانٍ بِاللُّغَةِ الَّتي يَفهَمُها، فَأَرسَلَ لِلرُّعَاةِ مَلائِكَةً، ولِلمَجُوسِ نَجمًا. والنَّجمُ الطّالِعُ يُعتَبَرُ رَمزًا لِوِلادَةِ المَلِكِ الَّذي أَعلَنَهُ الأَنبياءُ، أي وِلادَةِ المَسيحِ. ويُعلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسطينوس: "أَظهَرَ المَلائِكَةُ المَسيحَ لِلرُّعَاةِ، وأَعلَنَ النَّجمُ عنهُ لِلمَجُوسِ. الكُلُّ تَكَلَّمَ مِنَ السَّماءِ...! المَلائِكَةُ تَسكُنُ السَّماواتِ، والنَّجمُ يُزيِّنُها، وخِلالَ الاثنينِ تُعلِنُ السَّماواتُ مَجدَ اللهِ". وأمّا عِبارةُ "نَجمَهُ" فَتُشيرُ إلى اعتِقادِ المُنجِّمينَ بِأنَّ كُلَّ طِفلٍ يُولَدُ في ظُرُوفِ نَجمٍ مُعَيَّنٍ يُسمَّى "نَجمَهُ". ويُعلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسطينوس قائلًا: «ظَهَرَ نَجمٌ جَديدٌ في هذا المِيلادِ العَجيبِ مِن عَذراءَ، وعَكَسَ خِدمَتَهُ على المَجُوسِ الباحِثينَ عنِ الطِّفلِ، فَتَقَدَّمَهُم لِيُضيءَ لَهُم الطَّريقَ حتّى قادَهُم إلى المَوضِعِ الَّذي فيهِ كانَ كَلِمَةُ الرَّبِّ كَطِفلٍ. لم يُولَدِ الطِّفلُ لأنَّ النَّجمَ كانَ هُناكَ، وإنَّما جاءَ النَّجمُ لأنَّ الطِّفلَ الإلهِيَّ قد وُلِدَ. لم يُحَدِّدِ النَّجمُ مَصيرَ المَسيحِ (كَما يَدَّعي المُنجِّمونَ)، بَلِ المَسيحُ هُوَ الَّذي حَدَّدَ مَصيرَ النَّجمِ". ويَعتَقِدُ البَعضُ الآخَرُ أنَّ هذا النَّجمَ كانَ عِبَارَةً عنِ اقتِرانِ كَواكِبَ المُشتَرِي وزُحَلَ والمِرّيخِ في سَنَةِ 6 ق.م. وفي قَصائِدِ رَأسِ شَمرَا في سوريا، تَرمُزُ نَجمَةُ الصَّباحِ إلى الإِلهَةِ، وفي نُصوصِ قُمرانَ، يَردُ ذِكرُ بُرجِ المَلِكِ المَسيحانيِّ المُنتَظَرِ. وهذا يَعني أنَّهُ راجَت في الأَوساطِ اليَهوديَّةِ نَظريّاتٌ تَسعى إلى تَحديدِ النَّجمِ الَّذي يُولَدُ تَحتَهُ المَسيحُ. ولِذلِكَ فَإِنَّ يَسوعَ هُوَ أَهلٌ لِسُجُودِ المَجُوسِ لَهُ بِصِفَتِهِ مَلِكًا مَسيحِيًّا، إِذ إِنَّ الكَوكَبَ في الشَّرقِ القَديمِ يُشيرُ إلى الإِلهِ، وهذا تَحقيقٌ لِنُبوءَةِ بَلْعامَ عَن كَوكَبٍ يَطلُعُ مِن بَني يَعقوبَ (عَدَد 24: 15-17)، وبِالتّالي إلى المَلِكِ المُؤلَّهِ (إِشَعيا 14: 12). فَيَسوعُ هُوَ نورُ النَّجمِ، إِذ قالَ عن نَفسِهِ: «أَنا نورُ العالَمِ، مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلامِ بَل يكونُ لَهُ نورُ الحَياةِ» (يوحنّا 8: 12). ويَختَلِفُ رَأيُ القِدِّيسِ يُوحَنّا الذَّهَبِيِّ الفَمِّ، الَّذي قالَ: "إِنَّهُ لم يَكُن نَجمًا حَقيقيًّا كَسائِرِ النُّجُومِ، إِنَّما هُوَ مَلَكٌ ظَهَرَ في شَكلِ نَجمٍ أَرسَلَهُ اللهُ لِهدايَةِ المَجُوسِ العامِلِينَ في الفَلكِ". أمّا عِبارةُ "مِنَ المَشرِقِ" فَتُشيرُ إلى ما وَرَدَ في حِزقيالَ النَّبِيِّ، الَّذي يَرى الرَّبَّ يَأتِي مِنَ المَشرِقِ كالشَّمسِ (حِزقيال 33: 21). وأمّا عِبارةُ "لِنَسجُدَ لَهُ" فَتُشيرُ إلى المَجُوسِ الَّذينَ آمَنُوا بِيَسوعَ مَلِكًا وإِلهًا. ونحنُ، أَيَّةُ نَجمَةٍ تَقُودُنا؟ وبِاتِّجاهِ أَيِّ نورٍ نَتَّجِهُ؟ في وَسطِ الأَنوارِ العَديدَةِ المُبهِرَةِ الَّتي قَد تُبهِرُنا وتَجعَلُنا نُضَيِّعُ طَريقَنا، مَن يَقُودُنا؟ وأَمامَ مَن نَسجُدُ؟
3 فلمَّا بلَغَ الخَبَرُ المَلِكَ هيرودُس، اِضْطَرَبَ واضطَرَبَت مَعه أُورَشليمُ كُلُّها.
تشيرُ عِبارةُ "اِضْطَرَبَ هيرودُسُ" إلى قَلَقِ هيرودُسَ المَلِكِ، الَّذي لم يَكُنِ الوارِثَ الشَّرعِيَّ لِعَرشِ داودَ، بَل استَمَدَّ مُلكَهُ مِنَ الرُّومانِ. لِذلِكَ كانَ طاغِيَةً شَديدَ الحَذَرِ، يَخشى دائِمًا أن يُنتَزَعَ مِنهُ المُلكُ. وكانَ يَتَصَوَّرُ أنَّ المُؤامَراتِ تُحاكُ حَولَهُ، مِمّا دَفَعَهُ إلى قَتلِ زَوجَتِهِ مَريمَ، وحَماَتِهِ، وثَلاثَةٍ مِن أَولادِهِ. وظَنَّ أنَّهُ إِذا كانَ يَسوعُ وارِثًا حَقًّا، قَد يُصبِحُ مُنافِسًا لَهُ على مُلكِهِ، ويُقيمُ عَلَيهِ إِنقِلابًا. وهذا الأَمرُ دَفَعَهُ إلى قَتلِ أَولادِ السَّنتَينِ وما دونَ في بَيتِ لَحمَ وضَواحيها (متّى 2: 16-18). ويَقولُ القِدِّيسُ يُوحَنّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ في هذا الصَّدَدِ: "لَقَد خَشِيَ هيرودُسُ المَلِكُ أن تَرجِعَ المَملَكَةُ إلى يَهودِيٍّ، فيَطرُدَهُ اليَهودُ هُو وذُرِّيَّتَهُ، ويُبعِدُونَهُ عنِ المَلوكيَّةِ". أمّا عِبارةُ "اِضطَرَبَت مَعَهُ أُورَشَليمُ كُلُّها" فَتُشيرُ إلى عَدَمِ استِقرارِ وقَلَقِ الشَّعبِ اليَهودِيِّ، الَّذي كانَ يَتوقَّعُ مَجيءَ المَسيحِ (لوقا 3: 15). وكان أَغلَبُ الشَّعبِ يَنتَظِرونَ المَسيحَ مُحَرِّرًا سِياسيًّا عَظيمًا. فَلَيسَ مُستَغرَبًا أن يَأمُرَ هيرودُسُ بِقَتلِ جَميعِ أَطفالِ بَيتِ لَحمَ الأَبرياءِ دُونَ سِنتَينِ، لِيَكونَ آمِنًا مِن هذا الجانِبِ. أمّا عِبارةُ "أُورَشَليمُ" فَتُشيرُ إلى سُكّانِ أُورَشَليمَ المُرتَبِطينَ بِهِيرودُسَ المَلِكِ.
4 فَجَمَعَ عُظَماءَ الكَهَنَةِ وكَتَبَةَ الشَّعْبِ كُلَّهم واستَخْبَرهم أَين يُولَدُ المسيح.
تشيرُ عِبارةُ "عُظَماءَ الكَهَنَةِ" إلى الكَهَنَةِ مِنَ الصَّدوقِيِّينَ (متّى 3: 7)، المُكلَّفِينَ بِإِقامَةِ شَعائِرِ العِبادَةِ في هَيكَلِ أُورَشَليمَ. وأمّا عِبارةُ "كَتَبَةُ الشَّعبِ" فَتُشيرُ إلى مُعَلِّمِي الشَّعبِ، الَّذينَ كانوا يَقرَأُونَ التَّوراةَ، ويُفَسِّرونَها، ويَنسَخونَها. وهاتانِ الفِئَتانِ تُمثِّلانِ رُؤَساءَ الشَّعبِ، المُسؤولينَ الحَقيقِيِّينَ عن مَأساةِ يَسوعَ (متّى 21: 15). وأمّا عِبارةُ "المَسيحُ" فَتُشيرُ إلى المَسيحِ المُنتَظَرِ، المُكرَّسِ لِلخِدمَةِ والفِداءِ، الَّذي وُعِدَ بِمَجيئِهِ حالًا بَعدَ سُقُوطِ الإِنسانِ في الخَطيئَةِ (تَكوين 3: 15). وكَلِمَةُ "المَسيحِ" تَعني "المَمسوحَ"، إِذ كانَ المُلُوكُ والكَهَنَةُ اليَهودُ يُمسَحونَ بِالزَّيتِ كَعَلامَةٍ لِتَكريسِهِم، وقد أَعطَتهُم هذِهِ الشَّعائِرُ قَداسَةً خاصَّةً.
5 فقالوا له: في بَيتَ لَحمِ اليَهودِيَّة، فقَد أُوحِيَ إِلى النَّبِيِّ فكَتب:
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَقَالُوا لَهُ" إِلَى جَوَابِ رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالكَتَبَةِ، حَيْثُ أَرْشَدُوا المَلِكَ هِيرُودُسَ إِلَى مَكَانِ الطِّفْلِ يَسُوعَ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ. فَقَدْ تَمَتَّعَ المَجُوسُ بِسِرِّ الحَيَاةِ، بَيْنَمَا حُرِمَ الرُّؤَسَاءُ مِنْهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "بَيْتَ لَحْمٍ" فَتَدُلُّ عَلَى إِشَارَةٍ جُغْرَافِيَّةٍ جَوْهَرِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَتَّى الإِنْجِيلِيِّ، إِذْ إِنَّ وَطَنَ يَسُوعَ هُوَ بَيْتُ لَحْمٍ، وَيُوسُفُ يَنْتَمِي إِلَى نَسْلِ دَاوُدَ، الَّذِي هُوَ أَيْضًا مِنْ بَيْتِ لَحْمٍ. وَالخَوْفُ مِنْ هِيرُودُسَ أَرْخَلَاوُسَ دَفَعَ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى النَّاصِرَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي (مَتَّى 2: 22-23). أَمَّا النَّاصِرَةُ، فَهِيَ الأَسَاسُ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا.
6 وأَنتِ يا بَيتَ لَحمُ، أَرضَ يَهوذا لَسْتِ أَصغَرَ وِلاياتِ يَهوذا فَمِنكِ يَخرُجُ الوالي الَّذي يَرْعى شَعْبي إِسرائيل.
هَذِهِ الآيَةُ مُقْتَبَسَةٌ مِن سِفْرِ ميخا النَّبِيِّ (5: 1) فِي القَرْنِ السَّابِعِ قَبْلَ المِيلَادِ، حَيْثُ يَتَفَكَّرُ ميخا النَّبِيُّ فِي أُصُولِ سُلالَةِ دَاوُدَ القَدِيمَةِ (1 صَمُوئِيلَ 17: 12). وَيُشِيرُ إِنْجِيلُ مَتَّى إِلَى هَذِهِ النُّبُوءَةِ عَن بَيْتِ لَحْمٍ عَلَى لِسَانِ مُسْتَشَارِي هِيرُودُسَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا كَمَكَانِ مِيلَادِ الرَّبِّ، وَعَلَاقَةِ يَسُوعَ بِبَيْتِ دَاوُدَ. وَقَدْ فَهِمَ القَادَةُ الدِّينِيُّونَ هَذِهِ الآيَةَ كَتَنَبُّؤٍ عَنْ مِيلَادِ المَسِيحِ، وَكَذَلِكَ فَهِمَتْهَا الكَنِيسَةُ الأُولَى. وَكَانَ النَّاسُ فِي أَيَّامِ يَسُوعَ يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ قَائِلِينَ: "أَلَمْ يَقُلِ الكِتَابُ إِنَّ المَسِيحَ هُوَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَإِنَّهُ يَأْتِي مِنْ بَيْتِ لَحْمَ، القَرْيَةِ الَّتِي مِنْهَا خَرَجَ دَاوُدُ؟" (يُوحَنَّا 7: 12).
7 فدَعا هيرودُسُ الَمجوسَ سِرّاً وتَحقَّقَ مِنْهم في أَيِّ وَقْتٍ ظهَرَ النَّجْم.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "ظَهَرَ النَّجْمُ" إِلَى ظَاهِرَةٍ خَارِقَةٍ، خَارِجَةٍ عَنِ المَأْلُوفِ، قَصَدَ اللهُ مِنْهَا إِرْشَادَ المَجُوسِ إِلَى مِذْوَدِ المَسِيحِ الطِّفْلِ، كَتَمَامٍ لِنُبُوءَةِ بَلْعَامَ الَّتِي كَانُوا يَعْرِفُونَهَا (العَدَدُ 24: 17). وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجَانُوسُ قَائِلًا: "إِنَّهُ نَجْمٌ حَقِيقِيٌّ، لَكِنَّهُ نَجْمٌ جَدِيدٌ، لَيْسَ كَالنُّجُومِ العَادِيَّةِ... بَلْ يُحْسَبُ فِي عِدَادِ المُذَنَّبَاتِ الَّتِي تُشَاهَدُ فِي أَحْيَانٍ كَثِيرَةٍ، أَوِ النِّيَازِكِ، أَوِ النُّجُومِ الَّتِي عَلَى شَكْلِ الجِرَارِ، أَوْ أَيِّ اسْمٍ مِمَّا يَصِفُ بِهِ اليُونَانِيُّونَ أَشْكَالَهَا المُخْتَلِفَةَ". وَأَمَّا القِدِّيسُ إِيرُونِيمُوسُ فَيُجِيبُ عَنْ سُؤَالٍ: لِمَاذَا اسْتَخْدَمَ اللهُ النَّجْمَ؟ فَيَقُولُ: "لِكَيْ يَعْرِفَ اليَهُودُ بِنَبَإِ مِيلَادِ المَسِيحِ مِنَ الوَثَنِيِّينَ، حَسَبَ نُبُوءَةِ بَلْعَامَ أَحَدِ جُدُودِهِم، بِأَنَّ نَجْمَهُ يَظْهَرُ مِنَ المَشْرِقِ. وَإِذْ أَرْشَدَ النَّجْمُ المَجُوسَ حَتَّى اليَهُودِيَّةِ وَتَسَاءَلَ المَجُوسُ عَنْهُ، لَمْ يَبْقَ لِكَهَنَةِ اليَهُودِ عُذْرٌ مِنْ جِهَةِ مَجِيئِهِ".
8 ثُمَّ أَرْسَلَهم إِلى بَيتَ لَحمَ وقال: اِذْهَبوا فابحَثوا عنِ الطِّفْلِ بَحْثاً دَقيقاً، فإِذا وَجَدْتُموه فأَخبِروني لأذهَبَ أَنا أَيضاً وأَسجُدَ له.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "لِأَذْهَبَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ" إِلَى كَذِبِ هِيرُودُسَ الخَادِعِ، إِذْ كَانَ يُرِيدُ فِي الوَاقِعِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ المَجُوسُ لِيَكْشِفُوا لَهُ عَنْ المَكَانِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ المَلِكُ المَوْلُودُ لِيَقْتُلَهُ. وَكَمَا أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَقْتُلَ مُوسَى، هَكَذَا أَرَادَ هِيرُودُسُ أَنْ يَقْتُلَ يَسُوعَ، الَّذِي يُعَدُّ مُوسَى الجَدِيدَ فِي نَظَرِ مَتَّى الإِنْجِيلِيِّ (مَتَّى 5: 7). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا: "لِكَيْ يُغْرِيَ هِيرُودُسُ المَجُوسَ تَظَاهَرَ بِالتَّقْوَى، مُخْفِيًا السَّيْفَ وَرَاءَهَا. هَذَا هُوَ طَرِيقُ كُلِّ فَاعِلِي الشَّرِّ الَّذِينَ يُخَطِّطُونَ فِي الخَفَاءِ لِيَجْرَحُوا الآخَرِينَ، وَيَتَظَاهَرُونَ بِالبَسَاطَةِ وَالصَّدَاقَةِ". قَادَةُ الأُمَّةِ يَبْحَثُونَ عَنْ المَسِيحِ لِيَقْتُلُوهُ، وَالمَجُوسُ، طَلِيعَةُ الأُمَمِ، يَبْحَثُونَ عَنْ المَسِيحِ لِيَسْجُدُوا لَهُ.
9 فلمَّا سَمِعوا كَلامَ الَمِلكِ ذَهَبوا. وإِذا الَّنجْمُ الَّذي رأَوهُ في المَشرِقِ يَتَقَدَّمُهم حتَّى بَلَغَ المَكانَ الَّذي فيه الطِّفلُ فوَقفَ فَوقَه".
تُشِيرُ عِبَارَةُ "وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي المَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُم" إِلَى رُؤْيَةِ النَّجْمِ مَجَدَّدًا كَتَأْكِيدٍ عَلَى التَّنَاغُمِ المِثَالِيِّ بَيْنَ البَحْثِ البَشَرِيِّ وَالحَقِيقَةِ الإِلَهِيَّةِ، ذَلِكَ التَّنَاغُمِ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَ المَجُوسِ الحُكَمَاءِ فَرَحًا (مَتَّى2: 10). وَتُوِّجَ بَحْثُهُمْ بِوُقُوفِهِمْ أَمَامَ الصَّبِيِّ مَعَ أُمِّهِ مَرْيَمَ (مَتَّى 2: 11). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ تُومَا الأَكْوِينِيُّ قَائِلًا: "رَبُّ الكَوْنِ الَّذِي كَشَفَ نَجْمَةَ بَيْتِ لَحْمٍ لِلمَجُوسِ القَادِمِينَ مِنَ الشَّرْقِ كَيْ يَأْتُوا وَيَسْجُدُوا لِيَسُوعَ، أَمِيرِ السَّلَامِ وَمَلِكِ المُلُوكِ، هُوَ نَفْسُهُ الَّذِي يُمْنَحُ كُلَّ فَرْدٍ مِنَّا نُورَ الوَحْيِ لِنَعْرِفَ يَسُوعَ وَنَقْبَلَهُ رَبًّا وَمُخَلِّصًا". أَمَّا عِبَارَةُ "بَلَغَ المَكَانَ الَّذِي فِيهِ الطِّفْلُ فَوَقَفَ فَوْقَهُ" فَتُشِيرُ إِلَى أَدَاءِ النَّجْمِ مَهَمَّتَهُ، إِذْ قَادَ المَجُوسَ مِنْ مَوْطِنِهِمْ فِي بِلَادِ الفُرْسِ إِلَى أُورَشَلِيمَ، ثُمَّ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ. وَلَمْ يَذْهَبْ تَعَبُ المَجُوسِ سُدًى، لِأَنَّ أَمَلَهُمْ لَمْ يَفْتُرْ وَرَجَاءَهُمْ لَمْ يَمُتْ، بَلِ اكْتَشَفُوا فِي النِّهَايَةِ، مِنْ خِلَالِ ظَوَاهِرِ الطَّبِيعَةِ، الطِّفْلَ يَسُوعَ. فَالبَحْثُ دَلِيلٌ عَلَى الإِيمَانِ، وَالرَّغْبَةُ فِي الوُصُولِ إِلَى اليَقِينِ قَدْ تَكُونُ امْتِحَانًا لِإِيمَانِ المَجُوسِ وَاخْتِبَارًا لِجِدِّيَّتِهِمْ. فَمَا هُوَ النَّجْمُ الَّذِي يَقُودُ حَيَاتَنَا وَيُرْشِدُ طَرِيقَنَا؟
10 فلمَّا أَبصَروا النَّجْمَ فَرِحوا فَرحاً عَظيماً جِدّاً. 11 وَدخَلوا الَبيتَ فرأَوا الطِّفلَ مع أُمِّه مَريم. فجَثَوا له ساجِدين، ثُمَّ فتَحوا حَقائِبَهم وأَهْدَوا إِليه ذَهباً وبَخوراً ومُرّاً".
تُشِيرُ عِبَارَةُ "الْبَيْتَ" إِلَى البَيْتِ الَّذِي تَقِيمُ فِيهِ العَائِلَةُ، وَلَيْسَ إِلَى الإِسْطَبْلِ كَمَا كَانَ الوَضْعُ عِنْدَمَا زَارَ الرُّعَاةُ يَسُوعَ فِي المِذْوَدِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَرَأَوُا الطِّفْلَ مَعَ أُمِّهِ مَرْيَمَ" فَتُشِيرُ إِلَى المَجُوسِ الَّذِينَ وَجَدُوا الطِّفْلَ مَعَ أُمِّهِ مَرْيَمَ، حَيْثُ يُذْكَرُ الطِّفْلُ أَوَّلًا ثُمَّ أُمُّهُ. فَإِنَّ اللِّقَاءَ مَعَ الطِّفْلِ الإِلَهِيِّ هُوَ الوَحِيدُ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مَعْنًى لِوُجُودِنَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قَائِلًا: "قَبْلَ رُؤْيَتِهِمُ الطِّفْلَ كَانَتِ المَخَاوِفُ وَالمَتَاعِبُ تَضْغَطُ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، أَمَّا بَعْدَ السُّجُودِ فَحَلَّ عَلَيْهِمُ الهُدُوءُ وَالأَمَانُ". أَمَّا عِبَارَةُ "الطِّفْلَ" بِاليُونَانِيَّةِ παιδίον فَتُشِيرُ إِلَى عُمْرِ يَسُوعَ الَّذِي كَانَ يَبْلُغُ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ تَقْرِيبًا عِنْدَمَا وَجَدَهُ المَجُوسُ، وَكَانَتْ مَرْيَمُ وَيُوسُفُ مُقِيمَيْنِ آنَذَاكَ فِي بَيْتٍ فِي بَيْتِ لَحْمَ (لُوقَا 2: 39). أَمَّا عِبَارَةُ "فَجَثَوْا لَهُ سَاجِدِينَ" فَتُشِيرُ إِلَى جَوْهَرِ العِبَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ، أَيْ تَكْرِيمِ المَسِيحِ لِشَخْصِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِإِعْطَائِهِ كُلَّ مَا هُوَ ثَمِينٌ، وَذَلِكَ تَمَامًا لِنُبُوءَةِ إِشَعْيَاءَ: "وَيَكُونُ المُلُوكُ لَكِ مُرَبِّينَ، وَأَمِيرَاتُهُمْ لَكِ مُرْضِعَاتٍ، وَعَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ يَسْجُدُونَ لَكِ، وَيَلْحَسُونَ تُرَابَ قَدَمَيْكِ، فَتَعْلَمِينَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي لا يَخْزَى مُنْتَظِرُوهُ" (إِشَعْيَاءَ 49: 23). اقْتَرَبَ المَجُوسُ مِنْ يَسُوعَ وَآمَنُوا، وَسَجَدُوا، فَكَانُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَهُمْ طَلِيعَةُ الأُمَمِ. وَيَسْتَشْهِدُ مَجْمَعُ تْرَنْت الكَنَسِيُّ بِهَذَا النَّصِّ فِي تَعْلِيمِهِ العِبَادَةَ الوَاجِبَةَ لِلمَسِيحِ فِي سِرِّ القُرْبَانِ الأَقْدَسِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "ذَهَبًا وَبَخُورًا وَمُرًّا" فَتُشِيرُ إِلَى نُبُوءَةِ إِشَعْيَاءَ: "كَثْرَةُ الإِبِلِ تُغَطِّيكِ، بُكْرَانُ مِدْيَانَ وَعِيفَةَ، كُلُّهُمْ مِنْ شَبَأَ يَأْتُونَ، حَامِلِينَ ذَهَبًا وَبَخُورًا، يُبَشِّرُونَ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ" (إِشَعْيَاءَ 60: 6). وَهَذِهِ التَّقْدِمَاتُ الثَّلَاثُ تُبْرِزُ الحَدِيثَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ، وَهَدَايَاهُمْ تُعْتَبَرُ رَمْزًا لِوَظَائِفِ المَسِيحِ الثَّلَاثِ: مَلِكٍ وَكَاهِنٍ وَنَبِيٍّ. فَالذَّهَبُ هَدِيَّةٌ لِلْمَلِكِ، وَالبَخُورُ هَدِيَّةٌ لِلإِلَهِ، وَأَمَّا المُرُّ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى آلامِهِ، إِذْ يُسْتَخْدَمُ فِي تَحْنِيطِ المَوْتَى، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ. وَلَعَلَّ تِلْكَ الهَدَايَا سَاعَدَتِ العَائِلَةَ المُقَدَّسَةَ فِي تَدْبِيرِ المَالِ اللازِمِ لِرِحْلَتِهَا إِلَى مِصْرَ وَالعَوْدَةِ مِنْهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "بَخُورًا وَمُرًّا" فَتُشِيرُ إِلَى الثَّرَوَاتِ وَالعُطُورِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ ( التَّكْوِينُ37: 25). وَيُمْكِنُنَا أَيْضًا بِهَذِهِ العَلَامَاتِ أَنْ نَفْهَمَ شَيْئًا آخَرَ؛ فَالذَّهَبُ يُرْمَزُ لِلْحِكْمَةِ، كَمَا يَشْهَدُ سُلَيْمَانُ: "فِي مَنْزِلِ الحَكِيمِ كَنْزٌ شَهِيٌّ" (أَمْثَالُ 21: 20)، وَالبَخُورُ الَّذِي يُحْرَقُ أَمَامَ اللهِ يُرْمَزُ لِقُوَّةِ الصَّلَاةِ كَمَا يَقُولُ المَزْمُورُ: "لِتَكُنْ صَلَاتِي بَخُورًا أَمَامَكَ" (مَزْمُورُ 141: 2)، وَالمُرُّ يُرْمَزُ لِإِمَاتَةِ أَجْسَادِنَا، إِذْ تَقُولُ الكَنِيسَةُ المُقَدَّسَةُ لِعَامِلِيهَا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِيمَا لِلَّهِ حَتَّى المَوْتِ: "يَدَايَ تَقْطُرَانِ مُرًّا" (نَشِيدُ الأَنَاشِيدِ 5: 5). وَكَانَ اليَهُودُ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ مَجِيءَ المَسِيحِ يَرْجُونَ أَنْ يَتَلَقَّى المَلِكُ المُنْتَظَرُ إِكْرَامَ جَمِيعِ الأُمَمِ وَتَقَادِمَهُمْ (إِشَعْيَاءَ 60: 6). فَوَجَدَ المَجُوسُ فِي يَسُوعَ المَلِكَ وَابْنَ اللهِ، وَبِهَذَا تَمَّتِ النُّبُوءَاتُ المَسِيحِيَّةُ الَّتِي تُعْلِنُ تَسَابِيحَ الأُمَمِ لِيَسُوعَ المَلِكِ. وَنَحْنُ، مَاذَا نُقَدِّمُ لِهَذَا الطِّفْلِ؟ هَلْ نُقَدِّمُ لَهُ ذَهَبَ مَحَبَّتِنَا، وَبَخُورَ عِبَادَتِنَا، وَمُرَّ تَضْحِيَاتِنَا؟
12 ثُمَّ أُوحِيَ إِليهِم في الحُلمِ أَلاَّ يَرجِعوا إِلى هيرودُس، فانصَرَفوا في طَريقٍ آخَرَ إِلى بِلادِهم.
تُشِيرُ عِبَارَةُ "أُوحِيَ إِلَيْهِم" إِلَى إِبْلَاغِ الحَقِّ الإِلَهِيِّ لِلمَجُوسِ؛ فَإِنَّ الوَحْيَ الإِلَهِيَّ وَحْدَهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْتَحَ عُقُولَ النَّاسِ وَقُلُوبَهُمْ كَيْ يَعْرِفُوا المَسِيحَ وَيَقْبَلُوهُ مَلِكًا وَمُخَلِّصًا. أَمَّا عِبَارَةُ "الحُلْمِ" فَتُشِيرُ إِلَى أَفْكَارٍ تَخْطُرُ لِلْعَقْلِ أَثْنَاءَ النَّوْمِ، وَيَسْتَخْدِمُهَا اللهُ كَوَسِيلَةٍ لِلكَلاَمِ مَعَ الإِنْسَانِ عَنْ مَقَاصِدِ مَلَكُوتِهِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَانْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ آخَرَ إِلَى بِلَادِهِم" فَتُشِيرُ إِلَى عَوْدَةِ المَجُوسِ إِلَى بِلَادِهِمْ بِنَاءً عَلَى تَحْذِيرٍ مِنَ اللهِ. وَيَرَى البَابَا غِرِيغُورِيُوسُ الكَبِيرُ: "إِنَّ هَذَا الطَّرِيقَ الجَدِيدَ إِنَّمَا هُوَ طَرِيقُ الفِرْدَوْسِ، الَّذِي تَلْتَزِمُ النَّفْسُ أَنْ تَسْلُكَهُ خِلَالَ لِقَائِهَا مَعَ رَبِّنَا يَسُوعَ." اخْتَارَ المَجُوسُ الطِّفْلَ كَمَلِكٍ لَهُمْ، فَأَرَادُوا حِمَايَتَهُ سِرًّا عَلَى مِثَالِ مَرْيَمَ. وَكَمَا ظَهَرُوا، اخْتَفَوْا بِصَمْتٍ، شَاعِرِينَ بِالرِّضَا وَإِنَّمَا أَيْضًا بِالتَّبَدُّلِ بَعْدَ لِقَائِهِمْ مَعَ الحَقِيقَةِ. لَقَدِ اكْتَشَفُوا وَجْهًا جَدِيدًا لِلَّهِ، مُلْكًا جَدِيدًا، هُوَ مُلْكُ المَحَبَّةِ.
ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (متى 2: 1-12)
بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (متى ٢: ١-١٢) نستنتج أنَّه يتمحور حول ظهور المسيح للأُمَمِ المتمثِّلةِ في المجوس. فَإِنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ المُخَلِّصَ لَمْ يَأْتِ لِليَهُودِ فَقَطْ، بَلْ جَاءَ لِجَمِيعِ الأُمَمِ، مُعْلِنًا خَلَاصَهُ الشَّامِلَ الَّذِي يَشْمَلُ كُلَّ البَشَرِيَّةِ. ومِن هنا نتناول سُؤالين: مَا هو مِفهوم الأمَم في الكتِاب المُقدس والمجوس؟ وما هي الحَقائق من وراءِ سُجود المجوس ليسوع الطفل في بيت لحم؟
1) مَا هو مَفهوم الأمَم في الكتاَب المُقدس؟
تُطْلِقُ أَسْفَارُ العَهْدِ القَدِيمِ عَلَى الأُمَمِ لَفْظَةً عِبْرِيَّةً "הַגּוֹיִם"، وَتَشْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعًا "مَنْ لَا يَعْرِفُونَ اللهَ"، أَيْ الوَثَنِيِّينَ، وَ"مَنْ لَا يُشَارِكُونَ فِي حَيَاةِ شَعْبِهِمْ"، أَيْ الغُرَبَاءِ المُقِيمِينَ الَّذِينَ يُمَارِسُونَ الخِتَانَ (خُرُوج 12: 48). أَمَّا شَعْبُ اللهِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ "إِسْرَائِيلَ"، وَيَخْتَصُّ بِالاخْتِيَارِ، وَالعَهْدِ، وَالوُعُودِ الإِلَهِيَّةِ.
أَمَّا فِي العَهْدِ الجَدِيدِ، فَإِنَّ مَفْهُومَ شَعْبِ اللهِ قَدْ تَطَوَّرَ وَانْفَتَحَ عَلَى كُلِّ البَشَرِ. فَقَدْ جَاءَ المَسِيحُ لِيَجْمَعَ شَمْلَ إِسْرَائِيلَ وَالأُمَمِ فِي إِنْسَانٍ وَاحِدٍ جَدِيدٍ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "فَإِنَّهُ سَلامُنا، فَقَدْ جَعَلَ مِنَ الجَمَاعَتَيْنِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَهَدَمَ فِي جَسَدِهِ الحَاجِزَ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا" (أَفَسُس 2: 14).
وَيُرَكِّزُ إِنْجِيلُ مَتَّى اهْتِمَامَهُ عَلَى خَلَاصِ الأُمَمِ مِنْ خِلَالِ قُدُومِ المَجُوسِ وَسُجُودِهِمْ لِيَسُوعَ (مَتَّى 2: 1-12)، وَبِدْءِ رِسَالَةِ يَسُوعَ العَلَنِيَّةِ فِي "جَلِيلِ الأُمَمِ" (مَتَّى 4: 15-16)، وَتَوْصِيَتِهِ لِتَلَامِيذِهِ بِبَشَارَةِ الأُمَمِ: "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ، وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ، وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ" (مَتَّى 28: 19-20).
2) مَنْ هم المَجوس في إنْجِيل متى؟
يُشيرُ إنجيلُ متَّى إلى أنّ المجوسَ هُم "حُكَماء" (متَّى 2: 1، 7، 16)، وأنّهم جاءوا من "المَشرِقِ" ( 2: 1: ، 2) فَهُم كَهَنةٌ وفي نَفسِ الوَقتِ مُلُوكٌ كلدانيُّون أو فارسيُّون، يَقضونَ جُلَّ وَقتِهم في دِراسةِ الظواهِرِ الفَلكيَّةِ والتكهُّنِ بالحَوادِثِ المُقبِلة. وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ القدِّيسُ أوغسطينوس: "مَن هُم هؤلاءِ المجوسُ إلّا باكُورَةُ الشُّعوبِ الأُمَمِيَّةِ الذينَ قَبِلوا المسيحَ. لقد كان الرُّعاةُ يهودًا، والمجوسُ أُمَمِيّين. كان الأوَّلونَ مُلاصِقينَ له، والآخَرونَ جاءوا إليهِ من بعيدٍ. لقد أسرَعَ الكُلُّ إلى حَجرِ الزاويَةِ". وقد أوضَحَ البابا بِنِدِكتُس السّادِسُ عَشَرَ هذهِ الحقيقةَ بقَولِه: "يُشَكِّلُ مجوسُ الشَّرقِ، الذينَ وبِاتِّباعِهم للنَّجمِ وَجَدوا الطَّريقَ نحوَ مَغارَةِ بيتِ لَحمَ، بِدايةَ مَسيرةٍ كبيرةٍ تَجتاحُ التاريخَ. وكما أنّ الرُّعاةَ، أوَّلُ ضُيوفٍ للطِّفلِ المُضجَعِ في المِذوَدِ، يُجَسِّدونَ فُقراءَ إسرائيلَ، أيِ النُّفوسَ المُتواضِعةَ التي تَعيشُ بِقُربٍ داخليٍّ من يَسوعَ، فهؤلاءِ الرِّجالُ القادمونَ من الشَّرقِ يُجَسِّدونَ الشُّعوبَ الأُخرى، كَنيسةَ الأُمَمِ، الرِّجالَ الذينَ، ومُنذُ عُصورٍ، يَسيرونَ نحوَ طِفلِ بيتِ لَحمَ ويُكرِمونَ فيهِ ابنَ اللهِ ويَسجُدونَ لهُ" (عِظَةُ عيدِ الدِّنجِ 1/7/2013).
وقالَ بعضُ الآباءِ إنَّهُم جاءوا منَ البتراءِ أو جنوبيِّ الجزيرةِ العربيَّةِ، وذلكَ بناءً على الهدايا التي قدَّموها "الذَّهَبِ واللُّبانِ والمُرِّ"، وكانت تَشتهِرُ بها هذهِ البلادُ. لكنَّ جنوبَ الجزيرةِ العربيَّةِ لا تُعتَبَرُ "مَشرِقًا" بالنِّسبةِ لفِلسطينَ، لذلكَ قالَ آخرونَ إنَّهُم جاءوا من ميديا أو فارسَ. الأرجحُ أنَّهُم جاءوا من فارسَ، حيثُ كانَ هذا الاسمُ يُطلَقُ على كَهَنتِهِم. أمَّا الكتَّابُ المسيحيُّونَ الأوائِلُ فقد جَعَلوا منَ المجوسِ يأتونَ من بلادِ العَرَبِ كيتينِس، أو من بلادِ فارسَ كما وردَ لدى كِلِمَنضوسَ الإسكندريِّ، أو من بابلَ كما وردَ في كتاباتِ أوريجانوسَ. وبِكَلِمةٍ أُخرى فالمجوسُ هُم وُثنيُّونَ.
وأمَّا النجمُ الذي هداهم إلى موضعِ ميلادِ الطِّفلِ يَسوعَ فهو نجمٌ حقيقيٌّ جديدٌ. ويُعلِّقُ العَلّامةُ أوريجانوسُ بأنَّهُ نجمٌ حقيقيٌّ لكنَّهُ نجمٌ جديدٌ ليسَ كالنجومِ العاديّةِ... يُحسَبُ في عدادِ المُذنَّباتِ التي تُشاهَدُ في أحيانٍ كثيرةٍ، أو النيازِكِ، أو النُّجومِ التي على شَكلِ الجرارِ، أو أيِّ اسمٍ ممّا يَصفُ بهِ اليونانيُّونَ أشكالَها المختلفةَ. ويقولُ القدِّيسُ إيرونيموسُ مُجيبًا على سُؤالٍ: لماذا استَخدَمَ اللهُ النَّجمَ؟ "لِكَي يَعرِفَ اليهودُ بنَبأِ ميلادِ المسيحِ من الوُثنيِّينَ حَسَبَ نبوَّةِ بلعامَ أحدِ جُدودِهِم، بأنَّ نجمَهُ يَظهَرُ من المَشرِقِ. وإذ أرشدَ النجمُ المجوسَ حتّى اليهوديَّةَ وتساءلَ المجوسُ عنهُ، لم يَبقَ لكَهَنةِ اليهودِ عُذرٌ من جهةِ مَجيئِهِ". لقد جاءَ النجمُ يُكمِّلُ شهادةَ الطَّبيعةِ للسيِّدِ المسيحِ بلغَتِها الخاصَّةِ.
يقولُ القدِّيسُ أوغسطينوسُ: "شَهِدَت لهُ السَّماواتُ بالنَّجمِ، وحَملَهُ البحرُ إذ مَشى عليهِ (متّى14: 25)، وصارتِ الرِّياحُ هادئةً ومُطيعةً لأمرِهِ (متّى 23: 27))، وشَهِدَت لهُ الأرضُ وارتعدت عندَ صَلبِهِ (متّى27: 51)".
وقد ظَهَرَ النجمُ مُبَكِّرًا قبلَ الميلادِ ربّما بحوالي سَنَتَينِ، حيثُ قادَ المجوسَ ليَبلُغوا بيتَ لَحمَ في وَقتِ الميلادِ كما يقولُ القدِّيسُ يوحنا الذَّهبيُّ الفَمِ. ويرى البعضُ أنَّهُ ظَهَرَ عندَ ميلادِهِ، وقد أخَذَ المجوسُ بَعضَ الوقتِ حتّى بَلَغوا بيتَ لَحمَ، لهذا إذ تحقَّقَ هيرودسُ الأمرَ، أمَرَ بقتلِ الأطفالِ من سَنَتَينِ فما دونَ، إذ حَسَبَ المُدَّةَ بناءً على ظهورِ النجمِ.
ولم يذكُرْ متّى الإنجيليُّ أسماءَ المجوسِ، ولكنَّ التَّقليدَ يقولُ إنَّ أسماءَهُم هي: "جَسبارُ وهو مَلِكُ الهندِ، ومَلكيورُ (مَلكونُ) وهو مَلِكُ فارسَ، وبَلتازارُ مَلِكُ بلادِ العَرَبِ". ولم يذكُرْ إنجيلُ متّى أيضًا كَم كانَ عَدَدُ المجوسِ الذينَ جاءوا لِيَرَوا الطِّفلَ يَسوعَ. لكنَّ الكنيسةَ الشَّرقيَّةَ تَعتقِدُ أنَّهُم كانوا اثنَي عشرَ مجوسيًّا، ولعلَّ ذلكَ ناتِجٌ عن أهمِّيَّةِ العَدَدِ "اثنَي عشرَ" في الكِتابِ المُقدَّسِ (كما في اثنَي عشرَ سِبطًا، واثنَي عشرَ تلميذًا). وتقولُ الكنيسةُ الغَربيَّةُ إنَّهُم كانوا ثلاثةَ رِجالٍ حُكماءَ، بافتراضِ أنَّ كُلَّ واحدٍ مِنهُم قدَّمَ نوعًا منَ الهدايا الثلاثِ المذكورةِ.
وتُعتَبَرُ هَداياهُم رمزًا لوظائفِ المسيحِ الثلاثةِ: مَلِكٍ وكاهِنٍ ونَبيٍّ، حيثُ إنَّ الذَّهَبَ هَدِيَّةٌ للطِّفلِ المَلِكِ، والبَخورَ هَدِيَّةٌ للطِّفلِ الإلهِ، وأمَّا المُرُّ فهو إشارةٌ للنَّبيِّ وإلى العَبدِ المُتألِّمِ الذي تَكَلَّمَ عنهُ إشَعيا، لأنَّ المُرَّ يُقدَّمُ لشخصٍ عندَ مَوتِهِ دلالةً على أنَّ هذا الطِّفلَ سَيَتألَّمُ ويَموتُ. وفي هذهِ دَلالةٌ واضِحةٌ على هُويَّتِهِ المَلَكيَّةِ والإلهيَّةِ ورِسالَتِهِ الخَلاصيَّةِ.
وأمَّا في أيِّ مكانٍ تُحيي الكنيسةُ ذِكرى المجوسِ؟ يَروي تَقليدٌ قَديمٌ أنَّ هُناكَ مَغارتَينِ لذِكرى المجوسِ: مَغارةٌ في دَيرِ كاتِمسا بالقربِ من دَيرِ مارِ إلياسَ الواقِعِ على الطَّريقِ بينَ القُدسِ وبيتِ لَحمَ، حيثُ استراحَ المجوسُ في زيارَتِهِم إلى بيتِ لَحمَ، وهُناكَ مَغارةٌ بالقربِ من كَنيسةِ دَيرِ مارِ ثيوذُسيوسَ في بيتِ ساحورَ، حيثُ دُفِنَ القِدِّيسُ ثيوذُسيوسَ هو ووالِدتُهُ، ووالِدةُ القِدِّيسِ سابا، حيثُ لَجأَ المجوسُ في عَودَتِهِم إلى بِلادِهِم تَفاديًا لِلقاءِ معَ هيرودُسَ المَلِكِ.
وأخيرًا نَحتَفِلُ بعيدِ المجوسِ في عيدِ الغِطاسِ. وعيدُ الغِطاسِ يُحيي ليسَ فقط ذِكرى اعتمادِ الرَّبِّ يَسوعَ في نهرِ الأُردنِّ مِن يوحنَّا المَعمَدانِ، وإنَّما أيضًا ظُهورَهُ العَلنيَّ لِكُلِّ الأُمَمِ، الذينَ يُمثِّلُهُم المجوسُ القادمونَ للسُّجودِ للطِّفلِ الإلهِ المَولودِ في بيتِ لَحمَ. يُدعى هذا العيدُ بالسُّريانيَّةِ عيدَ الدِّنحِ، أي الظُّهورَ والإعلانَ والإشراقَ، وفي اليونانيَّةِ "الإبيفانيا" (ἐπιφάνεια) أي الظُّهورَ الإلهيَّ، على أَساسِ أنَّ الميلادَ والغِطاسَ (المجوسَ) والمَعموديَّةَ ومُعجِزَةَ قانا الجليلِ يُؤدُّونَ مَعًا مَضمونًا واحدًا وهو: "إعلانُ لاهوتِ السَّيِّدِ المسيحِ".
3) مَا هي الحَقائِق الذي يُعلنها سُجود المَجوس ليسوع؟ (متى 2: 1-12)
الحَقيقَة الأولى: يسوع هو المَسيح المَلك المُنتظر
تُعلِنُ زيارةُ المجوسِ حقيقةَ شخصيَّةِ الطِّفلِ المَولودِ باعتبارِهِ "المسيحَ المَلِكَ المُنتَظَرَ" تحقيقًا للنُّبُوءَاتِ العديدةِ.
وَجَدَ متَّى الإنجيليُّ في النَّجمِ الذي استَهدى بهِ المجوسُ (متَّى ٢: ٢) الكوكبَ الذي استَهدى بهِ الشَّعبُ في العهدِ القديمِ، حيثُ تنبَّأَ بلعامُ عن المسيحِ: "يَخرُجُ كَوكَبٌ مِن يَعقوبَ ويَقومُ صَولَجانٌ مِن إِسرائيلَ فيُحَطِّمُ صُدغَي موآبَ وجُمجُمَةَ جميعِ بَني شِيتٍ" (العَددُ 24: 17). ويقولُ أوريجانوسُ إنَّ المجوسَ قد احتَفَظوا بنُبُوءَةِ بلعامَ واعتَرَفوا بأنَّها تحقَّقَت لدى رُؤيَتِهم النَّجمَ الطالِعَ، والنَّجمُ يُرمِزُ إلى المسيحِ المَلِكِ. لقد تَبِعَ المجوسُ النَّجمَ ووَصَلوا إلى يَسوعَ، النُّورِ الكبيرِ الذي أتى إلى العالمِ و"يُنيرُ كُلَّ إنسانٍ" (يوحنَّا 1: 9). وكحُجّاجِ إيمانٍ، أصبحَ المجوسُ نُجومًا ساطِعَةً في سماءِ التاريخِ يُرشِدونَنا إلى الطَّريقِ.
كما أنَّ الحوارَ بينَ المجوسِ وهيرودُسَ ورؤساءِ الكَهَنةِ والكَتبةِ يُعلِنُ أنَّ يَسوعَ كانَ تحقيقًا لِنُبُوءَةِ ميخا عن مِيلادِ المسيحِ المَلِكِ في بيتِ لَحمَ: "أَنتِ يا بيتَ لَحمَ أَفراتَةُ إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائرِ يَهوذا، ولكن مِنكِ يَخرُجُ لي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطًا على إسرائيلَ وأُصولُهُ مُنذُ القَديمِ، مُنذُ أَيَّامِ الأَزلِ" (ميخا 5: 2).
فالهدفُ منَ النُّبُوءَةِ هو إظهارُ يَسوعَ داوودَ الجديدَ المَلِكَ الذي يَرعى شَعبَهُ، فآمنَ بهِ المجوسُ وسَجَدوا لهُ، في حينِ أُورشَليمَ المُمتَثِلَةَ في رؤسائِها مُنذُ البِدءِ قد رَفَضَتهُ.
ويُشيرُ قدومُ المجوسِ إلى أُورشَليمَ إلى أنَّ يَسوعَ كانَ مُنذُ طُفولَتِهِ مَلِكَ الأُمَمِ (متَّى ٢: ١-١١)، فَيَتعلَّموا ناموسَ اللهِ، ويَلتَقوا بأميرِ السَّلامِ رَبِّنا يَسوعَ المسيحِ، كَي يَحمِلوا سَلامَهُ إلى العالمِ. وبهذا يُؤكِّدُ متَّى الإنجيليُّ نُبُوءَةَ إشَعيا أنَّ يَسوعَ يَحكُمُ بينَ الأُمَمِ للسَّلامِ:"تَنطَلِقُ شُعوبٌ كثيرةٌ وتقولُ: هَلُمُّوا نَصعَدْ إلى جَبَلِ الرَّبِّ، إلى بَيتِ إِلهِ يَعقوبَ، وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَهُ فَنَسيرُ في سُبُلِهِ، لأنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعةُ ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ. وبَحكُمُ بينَ الأُمَمِ ويَقضي للشُّعوبِ الكثيرةِ، فيَضرِبونَ سُيوفَهُم سِكَّاكًا ورِماحَهُم مَناجِلَ، فلا تَرفَعُ أُمَّةٌ على أُمَّةٍ سَيفًا" (إشَعيا2: 2: 4).
ويَستحضِرُ المجوسُ إلى الذِّهنِ أيضًا الوعودَ النَّبويَّةَ الوارِدةَ في المَزمورِ: "يَحمِلُ المُلوكُ إِلَيكَ الهَدايا" (مزمور 68: 29)، والوَعدَ النَّبويَّ الوارِدَ في المَزمورِ: "مُلوكُ تَرشيشَ والجُزُرِ الجِزيَةَ يُؤدُّونَ، ومُلوكُ شَبَأَ وسبَأَ الهَدايا يُقدِّمونَ" (مزمور72: 10). فيُدعَى المجوسُ مُلوكًا (إشَعيا 60: 3)، ويَظهَرونَ مُسافِرينَ على الإبِلِ والجِمالِ (إشَعيا60: 6).
أمَّا تَقديماتُ المجوسِ ليسوعَ: "ذَهَبٌ وبَخورٌ ومُرٌّ" (متَّى2: 10)، فتُشيرُ إلى تَتميمِ نُبُوءَةِ إشَعيا في يَسوعَ الرَّبِّ: "كُلُّهم مِن شَبَأَ يَأتونَ، حامِلينَ ذَهَبًا وبَخورًا يُبشِّرونَ بِتَسابيحِ الرَّبِّ" (إشَعيا 60: 5-6).
رأى المجوسُ ولم يُناقِشوا، بل آمَنوا، واعترَفوا بهِ بالهَدايا الرَّمزيَّةِ التي قدَّموها:
بالبَخورِ اعتَرَفوا بهِ إلهًا،
وبالذَّهَبِ قَبِلُوهُ مَلِكًا،
وبالمُرِّ آمَنوا بمَوتِهِ.
وفي هذا الصَّدَدِ يقولُ البابا غريغوريوسُ الكبيرُ: "يُقدِّمُ الذَّهَبَ كجِزيَةٍ للمَلِكِ، ويُقدِّمُ البَخورَ تَقدِمَةً للهِ، ويُستَخدَمُ المُرُّ في تَحنيطِ أجسادِ المَوتى. لهذا أعلَنَ المجوسُ بِعَطاياهم السِّرِّيَّةِ لِلذينَ يَسجُدونَ لهُ، بالذَّهَبِ أنَّهُ المَلِكُ، وبالبَخورِ أنَّهُ اللهُ، وبالمُرِّ أنَّهُ يَقبَلُ المَوتَ".
الحَقيقَة الثَّانية: دعوةُ الأمَم الوَثنية إلى الإيمانِ والخَلاص
تُعلِنُ زيارةُ المجوسِ أنَّ يَسوعَ المسيحَ لم يأتِ لليهودِ فقط، بل للأُمَمِ أيضًا (مُمَثَّلينَ في "المجوسِ مِنَ المَشرِقِ"). وهكذا تتحقَّقُ نُبُوءَةُ إشَعيا النَّبيِّ الذي لَمَّحَ إلى جُمهورِ الوَثنيِّينَ الذينَ يَدخُلونَ أُورَشَليمَ المُستَنيرَةَ بِمَجدِ اللهِ: "فَتَسيرُ الأُمَمُ في نُورِكِ، والمُلوكُ في ضِياءِ إشراقِكِ (إشَعيا 60: 3).
إنَّ الأُمَمَ المُمَثَّلَةَ بالمجوسِ تتَّجِهُ نحوَ اللهِ الحَيِّ (إشَعيا 45: 14-17)، وتَشترِكُ في عِبادتِهِ (إشَعيا 60:ى 1-16). وقالَ أيضًا موجِّهًا كلامَهُ إلى اللهِ: "هَا إنَّكَ تَدعو أُمَّةً لَم تَكُنْ تَعرِفُها، وإلَيكَ تَسعَى أُمَّةٌ لَم تَكُنْ تَعرِفُكَ" (إشَعيا55: 5). ويُعلِّقُ القدِّيسُ البابا لاون الكبيرُ: "نَعرِفُ أنَّ هذا كُلَّهُ تَمَّ لمّا جاءَ المجوسُ الثلاثةُ، وقد دَعاهم اللهُ مِن بِلادِهِم البَعيدَةِ، وقادَهم بالنَّجمِ ليَعرِفوا ويَسجُدوا لمَلِكِ السَّماءِ والأرضِ. ويَحمِلُنا النَّجمُ نحنُ أيضًا على الطاعَةِ نَفسِها، أي أن نُصغِيَ بقدرِ ما نَستطيعُ إلى النِّعمةِ التي تَدعو الجَميعَ إلى المسيحِ" (العِظة ٣ في عيدِ ظُهورِ الرَّبِّ، 1-3و 6. PL 54. ).
وجمَعَ اللهُ حولَهُ الأُمَمَ وكُلَّ الألسُنِ (إشَعيا66: 18-21) وجميعُ الشُّعوبِ تَعتَرِفُ بهِ مَلِكًا، وكُلُّهُم يَجتَمِعونَ معَ شَعبِ إبراهيمَ (مزمور ٤٧)، والجَميعُ يُنعتونَ صِهْيونَ بلَقبِ الأُمِّ (مزمور ٨٧). وهكذا فلا بُدَّ وأن يَجتَمِعَ مُجدَّدًا في اليومِ الأخيرِ، شَعبٌ واحدٌ للهِ سوفَ يَستَعيدُ العالَميَّةَ الشَّامِلَةَ الأُولى. إنَّ النُّبُوءَةَ تَعودُ إلى السِّرِّ الأصليِّ بتَطَلُّعاتٍ واسعةِ الآفاقِ.
كما كانَ سُجودُ هؤلاءِ الأُمَمِ صورةً مُسبَقَةً للإرساليَّةِ العُظمى للكِرازةِ بالإنجيلِ لجميعِ الأُمَمِ: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَمِ" (متَّى 28: 19). ويُعلِّقُ البابا بندِكتُس السّادسُ عَشَرَ: "رأى المجوسُ علامةَ النَّجمِ، وساروا ليَجِدوا ذلكَ المَلِكَ الذي أَسَّسَ مَلوكيَّةً جديدةً ليسَ لشَعبِ إسرائيلَ فقط، بل للبَشريَّةِ بأسرِها" (عِظة عيدِ الدِّنحِ 1/7/2013).
إنَّ وَحدَةَ الإنسانيَّةِ تَتَوثَّقُ في يَسوعَ المسيحِ كما يَقولُ بولُسُ الرَّسولُ: "فَليسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيٌّ، لأنَّكم جميعًا واحِدٌ في المسيحِ يَسوعَ" (غلاطية 3: 28). فهُناكَ بَشريَّةٌ جديدةٌ واحدةٌ، بناءٌ واحدٌ، حَجرُ زاوِيَتِهِ المسيحُ، جَسدٌ واحدٌ رأسُهُ المسيحُ (أفسُس ٢: ١١-٢٢). فإنَّهُ ماتَ ليسَ فقط مِن أَجلِ أُمَّتِهِ، بل حتّى يَجمَعَ في الوَحدَةِ كُلَّ أبناءِ اللهِ المُشَتَّتينَ كما تَنَبَّأَ عنهُ قيافا رَئيسُ الكَهَنةِ: "إنَّ يَسوعَ سَيَموتُ عنِ الأُمَّةِ، ولا عنِ الأُمَّةِ فقط، بل ليَجمَعَ أيضًا شَملَ أبناءِ اللهِ المُشَتَّتينَ" (يوحنَّا 11: 50-52).
ها هي البَشريَّةُ الجديدةُ التي خَلَّصَها يَسوعُ، حَملُ اللهِ بدمِهِ: إنَّها جُمهرةٌ من جَميعِ الأُمَمِ والأَجناسِ والشُّعوبِ والألسُنِ: "رأيتُ بَعدَ ذلكَ جَمعًا كَثيرًا لا يَستطيعُ أَحَدٌ أن يُحصِيه، مِن كُلِّ أُمَّةٍ وقَبيلةٍ وشَعبٍ ولِسانٍ، وكانوا قائِمينَ أمامَ العَرشِ وأمامَ الحَملِ" (رؤيا 7: 9-17)، تُحَيِّي في اللهِ مَلِكَ الأُمَمِ بقولِها: "عَظيمَةٌ عَجيبَةٌ أَعمالُكَ أيُّها الرَّبُّ الإِلهُ القَديرُ، وعَدلٌ وحَقٌّ سُبُلُكَ يا مَلِكَ الأُمَمِ. مَن تُراهُ لا يَخافُ اسمَكَ ولا يُمَجِّدُهُ يا رَبُّ؟ فأنتَ وَحدَكَ قُدُّوسٌ. وستَأتي جَميعُ الأُمَمِ فتَسجُدُ أمامَكَ لأنَّ أحكامَكَ قد ظَهَرَت" (رؤيا 15: 3).
الحَقيقة الثَّالثة: إيمَان المَجوس ورَفض اليهود
مُنذُ زيارةِ المجوسِ للملكِ هيرودُسَ قامَ صِراعٌ بينَ الملكِ هيرودُسَ ومَن يُحيطُ بهِ مِن زُعماءِ أُورَشَليمَ الدِّينيِّينَ، وبينَ يَسوعَ المَلِكِ الذي أَبصَرَ النُّورَ والمجوسِ المُؤمِنينَ بهِ. فاليهودُ يَرفُضونَهُ، والوَثنيُّونَ يَسجُدونَ لهُ، لأنَّ إيمانَ المجوسِ هو بِمَثابةِ إيمانِ الشُّعوبِ الوَثنيَّةِ.
فبينَما قدَّمَ هؤلاءِ المجوسُ الغُرَباءُ الإكرامَ والسُّجودَ للمسيحِ المَولودِ، فإنَّ هيرودُسَ ورُؤساءَ الكَهَنةِ دَبَّروا مُؤامَرَةً لِقَتلِ الطِّفلِ يَسوعَ (متَّى 2: 3-6)، وقَتَلوا أطفالَ بيتِ لَحمَ الأَبرياءَ خَوفًا على فُقدانِ كُرسيِّ مُلكِهِ. ويُعلِّقُ الأبُ رَفيقٌ: "إنَّ مُحاوَلاتِ هيرودُسَ ما زالَت مُستَمِرَّةً لِقَتلِ الطِّفلِ، ولكن إرادَةَ الحياةِ والانتصارِ في المسيحِ يَسوعَ أَقوى مِن رَغبةِ المَوتِ والدَّمارِ". وهكذا نَجِدُ الأُمَمَ يُؤمِنونَ ويَنالونَ الخلاصَ، بينما لم يُؤمِنْ غالبيَّةُ الشَّعبِ اليَهوديِّ (متَّى 8: 5-13، 15: 21 -28، 27: 19، 54).
الخلاصة
يَقرَأُ متَّى الإنجيليُّ طُفولَةَ يَسوعَ على ضَوءِ حياتِهِ العَلَنيَّةِ ومَوتِهِ وقِيامتِهِ. إنَّ المجوسَ لم يَجِدوا المسيحَ إلّا بعدَ أن تَرَكوا مِن أَجلِهِ بِلادَهُم وتَحَرَّروا مِن قُيودِهِم. وقد كَلَّفوا أَنفُسَهُم مَشَقَّةَ البَحثِ عنهُ. لم يَردُهم عن مَقصِدِهِم مالٌ، ولا مَنصِبٌ، ولا خَوفٌ، ولا عَناءٌ، ولا خِدعَةُ الناسِ أو المَلِكِ. أَقبَلوا وآمَنوا وسَجَدوا، وقدَّموا للطِّفلِ هَداياهُم، مُعتَرِفينَ بأنَّ هذا الطِّفلَ هو مَلِكٌ، وإِلهٌ، ومُخلِّصٌ لجميعِ البَشرِ.
وفي الوَقتِ نَفسِهِ عَرَفَ الرُّؤساءُ أينَ يُولَدُ المسيحُ، وحارَبَتهُ السُّلطةُ الرومانيَّةُ في شَخصِ هيرودُسَ، وهي التي سَتَحكُمُ عليهِ بالمَوتِ في شَخصِ بيلاطُسَ. رَفَضَ اليهودُ بأكثَريَّتِهِم أن يَستَقبِلوا يَسوعَ، فجاءَ إليهِ الوَثنيُّونَ في شَخصِ المجوسِ. أدرَكَ المجوسُ أيضًا أنَّ هيرودُسَ المَلِكَ الطاغيةَ ظنَّ أنَّ يَسوعَ المَلِكَ سوفَ يَخلَعُهُ عن عَرشِهِ المَلَكيِّ، لكن لم يَكنْ يَسوعُ كذلكَ. فالرَّبُّ يَسوعُ المسيحُ لم يُولَدْ لِيَتعدَّى على مَجدِ الآخرينَ، بل لِيُعطِيَنا مَجدَهُ. لم يُولَدْ لِيَستَولي على مَملَكَةٍ أرضيَّةٍ، بل لِيَهبَنا مَلكوتَ السَّماواتِ. لم يُولَدْ لِيَسرِقَ مَناصِبَ، بل لِيَتألَّمَ مِن خِلالِ الشَّتائِمِ وسُوءِ المُعامَلَةِ والعُنفِ التي عاناها. لم يُولَدْ لِتُكَلَّلَ هامَتُهُ المُقدَّسَةُ بِتاجٍ مُرصَّعٍ بالأحجارِ الكَريمةِ، بل بِإكليلٍ مِن شَوكٍ. لم يُولَدْ الرَّبُّ يَسوعُ المسيحُ لِيَجلِسَ على العُروشِ، بل كَي يُهانَ ويُصلَبَ.
وعليهِ، ليسَ بِالعُنفِ، بل بالإيمانِ، يَجبُ أن نَبحَثَ عن سَيِّدِنا يَسوعَ المسيحِ الذي يَحيا ويَملِكُ إلى دَهرِ الدَّهرينَ. فَنحنُ مَجوسُ هذا الزَّمانِ، ونَفتِّشُ عن طَريقِ خَلاصِنا، المسيحِ الذي هو نُورُ العالَمِ ونَجمٌ يُضيءُ لنا طُرُقَ حياتِنا فلا نَسيرُ في الظَّلامِ (يوحنَّا 8: 12). مَعَ المجوسِ لِنُقدِّمْ لِطِفلِ بيتِ لَحمَ المَولودِ الجديدِ ذَهَبًا، ونَعتَرِفُ أنَّهُ يَملِكُ في كُلِّ مَوضِعٍ، ونُقدِّمُ لهُ البَخورَ، ونَحنُ نُؤمِنُ أنَّهُ هو اللهُ الذي ظَهَرَ في الزَّمانِ، مَعَ أنَّهُ قَبلَ كُلِّ زَمانٍ. ولِنُقدِّمْ لهُ المُرَّ، مُؤمِنينَ أنَّهُ وإن كانَ في لاهوتِهِ غَيرَ قابِلٍ للألَمِ، فقد صارَ قابِلًا للمَوتِ في جَسَدِنا.
دعاء
يا ربَّنا، إنَّ عيدَ الغِطاسِ هو بَدءُ دَعوتِكَ للشُّعوبِ إلى الإيمانِ والخلاصِ: "هَا إنَّكَ تَدعو أُمَّةً لَم تَكُنْ تَعرِفُها، وإلَيكَ تَسعَى أُمَّةٌ لَم تَكُنْ تَعرِفُكَ" (إشَعيا 55: 5)، و"كَشَفْتَ خَلاصَكَ وبِرَّكَ لِعُيونِ الأُمَمِ" (مزمور 97: 2).
إنَّنا نَشكُرُكَ يا إِلهَنا الرَّحيمَ، مِن أَجلِ حَملِ الخَلاصِ لِجَميعِ الشُّعوبِ، ولأنَّكَ "جَعلْتَنا أَهلًا لأنْ نُشاطِرَ القِدِّيسينَ ميراثَهُم في النُّورِ، هو الذي نَجّانا مِن سُلطانِ الظُّلُماتِ ونقَلَنا إلى مَلكوتِ ابنِ مَحبَّتِهِ" (قولُسي 1: 12-13).
ولنُتَرَنَّمْ معَ صاحِبِ المَزاميرِ: "جَميعُ الأُمَمِ الَّتي صَنَعتَها تَأتي وتَسجُدُ أمامَكَ، أيُّها السَّيِّدُ، وتُمَجِّدُ اسمَكَ" (مزمور 85: 9). وليَكُنِ اللهُ مَعروفًا ليسَ فقط في اليهوديَّةِ، بل في المَسكونةِ كُلِّها، ليَكونَ اسمُ الرَّبِّ عَظيمًا في كُلِّ الأُمَمِ (مزمور 75: 2).