موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّصُّ الإنجيلي (يوحنا 1: 1-18)
1 في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. 2 كانَ في البَدءِ لَدى الله. 3 بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان. 4 فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس 5 والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات. 6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا 7 جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس. 8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور. 9 كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إِلى العالَم 10 كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ. 11 جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. 12 أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله: 13 فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا. 14 والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ. 15 شَهِدَ له يوحَنَّا فهَتف: ((هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي)). 16 فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة. 17 لأَنَّ الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى وأَمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح. 18 إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه.
المُقدِّمَة
يبدأ يوحنّا الحبيب إنجيله بنشيدٍ لكلمةِ اللهِ المُتجسِّدِ (يوحنّا 1: 1-18)، حيثُ كانت الجماعةُ المسيحيّةُ الأولى تترنَّمُ به احتفاءً بالمسيحِ، ابنِ اللهِ الذي "فيهِ خُلِقَ كُلُّ شَيءٍ" (قولسي 1: 15)، وقد "أُظهِرَ في الجَسَدِ" (1 طيموتاوس 3: 16)، وجاءَ ليُقيمَ وسطَ البشرِ ليُخلِّصَنا ويُعلِّمَنا أنَّ قيمتَنا لدى الرَّبِّ كبيرةٌ جدًّا. وإذا آمَنَّا بهِ تكونُ لنا الحياةُ الأبديّةُ (يوحنّا 20: 31). ومن هنا تكمنُ أهمّيّةُ البحثِ في وقائعِ النصِّ وأبعادِهِ الرُّوحيّةِ.
وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 1: 1-18)
1 في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله.
تشيرُ عِبارةُ "في البَدءِ كانَ الكَلِمَةُ" إلى "الكَلِمَةَ" الذي هو اللهُ، كما يُفهَمُ من العِبارةِ الوارِدةِ في سفرِ التكوينِ: "في البَدءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرضَ" (التكوين 1: 1). وأمَّا "في البَدءِ" فتَشيرُ إلى الزَّمَنِ المُطلَقِ، وليسَ إلى زَمَنِ العالَمِ أو زَمَنِ الخَلقِ، حيثُ إنَّ "الكَلِمَةَ" وُجِدَ قَبلَ الخَلقِ، وهو كائنٌ أَزَليٌّ لا بِدايةَ له. عِبَارة "الكَلِمَةُ" هو حِكمَةُ اللهِ المُتحدِّثِ مَعَنا، والَّذي يُقدِّمُ ذاتَهُ كَكَلِمَةِ اللهِ لِكَي نَقتَنِيَ سِرَّ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ. فِكرَةُ "الكَلِمَةِ" تَرتَبِطُ بِالفِكرِ اليهوديِّ حَولَ الحِكمَةِ، الَّتي تُصوَّرُ كَواقِعٍ قائِمٍ قَبلَ الخَلقِ، وتَبدو كَشَخصٍ حَيٍّ، لا مُجرَّدَ فِكرَةٍ (أمثال 8: 2-31). يَصِفُ الحِكمَةَ بِأنَّها قُوَّةُ اللهِ الأَبَدِيَّةُ والإبداعِيَّةُ والمُضيئَةُ، ويَرى أنَّ "الكَلِمَةَ" و "الحِكمَةَ" مُتماثِلانِ. عِبارةُ "كانَ " في النَّصِّ الأَصلِيِّ اليونانِيِّ (ἦν) تَشيرُ إلى الكَينونَةِ، وصيغَةُ الزَّمَنِ الماضي هُنا تَدُلُّ على مُدَّةٍ ثابِتَةٍ ومُستَقِرَّةٍ يَتَعَذَّرُ تَحديدُها. هَكَذا جاءَ تَأَمُّلُ يُوحنَّا حَولَ "الكَلِمَةِ" كَامتِدادٍ لِفِكرَةِ الحِكمَةِ في الفِكرِ اليهوديِّ، وهي كائِنٌ أَزَليٌّ مَوجودٌ مُنذُ الأَزَلِ ويَدومُ إلى الأَبَدِ (أمثال 8: 22-26، سيراخ 24: 9). "الكَلِمَةُ" في الأَصلِ اليونانِيِّ (λόγος ) تَعني "الكَلِمَةَ"، وتَشيرُ إلى المسيحِ بِصِفتِهِ الابنَ الأَزَلِيَّ، وهو التَّعبيرُ الحَقيقيُّ عن الآبِ، كما وردَ في تَعليمِ بولسَ الرَّسولِ: "هوَ صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرَى" (قولسي 1: 15)، وأيضًا: "شُعاعُ مَجْدِهِ وصُورَةُ جَوهَرِهِ" (عبرانيين 1: 3). بِالتَّجَسُّدِ، يَتَجلَّى اللهُ بِأَسمَى صُورَةٍ في قَلبِ البَشَرِيَّةِ، كما جاءَ في رِسالَةِ يُوحنَّا الرَّسولِ: "الحَياةُ ظَهَرَت فَرأَينا ونَشهَدُ ونُبَشِّرُكُم بِتِلكَ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتي كانَت لَدى الآبِ وتَجلَّت لَنا" (1 يُوحنَّا 1: 2). يُوحنَّا لم يَصِفِ المسيحَ بـ"الكَلِمَةِ" إلَّا في مُقدِّمَةِ إِنجيلِهِ فقط، والجَديرُ بِالذِّكرِ أنَّ "كَلِمَةَ اللهِ" كانَ تَعبيرًا شائِعًا بَينَ اليهودِ، إذ كانَت الكَلِمَةُ تُعتَبَرُ فَعَّالَةً، مُبدِعَةً، وديناميكِيَّةً، كما في المَزمورِ: "يُرسِلُ إلى الأَرضِ كَلِمَتَهُ فيُسرِعُ قَولُهُ في عَدْوِهِ" (مَزمور 147: 15). عِبارةُ "الكَلِمَةُ كانَ لَدى اللهِ" في الأَصلِ اليونانِيِّ (θεὸς ἦν ὁ λόγος) (مَعناها: إِلهًا كانَ الكَلِمَةُ)، فتَشيرُ إلى أنَّ "الكَلِمَةَ" هوَ اللهُ حتَّى في غِيابِ أداةِ التَّعريفِ، كما وردَ في الآيَتَينِ يُوحَنَّا 1: 6، 18. الابنُ هوَ أَقنومٌ مُميَّزٌ عن أَقنومِ الآبِ، ومعَ ذلكَ، بَينَهُما اتِّحادٌ كامِلٌ واتِّفاقٌ تامٌّ في كُلِّ قَضاءٍ وعَمَلٍ، ولَهُما نَفسُ المَجدِ والعَظمَةِ والكَرامَةِ، كما جاءَ في صَلاةِ يَسوعَ الكَهنوتِيَّةِ: "مَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبَتِ، بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَمُ" (يُوحَنَّا 17: 5). عِبارةُ "لَدى" في الأَصلِ اليونانِيِّ (πρὸς) لا تَشيرُ فَقَط إلى التَّعايُشِ، بل إلى التَّشارُكِ الفَعَّالِ والمُوجَّهِ. كما أنَّ "الكَلِمَةَ" يَدُلُّ هُنا على أَقنومٍ مُميَّزٍ عن الآبِ، ولكِنَّهُ مُتَّحِدٌ بِهِ اتِّحادًا تامًّا، ويَشيرُ إلى وُجودِهِ الأَزَلِيِّ. "الكَلِمَةُ" كانَ ولا يَزالُ أَقنومًا مُتميِّزًا عن الآبِ، ولكِنَّهُ مُتَّحِدٌ مَعَهُ في الجَوهَرِ والطَّبيعَةِ الإلهِيَّةِ. عِبارةُ "اللهُ" في النَّصِّ اليونانِيِّ (θεὸς) تَشيرُ إلى طَبيعَةِ الكَلِمَةِ الإلهِيَّةِ. غِيابُ أَدَاةِ التَّعريفِ لا يُقَلِّلُ مِن تأكيدِ أنَّ "الكَلِمَةَ" هوَ اللهُ، بل يُؤكِّدُ المُساواةَ الكامِلَةَ بَينَ الابنِ والآبِ في الجَوهَرِ الإلهِيِّ. عبارة “الكَلِمَةُ هوَ اللهُ" تُؤكِّدُ أنَّ المسيحَ ليسَ مَلاكًا أو مَخلوقًا كما تَدَّعي بَعضُ الفِرَقِ مثل " شهود يهوه" بل هوَ مُساوٍ للآبِ في الجَوهَرِ، ولَدَيهِ صِفاتُهُ وقُوَّتُهُ، وهوَ يَستَحِقُّ الإِكرامَ والعِبادَةَ نَفسَها. وتُثبِتُ هذِهِ الآيَةُ صِحَّةَ التَّثليثِ لِتَمييزِها أَقنومَينِ، وتُبيِّنُ أَنَّهُما مُتَساويانِ. وتَكشِفُ هذِهِ الآيَةُ أيضًا ثلاثةَ أُمورٍ: أَزَلِيَّةَ الكَلِمَةِ، أَقنومِيَّتَهُ، واتِّحادَهُ بِالآبِ، ولاهوتَهُ، أَي كَونُهُ والآبُ واحِدًا في الجَوهَرِ.
2 كانَ في البَدءِ لَدى الله
تشيرُ عِبارةُ "كانَ في البَدءِ لَدى اللهِ" إلى "الكَلِمَةِ" الَّذي كانَ ولا يَزالُ هوَ اللَّهَ. وهوَ شَريكٌ معَ الآبِ في الأَزَلِيَّةِ. وهذِهِ الآيَةُ تُذَكِّرُنا بِما وردَ في سِفرِ الأَمثالِ: "الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طُرُقِهِ قَبلَ أَعمالِهِ مُنذُ البَدْءِ، مِنَ الأَزَلِ أُقِمتُ، مِنَ الأَوَّلِ، مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرضُ" (أَمثال 8: 22-23). وتَجمَعُ هذِهِ الآيَةُ العِبَاراتِ الثلاثَ في الآيَةِ الأُولى: "في البَدءِ كانَ الكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ كانَ لَدى اللهِ، والكَلِمَةُ هوَ اللهُ" (يُوحَنَّا 1: 1) في مَعنى كامِلٍ واحِدٍ. أمَّا عِبارةُ "كانَ" فتَشيرُ إلى فِعلٍ يَدُلُّ على الكَينونَةِ، وليسَ الصَّيرورَةَ. ولِذلكَ، فإنَّ وُجودَ "الكَلِمَةِ" غَيرُ مُرتَبِطٍ بِالزَّمَنِ، وهوَ غَيرُ مَخلوقٍ.
3 بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان.
تشيرُ عِبارةُ "بِهِ كانَ" إلى "الكَلِمَةِ" الَّذي خَلَقَ العالَمَ كَما الآبِ، فتَبيَّنَ مِن خِلالِ أَعمالِهِ أَنَّهُ اللهُ، لِأَنَّ الخَلقَ يَختَصُّ بِاللهِ وَحدَهُ، بِدَليلِ أَنَّهُ "في البَدءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرضَ" (التَّكوينُ 1: 1). وبِذلكَ أَظهَرَ الابنُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللهِ بِالخَلقِ، فَهُوَ خالِقُ المَسكونَةِ، وقَد خَلَقَ جَميعَ الأَشياءِ مِن العَدَمِ (يُوحَنَّا 17: 24). وأَكَّدَ ذلكَ بولسُ الرَّسولُ: "فَفِيهِ خُلِقَ كُلُّ شَيءٍ مِمَّا في السَّمَواتِ ومِمَّا في الأَرضِ، ما يُرَى وما لا يُرَى، أَأَصْحابَ عَرْشٍ كانوا أَمْ سِيادَةٍ أَمْ رِئاسةٍ أَمْ سُلطانٍ، كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ بِهِ ولَهُ" (قولسي 1: 16). وإِنَّ عَمَلَ الخَلقِ هوَ عَمَلُ الآبِ والابنِ، كما وردَ في أَسفارِ العَهدِ القَديمِ الَّتي رَبَطَت خَلقَ العالَمِ بِكَلِمَةِ اللهِ: "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَواتُ" (مَزمور 33: 6) أو بِحِكمَةِ اللهِ: "عِندَ تَهيِئتِهِ السَّمَواتِ كُنتُ هُناكَ" (أَمثال 8: 27-30). فاللهُ هوَ خالِقُ الكَونِ كُلِّهِ بِكَلِمَتِهِ. وأَمَّا عِبارةُ "كُلُّ شَيءٍ" فتَشيرُ إلى العالَمِ كُلِّهِ بِمادَّتِهِ وأَرواحِهِ وحَيَواناتِهِ وكُلِّ ما فيهِ، أَي كُلُّ مَوجودٍ هوَ عَمَلُ اللهِ وهُوَ صالِحٌ. وهذاَ التَّعليمُ يَتَنافَى مَعَ تَعليمِ الغُنوصِيَّةِ الثُّنائيَّةِ الَّتي تَتَحَدَّثُ عن إِلهٍ خَيِّرٍ وإِلهٍ شِرِّ. أَمَّا عِبارةُ "وبِدونِهِ ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كانَ" فتَشيرُ إلى تَأكيدِ العِبارةِ الأُولى: "بِهِ كانَ كُلُّ شَيءٍ"، تَبديدًا لِلشَّكِّ في أَنَّ كُلَّ الخَلقِ هوَ مِن عَمَلِ المسيحِ؛ ولَم يَعمَلِ المسيحُ كَأَلَةٍ بِيدِ اللهِ، بَل كانَ عامِلًا مَعَهُ، كما جاءَ في تَعليمِ بولسَ الرَّسولِ: "أَمَّا عِندَنا نَحنُ، فَلَيسَ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وهُوَ الآبُ، مِنهُ كُلُّ شَيءٍ وإِلَيهِ نَحنُ أَيضًا نَصيرُ، ورَبٌّ واحِدٌ، وهُوَ يَسوعُ المسيحُ، بِهِ كُلُّ شَيءٍ، وبِهِ نَحنُ أَيضًا" (1 قورنتس 8: 6). وهذِهِ الآيَةُ تَنفي قَولَ أَفلاطونَ بِأَزَلِيَّةِ المادَّةِ، وقَولَ الغُنوصِيِّينَ بِأَنَّ خالِقَ المادَّةِ هُوَ روحٌ شِرِّيرٌ.
4 فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس
تشيرُ عِبارةُ "فِيهِ كانَتِ الحَياةُ" إلى حَياةِ المسيحِ في ذاتِهِ، وهوَ مَصدَرُ حَياةِ سائِرِ الأَحياءِ، كما جاءَ: "إِنَّ اللهَ وَهَبَ لَنا الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ وأَنَّ هذِهِ الحَياةَ هِيَ في ابنِهِ" (1 يُوحَنَّا 5: 11). أَمَّا عِبارةُ "الحَياةُ" فتَشيرُ إلى الحَياةِ الطَّبيعيَّةِ، وهِيَ عَكسُ المَوتِ (التَّكوينُ 7: 2 وأَعمالُ الرُّسُلِ 25: 17)، وإلى حَياةِ الإِنسانِ على الأَرضِ أيضًا (التَّكوينُ 7: 25 ولوقا 25: 16)، وإلى الحَياةِ الرُّوحِيَّةِ والحَياةِ الأَبَدِيَّةِ. وهذا دَليلٌ آخَرُ على لاهوتِ المسيحِ، لِأَنَّ الخَلقَ هوَ عَمَلٌ يَختَصُّ بِاللهِ، كما جاءَ في التَّوراةِ: "جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرضِ ونَفَخَ في أَنفِهِ نَسَمَةَ حَياةٍ، فَصارَ الإِنسانُ نَفسًا حَيَّةً" (التَّكوينُ 2: 7). والحَياةُ هيَ حَياةُ اللهِ والمسيحِ في المُؤمِنِ المَولودِ ثانيَةً (يُوحَنَّا 3: 3 و5). ويُعَلِّقُ يُوحَنَّا الرَّسولُ: "الحَياةُ ظَهَرَت... الَّتي كانَت لَدى الآبِ فَتَجلَّت لَنا" (1 يُوحَنَّا 1: 2). المسيحُ هوَ إذاً كَلِمَةُ الحَياةِ، وتَكرَّرَت لَفظَةُ "الحَياةِ" (32) مَرَّةً في إِنجيلِ يُوحَنَّا، و(127) مَرَّةً في أَسفارِ العَهدِ الجَديدِ. "الكَلِمَةُ" هوَ مَصدَرُ الحَياةِ المادِّيَّةِ والبَشَرِيَّةِ والحَياةِ الرُّوحِيَّةِ. وَبِهِ أُعطِيَتِ الحَياةُ لِلخَليقَةِ، وَبِهِ أَيضًا أُعطِيَت لَنا الحَياةُ الإِلهِيَّةُ، كما صَرَّحَ المسيحُ: "أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاسِ وتَفيضَ فيهِم" (يُوحَنَّا 10: 10)، ووفي مكان آخر أضاف: "أَنا هوَ الطَّريقُ والحَقُّ والحَياةُ" (يُوحَنَّا 14: 6). أَمَّا عِبارةُ "الحَياةُ نورُ النَّاسِ" فتَشيرُ إلى يَسوعَ، نورِ العالَمِ بِالذَّاتِ، بِمَعنى أَنَّهُ مُعلِّمُ البَشَرِ الَّذي يُرشِدُنا إلى طَريقِ الحَقِّ والسَّلامِ، ويَحمينا مِنَ الضَّلالِ والإِثمِ، لِذلِكَ هوَ نورٌ، ولِأَنَّ "اللهَ نورٌ" (1 يُوحَنَّا 1: 5). هوَ النُّورُ الَّذي يُرشِدُ البَشَرَ إلى الطَّريقِ الواجِبِ سُلوكُهُ (يُوحَنَّا 8: 12). وأَعلَنَ يَسوعُ ذلكَ بِقَولِهِ: "أَنا نورُ العالَمِ" (يُوحَنَّا 8: 12). كانَ المسيحُ نورَ النَّاسِ قَبلَ تَجَسُّدِهِ (غَلاطِيَّة 3: 9)، وكانَ كَذلِكَ بِواسِطَةِ خِدمَتِهِ الذَّاتِيَّةِ (عِبرانيِّين 1: 2)، ولا يَزالُ نورَ العالَمِ بِروحِهِ (يُوحَنَّا 14: 16). إنَّهُ نورُ حَياتِنا، أَي حَقيقَتِنا المُطلَقَةِ، ولا يُمكِنُنا العُثورُ على أَيِّ نورٍ آخَرَ لِيُعطِيَ مَعنى لِما نَعيشُهُ، سِوى في اِندماجِ حَياتِنا في حَياتِهِ. فَهُناكَ صِلَةٌ بَينَ النُّورِ والحَياةِ، كما جاءَ في تَعليمِ صاحِبِ المَزاميرِ: "لأَنَّ يَنبوعَ الحَياةِ عِندَكَ، ونُعايِنُ النُّورَ بِنورِكَ" (مَزمور 36: 10). والإِنسانُ يَحصُلُ على الاستِنارَةِ الرُّوحِيَّةِ مِنَ "الكَلِمَةِ"، كَلِمَةِ اللهِ، كَلِمَةِ الحَياةِ. وبِاختِصارٍ، نَسَبَ الإِنجيلُ إلى يَسوعَ ثلاثةَ أَعمالٍ: الخَلقَ، والإِحياءَ، والإِنارَةَ.
5 والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات.
لا تَشيرُ عِبارةُ "الظُّلُماتِ" إلى الظُّلْمَةِ المادِّيَّةِ، ولكِنْ إلى الظُّلْمَةِ الأَدَبِيَّةِ، أَي ظُلْمَةِ الجَهلِ والخَطيئَةِ الَّتي سَقَطَ العالَمُ بِأَسْرِهِ فيها بِسُقوطِ الإِنسانِ الأَوَّلِ. أَمَّا عِبارةُ "يُشرِقُ" فتَشيرُ إلى نورِ المسيحِ الَّذي أَرسَلَ أَشِعَّتَهُ إلى العالَمِ قَبلَ تَجَسُّدِهِ بِأَعمالِ الخَلقِ وعِنَايتِهِ الإِلهِيَّةِ (رومة 1: 20)، وبِتَأثيرِهِ في ضَمائِرِ النّاسِ، وبِالنُّبُوءَاتِ، وعَن طَريقِ المُبَشِّرينَ. وبَعدَ تَجَسُّدِهِ أَشرَقَ يَسوعُ بِنورِ تَعليمِهِ وأَعمالِهِ ومُعجِزاتِهِ لِيَكشِفَ لَنا عَن وَجهِ اللهِ. وأَمَّا عِبارةُ "لَم تُدرِكْهُ الظُّلُماتُ" فتَشيرُ إلى عَدَمِ فَهمِ النّاسِ الجُهَلاءِ والأَشرارِ ظُهورَ "الكَلِمَةِ" في خَلقِ العالَمِ، كما يُؤَكِّدُ الرَّسولُ بولُسُ: “َلَمَّا كانَ العالَمُ بِحِكمَتِهِ لَم يَعرِفِ اللهَ..." في الخَليقَةِ (1 قورِنتُس 1: 21). كَذلِكَ، لَم يُدرِكِ العالَمُ نورَ "الكَلِمَةِ" في التَّجَسُّدِ؛ لِأَنَّهُ في نِزاعٍ معَ الظُّلْمَةِ النّاشِئَةِ عَن عِصيانِ الإِنسانِ وجَهلِهِ، كما جاءَ في تَعليمِ السَّيِّدِ المسيحِ: " فَقَد غَلُظَ قَلبُ هذا الشَّعبِ، وأَصَمُّوا آذانَهُم، وأَغمَضوا عُيونَهُم، لِئَلاَّ يُبصِروا بِعُيونِهِم، ويَسمَعوا بِآذانِهِم، ويَفهَموا بِقُلوبِهِم، ويَرجِعوا. أَفَأَشفِيهِم؟ " مَتَّى 13: 15).
6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا.
تشيرُ عِبارةُ "ظَهَرَ" في الأَصلِ اليونانِيِّ (Ἐγένετο) إلى مَعنى "كانَ". أَمَّا عِبارةُ "مُرسَلٌ مِن لَدُنِ اللهِ" فتَشيرُ إلى يُوحَنَّا المَعمَدانِ، الَّذي لَيسَ المَسيحَ، وإِنَّما الرَّسولُ المَوعودُ بِهِ (مَلاخي 3: 1) والذي أَرسَلَهُ اللهُ لِتَهيِئَةِ الطَّريقِ أَمامَ المَسيحِ. أَمَّا عِبارةُ "مِن لَدُنِ الله في الأصل اليوناني παρὰ θεοῦ، (تعني مِن إِلهٍ ) فتَشيرُ إلى اللهِ، بِالرَّغمِ مِن غِيابِ أَلِ التَّعريفِ. أَمَّا عِبارةُ "يُوحَنَّا" فتَشيرُ إلى يُوحَنَّا المَعمَدانِ، الَّذي يَشهَدُ بِما "رَأى وسَمِعَ" (يُوحَنَّا 3: 32). "يُوحَنَّا" هو صِيغَةٌ عَرَبِيَّةٌ لِلاِسمِ العِبرانِيِّ יוֹחָנָן (مَعناهُ: اللهُ يَتَحَنَّنُ). وَهُوَ ابنُ زَكَرِيَّا الشَّيخِ وزَوجَتِهِ أَلِيصاباتَ (لوقا 1: 5-25)، وكِلاهُما مِن نَسلِ هارونَ ومِن عَشيرَةٍ كَهَنُوتِيَّةٍ. عَظَمَةُ يُوحَنَّا لا تَقتَصِرُ على النّاسِ، بَل هِيَ أَمامَ اللهِ أَيضًا. اللهِ. ومَصدَرُ عَظَمَتِهِ الشَّخصِيَّةِ هُوَ اِمتِلاؤُهُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، ومَصدَرُ عَظَمَتِهِ الوَظيفِيَّةِ هُوَ أَنَّهُ سيكونُ المُهَيِّىء لِطَريقِ الرَّبِّ، والمُبَشِّرَ بِظُهورِ المَسيحِ المَوعودِ. عِلاقَتُهُ بِإِيلِيَّا تُؤَكِّدُ دَورَهُ النَّبَويَّ. وتَقَدَّمَ يُوحَنَّا أَمامَ المَسيحِ، مُتَمِّمًا النُّبُوءَةَ الَّتي كانَ يَتُوقُ إِلَيها كُلُّ يَهودِيٍّ بِأَنَّ إِيلِيَّا يَأتي قُدَّامَ المَسيحِ (مَلوك 4: 5 ومَتَّى 11: 14). وكانَ يُوحَنَّا المَعمَدانُ ناسِكًا زاهِدًا، على خُطى إِيلِيَّا النَّبِيِّ، كانَ يَرتَدِي عَباءَةً مِن وَبَرِ الإِبِلِ، ويَشُدُّ حَقوَيهِ بِمِنطَقَةٍ مِن جِلدٍ، ويتَغَذَّى بِالجَرادِ والعَسَلِ البَرِّيِّ. كانَ يُوبِّخُ النّاسَ على خَطاياهم، ويدعوهم إلى التَّوبَةِ، لِإِعدادِهِم لِقُدومِ المَسيحِ. وبَدَأَ كَرازَتَهُ في سَنَةِ 26 ب.م.، شاهِدًا أَنَّ يَسوعَ هُوَ المَسيحُ (يُوحَنَّا 1: 15)، وأَنَّهُ حَمَلُ اللهِ (يُوحَنَّا 1: 29). وكانَ يُعَمِّدُ التَّائِبِينَ بَعدَ أَن يَعتَرِفوا بِخَطاياهم في نَهرِ الأُردُنِّ (لوقا 3: 2-14). وقَد طَلَبَ يَسوعُ مِن يُوحَنَّا أَن يُعَمِّدَهُ، لا لِأَنَّهُ كانَ مُحتاجًا إِلى التَّوبَةِ، بَل لِيُقَدِّمَ بِذلِكَ الدَّليلَ على اِندماجِهِ في الجِنسِ البَشَرِيِّ وصَيرورَتِهِ أَخًا لِلكُلِّ. وحَوالَي نِهايَةِ سَنَةِ 27 م.، أَمَرَ هيرودُسُ أَنطِيباسُ، رَئِيسُ الرُّبعِ، بِزَجِّهِ في السِّجنِ، لِأَنَّهُ وَبَّخَهُ على فُجورِهِ (لوقا 3: 19-20). وبَعدَ ثَلاثَةِ أَشهُرٍ أَمَرَ بِقَطعِ رَأسِهِ بِسَبَبِ هيروديا. وَلَم يُترَكْ جُثمانُهُ دونَ كَرامَةٍ، لِأَنَّ تَلامِيذَهُ جاءُوا حالًا ورَفَعوهُ ودَفنوهُ. وَشَهِدَ فيهِ المَسيحُ أَعظَمَ شَهادَةٍ، قائِلًا: "لَم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدانِ" (مَتَّى 11: 11). وهُناكَ فَرقٌ بَينَ يُوحَنَّا والمَسيحِ: يُوحَنَّا هُوَ إِنسانٌ، ويَسوعُ هُوَ "الكَلِمَةُ". يُوحَنَّا هُوَ مُرسَلٌ مِنَ اللهِ، والمَسيحُ هُوَ اللهُ.
7 جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس.
تشيرُ عِبارةُ "شاهِداً" إلى شَهادَةِ الرُّوحِ مَعَ أَرواحِنا (رومِيَة 8: 16)، حَيثُ يُنيرُ الرُّوحُ أَذهانَنا ويَدفعُنا إلى العَمَلِ بِمَشيئَةِ اللهِ. وكانَت وَظيفَةُ يُوحَنَّا المَعمَدانِ أَن يَشهَدَ بِأَنَّ يَسوعَ هُوَ المَسيحُ (يُوحَنَّا 1: 31)، إِذ نادَى بَينَ النّاسِ بِوُجوبِ التَّوبَةِ قَبلَ مَجيءِ المَسيحِ، لِيُعِدَّ قُلوبَهُم لِقَبولِهِ عِندَ مَجيئِهِ. وعِندَما أَتى المَسيحُ، دَلَّهُم يُوحَنَّا عَلَيهِ بِوُضوحٍ. وتَكرَّرَ فِعلُ "شَهِدَ" 31 مَرَّةً في إِنجيلِ يُوحَنَّا، مِمَّا يَدُلُّ على أَهمِّيَّةِ الشَّهادَةِ في الرِّسالَةِ الإِنجيلِيَّةِ. وقَد شَهِدَ يُوحَنَّا في دَعوَى المَسيحِ، وَلَكِنَّهُ لَم يَدعُ التَّلاميذَ إلى اِتِّباعِهِ، بَل دَعاهُم إلى اِتِّباعِ المَسيحِ والإِيمانِ بِهِ. أَمَّا عِبارةُ "لِيَشهَدَ لِلنُّورِ" فتَشيرُ إلى شَهادَةِ يُوحَنَّا لِلمَسيحِ، الَّذي وَصَفَ نَفسَهُ بِأَنَّهُ النُّورُ، كَما قالَ لِليَهودِ: "آمِنوا بِالنُّورِ، ما دامَ لَكُمُ النُّورُ لِتَصيروا أَبناءَ النُّورِ" (يُوحَنَّا 12: 36). وعِبارةُ "فَيُؤمِنَ عَن شَهادَتِهِ جَميعُ النّاسِ" تُظهِرُ الهَدَفَ مِن شَهادَةِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ، أَلا وهُوَ فَتحُ أَبوابِ الإِيمانِ أَمامَ الجَميعِ، لِيُؤمِنوا بِأَنَّ يَسوعَ هُوَ المَسيحُ، ابنُ اللهِ الحَيِّ.
8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور
تَشيرُ عِبارةُ "لَم يَكُنْ هُوَ النُّورُ" إلى يُوحَنَّا المَعمَدانِ، الَّذي وُصِفَ بِأَنَّهُ "السِّراجُ المُوقَدُ المُنيرُ" (يُوحَنَّا 5: 35). نُورُهُ لَيسَ ذاتِيًّا، بَل مُقتَبَسٌ مِنَ المَسيحِ، شَمسِ البِرِّ، فَهُوَ شاهِدٌ لِلنُّورِ الَّذي مَصدَرُهُ الوَحيدُ هُوَ المَسيحُ. ويُعَلِّقُ الرَّاهِبُ البَندِكتانِيُّ جان سكوت قائِلًا: "لَيسَ بِإِمكانِ أَيِّ مَخلوقٍ، مَهما عَلا شَأنُهُ بِالفِكرِ أَو الذَّكاءِ، أَن يَكونَ نُورًا بِحَدِّ ذاتِهِ وَفي طَبيعَتِهِ ذاتِها؛ فَهُوَ يُشارِكُ النُّورَ الوَحيدَ الحَقيقيَّ والجَوهَرِيَّ المَوجودَ في كُلِّ مَكانٍ" (عِظَةٌ حَولَ مُقَدِّمَةِ إِنجيلِ القِدِّيسِ يُوحَنَّا). هَذا هُوَ مَوقِعُ يُوحَنَّا المَعمَدانِ الحَقيقيُّ، عَكسَ ما كانَ يَقولُهُ أَتباعُهُ. تُشَدِّدُ الآيَةُ على التَّبايُنِ بَينَ يُوحَنَّا وَيَسوعَ: يُوحَنَّا المَعمَدانُ هُوَ الشَّاهِدُ لِلنُّورِ، وَلَيسَ هُوَ النُّورَ نَفسَهُ. يُوحَنَّا هُوَ صَديقُ العَريسِ الَّذي يُهَيِّئُ الطَّريقَ لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَيسَ العَريسَ (يُوحَنَّا 3: 29)
9 كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إلى العالَم.
تشير عبارة "النُّورُ الحَقّ" إلى يسوع الكلمة الذي هو النور الحقيقي "نُورُ العالَم" (يوحنا 8: 12) "يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِياً إلى العالَم"؛ يسوع هو النور الحقيقي تمييزا عن الأنوار الكاذبة (2 قورنتس 11: 14). وسُمي يسوع النور الحقيقي كما سمي "الكَرمَةُ الحَقّ" (يوحنا 15: 1)، و"القُدْسِ الحقيقِيّ" (عبرانيين 9: 24). أمَّا عبارة "كُلَّ إِنْسان آتِياً إلى العالَم" فتشير شمولية الخلاص، إذ به يستطيع كل إنسان أن يستنير به لتحقيق حياته حتى ولو كان غريبا عن الوحي. أمَّا عبارة "آتِياً" في الأصل اليوناني ἐρχόμενον (معناه آتيا) فتشير إلى النور الآتي أي المسيح، وليس الإنسان الآتي. وقد أُشير إلى المسيح "الآتي " (متى 16: 27، 24: 42، 44).
10 كانَ في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ.
تشيرُ عِبارةُ "كانَ في العالَمِ وبِهِ كانَ العالَمُ والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ" إلى الإِلهِ الَّذي يُعلِنُ عن ذاتِهِ لِلعالَمِ. أَمَّا عِبارةُ "كانَ في العالَمِ" فتَشيرُ إلى يَسوعَ قَبلَ تَجَسُّدِهِ. كانَ في العالَمِ مُنذُ البَدءِ، ولَكِن لَم تَرَهُ العُيونُ البَشَرِيَّةُ، إِنَّما كانَ حاضِرًا بِالرُّوحِ، يَخلُقُ العالَمَ ويُنيرُهُ. فَهُوَ الَّذي وَعَظَ أَيّامَ نوحٍ، كَما جاءَ في تَعليمِ بُطرُسَ الرَّسولِ: "فَذَهَبَ بِهَذا الرُّوحِ يُبَشِّرُ الأَرواحَ الَّتي في السِّجْنِ أَيضًا" (1 بُطرُسَ 3: 19). وَهُوَ المَلاكُ الَّذي صارَ مَعَ بَني إِسرائيلَ في البَرِّيَّةِ، كَما جاءَ في خُطبَةِ إِسْطِفانُسَ: "هَذا الَّذي كانَ لَدى الجَماعَةِ في البَرِّيَّةِ وَسيطًا بَينَ المَلاكِ الَّذي كَلَّمَهُ على جَبَلِ سِينا وَبَينَ آبائِنا، فَتَلَقَّى كَلِماتِ الحَياةِ لِيُبَلِّغَنا إِيَّاها" (أَعمالُ الرُّسُلِ 7: 38). أَمَّا عِبارةُ "وبِهِ كانَ العالَمُ" فتَشيرُ إلى تَكرارِ الآيَةِ السَّابِقَةِ: "بِهِ كانَ كُلُّ شَيءٍ وبِدونِهِ ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كانَ" (يُوحَنَّا 1: 3)، مُوضِّحَةً أَنَّ يَسوعَ لَم يَدخُلِ العالَمَ كَغَريبٍ عَنهُ، لِأَنَّهُ كانَ بِهِ قَبلًا يَخلُقُ ويَعتَنِي بِهِ. أَمَّا عِبارةُ "العالَمُ" فتَشيرُ تارَةً إلى الكَونِ، وتارَةً أُخرى إلى البَشَرِيَّةِ الَّتي هِيَ مَوضِعُ حُبِّ اللهِ (يُوحَنَّا 3: 16)، وتارَةً أُخرى إلى النّاسِ الَّذينَ رَفَضوا "الكَلِمَةَ" المُتَأَنِّسَ ومُخطَّطَ اللهِ (يُوحَنَّا 12: 31). وقد وَرَدَت لَفظَةُ "العالَمِ" 68 مَرَّةً في إِنجيلِ يُوحَنَّا. أَمَّا عِبارةُ "العالَمُ لَم يَعرِفْهُ" فتَشيرُ إلى عَدَمِ مَعرِفَةِ العالَمِ بِيَسوعَ، بِالرَّغمِ مِن أَنَّهُ كانَ مَوجودًا وُجودًا خَلاقًا في العالَمِ قَبلَ تَجَسُّدِهِ، وبِالرَّغمِ مِن أَنَّهُ قَد أَعلَنَ ذاتَهُ كَمُقيمٍ في عالَمٍ وُجِدَ بِواسِطَتِهِ. إِنَّ أَكثَرَ البَشَرِ لَم يَعتَرِفوا بِاللهِ، وَلَم يُؤمِنوا بِهِ، وَلَم يُطيعوهُ، بَل عَبَدوا الأَوثانَ وسَمَّوها آلهَةً. وَلَم يَكُنْ في هَياكِلِهِم إِلَّا مَذبَحٌ واحِدٌ يُنسَبُ إلى الإِلهِ الحَقِّ، كَما أَكَّدَ بولُسُ الرَّسولُ في خُطبَتِهِ في وَسَطِ الأَرْيوباغُس: "فَإِنِّي وأَنا سائِرٌ أَنظُرُ إلى أَنصابِكُم وَجَدتُ هَيكَلًا كُتِبَ علَيهِ: إلى الإِلهِ المَجْهولِ. فَما تَعبُدونَهُ وأَنتُم تَجهَلونَهُ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 17: 23).
11 جاءَ إلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه
تشيرُ عبارةُ "جاءَ" إلى ظُهورِ يَسوعَ عَلانيةً، وَفقًا لِقولِ النَّبِيِّ مَلاخي: "يَأتي فَجأَةً إلى هَيكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِهِ. ها إِنَّهُ آتٍ، قالَ رَبُّ القُوَّاتِ" (مَلاخي 3: 1). أمَّا عبارةُ "بَيتِهِ" في الأَصلِ اليونانِيِّ τὰ ἴδια، (مَعناها خاصَّتُهُ) فتَشيرُ إلى الأُمَّةِ اليَهودِيَّةِ، لِأَنَّ اللهَ اختارَها لِنَفسِهِ، كَما جاءَ في التَّوراةِ: "لأَنَّكَ شَعبٌ مُقدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وإِيَّاكَ اختارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكونَ لَهُ شَعبَ خاصَّتِهِ مِن جَميعِ الشُّعوبِ الَّتي على وَجهِ الأَرضِ" (تَثنِيَةُ الاشتِراعِ 7: 6). اختارَ اللهُ أَولادَ إِبراهيمَ وفَداهُم مِن أَرضِ مِصرَ، وأَعطاهُم أَرضَ كَنعانَ والشَّريعَةَ والعُهودَ والأَنبياءَ، كَما جاءَ في تَعليمِ بولسَ الرَّسولِ: "أُولئِكَ الَّذينَ هُم بَنو إِسرائيلَ، ولَهُمُ التَّبَنِّي، والمَجدُ، والعُهودُ، والتَّشريعُ، والعِبادَةُ، والمَواعِدُ، والآباءُ" (رومِيَة 9: 4). وهذاَ الشَّعبُ يُمَثِّلُ البَشَرِيَّةَ في التَّاريخِ، الَّتي هِيَ مِلكٌ لِلخالِقِ. أمَّا عبارةُ "فما قَبِلَهُ أَهْلُ بَيتِهِ" فتَشيرُ لَيسَ فَقَط إلى الظُّلمَةِ، كَما أَشارَ يُوحَنَّا سابِقًا: "لَم تُدرِكْهُ الظُّلُماتُ" (يُوحَنَّا 1: 5)، بَل إلى خاصَّتِهِ أَيضًا، وهُم الَّذينَ رَفَضوا أَن يَقبَلوا "الكَلِمَةَ". أتى النُّورُ للجَميع، ولكن لن يَقبَلَ الجميعُ أن يُضيءَ لهم؛ فبعضُهم يختارُ الابتعادَ عنه. ذَلِكَ الرفضُ كانَ قائِمًا مُنذُ أَيّامِ المَسيحِ حتَّى أَيّامِنا، مَعَ أَنَّ اللهَ أَعدَّهُم لِقَبولِهِ مِن خِلالِ رُموزٍ ونُبُوءَاتٍ، وجَعَلَهُم يَتَوَقَّعونَ مَجيئَهُ. فَكانَ عَلَيهِم أَن يَعرِفوهُ ويَتَقبَّلوهُ عِندَ مَجيئِهِ، ولَكِن لَمَّا ظَهَرَ بَينَهُم رَفَضوهُ وصَلَبوهُ (مَتَّى 27: 23). وعِلَّةُ رَفضِهِم إِيَّاهُ مُخلِّصًا ومَلِكًا رُوحِيًّا هِيَ إِعماءُ الخَطيئَةِ لِعُيونِهِم.
12 أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله.
تَشيرُ عِبارةُ "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوهُ" إلى الَّذينَ اِعتَرَفوا بِالمَسيحِ مِن كُلِّ شَعبٍ وأُمَّةٍ بِأَنَّهُ الكَلِمَةُ والنُّورُ والحَياةُ. وقَبولُ المَسيحِ هُنا يَقتَضي الإِيمانَ، لِأَنَّ مَجدَهُ مُستَتِرٌ، ولاهُوتَهُ مَحجوبٌ مِن خِلالِ جَسَدِهِ. الخلاصُ يتحقَّقُ عندما نَقبَلُ يسوعَ ونَنفتِحُ على النِّعمةِ. أَمَّا عِبارةُ "يُؤمِنونَ بِاِسمِهِ" فتَشيرُ إلى الَّذينَ يَعتَرِفونَ وَيُقِرُّونَ بِقُدرَةِ الابنِ ويَدعونَهُ بِثِقَةٍ رَبًّا ومُخلِّصًا. فَالإِيمانُ هُوَ بِمَثابَةِ الاِنتِماءِ إلى المَسيحِ، بِالاِعتِرافِ بِهِ ابنًا للهِ، الَّذي يَكشِفُ عَن سِرِّ الآبِ. أَمَّا عِبارةُ "بِاِسمِهِ" فتَشيرُ، في نَظَرِ القُدَماءِ، إلى تَعبيرٍ عَن دورِ الكائِنِ في العالَمِ؛ فَالاِسمُ المُعطى عِندَ الوِلادَةِ يُعبِّرُ عادةً عَن نَشاطٍ أَو مَصيرٍ لِمَن يَحمِلُهُ (تَكوينُ 27: 36). وإِذا كانَ لِشَخصٍ عِدَّةُ أَسماءٍ، فَقَد يَدُلُّ ذلكَ على أَهمِّيَّةِ الرَّجُلِ القائِمِ بِعِدَّةِ مَهامٍ. ولِيَسوعَ مَجمُوعَةٌ مِنَ الأَلقابِ، وأَهمُّها: "الكَلِمَةُ" (يُوحَنَّا 1: 1)، "يَسوعُ"، لأَنَّهُ هُوَ الَّذي يُخلِّصُ شَعبَهُ مِن خَطاياهم" (مَتَّى 1: 21)، "عِمَّانوئيل، أَيِ اللهُ مَعَنا" (مَتَّى 1: 23). أَمَّا عِبارةُ "فَقَد مَكَّنَهُم"، في الأَصلِ اليونانِيِّ ἔδωκεν αὐτοῖς ἐξουσίαν، (مَعناها: أَعطاهُم سُلطانًا)، فتَشيرُ إلى إِعطاءِ نِعمَةٍ خاصَّةٍ أَو حَقٍّ لِلمُؤمِنينَ بِهِ كَي يَصيروا أَبناءَ اللهِ. الخلاص يتحقق عندما يقبله أحدهم وينفتح على النعمة: هؤلاء، كما يقول يوحنا، يولدون من جديد إلى حياة جديدة، وهي حياة أبناء الله: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِٱسمِه، فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يو 1 :12).
أَمَّا عِبارةُ "يَصيروا أَبناءَ اللهِ" فتَشيرُ إلى اللهِ الآبِ، الَّذي يُعطي الَّذينَ يُؤمِنونَ بِهِ نُورًا وهُوِيَّةً جَديدَةً، وهِيَ هُوِيَّةُ البُنُوَّةِ. هذهِ هِيَ الحَياةُ الحَقيقيَّةُ: جَعلَ المُؤمِنينَ بِهِ مِن أَهلِ بَيتِ اللهِ. وهُم بِالطَّبيعَةِ: "أَبناءَ هَذِهِ الدُّنيا" (لوقا 16: 8)، "أَبناءَ المَعصِيَةِ" (أَفسُس 2: 2)، "أَبناءَ الغَضَبِ" (أَفسُس 2: 3). وهَكَذا صارَ المُؤمِنونَ أَبناءَ اللهِ، كَما صَرَّحَ بولُسُ الرَّسولُ: "هَذا الرُّوحُ نَفسُهُ يَشهَدُ مَعَ أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ اللهِ" (رومِيَة 8: 4). وذلكَ مِن خِلالِ وِلادَتِهِم الجَديدَةِ بِالإِيمانِ، ومَحَبَّةِ اللهِ لَهُم كَمَحبَّةِ الأَبِ لِبَنيهِ، وَاِعتِناءِهِ بِهِم وحِمايَتِهِم، كَي: "يَصِلوا إلى وَحدَةِ الإِيمانِ بِابنِ اللهِ ومَعرِفَتِهِ، ويَصيروا الإِنسانَ الرَّاشِدَ، ويَبلُغوا القامَةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المَسيحِ" (أَفسُس 4: 13). ويَرِثوا ميراثًا سَماويًّا: "وإِذا كُنتَ ابنًا، فَأَنتَ وارِثٌ بِفَضلِ اللهِ" (رومِيَة 4: 7). وهذا الأَمرُ لا نَستَطيعُ إِدراكَهُ كامِلًا إِلَّا بَعدَ دُخولِنا السَّماءَ، كَما جاءَ في تَعليمِ يُوحَنَّا الرَّسولِ: "أَيُّها الأَحبَّاءُ، نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ اللهِ، ولَم يُظهَرْ حتَّى الآنَ ما سَنَصيرُ إِلَيهِ. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِهِ أَشباهَهُ، لأَنَّنا سَنَراهُ كَما هُوَ" (1 يُوحَنَّا 3: 2). أَرادَنا اللهُ على مِثالِ اِبنِهِ المُتَجَسِّدِ، يَسوعَ المَسيحَ، ولَكِنَّ اللهَ لا يَفرِضُ نَفسَهُ بِالقُوَّةِ، ولا يُجبِرُ أَحَدًا، بَل يَترُكُنا أَحرارًا. مِن هَذا المُنطَلَقِ، كُلُّ واحِدٍ مِنَّا مَدعُوٌّ لِلقِيامِ بِخِيارٍ شَخصِيٍّ تِجاهَ الكَلِمَةِ الَّذي صارَ بَشرًا: هَل نَرفُضُهُ كَما فَعَلَ العالَمُ وأَهلُ بَيتِهِ؟ أَم نَقبَلُهُ ونُؤمِنُ بِهِ؟
13 فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا
تَشيرُ عِبارةُ "فَهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُلٍ" إلى إِبعادِ كُلِّ وَهمٍ حَولَ كَيفِيَّةِ صَيرُورَةِ النّاسِ أَبناءَ اللهِ. فَالإِشارَةُ هُنا تَنفي أَن تَكونَ بُنُوَّةُ اللهِ ناتِجَةً عَن طَريقِ الدَّمِ أَو مَشيئَةِ الجَسَدِ أَو مَشيئَةِ الرَّجُلِ، كَما زَعَمَ اليَهودُ بِأَنَّهُم ذُرِّيَّةُ إِبراهيمَ. ويَصعُبُ أَن نُمَيِّزَ بَينَ مَعنى "الدَّمِ"، و"رَغبَةِ لَحْمٍ"، و"رَغبَةِ رَجُلٍ". ولَعَلَّ هَذا وَصفٌ لِلوِلادَةِ الطَّبيعِيَّةِ، مُنذُ أَدنى دَرَجاتِ نَشوئِها إِلى أَعلَاها. أَمَّا عِبارةُ "دَمٍ" فتَشيرُ إِلى مَركَزِ الحَياةِ، كَما قالَ اللهُ تَعالى: "أَنَّ نَفْسَ الجَسَدِ هِيَ في الدَّمِ" (الأَحبَارِ 17: 11). وأَمَّا عِبارةُ "ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ" فتَشيرُ إِلى عَجزِ الإِنسانِ أَن يُصَيِّرَ نَفسَهُ اِبنًا للهِ. أَمَّا عِبارةُ "ولا مِن رَغبَةِ رَجُلٍ" فتَشيرُ إِلى بُطلانِ اِتِّكالِ الإِنسانِ على غَيرِهِ مِنَ النّاسِ لِيَنالَ بُنُوَّةَ اللهِ. فَالبُنُوَّةُ الإِلهِيَّةُ لا تَتَوَقَّفُ على اِتِّفاقِ الإِنسانِ مَعَ غَيرِهِ مِنَ النّاسِ، بَل هِيَ تَتَوَقَّفُ على نِعمَةِ اللهِ وَحدَهُ. أَمَّا عِبارةُ "مِنَ اللهِ وُلِدوا" فتَشيرُ إِلى نِعمَةٍ إِلهِيَّةٍ، الَّتي بِفَضلِها صِرنا أَبناءَ اللهِ، لِأَنَّنا وُلِدنا مِنَ اللهِ. كَما أَعلَنَ القِدِّيسُ بُطرُسُ الرَّسولُ: "فَإِنَّكُم وُلِدتُم وِلادَةً ثانِيَةً، لا مِن زَرعٍ فاسِدٍ، بَل مِن زَرعٍ غَيرِ فاسِدٍ، مِن كَلِمَةِ اللهِ الحَيَّةِ الباقِيَةِ" (1 بُطرُسَ 1: 23). وفي مَوضِعٍ آخَرَ يَقولُ يُوحَنَّا الإِنجيلِيُّ: "نَعلَمُ أَنَّ كُلَّ مَن وُلِدَ للهِ لا يُخطِئُ، وَلَكِنَّ المَولودَ للهِ يَحفَظُهُ فَلا يَمَسُّهُ الشِّرِّيرُ" (1 يُوحَنَّا 5: 18). والوِلادَةُ الرُّوحِيَّةُ هِيَ نِعمَةٌ إِلهِيَّةٌ بِقُوَّةِ اللهِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الدَّعوَةَ، وَالتَّجديدَ، وَالتَّقدِيسَ. وخُلاصَةُ القَولِ: لا تَدُلُّ الآيَةُ على وِلادَةٍ بَشَرِيَّةٍ، بَل على وِلادَةٍ رُوحِيَّةٍ.
14 والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ
تَشيرُ عِبارةُ "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً" إِلى مَولِدِ يَسوعَ العَجيبِ وعُبورِهِ التَّاريخِيِّ، الَّذي فيهِ صارَ الكَلِمَةُ الأَزَلِيُّ بَشَراً، مُتَّخِذًا جَسَدًا لِيَصيرَ الإِنسانُ ابنَ اللهِ، لِأَنَّ ابنَ اللهِ الوَحيدَ صارَ إِنسانًا. تجسّد الكلمة هو تعبير عن حب الله اللامحدود للبشرية، وهو أعظمُ حدثٍ في التاريخِ: أصبحَ اللهُ إنسانًا ليكونَ قريبًا منَّا، ليعيشَ بيننا ويُظهِرَ لنا محبتَه. فَمَن كانَ في العالَمِ بِالرُّوحِ خالِقًا (يُوحَنَّا 1: 3)، وحَياةً ونُورًا (يُوحَنَّا 1: 4-5)، أَخذَ طَريقًا جَديدًا لِإِعلانِ اللهِ بِإِضافَةِ الطَّبيعَةِ البَشَرِيَّةِ إِلى الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّةِ، وفي ذَلِكَ سِرُّ التَّجَسُّدِ. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينُوس: "إِنَّ كَلِمَةَ اللهِ جَعَلَ نَفسَهُ بَشَرًا لِكَي نَلمِسَهُ بِأَيدِينا. أَصبَحَ بَشَرًا مُنذُ أَن كانَ في أَحشاءِ العَذراءِ مَريمَ، ولَكِنَّهُ لَم يُصبِحْ عِندَئِذٍ الكَلِمَةَ، لِأَنَّهُ كانَ كَذَلِكَ "مُنذُ البَدءِ" (تَعليقٌ على رِسالَةِ يُوحَنَّا الأُولى 35 / 1978). لَم يَتَطَرَّقْ يُوحَنَّا الإِنجِيلِيُّ، مِن خِلالِ حَديثِهِ حَولَ ميلادِ المَسيحِ، إِلى الأَماكِنِ والأَشخاصِ، بَل تَكَلَّمَ عَن وِلادَتِهِ مُباشَرَةً دَلالَةً على وِلادَتِهِ مِنَ الآبِ قَبلَ الزَّمَنِ بِدونِ أُمٍّ، ووِلادَتِهِ مِن مَريمَ البَتولِ بِدونِ أَبٍ في الزَّمَنِ. أَمَّا عِبارةُ "بَشَراً"، في الأَصلِ اليونانِيِّ (σάρξ، مَعناها: بَشَر)، فَتَشيرُ إِلى الإِنسانِ الكامِلِ، المُكوَّنِ مِن لَحمٍ ودَمٍ، والمَوسومِ بِالضَّعفِ المُؤَدِّي إِلى المَوتِ. صارَ "الكَلِمَةُ" إِنسانًا كامِلًا (يُوحَنَّا 17: 2)، وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ جَسَدَ المَسيحِ كانَ جَسَدًا حَقيقِيًّا، لا صُورَةً. وهَذا يَتنافى مَعَ تَعليمِ البِدعَةِ الظّاهِرِيَّةِ، الَّتي تَجعَلُ مِنَ التَّجَسُّدِ مُجَرَّدَ مَظهَرٍ أَو هَيئَةٍ إِنسانيَّةٍ أُخذَت وَقتِيًّا، أَي أَنَّ "الكَلِمَةَ" تَظاهَرَ أَو تَرَاءى بِشَكلٍ بَشَرِيٍّ، ولَكِنَّهُ ما كانَ إِنسانًا، ولا ماتَ على الصَّليبِ (1 يُوحَنَّا 4: 2). ويَتَضَمَّنُ التَّجَسُّدُ أَيضًا أَنَّ لِلمَسيحِ نَفسًا بَشَرِيَّةً، وأَنَّ الرُّوحَ الإِلهِيَّ لَم يَحُلَّ مَحَلَّ الرُّوحِ الإِنسانيِّ، كَما ادَّعَى أَبُوليانُوس. وأَتى يَسوعُ لِيَكونَ "مُشابِهًا لِإِخوَتِهِ في كُلِّ شَيءٍ" (عِبرانيِّين 2: 17)، فَأَمكنَهُ أَن يَتَألَّمَ، ويُجرَّبَ، ويَتَعلَّمَ، ويَنمُوَ، ويُصَلِّي، ويَموتَ كَسائِرِ النّاسِ، وأَن يُسَمِّيَ نَفسَهُ "ابنَ الإِنْسانِ" (يُوحَنَّا 1: 52). تَجَسُّدُ "الكَلِمَةِ" في الواقِعِ البَشَرِيِّ حَدَثٌ يُشَكِّلُ السّاعَةَ الحاسِمَةَ في تَاريخِ الخَلاصِ. أَمَّا عِبارةُ "سَكَنَ"، في الأَصلِ اليونانِيِّ ἐσκήνωσεν، (مَعناها: نَصَبَ خَيمَتَهُ، وفي هَذا تَلميحٌ إِلى الهَيكَلِ)، فَتَشيرُ إِلى مَكانِ الحُضورِ الإِلهِيِّ وتَجلِّي مَجدِ اللهِ (خُروجُ 40: 34-35). والخَيمَةُ تُرمِزُ إِلى مَجدِ اللهِ في وَسطِ شَعبِهِ. وكَما سَكَنَ اللهُ رُوحيًّا خَيمَةَ الاِجتِماعِ في وَسطِ بَني إِسرائيلَ في البَرِّيَّةِ نَحوَ أَربعينَ سَنَةً (أَعمالُ الرُّسُلِ 7: 38)، كَذَلِكَ سَكَنَ يَسوعُ الأَرضَ نَحوَ ثَلاثٍ وَثَلاثينَ سَنَةً. أَمَّا عِبارةُ "بَينَنا" فَتَشيرُ إِلى النّاسِ عامَّةً (يُوحَنَّا 1: 5)، وإِلى التَّلاميذِ خاصَّةً، كَما شَهِدَ عَلى ذَلِكَ تِلميذُهُ الحَبيبُ يُوحَنَّا الرَّسولُ: "ذاكَ الَّذي كانَ مُنذُ البَدءِ، ذاكَ الَّذي سَمِعناهُ، ذاكَ الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا، ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناهُ ولَمَسَتْهُ أَيدِينا مِن كَلِمَةِ الحَياةِ" (1 يُوحَنَّا 1: 1). أَمَّا عِبارةُ "مَجدَهُ" فتَشيرُ في العَهدِ القَديمِ إِلى ما يُكشِفُهُ اللهُ لِلنّاسِ. وَهُوَ تارةً يَظهَرُ كَبَهاءِ نَيِّرٍ يُلازِمُ ما هُوَ مُقدَّسٌ، وَتارةً كَأَحداثٍ تُظهِرُ قُدرَةَ اللهِ. أَمَّا في العَهدِ الجَديدِ، فَإِنَّ أَعمالَ المَسيحِ ومُعجِزاتِهِ، وخاصَّةً حَدَثَ الفِصحِ (يُوحَنَّا 13: 31)، تُكشِفُ مَجدَهُ (يُوحَنَّا 2: 11). أَمَّا عِبارةُ "فَرأَينا مَجدَهُ" فتَشيرُ إِلى الشُّهودِ الأَصلِيِّينَ الَّذينَ عايَنوا مَجدَ اللهِ. كَما أَظهَرَ اللهُ مَجدَهُ في العَهدِ القَديمِ بِسَحابَةِ نُورٍ في خَيمَةِ الاِجتِماعِ وفي الهَيكَلِ وبِالرُّؤى (أِشَعيا 6: 1)، كَذلِكَ أَظهَرَ المَسيحُ مَجدَهُ بِمُعجِزاتِهِ (يُوحَنَّا 2: 11، 11: 4)، وبِتَجَلِّيهِ أَمامَ رُسُلِهِ الثَّلاثَةِ: يُوحَنَّا وبُطرُسَ ويَعقُوبَ، وبِصُعودِهِ أَمامَ كُلِّ الرُّسُلِ، وبِقَداسَةِ سيرَتِهِ، وصَلاحِهِ، وتَعليمِهِ، واحتمالِهِ الآلامَ مِن أَجلِ البَشَرِ. رُؤيَةُ الرُّسُلِ مَجدَ يَسوعَ، خاصَّةً في يَومِ التَّجَلِّي، هِيَ بُرهانٌ أَنَّهُ ابنُ اللهِ، ولَيسَ مُجَرَّدَ ابنِ الإِنسانِ. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَفرامُ السُّريانيّ قائِلًا: "أَنتَ ابنُ اللهِ وابنُ الإِنسانِ أَيضًا (مَرقُس 1: 1-8)، وابنُ يُوسُفَ (لوقا 3: 23)، وابنُ داوُدَ (لوقا 20: 41)، وابنُ مَريَمَ (مَرقُس 6: 3)." أَمَّا عِبارةُ "لِابنٍ وَحيدٍ" فتَشيرُ إِلى لَقبٍ يَدُلُّ على الطّابِعِ الفَريدِ لِبُنُوَّةِ المَسيحِ، ابنِ اللهِ، لِأَنَّهُ لَهُ الشَّبَهُ التَّامُّ بَينَهُ وبَينَ اللهِ، وهُوَ مُساوٍ للهِ في المَجدِ والإِكرامِ والجَوْهر. وَلِأَنَّهُ هُوَ إِعلانُ المَحبَّةِ (الرُّوحُ القُدُسُ) بَينَ الأَقنُومِ الأَوَّلِ (الآبِ) والأَقنُومِ الثَّانِي (الابنِ). هُوَ الابنُ الوَحيدُ لِلهِ، تَمييزًا عَن أَبناءِ اللهِ الَّذينَ نالوا وِلادَتَهُم مِنَ اللهِ بِواسِطَةِ إِيمانِهِم بِالمَسيحِ (يُوحَنَّا 1: 12-13). وهَذِهِ البُنُوَّةُ تُؤَهِّلُ الابنَ لِلاِشتِراكِ في "النِّعمَةِ والحَقِّ". أَمَّا عِبارةُ "النِّعمَةُ والحَقُّ" فَتَشيرُ إِلى صِفاتِ اللهِ المُميَّزَةِ عَن كُلِّ خَليقَتِهِ، كَما شَهِدَ على ذَلِكَ مُوسَى النَّبِيُّ: "ومَرَّ الرَّبُّ قُدَّامَهُ، فَنادى: الرَّبُّ الرَّبُّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوفٌ، طَويلُ الأَناةِ، كَثيرُ الرَّحمَةِ والوَفاءِ" (خُروجُ 34: 6). المَسيحُ، بِاعتِبارِهِ كَلِمَةَ اللهِ، أَعلَنَ هَذَينِ الصِّفَتَينِ لِلنّاسِ. فَالنِّعمَةُ تَمنَحُ الحَياةَ، والنُّورُ يَهدِي إِلى الحَقِّ. ولَم يُعلِنْ مَجدَ الابنِ في الجَلالِ والقُوَّةِ (هُما مَفهُومَا المَجدِ في العَهدِ القَديمِ) فَحَسب، بَل أَيضًا في النِّعمَةِ والحَقِّ. أَمَّا عِبارةُ "النِّعمَةُ" فَتَشيرُ إِلى كَرَمِ اللهِ وصَلاحِهِ، الَّذي يَهَبُ عَطاياهُ بِسَخاءِ لا حَدَّ لَهُ (خُروجُ 34: 6). وتَظهَرُ مَحبَّةُ اللهِ للخطأة بِالنِّعمَةِ، إِذ أَنَّ نِعمَةَ اللهِ تُخَلِّصُهُم مِنَ الخَطيئَةِ بِدونِ أَن يَستَحِقُّوا ذَلِكَ (1 طِيموتاوُس 1: 2). لِذَلِكَ، يُسمَّى الإِنجِيلُ: "بِشارَةُ نِعمَةِ اللهِ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 20: 24). وكانَ بولُسُ لرَّسولُ يَبدَأُ رِسالاتِهِ بِذِكرِ نِعمَةِ اللهِ (1 قورنتس 1: 3). أَتى المَسيحُ بِبِشارَةِ النِّعمَةِ، لِيُظهِرَ المَحبَّةَ الإِلهِيَّةَ للخطأة، وَلِيَغفِرَ خَطاياهم ويُخلِّصَ نُفوسَهُم. أَمَّا عِبارةُ "الحَقُّ" فَتَشيرُ إِلى يَسوعَ الَّذي هُوَ الحَقُّ (يُوحَنَّا 14: 6). الحَقُّ هُوَ الوَسيلَةُ الَّتي يَتَّخِذُها رُوحُ اللهِ لِلوِلادَةِ الجَديدَةِ. وأَتى يَسوعُ بِإِعلانِ حَقِّ اللهِ الرُّوحِيِّ، غَيرِ المُحجُوبِ بِرُموزٍ وإِشارَاتٍ وظِلالِ العَهدِ القَديمِ. وَلَفظَةُ الحَقِّ تَتَكَرَّرُ في إِنجِيلِ يُوحَنَّا (25) مَرَّةً، دَلالَةً على أَهمِّيَّتِها.
15 شَهِدَ له يوحَنَّا فهَتف: ((هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي
تَشيرُ عِبارةُ "شَهِدَ لهُ يُوحَنَّا" إِلى شَهادَةِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ، إِثباتًا لِما وَرَدَ في الآيَةِ السّابِقَةِ: "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فَسَكَنَ بَينَنا، فَرَأَينا مَجدَهُ، مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيدٍ مِلؤُهُ النِّعمَةُ والحَقُّ" (يُوحَنَّا 1: 14). ويُوحَنَّا المَعمَدانُ هُوَ واحِدٌ مِمَّن رَأَوا ذَلِكَ المَجدَ، وشَهِدوا لِلنُّورِ. أَمَّا عِبارةُ "هَذا الَّذي قُلتُ فيهِ" فَتَشيرُ إِلى قَولِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ عَنِ المَسيحِ قَبلَما شاهَدَهُ وعَرَفَهُ، كَما صَرَّحَ: "وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُهُ، ولَكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ، هُوَ قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هُوَ ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُسِ" (يُوحَنَّا 1: 33). وكانَ يُوحَنَّا يومَئِذٍ يَكرِزُ في البَرِّيَّةِ (مَتَّى 3: 11-13). أَمَّا عِبارةُ "إِنَّ الآتِيَ بَعدي" فَتَشيرُ إِلى يُوحَنَّا المَعمَدانِ الَّذي سَبَقَ يَسوعَ في أَمرَينِ: الوِلادَةِ والشُّروعِ في الخِدمَةِ. أَمَّا عِبارةُ "قَد تَقَدَّمَني" فَتَشيرُ إِلى أَنَّ المَسيحَ كانَ قَبلَ المَعمَدانِ في ثَلاثَةِ أُمُورٍ: كَونِهِ مُنذُ الأَزَلِ، وكَونِهِ في العالَمِ بِرُوحِهِ زَمَنَ العَهدِ القَديمِ، كَما وَرَدَ في الكِتابِ المُقَدَّسِ: "قالَ أَشَعْيا هَذا الكَلامَ لِأَنَّهُ رَأَى مَجدَهُ وتَكَلَّمَ في شَأنِهِ" (يُوحَنَّا 12: 41)، وكَونِ المَسيحِ أَعظَمَ مِنهُ، كَما أَنَّ المَلِكَ أَعظَمُ مِن سابِقِهِ. أَمَّا عِبارةُ "قَبْلي"، في الأَصلِ اليونانِيِّ πρῶτος، (مَعناها: قَبْلي في الزَّمانِ والمَكانِ)، فَتَشيرُ إِلى يَسوعَ، الَّذي بِالرُّغمِ مِن مَجيئِهِ بَعدَ يُوحَنَّا المَعمَدانِ في التَّاريخِ، إِلَّا أَنَّهُ يَفوقُهُ في أَصلِهِ الإِلهِيِّ، ورِسالَتِهِ، وفي الوُجودِ والكَرامَةِ. المَسيحُ هُوَ قَبلَ يُوحَنَّا في الوُجودِ، لِأَنَّهُ "الكَلِمَةُ"، المَولودُ قَبلَ الزَّمَنِ.
16 فمِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة
تَشيرُ عِبارةُ "فَمِن مِلْئِهِ نِلْنا بِأَجمَعِنا" إِلى كَلامِ يُوحَنَّا الرَّسولِ، وَهُوَ يُتابِعُ قَولَهُ في الآيَةِ السَّابِقَةِ: "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فَسَكَنَ بَينَنا، فَرَأَينا مَجدَهُ، مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيدٍ مِلؤُهُ النِّعمَةُ والحَقُّ" (يُوحَنَّا 1: 14). فالنِّعمةُ والحقُّ يدُلَّانِ على الخلاصِ الذي يتجلَّى في حياةٍ حقيقيَّةٍ. الخلاصُ هو أنَّ اللهَ لم يحتفِظْ لنفسِه بحياتِه ونِعَمِه، بل اتَّحدَ بها مع إنسانيَّتِنا. وقَولُهُ "نِلْنا" يَتَضَمَّنُ نَفسَهُ وسائِرَ المُؤمِنينَ. أَمَّا عِبارةُ "نِعمَةً على نِعمَةٍ" فَتَشيرُ إِلى شَهادَةِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ، الَّتي تُؤَدِّي إِلى مَعرِفَةِ الكَلِمَةِ المُتَجَسِّدِ. وَهَذِهِ المَعرِفَةُ تَجعَلُ المُؤمِنينَ يُشارِكونَ في مِلءِ الخَيراتِ الرُّوحِيَّةِ "نِعمَةً على نِعمَةٍ"، وَفْقًا لِقَولِهِ تَعالى: "مَن كانَ لَهُ شَيءٌ، يُعْطى فيَفيضُ" (مَتَّى 13: 12). وكَما أَنَّ بَني إِسرائيلَ كانوا يَجمَعونَ ما يَحتاجونَ إِلَيهِ مِنَ المَنِّ يَوماً فيَوماً (خُروجُ 16: 1-36)، كَذَلِكَ المُؤمِنونَ يَأخُذونَ مِن نِعمَةِ المَسيحِ ما يَحتاجونَ لِنُفوسِهِم يَوماً فيَوماً. يَفتَحُ المُؤمِنونَ قُلوبَهُم يَوماً بَعدَ يَومٍ لِقَبولِ عَطيَّةِ اللهِ الَّتي لا حَدَّ لَها. فَكُلُّ بَرَكَةٍ هِيَ مَرحَلَةٌ لِبَرَكَةٍ أَعظَمَ، وَكُلُّ نِعمَةٍ نَنالُها بِإِيمانٍ تَصحَبُها نِعمَةٌ أَكبَرُ.
17 لأَنَّ الشَّريعَةَ أُعطِيَت عن يَدِ موسى وأمَّا النِّعمَةُ والحَقّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يسوعَ المسيح
تَشيرُ عِبارةُ "الشَّريعَةَ أُعطِيَتْ عن يَدِ موسى" إِلى النَّاموسِ بِقِسمَيهِ الأَدَبِيِّ والطَّقسِيِّ، الَّذي أُعطِيَ عن يَدِ موسى كَخادِمٍ، كَما وَرَدَ في رِسالَةِ العِبرانيِّين: "كانَ موسى مُؤتَمَناً في بَيتِهِ أَجمَعَ لِكَونِهِ قَيِّماً يَشهَدُ على ما سَوفَ يُقالُ" (عِبرانيِّين 3: 5). وهَذِهِ الشَّريعَةُ هِيَ إِعلانٌ للهِ اِستِعدادًا لِإِعلانٍ آخَرَ أَسمى وأَكمَلَ لِلنِّعمَةِ والحَقِّ، الَّذينَ أَتَيا عن يَدِ يَسوعَ المَسيحِ. تَقضِي شَريعَةُ موسى بِالعَدلِ، وتَتَطَلَّبُ مِنَ الإِنسانِ الطَّاعَةَ، ولَكِنَّها لا تَستَطيعُ أَن تُعطِيَ الحَياةَ كَما تَفعَلُ شَريعَةُ يَسوعَ المَسيحِ. أَمَّا عِبارةُ "الشَّريعَةَ"، في الأَصلِ اليونانِيِّ (νόμος)، فَهِيَ مُشتَقَّةٌ مِنَ العِبرِيَّةِ (תּוֹרָה، مَعناها: النَّاموسُ)، وتَشيرُ إِلى "شَريعَةِ موسى"، أَو أَسفارِ الشَّريعَةِ الخَمسَةِ، الَّتي تَشمُلُ مَجمَلَ الفَرائِضِ الَّتي يُقِرُّ بِها إِسرائيلُ. والوَصايا العَشرُ (خُروجُ 20: 2-17)، وشرعةُ العَهدِ (خُروجُ 20: 19-23: 19)، وشَريعَةُ القَداسَةِ (الأَحبَارُ 19-26)، والشَّرائِعُ الكَهَنُوتِيَّةُ، وَالنُّصوصُ القانُونِيَّةُ والطَّقسِيَّةُ. أَمَّا عِبارةُ "موسى" فَتَشيرُ إِلى قائِدِ الأُمَّةِ العِبرانِيَّةِ. اِسمُهُ بِالمِصريَّةِ الفَرعُونِيَّةِ مَعناهُ "وَلَدَ"، وبِالعِبرِيَّةِ (מֹשֶׁה) مَعناهُ: "مُنْتَشَلٌ مِنَ الماءِ" (خُروجُ 2: 10). وُلدَ موسى في الوَقتِ الَّذي كانَ فِرعَونُ قَد أَمَرَ بِقَتلِ صِبيانِ العِبرانِيِّينَ. كَانَ أَصغَرَ أَولادِ أَبِيهِ، وأَخا لِمَريَمَ وهارُونَ. رَبَّتهُ اِبنَةُ فِرعَونَ، وأُعِدَّ بِتَعليمٍ مُتَقدِّمٍ في الفُنُونِ المِصريَّةِ التَّعليمِيَّةِ والدِّينِيَّةِ. وعِندَما بَلَغَ أَربَعِينَ سَنَةً، هَرَبَ إِلى البَرِّيَّةِ بِإِرادَةِ إِلهِيَّةٍ، تارِكًا كُلَّ رَفاهِيَةِ البَلاطِ المَلَكِيِّ. وأَمَّرَهُ اللهُ بِأَن يَذهَبَ إِلى مِصرَ، لِيَكونَ قائِداً لِشَعبِهِ، ويُخرِجَهُم مِن هُناكَ، حيثُ قَضى أَربَعِينَ سَنَةً. أَمَّا عِبارةُ "أَمَّا النِّعمَةُ والحَقُّ فقَد أَتَيا عن يَدِ يَسوعَ المَسيحِ"، فَتَشيرُ إِلى الرَّحمَةِ الَّتي تَتَطَلَّبُ مِنَ الإِنسانِ المَحَبَّةَ، وتُعطِي الحَياةَ. وما النِّعمَةُ والحَقُّ إِلَّا اللهُ، الَّذي وَهَبَ ذاتَهُ في شَخصِ الكَلِمَةِ المُتَجَسِّدِ ليقدّم لنا الحياة الجَديدة. المَسيحُ أَظهَرَ نِعمَةَ اللهِ بِإِعلانِهِ طَريقَ الخَلاصِ، ومَغفِرَةَ الخَطايا، وموتهِ على الصَّليبِ، وبِمَنحِهِ الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ. وهَكَذا، كانَ يَسوعُ المَسيحُ أَتمَّ كُلَّ رُموزِ العَهدِ القَديمِ. قَد شَدَّدَ البَعضُ في القَرنِ السّادِسِ عَشَرَ على "النِّعمَةِ" وكَأَنَّها تُعفِينا مِنَ الأَعمالِ الصّالِحَةِ، مَعَ أَنَّ الرَّسولَ يُوحَنَّا الحَبيبَ قالَ: "إِذا قُلْنا: إِنَّنا بِلا خَطيئَةٍ، ضَلَّلْنا أَنفُسَنا وَلَم يَكُنِ الحَقُّ فينا" (1 يُوحَنَّا 1: 6). فَالنِّعمَةُ هِيَ الاِتِّحادُ بِاللهِ، وَالحَقُّ هُوَ مَعرِفَةُ اللهِ. فَلا مَعرِفَةَ دُونَ حَقٍّ، ولا حَقَّ دُونَ نِعمَةٍ. النِّعمَةُ وَالحَقُّ هُما الإِنجِيلُ الَّذي أَتى بِهِ المَسيحُ كَابنٍ، كَما جاءَ في رِسالَةِ العِبرانيِّين: "أَمَّا المَسيحُ فَهُوَ مُؤتَمَنٌ على بَيتِهِ لِكَونِهِ ابنًا، وَنَحنُ بَيتُهُ، إِنِ احتَفَظْنا بِالثِّقَةِ وَفَخرِ الرَّجاءِ" (عِبرانيِّين 3: 6).وَهَكَذا يَتَضِحُ فَضلُ الإِنجِيلِ على الشَّريعَةِ، كَما قالَ بولُسُ الرَّسولُ: "إِذا كانَت خِدمَةُ المَوتِ المَنقوشَةُ حُروفُها في حِجارَةٍ قَد أُعطِيَت بِالمَجدِ، حَتَّى إِنَّ بَني إِسرائيلَ لَم يَستَطيعوا أَن يُحَدِّقوا إِلى وَجهِ موسى لِمَجدِ وَجهِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَجدٌ زائِلٌ، فَكَيفَ بِالأَحْرى لا تُعطى خِدمَةُ الرُّوحِ بِالمَجدِ؟ فَإِذا كانَت خِدمَةُ الحُكمِ على النَّاسِ مَجِيدَةً، فَما أَولى خِدمَةَ البِرِّ بِأَن تَفيضَ مَجْداً" (2 قورنتس 7-9). فَيَسوعُ لَم يُلغِ الشَّريعَةَ، بَل عَمَّقَها مِنَ الخَارِجِ إِلى الدّاخِلِ، مِن حَيثُ الفِكرِ وَالنَّظْرَةِ وَالنِّيَّةِ، لِأَنَّ الرَّبَّ يَسوعَ هُوَ الكَلِمَةُ وَهُوَ المُشَرِّعُ في البِدايَةِ وَفي الكَمالِ الإِنجِيلِيِّ. أَمَّا عِبارةُ "يَسوعَ المَسيحِ" فَتَشيرُ إِلى أَوَّلِ لَقَبٍ في إِنجِيلِ يُوحَنَّا لِـ"الكَلِمَةِ". "يَسوعَ" (יֵשׁוּעַ): مَعناهُ المُخَلِّصُ. و"المَسيحَ" (הַמָּשִׁיח): مَعناهُ المَمْسوحُ مِنَ اللهِ لِإِجراءِ عَمَلِ الفِداءِ. تَشرَحُ الآيَةُ الفَرقَ بَينَ شَريعَةِ موسى وَنِعمَةِ يَسوعَ. وكانَ موسى رَمزاً لِلمَسيحِ، فَإِنَّهُ أَبى أَن يُدعَى اِبنَ اِبنَةِ فِرعَونَ، لِأَنَّهُ لا يُمكِنُهُ أَن يَكونَ كَذَلِكَ مَعَ حِفظِ دِيَانَتِهِ. كَما أَبى المَسيحُ أَن يَقبَلَ مَمالِكَ العالَمِ، لِأَنَّهُ لَم يُمكِنْهُ قَبولُها بِدونِ الإِذعانِ لِمَطالِبِ الشَّيطانِ، سَيِّدِ هَذا العالَمِ (2 قورنتس 4: 4). وكانَ موسى مُحرِّراً لِشَعبِهِ، كَما أَنَّ المَسيحَ يُحرِّرُ تابِعِيهِ مِن عُبودِيَّةِ الخَطيئَةِ. وَأَنشَأَ موسى نامُوسَ الوَصايا الجَسَدِيَّةِ، أَمَّا يَسوعُ فَقَد وَهَبَ نامُوسَ الحَياةِ الرُّوحِيَّةِ. وكانَ موسى نَبِيًّا، أَمَّا يَسوعُ فَهُوَ نَبِيٌّ أَعظَمُ مِنهُ. وَكانَ موسى وَسيطاً بَينَ اللهِ وَشَعبِ بَني إِسرائيلَ، أَمَّا المَسيحُ فَهُوَ الوَسيطُ بَينَ اللهِ وَالنَّاسِ. وَالَّذينَ يَتَغَلَّبونَ عَلى الوَحشِ وَصُورتِهِ، يُرتِّلونَ تَرنيمَةَ موسى وَالحَمَلِ (رُؤيَةُ 15: 3). غايَةُ الشَّريعَةِ بَيانُ ما يَجِبُ عَلى الإِنسانِ عَمَلُهُ. وَغايَةُ النِّعمَةِ وَالحَقِّ بَيانُ ما أَرادَ اللهُ أَن يَعمَلَهُ مِن أَجلِنا.
18 إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه
تَشيرُ عِبارةُ "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحَدٌ قَطّ"، في الأَصلِ اليونانِيِّ θεὸν οὐδεὶς ἑώρακεν πώποτε، (مَعناها الحَرفِيَّةُ: لا أَحَدَ رَأَى إِلَهًا قَطّ)، إِلى الإِنسانِ الَّذي هُوَ عاجِزٌ عَنِ الوُصولِ بِنَفسِهِ إِلى مَعرِفَةِ اللهِ مُباشَرَةً. الإِنسانُ لا يَرى اللهَ، ولا يَقدِرُ أَن يَراهُ مَهما فَعَلَ، كَما قالَ موسى لِشَعبِهِ: "كَلَمَكُمُ الرَّبُّ مِن وَسَطِ النَّارِ، فَكُنتُم تَسمَعونَ صَوتَ الكَلامِ ولَم تَرَوا صُورَةً، بَل كانَ هُناكَ صَوتٌ فَقَط" (تَثنِيَةُ الاشتِراعِ 4: 12). إِنَّما يَستَطيعُ الإِنسانُ فَقَط أَن يَطمَحَ إِلى ذَلِكَ، كَما جاءَ في طَلَبِ فِيلِبُّسَ لِيَسوعَ: "يا رَبُّ، أَرِنا الآبَ وحَسبُنا" (يُوحَنَّا 14: 8). فَلا أَحَدَ مِنَ النّاسِ ولا مِنَ المَلائِكَةِ عَرَفَ اللهَ حَقَّ المَعرِفَةِ لِيَستَطيعَ أَن يُعلِنَ صِفاتِهِ بِلا خَطَأٍ، لِأَنَّ رُؤيَةَ اللهِ ضَرُورِيَّةٌ لِكَمالِ المَعرِفَةِ. فموسى لَم يَرَ اللهَ (خُروجُ 33: 20)، كَذلِكَ إِبراهيمُ وَالأَنبِياءُ، وَلِذَلِكَ لا يَستَطيعُونَ أَن يُعلِنوا إِلَّا ما أُعلِنَ لَهُم بِوَحيٍ أَو بِرُؤيَا: "إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً بِوُجوهٍ كَثِيرَةٍ" (عِبرانيِّين 1: 1). أَمَّا عِبارةُ "الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآبِ" فَتَشيرُ إِلى يَسوعَ الابنِ الوَحيدِ، الَّذي وَحدَهُ قادِرٌ أَن يُعلِنَ اللهَ، لِأَنَّهُ "كَلِمَةُ اللهِ"، وكانَ عِندَ اللهِ مُنذُ الأَزَلِ. يَعرِفُ أَفكارَ اللهِ ومَقاصِدَهُ، ويَعرِفُ ذَلِكَ مِن تَلقاءِ نَفسِهِ، وهذا يَجعَلُهُ أَهلاً لِإِعلانِ الآبِ عَلى حَقِيقَتِهِ، كَما صَرَّحَ يَسوعُ لِنِيقوديمُسَ: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ: إِنَّنا نَتَكَلَّمُ بِما نَعلَم، ونَشهَدُ بِما رَأَينا" (يُوحَنَّا 3: 11). فَالمَسيحُ يُشارِكُ الآبَ الطَّبيعَةَ الإِلهِيَّةَ، وهو وَحدَهُ قادِرٌ أَن يَقُودَ البَشَرَ إِلى مَعرِفَةِ الآبِ والاِتِّحادِ بِهِ. وقد أَوحى يَسوعُ بِاللهِ الآبِ، وعَبَّرَ عَنهُ بِحَياتِهِ، وبِأَعمالِهِ، وَتَعليمِهِ. أَمَّا عِبارةُ "في حِضْنِ الآبِ" فَتَشيرُ إِلى عَلاقَةِ الابنِ بِالآبِ، والاِتِّحادِ بِهِ، وَالمُشارَكَةِ في عَواطِفِهِ، وَمَعرِفَةِ أَفكارِهِ، وسَعادَتِهِ، وراحَتِهِ. فَالمَسيحُ، مَعَ أَنَّهُ كانَ بِناسُوتِهِ عَلى الأَرضِ، كانَ بِلاهُوتِهِ في حِضْنِ الآبِ، كَما هُوَ مُنذُ الأَزَلِ وإِلى الأَبَدِ. أَمَّا عِبارةُ "أَخبَرَ عَنهُ" فَتَشيرُ إِلى يسوعُ الذي هو التَّعبيرُ الكاملُ عن الآبِ، الوحيدُ القادرُ على أن يُعلِنَ لنا عن اللهِ، لأنَّه اللهُ نفسُه الذي أخذَ جسدًا ليكونَ بيننا. يسوع يَكْشف عن الله، لأنَّه هُوَ الكَلمَة، النُّورُ، الشَّهادَةُ، الحقُّ، وهو الرَّبُّ (يُوحَنَّا 1: 18)، ولِأَنَّهُ يَسكُنُ بَينَنا، وَلِأَنَّهُ أَخذَ جَسدَنا (يُوحَنَّا 1: 14)، وَتَجتَمِعُ فيهِ حَياةُ الرَّبِّ وَحَياةُ البَشَرِ في حَياةٍ واحِدَةٍ. ولِأَنَّ المَسيحَ أَعظَمُ مِن يُوحَنَّا المَعمَدانِ بِأَزَلِيَّتِهِ وَأَفضَلِيَّةِ تَعليمِهِ، وهو أَيضًا أَعظَمُ مِن موسى والأَنبِياءِ، يَتَوجَّبُ عَلَينا أَن نَتَّخِذَهُ مُعلِّماً وَنَبِيًّا، ونَتَأَمَّلَ في كَلامِهِ، وَنَسأَلَهُ الإِرشادَ، لِأَنَّهُ كَما وَصَفَهُ أِشَعيا: "عَجيباً مُشيراً، إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَدِ، رَئيسَ السَّلامِ" (أِشَعيا 9: 5).
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 1: 1-18)
بَعدَ دِراسَةٍ مُوجَزَةٍ عَن وُقائِعِ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ وَتَحليلِهِ (يُوحَنَّا 1: 1-18)، نَستَنتِجُ أَنَّهُ يَتَمحورُ حَولَ المَسيحِ "كَلِمَةِ" اللهِ، الكائِنِ الأَزَلِيِّ الَّذي صارَ بَشَراً، لِيَجعَلَ مِنَ البَشَرِ أَبناءَ اللهِ. وَهُوَ يَعمَلُ في الخَليقَةِ كَما في التّارِيخِ البَشَرِيِّ. وَمِن هُنا، فَإِنَّنا نَبحَثُ عَلاقَةَ الكَلِمَةِ بِالوُجودِ، وَبِالخَلقِ، وَبِالتَّارِيخِ، وَبِالتَّجَسُّدِ.
أَوَّلاً: الكَلِمَةُ وَالوُجُودُ (يُوحَنَّا 1: 1-2)
في بِدءِ سِفْرِ التَّكوينِ نَحنُ أَمامَ عَمَلِ اللهِ في الخَلْقِ: "في البَدءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ وَالأَرضَ" (التَّكوينُ 1: 1). أَمَّا في مُقدِّمَةِ إِنجِيلِ يُوحَنَّا، فَنَحنُ أَمامَ "الكَلِمَةِ" الَّذي كانَ مَوجوداً مِنَ الأَزَلِ، قَبلَ الخَلْقِ: "في البَدءِ كانَ الكَلِمَةُ" (يُوحَنَّا 1: 1). وَهَذا ما أَشارَ إِليهِ سِفْرُ الأَمثالِ: "مُنذُ الأَزَلِ أُقِمتُ، مِنَ الأَوَّلِ، مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرضُ" (الأَمثالُ 8: 23). فَالكَلِمَةُ كائِنٌ غَيرُ مَخلوقٍ، وَهُوَ أَزَلِيٌّ، وَوُجودُهُ غَيرُ مُرتَبِطٍ بِالزَّمَنِ، بِصِفَتِهِ: "كانَ لَدى اللهِ"، وَهُوَ مُرتَبِطٌ اِرتِباطًا وَثِيقًا بِاللهِ.
ثانياً: الكَلِمَةُ وَالخَلْقُ (يُوحَنَّا 1: 3-5)
المَصدَرُ الأَساسِيُّ لِلخَلْقِ هُوَ الآبُ، ولَم يَشْتَرِكِ "الكَلِمَةُ" في عَمَلِيَّةِ الخَلْقِ كَعَامِلٍ وَسِيطٍ. فَالخَلْقُ هُوَ أَوَّلُ عَمَلٍ، وَأَوَّلُ تَعبِيرٍ لِلهِ خَارِجاً عَن ذَاتِهِ. أَمَّا "الكَلِمَةُ"، فَهُوَ أَداةُ عَمَلِ الخَلْقِ، لِأَنَّهُ: "بِهِ كانَ كُلُّ شَيءٍ" (يُوحَنَّا 1: 3أ)، بِمَعنى أَنَّهُ: "بِهِ أَنشَأَ العالَمِين" (عِبرانيِّين 1: 2). كُلُّ الخَلِيقَةِ تَقُومُ بِهِ، وتَستَمِدُّ مِنهُ الحَياةَ، كَما يَقُولُ بولُسُ الرَّسُولُ: "فَفِيهِ خُلِقَ كُلُّ شَيءٍ مِمَّا في السَّمَواتِ وَمِمَّا في الأَرضِ، ما يُرَى وَما لا يُرَى" (قُولُسِّي 1: 16). "وبِدونِهِ ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كانَ" (يُوحَنَّا 1: 3ب) ، أَي إِنَّهُ لَن نَحصُلَ عَلى شَيءٍ خَارِجاً عَنِ المَسِيحِ.
إِنَّهُ مَصدَرُ الوُجُودِ وَنَبعُ الحَياةِ. ونَبعُ الحَياةِ هُوَ بِالضَّرُورَةِ نَبعُ النُّورِ. فَيَسُوعُ هُوَ خَالِقُ الحَياةِ، وحَياتُهُ تَمنَحُ النُّورَ لِلبَشَرِيَّةِ. فَهُوَ يُنِيرُ الطَّرِيقَ أَمَامَنا، لِنَتَمَكَّنَ مِن نَرَى كَيفَ نَحيا. وفي نُورِهِ نَرَى أَنفُسَنا عَلى حَقِيقَتِها كَما هِيَ. فَنَحنُ خطأة بِحَاجَةٍ إِلى مُخَلِّصٍ. نُورُ المَسِيحِ فِي نِزَاعٍ مَعَ الظُّلُمَةِ الرُّوحِيَّةِ، النَّاشِئَةِ عَن عِصيانِ الإِنسانِ وَجَهلِهِ. فَلنَتَذَكَّر أَنَّ اللهَ خَلَقَنا، فَبِدُونِهِ وَبَعِيداً عَنهُ، لا نَستَطِيعُ أَن نُتَمِّمَ المُخطَّطَ الَّذي وَضَعَهُ مِن أَجلِنا، كَما صَرَّحَ يَسُوعُ: "أَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطِيعُونَ أَن تَعمَلُوا شَيئاً" (يُوحَنَّا 15: 5).
ثالثاً: الكَلِمَةُ وَالتَّارِيخُ (يُوحَنَّا 1: 6-13)
بَعدَ أَن وَصَفَ يُوحَنَّا الإِنجِيلِيُّ "الكَلِمَةَ" بِأَنَّهُ كائِنٌ أَزَلِيٌّ وَبِهِ خُلِقَ العَالَمُ، يَصِفُهُ الآنَ في عَلاقَتِهِ بِالتَّارِيخِ، مُشِيراً إِلى يُوحَنَّا المَعمَدانِ الَّذي بَشَّرَ بِمَجِيئِهِ وَجَاءَ لِيَشهَدَ لِنُورِهِ. وَبِشَهادَتِهِ قادَ النَّاسَ إِلى إِيمانٍ حَيٍّ فِي الشَّخصِ الآتِي إِلى العَالَمِ (يُوحَنَّا 1: 6-9)، مُؤَكِّداً أُولَوِيَّةَ "الكَلِمَةِ" وَالخُضُوعَ لَهُ.
أَعلَنَ "الكَلِمَةُ" المُتَجَسِّدُ نَفسَهُ تَارِيخِيّاً إِلى شَعبِهِ إِسرائيلَ، وَلَكِنَّهُم لَم يَقبَلُوهُ (يُوحَنَّا 1: 10)، وَإِلى خاصَّتِهِ جاءَ، وَأَبَتْ خاصَّتُهُ أَن تُرَحِّبَ بِهِ (يُوحَنَّا 1: 12). مَعَ أَنَّ المَسِيحَ خَالِقُ العَالَمِ، لَم يَعرِفْهُ النَّاسُ الَّذِينَ خَلَقَهُم (يُوحَنَّا 1: 10)، بَل رَفَضَهُ النَّاسُ الَّذِينَ اختَارَهُمُ اللهُ لِيُهَيِّئُوا بَقِيَّةَ العَالَمِ لِمَجِيئِهِ (يُوحَنَّا 1: 11)، بِالرَّغْمِ مِن أَنَّ العَهدَ القَدِيمَ بِأَكمَلِهِ كَانَ يُشِيرُ إِلى مَجِيئِهِ. وَهُنَا تَظهَرُ مَأساةُ الرَّفضِ.
أَمَّا الَّذِينَ قَبِلُوا يَسُوعَ المَسِيحَ رَبّاً وَمُخَلِّصاً، فَقَد وُلِدُوا ثَانِيَةً وِلادَةً رُوحِيَّةً، وَأَصبَحُوا أَبناءَ اللهِ، لا عَن طَرِيقِ الوِلادَةِ الجَسَدِيَّةِ، بَل عَن طَرِيقِ الوِلادَةِ الرُّوحِيَّةِ الجَدِيدَةِ مِنَ اللهِ. إِنَّ هَذِهِ البِدايَةَ الجَدِيدَةَ فِي الحَياةِ مُتَاحَةٌ لِكُلِّ مَن يُؤمِنُ بِالمَسِيحِ. لِأَنَّهُ جَاءَ إِلى الأَرضِ لِيَهَبَ البَشَرِيَّةَ رَجاءَ حَياتِهِ الأَبَدِيَّةِ وَنُورَها، الحَياةِ الَّتِي لا يُمكِنُ أَن تُباعَ أَو تُشتَرَى، بَل تُعطَى كَهِبَةٍ لِمَن يُرِيدُ أَن يَحيا عَلى طَرِيقَةِ أَبناءِ اللهِ. وَأَبناءُ اللهِ سَيَعيشُونَ مُستَقبَلاً فِي مَلكُوتِهِ الأَبَدِيِّ. وَكَأَبناءِ اللهِ، يَطلُبُ مِنَّا المَسِيحُ أَن نَكُونَ شُهُوداً لَهُ عَلَى مِثالِ يُوحَنَّا المَعمَدانِ، فَنَعكِسَ نُورَ المَسِيحِ لِلنَّاسِ، وَنُوَجِّهَهُم إِلى النُّورِ الحَقِيقِيِّ.
رابعاً: الكَلِمَةُ وَالتَّجَسُّدُ (يُوحَنَّا 1: 14-18)
أ) التَّجَسُّدُ "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فَسَكَنَ بَينَنا"
الأَنبِياءُ حَمَلُوا كَلِماتِ اللهِ، أَمَّا "الكَلِمَةُ" الَّذي كانَ في البَدءِ، فَقَد تَجَسَّدَ وَصارَ إِنساناً، وَدَخَلَ في الزَّمَنِ لِيَجعَلَ مِنَ البَشَرِ أَبناءَ اللهِ. فِي هَذا السِّياقِ، يَقُولُ صاحِبُ الرِّسالَةِ إِلى العِبرانيِّين: "إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَدِيمًا بِالأَنبِياءِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً بِوُجوهٍ كَثِيرَةً، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّامِ هَذِهِ بِابْنٍ جَعَلَهُ وارِثاً لِكُلِّ شَيءٍ، وَبِهِ أَنشَأَ العَالَمِين. هُوَ شُعاعُ مَجْدِهِ، وَصُورَةُ جَوهَرِهِ، يَحفَظُ كُلَّ شَيءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِهِ" (عِبرانيِّين 1: 1-3).
لَم يَكُن المَسِيحُ إِنساناً تَأَلَّهَ، بَل كانَ إِلهاً تَأَنَّسَ. قَبلَ تَجَسُّدِهِ، كانَ ابنَ اللهِ، "كَلِمَةَ" اللهِ. بَعدَ تَجَسُّدِهِ، أَصْبَحَ ابنَ الإِنسانِ، أَي ابنَ مَريَم. بَعدَ تَجَسُّدِهِ، هُوَ ابنُ اللهِ وابنُ الإِنسانِ مَعاً. يُعَلِّقُ القَدِّيسُ البابا لاوُن الكَبِير قائِلاً: "رَفَعَ البَشَرِيَّةَ بِدُونِ أَن يُحِطَّ مِن قِيمَةِ الأُلُوهِيَّةِ. مِن خِلالِ تَجرُّدِهِ مِن ذاتِهِ (فِيلِبِّي 2: 7)، ذَاكَ الَّذي كانَ غَيرَ مَنظُورٍ أَصبَحَ مَنظُوراً، لَكِنَّ هَذا كُلَّهُ كانَ تَنازُلاً لِرَحمَتِهِ، لا خَسارَةً لِقُوَّتِهِ" (الرِّسالَةُ 28 إِلى فلافِيَانُس).
المَسِيحُ نَفسُهُ الَّذي هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ، هُوَ أَيضاً إِنسانٌ حَقٌّ: إِلَهٌ حَقٌّ لِأَنَّهُ "في البَدءِ كانَ الكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ كانَ لَدى اللهِ، والكَلِمَةُ هُوَ اللهُ" (يُوحَنَّا 1: 1). إِنسانٌ حَقٌّ لِأَنَّ "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فَسَكَنَ بَينَنا" (يُوحَنَّا 1: 14). المَسِيحُ كانَ إِلَهاً كامِلاً وَإِنساناً كامِلاً، ذَا طَبِيعَتَينِ إِلهِيَّةٍ وَإِنسَانِيَّةٍ في أَقنُومٍ واحِدٍ. اتِّخاذُهُ النَّاسُوتَ لَم يَنزِعْ مِنهُ الأُلُوهِيَّةَ، بَل أَخفَى عَلاماتِ الأُلُوهِيَّةِ إِلَّا عِندَ المُعجِزاتِ لِيُثبِتَ رِسالَتَهُ. اِتِّحادُ الطَّبِيعَتَينِ جَعَلَ لِآلامِهِ مِن أَجلِ البَشَرِ قِيمَةً لا حَدَّ لَها. بِناءً عَلى عَقِيدَةِ سِرِّ التَّجَسُّدِ، أَعلَنَتِ الكَنِيسَةُ أَنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ وَإِنسانٌ حَقٌّ. التَّعليمُ المَسيحِيُّ لِلكَنِيسَةِ الكاثُولِيكِيَّةِ يَقولُ: "بِالتَّجَسُّدِ صارَ يَسُوعُ إِنساناً حَقّاً، وَبَقِيَ إِلَهاً حَقّاً" (بَند 463).
هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ، ابنُ اللهِ بِالطَّبِيعَةِ، لا بِالتَّبَنِّي. هُوَ "مَولُودٌ لا مَخلُوقٌ، وَهُوَ وَالأَبُ جَوهَرٌ واحِدٌ" (بَند 465)، ضِدَّ هَرطَقَةِ أَرِيُوس. مَريَمُ أَصبَحَت والِدَةَ الإِلَهِ، بِالحَبَلِ البَشَرِيِّ بِابنِ اللهِ في أَحشائِها، كَما جاءَ في مَجمَعِ أَفسُسَ: "والِدَةُ الإِلَهِ، لا لِكَوْنِ كَلِمَةِ اللهِ اتَّخَذَ مِنها طَبيعَتَهُ الإِلُوهِيَّةَ، وَلَكِن لِكَوْنِهِ اتَّخَذَ مِنها الجَسَدَ المُقَدَّسَ، مَقرُوناً بِنَفسٍ عاقِلَةٍ، وَالَّذي اِتَّحَدَ بِهِ الكَلِمَةُ شَخصِيّاً". اعْتَرَفَتِ الكَنِيسَةُ أَنَّهُ: "لَيسَ هُناكَ إِلَّا شَخصٌ واحِدٌ، هُوَ سَيِّدُنا يَسُوعُ المَسِيحُ، الأَقنُومُ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ. كُلُّ ما في ناسُوتِ المَسِيحِ يَجِبُ أَن يُنسَبَ إِلى الشَّخصِ الإِلَهِيِّ، عَلى أَنَّهُ مِن عَمَلِهِ الخاصِّ، لَيسَ المُعجِزاتُ وَحَسْبُ، وَلَكِن الآلامُ أَيضاً، وَحَتَّى المَوتُ." وَيُعَلِّقُ القَدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ قائِلاً: "يا كَلِمَةَ اللهِ، الابنَ الوَحيدَ، الَّذي لا يَمُوتُ، لَقَد رَضِيتَ مِن أَجلِ خَلاصِنا أَن تَتَجَسَّدَ مِن والِدَةِ الإِلَهِ القِدِّيسَةِ مَريَمَ الدَّائِمَةِ البَتُولِيَّةِ، فَتَأَنَّستَ بِغَيرِ استِحالَةٍ، وَصُلِبتَ أَيُّها المَسِيحُ الإِلَهُ، أَنتَ أَحَدُ الثَّالُوثِ القُدُّوسِ، المُمَجَّدُ مَعَ الآبِ وَالرُّوحِ القُدُسِ" (نَشِيدُ "يا كَلِمَةَ الله").
الطَّرِيقَةُ الَّتِي صارَ بِهَا الكَلِمَةُ بَشَراً، هِيَ أَنَّهُ وُلِدَ مِن مَريَمَ العَذراءِ، إِذ هي حَبِلَت بِهِ بِطَرِيقٍ غَيرِ عَادِيَّةٍ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ. ولَم يَختَلِفْ يَسُوعُ عَنِ البَشَرِ شَيئاً، سِوَى أَنَّهُ كانَ بِلا خَطِيئَةٍ، كَما جاءَ في تَعليمِ بولُسَ الرَّسُولِ: "ذاكَ الَّذي لَم يَعرِفِ الخَطِيئَةَ" (2 قورنتس 5: 21). وَفِي مَوضِعٍ آخَرَ يَقُولُ الكِتابُ المُقَدَّسُ: "لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثلَنا، ما عَدا الخَطِيئَةَ" (عِبرانيِّين 4: 15).
بِوِلادَةِ يَسُوعَ، صارَ الإِلَهُ بَشَراً، وَهُوَ لَم يَكُن جُزئِيّاً إِنساناً وَجُزئِيّاً إِلَهاً، بَل هُوَ إِلَهٌ كامِلٌ وَإِنسانٌ كامِلٌ، كَما يُؤَكِّدُ بولُسُ الرَّسُولُ: "فِيهِ يَحِلُّ جَميعُ كَمالِ الأُلوهِيَّةِ حُلولاً جَسَدِيًّا" (قُولُسِّي 2: 9). فَيَسُوعُ لَم يُوجَدْ فَقَط عِندَما وُلِدَ، لِأَنَّهُ أَزَلِيُّ الوُجُودِ. بِمِيلادِهِ، يُعَبِّرُ يَسُوعُ، كَلِمَةُ اللهِ المُتَجَسِّدُ، عَن ظُهُورِ اللهِ السَّامِي فِي قَلبِ البَشَرِيَّةِ. يُعَلِّقُ القَدِّيسُ أُوغُسطِينُوس قائِلاً: "إِنَّنا لا نَقدِرُ أَن نُشاهِدَ المَولُودَ مِن الآبِ قَبلَ النُّورِ. فَلْنَتَأَمَّلْ فِي المَولُودِ مِنَ البَتُولِ فِي سَاعاتِ اللَّيلِ. إِنَّنا لا نُدرِكُ "مَن قَبْلَ الشَّمسِ اسمُهُ دائمٌ" (مَزمُور 71: 17)، فَلْنَنظُرْ إِلى خَيمَتِهِ الَّتِي ضَرَبَهَا فِي نُورِ الشَّمسِ. إِنَّنا لا نَقدِرُ أَن نَرى الابنَ الوَحيدَ المُقِيمَ فِي الآبِ، فَلْنُشاهِدْ مِذوَدَ رَبِّنا يَسُوعَ المَسِيحِ" (العِظَةُ 194، 3-4).
الكَلِمَةُ المُتَجَسِّدُ هُوَ الآنَ مَسِيحُ التَّارِيخِ بِذَاتِهِ، حَيثُ اتَّخَذَ لِنَفسِهِ جَسَداً بَشَرِيًّا حَقِيقِيّاً، وَلَيسَ جَسَداً ظَاهِرِيّاً فَقَط، كَما تَدَّعِي البِدعَةُ الظَّاهِرِيَّةُ (دُوسِيتِيَّة)، الَّتِي أَنكرَت وَاقِعَ التَّجَسُّدِ. إِنَّهُ سَكَنَ وَسَطَ البَشَرِ، وَأَمَّا جَلالُهُ الإِلَهِيُّ وَقُوَّتُهُ، فَقَد أَصبَحَا مَحجُوبَيْنِ فِي جَسَدٍ. وَقَد أَدَّى يُوحَنَّا المَعمَدانُ شَهادَةَ شَاهِدِ عَيَانٍ عَن مَجدِ هَذا "الكَلِمَةِ" المُتَجَسِّدِ، خَاصَّةً عِندَ اِعتِمَادِ يَسُوعَ عَلَى يَدِهِ فِي الأُردُنِّ (مَتَّى 3: 13-17). وَهَكَذا لَم يَعُدِ اللهُ مَخفِيّاً، بَل أَصبَحَ الآنَ مَعرُوفاً عَن طَرِيقِ تَجَسُّدِ ابنِهِ، الَّذِي هُوَ نُورُ العَالَمِ. فَيَسُوعُ المَسِيحُ هُوَ التَّفسِيرُ الكَامِلُ لِلهِ. مِن هُنا، يَبدَأُ يُوحَنَّا إِنجِيلَهُ، وَيَختِتِمُهُ، مُعلِناً أَنَّ الكَلِمَةَ المُتَجَسِّدَ، يَسُوعَ المَسِيحَ، هُوَ اللهُ. فِي بِدءِ إِنجِيلِهِ، يُعلِنُ أَنَّ "الكَلِمَةُ هُوَ اللهُ" (يُوحَنَّا 1: 1)، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ فِي آخِرِ إِنجِيلِهِ بِشَهادَةِ تُومَا، أَحَدِ الاثنَي عَشَرَ رَسُولاً، بِقَولِهِ: "رَبِّي وَإِلَهِي!" (يُوحَنَّا 20: 28). وَهَكَذا، تُلَخِّصُ هَاتَانِ العِبارَتَانِ إِنجِيلَ يُوحَنَّا.
ب) هدفُ التَّجَسُّدِ:
مَعرِفَةُ اللهِ
صارَ الكَلِمَةُ بَشَراً لِيُعَرِّفَنا بِاللهِ بِطَريقَةٍ مَلمُوسَةٍ وَواضِحَةٍ. قَبلَ التَّجَسُّدِ، كانَتِ المَعرِفَةُ عَنِ اللهِ جُزئِيَّةً وَمُحدَّدَةً، تَأتِي عَبرَ الأَنبِياءِ، بِوَحيٍ وَرُؤى، كَما يَقُولُ الكِتابُ المُقَدَّسُ: “إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَدِيمًا بِالأَنبِياءِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً بِوُجوهٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّامِ هَذِهِ بِابْنٍ" (عِبرانيِّين 1: 1).
بِالتَّجَسُّدِ، أَصبَحَ اللهُ مَرئِيًّا وَمَلمُوساً فِي شَخصِ يَسُوعَ المَسِيحِ. فِي المَسِيحِ، كَشَفَ اللهُ عَن طَبيعَتِهِ، وَجَوهَرِهِ، وَمَحبَّتِهِ، بِطَريقَةٍ يُمكِنُ لِلبَشَرِ أَن يَفهَمُوها وَيُدرِكُوها. المَسِيحُ هُوَ التَّعبِيرُ الكَامِلُ وَالنِّهائِيُّ لِلهِ، كَما يُؤَكِّدُ القَدِّيسُ يُوحَنَّا الحَبِيبُ: “ذاكَ الَّذي كانَ مُنذُ البَدءِ، ذاكَ الَّذي سَمِعنَاهُ، ذاكَ الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا، ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناهُ وَلَمَسَتْهُ يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياةِ" (1 يُوحَنَّا 1: 1-3).
بِالتَّجَسُّدِ، أَصبَحَ المَعرِفَةُ عَنِ اللهِ شَخصِيَّةً وَقَرِيبَةً. فِي المَسِيحِ، نَرى نُورَ اللهِ، وَنَلمِسُ مَحبَّتَهُ، وَنَفهَمُ مَشيئَتَهُ. التَّجَسُّدُ لَم يَكُن سِوى إِعلانٍ نِهائِيٍّ لِلحَقِّ الإِلَهِيِّ، وَلِمَحبَّةِ اللهِ الغَيرِ مَحدُودَةٍ لِلبَشَرِ.
مَعرِفَةُ مَحبَّةِ اللهِ:
صارَ الكَلِمَةُ بَشَراً لِكَي نَعرِفَ مَحبَّةَ اللهِ. "ما ظَهَرَت بِهِ مَحبَّةُ اللهِ بَينَنا هُوَ أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَهُ الوَحيدَ إِلى العالَمِ لِنَحْيا بِهِ" (1 يُوحَنَّا 4: 9). وَأَيضاً: "فَإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّهُ جادَ بِابنِهِ الوَحيدِ لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِهِ، بَل تَكونَ لَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ" (يُوحَنَّا 3: 16).
بِالتَّجَسُّدِ، جَاءَ الكَلِمَةُ بَينَنا لِيُقَدِّمَ نَفسَهُ ذَبِيحَةً عَن كُلِّ الخَطَايَا، كَما يَقُولُ الكِتابُ المُقَدَّسُ: "وَقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِهِ لِيَجعَلَنا في حَضرَتِهِ قِدِّيسِينَ لا يَنالُنا عَيبٌ وَلا لَومٌ" (قُولُسِّي 1: 20). أَصبَحَ "الكَلِمَةُ" إِنساناً لِيُخَلِّصَ الإِنسانَ مِنَ المَوتِ الأَبَدِيِّ. يُعَلِّقُ القَدِّيسُ لاوُن الكَبِير قائِلاً: "مُخَلِّصُنا أَتَى لِيَقضِيَ عَلَى الخَطِيئَةِ وَالمَوتِ، أَتَى كَذَلِكَ لِيُحَرِّرَ البَشَرَ أَجمَعِينَ. فَليَبتَهِجِ القِدِّيسُ لأَنَّهُ اقتَرَبَ مِنَ الانتصارِ، وَلْيَفرَحِ الخاطِئُ لأَنَّهُ مَدعُوٌّ إِلى التَّوبَةِ، وَلْيَتحَلَّ الوَثَنِيُّ بِالشَّجاعَةِ لأَنَّهُ مَدعُوٌّ إِلى حَياةِ التَّجَرُّدِ" (العِظَةُ الأُولَى عَن مِيلادِ يَسُوعَ المَسِيحِ).
إِذا كانَ مُوسَى يُرَكِّزُ عَلَى شَرِيعَةِ اللهِ وَعَدلِهِ، فَالمَسِيحُ يُرَكِّزُ عَلَى رَحمَةِ اللهِ وَمَحبَّتِهِ وَغُفرَانِهِ. "فَمِن مِلئِهِ نِلْنا بِأَجمَعِنا، وَقَد نِلْنا نِعمَةً عَلَى نِعمَةٍ" (يُوحَنَّا 1: 16). وَهُوَ لا يَزالُ يُرافِقُنا عَلى مَرِّ الأَجيالِ، وَيَتَواجَدُ فِي جَمِيعِ مَرافِقِ حَياتِنا، مُظهِراً مَحبَّتَهُ وَرَحمَتَهُ لِكُلِّ البَشَرِ.
المصالحة مع الله:
صارَ الكَلِمَةُ بَشَراً لِيُخَلِّصَنا بِمُصالَحَتِنا مَعَ اللهِ. "هُوَ أَحَبَّنا، فَأَرسَلَ ابنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانا" (1 يُوحَنَّا 4: 10). "إِنَّ ذَاكَ ظَهَرَ لِيُزِيلَ الخَطَايَا" (1 يُوحَنَّا 3: 5). يُعَلِّقُ القَدِّيسُ غَرِيغُورِيُوسُ النِّيصِي قائِلاً: "مَرِيضَةً، كانَت طَبِيعَتُنا تَطلُبُ الشِّفاءَ، وَساقِطَةً، أَن تُقالَ عَثرَتُها، وَمَيِّتَةً، أَن تُبعَثَ حَيَّةً. إِنَّ البَشَرِيَّةَ كانَت في حالَةٍ جِدِّ بائِسَةٍ وَجِدِّ تَعِسَةٍ. أَلَم تَكُن تَستَحِقُّ أَن تُحَرِّكَ عَطفَ اللهِ إِلى حَدٍّ يُنزِلُهُ إِلى طَبِيعَتِنا البَشَرِيَّةِ، فيَعودُهَا؟" (خِطاب 15، 3).
بِالتَّجَسُّدِ، أَصبَحَ اللهُ في طَبِيعَتِنا البَشَرِيَّةِ، عَلى الأَرضِ بَينَ البَشَرِ، وَيُخاطِبُهُم بِلُطفٍ وَطِيبَةٍ، في جَسَدٍ بَشَرِيٍّ، مَعَ إِخوَتِهِ مِن نَسْلِهِ. يُعَلِّقُ القَدِّيسُ بَاسِيلِيُوس، أُسقُفُ قَيسَرِيَّةِ قَبَّدُوقِيَّة، قائِلاً: "أَصبَحَ ذَاكَ الَّذي اكتَسى بِشَكلٍ كامِلٍ الطَّبِيعَةَ البَشَرِيَّةَ، وَالَّذي، بِجَسَدِهِ الَّذي هُوَ جَسَدُنَا، يَرفَعُ نَحوَهُ البَشَرِيَّةَ جَمعاءَ" (عِظَةٌ عَن مِيلادِ الرَّبِّ).
بِهَذا التَّجَسُّدِ، أَصبَحَ المَسِيحُ وَسِيطاً، يَرفَعُ البَشَرَ إِلى مُستَوى الشَّرِيكَةِ مَعَ اللهِ، وَيَفتَحُ أَمامَ الإِنسانِ بابَ الخَلاصِ وَالحَياةِ الأَبَدِيَّةِ.
شركاء في الطبيعة الإلهية
صار الكلمة بشراً لكي يجعلنا "شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ" (2 بطرس 1: 4). إِذ أَرادَ المَسِيحُ أَن نُشارِكَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، فَأَخَذَ طَبِيعَتَنَا البَشَرِيَّةَ. يُعَلِّقُ القدِّيس إيرينيوس قائِلاً: "فَهَذا هُوَ السَّبَبُ الَّذي مِن أَجلِهِ صارَ الكَلِمَةُ بَشَراً، صارَ ابنُ اللهِ ابنَ الإِنسانِ: لِكَي يَصيرَ الإِنسانُ ابنَ اللهِ بِدُخولِهِ فِي الشَّرِيكَةِ مَعَ الكَلِمَةِ وَنَيلِهِ هَكَذا البُنُوَّةَ الإِلَهِيَّةَ" (الرَّدُّ عَلَى الهَرطَقَاتِ 3، 19، 1).
بِالتَّجَسُّدِ، فَتَحَ المَسِيحُ طَرِيقَةً جَدِيدَةً لِلإِنسانِ لِلدُّخُولِ فِي العَلاقَةِ الحَمِيمَةِ مَعَ اللهِ. فَإِذ صَارَ الكَلِمَةُ إِنساناً، أَصبَحَ إِتِّحَادُنا مَعَ اللهِ مُمكِناً. مِن خِلالِ هَذِهِ الشَّرِيكَةِ، نَنَالُ النِّعْمَةَ الإِلَهِيَّةَ وَنَتَحَوَّلُ إِلى أَبناءِ اللهِ. التَّجَسُّدُ لَم يَكُن سِوَى إِظهَارٍ لِعَظَمَةِ مَحبَّةِ اللهِ وَرَغبَتِهِ فِي جَعلِ الإِنسانِ مُتَّحِداً مَعَهُ. فِي المَسِيحِ، لَم نَجِد فَقَط مُخَلِّصاً، بَل أَيضاً شَرِيكاً فِي المَجدِ الإِلَهِيِّ.
مِثالُ القَداسَةِ لَنا
صارَ الكَلِمَةُ بَشَراً لِيَكونَ لَنا مِثالاً فِي القَداسَةِ. "الكَلِمَةُ" الَّذي كانَ عِندَ اللهِ، حَلَّ بَينَ البَشَرِ لِيُعَلِّمَنا كَيفَ يُفَكِّرُ اللهُ، وَبِالتّالِي كَيفَ يَنبَغِي عَلَينا أَن نُفَكِّرَ نَحنُ. جاءَ بَينَنا لِيَكونَ قُدوَةً فِيما يَنبَغِي أَن نَصِيرَ عَلَيهِ. فَهُوَ يُرِينَا كَيفَ نَحيَا بِطَريقَةٍ تُرضِي اللهَ: "فَقَد ظَهَرَت نِعمَةُ اللهِ، يَنبوعُ الخَلاصِ لِجَميعِ النَّاسِ، وَهِيَ تُعَلِّمُنا أَن نَنبِذَ الكُفْرَ وَشَهَواتِ الدُّنيا لِنَعيشَ فِي هَذا الدَّهْرِ بِرَزانَةٍ وَعَدلٍ وَتَقْوَى" (طِيطُس 2: 11-12).
يَسُوعُ يُعطِي القُوَّةَ لِكُلِّ مَن يُؤمِنُ بِهِ لِيَسِيرَ عَلَى خُطاهُ، كَما قالَ الكِتابُ المُقَدَّسُ: "تَرَكَ لَكُم مِثالاً لِتَقتَفُوا آثارَهُ" (1 بُطرُس 2: 21). المَجمَعُ الفاتِيكَانِيُّ الثَّانِي يَقولُ فِي هَذا الصَّدَدِ: "بِتَجَسُّدِهِ اتَّحَدَ ابنُ اللهِ نَوعاً ما بِكُلِّ إِنسانٍ. لَقَدِ اشتَغَلَ بِيَدِ إِنسانٍ، وَفَكَّرَ كَما يُفَكِّرُ الإِنسانُ، وَعَمِلَ بِإِرادَةِ إِنسانٍ، وَأَحَبَّ بِقَلبِ إِنسانٍ. لَقَد وُلِدَ مِنَ العَذْراءِ مَريَمَ، وَصارَ حَقّاً واحِداً مِنَّا، شَبِيهاً بِنا فِي كُلِّ شَيءٍ ما عَدا الخَطِيئَةَ" (دُستورٌ راعَوِيٌّ حَولَ الكَنِيسَةِ، بَند 22، 2).
يَسُوعُ يَطلُبُ مِنَّا أَن نَحمِلَ نِيرَهُ وَنَتَعلَّمَ مِنهُ، قائِلاً: "احمِلُوا نِيري وَتَتَلمَذُوا لِي فَإِنِّي وَدِيعٌ مُتَواضِعُ القَلبِ" (مَتَّى 11: 29). وَقالَ أَيضاً: "أَنا الطَّريقُ وَالحَقُّ وَالحَياةُ. لا يَمضِي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلَّا بِي" (يُوحَنَّا 14: 6). بِصِفَتِهِ الابنَ الأَزلِيَّ، يَسُوعُ هُوَ التَّعبِيرُ التَّامُّ عَنِ الآبِ: "هُوَ صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى" (قُولُسِّي 1: 15). "هُوَ شُعاعُ مَجدِهِ وَصُورَةُ جَوهَرِهِ" (عِبرانيِّين 1: 3). لِأَنَّهُ ابنُ اللهِ قَبلَ أَن يَكونَ ابنَ الإِنسانِ، فَهُوَ الحَياةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِنُ بِهِ وَيَتبَعُهُ، وَهُوَ النُّورُ لِكُلِّ مَن يَعتَنِقُ طَرِيقَهُ وَيَهتَدِي بِهِ. كِتابُ التَّعلِيمِ المَسِيحِيِّ لِلكَنِيسَةِ الكاثُولِيكِيَّةِ يُؤَكِّدُ: "الإِيمانُ بِالتَّجَسُّدِ الحَقِيقِيِّ لِابنِ اللهِ هُوَ العَلامَةُ المُميَّزَةُ لِلإِيمانِ المَسِيحِيِّ" (بَند 463). وَكَما أَعلَنَ يُوحَنَّا الرَّسُولُ: "وَما تَعرِفُونَ بِهِ رُوحَ اللهِ هُوَ أَنَّ كُلَّ رُوحٍ يَشهَدُ لِيَسُوعَ المَسِيحِ الَّذي جاءَ فِي الجَسَدِ كانَ مِنَ اللهِ" (1 يُوحَنَّا 4: 2). يَسُوعُ هُوَ المِثالُ الَّذي يَجِبُ أَن نَقتَدِيَ بِهِ فِي حَياتِنا اليَومِيَّةِ. بِاتِّباعِهِ وَالتَّعلُّمِ مِنهُ نَصِيرُ أَبناءَ اللهِ، وَنُحَقِّقُ القَداسَةَ الَّتِي دُعِينا إِلَيها. يدعونا إنجيلُ يوحنّا إلى التأمُّلِ في عَظَمةِ محبَّةِ اللهِ التي تجلَّت في تجسُّدِ الكلمةِ. نحنُ مَدعوُّونَ لقبولِ هذا الحُبِّ، لنعيشَ في النُّورِ الذي أتى به المسيحُ، ونستجيبَ لنعمةِ اللهِ التي تُخلِّصُنا.
الخُلاصَةُ
يَبدَأُ يُوحَنَّا إِنجِيلَهُ بِمُقَدِّمَةٍ مُمَيَّزَةٍ مِن حَيثُ الأُسلُوبِ وَالمُفرَدَاتِ، حَيثُ يَكشِفُ فِيهَا عَن شَخصِ رَبِّنا يَسُوعَ المَسِيحِ قَبلَ التَّجَسُّدِ، بِكَونِهِ "الكَلِمَةَ" الأَزَلِيَّ. وتمثِّلُ هذه المقدِّمةُ الأساسَ الذي يَبني عليه يوحنّا باقيَ إنجيلِه. يَدعُونَا يُوحَنَّا إِلى تَخَطِّي حُدُودِ الزَّمَنِ لِنَنطَلِقَ إِلى حَضنِ الآبِ الأَزَلِيِّ، لِنَتَعَرَّفَ عَلَى خُطَّةِ اللهِ لِخَلَاصِنَا وَمَجدِنَا الأَبَدِيِّ، فَنَحيَا مَعَهُ إِلى الأَبَدِ. وَلِذَلِكَ، قَالَ القَدِّيسُ أَوغُسطِينُوسُ مُعَبِّرًا: "إِنَّ فَيلَسُوفًا أَفلاطُونِيًّا قَالَ إِنَّ هَذِهِ العِبَارَاتِ الَّتِي جَاءَت فِي بَدَايَةِ إِنجِيلِ يُوحَنَّا تَستَحِقُّ أَن تُكتَبَ بِحُرُوفٍ مِن ذَهَبٍ".
يُوضِّحُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ، كَشَاهِدِ عِيَانٍ وَأَحَدِ الاثنَي عَشَرَ رَسُولًا، أَنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ هُوَ إِنسَانٌ كَامِلٌ وَإِلَهٌ كَامِلٌ. فَمَعَ أَنَّ يَسُوعَ اتَّخَذَ طَبِيعَتَنَا البَشَرِيَّةَ وَعَاشَ بَينَنَا كَإِنسَانٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَم يَكُفَّ عَن أَن يَكُونَ اللهَ الأَبَدِيَّ الأَزَلِيَّ، الكَائِنَ عَلَى الدَّوَامِ، وَخَالِقَ الكَونِ، وَمَصدَرَ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. مِيلَادُ يَسُوعَ هُوَ سِرُّ الإِيمَانِ، لِقَاءٌ بَينَ اللهِ وَالإِنسَانِ، بَينَ الأَزَلِ وَالزَّمَنِ، بَينَ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ وَالحَيَاةِ الفَانِيَةِ. لَم يَكُن مُتَوَقَّعًا أَن يَجعَلَ اللهُ الأَرضَ مَسكَنَهُ، وَلَكِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُخَلِّصَ الإِنسَانَ. وَسُلطَتُهُ الوَحِيدَةُ هِيَ سُلطَةُ الحُبِّ، وَحُبُّهُ يَكفِي لِيُولِدَنَا وِلادَةً جَدِيدَةً. يَقُولُ الرَّاهِبُ الدُّومِنِيكَانِيُّ جَان تُولِير: "وِلادَةٌ قَدِيرَةٌ كَهَذِهِ لَا تَتِمُّ إِلَّا فِي قَلبٍ يَتَحَلَّى بِنَقَاوَةٍ كَبِيرَةٍ وَيَعيشُ حَيَاةً دَاخِلِيَّةً عَمِيقَةً وَاتِّحَادًا رَاسِخًا مَعَ اللهِ. فَاللهُ يَختَارُ مَسكَنَهُ فِي هَذَا القَلبِ إِن عَرَفَ كَيفَ يَحفَظُ اتِّحَادَهُ مَعَ اللهِ فِي عُمقِ أَعمَاقِ نَفسِهِ، وَيُحَافِظُ عَلَى تَأَمُّلَاتِهِ وَلَا يَتَشَتَّتُ فِي الأُمُورِ الخَارِجِيَّةِ" (الأَعمَالُ الكَامِلَةُ، الجُزءُ الأَوَّلُ: عِظَةٌ حَولَ المِيلَادِ). لِأَنَّ "الكَلِمَةَ" هُوَ اللهُ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُخبِرَنَا عَنِ اللهِ بِوُضُوحٍ. وَلِذَلِكَ، يُمكِنُنَا أَن نَثِقَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ. وَبِالثِّقَةِ فِيهِ نَكتَسِبُ مَعرِفَةً لِفَهمِ رِسَالَةِ اللهِ وَإِتْمَامِ مُخطَّطِهِ فِي حَيَاتِنَا.
عِندَئِذٍ، يَتَمَجَّدُ المَسِيحُ الإِلَهُ فِي الإِنسَانِ، وَكُلُّ إِنسَانٍ حَيٍّ مَدعُوٌّ لِيُحَقِّقَ ذَاتَهُ بِكُلِّ أَبعَادِهَا الرُّوحِيَّةِ وَالمَادِّيَّةِ، الثَّقَافِيَّةِ وَالاجتِمَاعِيَّةِ، الاقتِصَادِيَّةِ وَالوَطَنِيَّةِ، فَيَكُونَ مَجدَ اللهِ. فَإِن لَم نُؤمِن بِهَذِهِ الحَقِيقَةِ الأَسَاسِيَّةِ، فَلَن يَكُونَ لَدَينَا الثِّقَةُ لِنُسلِّمَ حَيَاتَنَا وَأَبَدِيَّتَنَا إِلَيهِ. وَهَذَا مَا دَعَا يُوحَنَّا لِكِتَابَةِ إِنجِيلِهِ لِنَشرِ الإِيمَانِ وَالثِّقَةِ فِي يَسُوعَ المَسِيحِ، لِكَي نُؤمِنَ أَنَّهُ حَقًّا كَانَ اللهَ فِي الجَسَدِ، كَمَا يَقُولُ: "وَإِنَّمَا كُتِبَت هَذِهِ لِتُؤمِنُوا بِأَنَّ يَسُوعَ هُوَ المَسِيحُ ابنُ اللهِ، وَلِتَكُونَ لَكُم إِذَا آمَنتُمُ الحَيَاةُ بِاسمِهِ" (يُوحَنَّا 20: 31). لِذَلِكَ، إِنَّنَا مَدعُوُّونَ إِلَى وَضْعِ أَسَاسٍ لِحَيَاتِنَا، بِالتَّعَرُّفِ عَلَى مَا هُوَ كَائِنٌ مُنذُ البَدءِ، وَهُوَ مَن نُرِيدُ أَن نَبنِي عَلَيهِ حَاضِرَنَا وَمُستَقبَلَنَا فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ.
الدُّعَاءُ:
أيُّها الآبُ السَّماويُّ، يا مَن أَرسَلتَ ابنَكَ ليتجسَّدَ ويعيشَ بيننا نورًا وحياةً للنَّاسِ، نسأَلُكَ أن تَهبَنا روحَ الحِكمةِ لِكَي نَعرِفَ يسوعَ المسيحَ، الإنسانَ الحقَّ والإلهَ الحقَّ، فاديًا لنا، ونستقبِلَه مُخلِّصًا، فنُصبِحَ أبناءَ اللهِ المُخلَّصين، ونُدرِكَ إلى: "أيِّ رَجاءٍ دَعانا، وأيِّ مَجدٍ عظيمٍ جَعلهُ لنا ميراثًا بينَ القِدِّيسين". آمِينَ.
قِصَّةُ مُقَدِّمَةِ إِنجِيلِ يُوحَنَّا البَشِيرِ وَالعَالِمِ الأَلمانِيِّ
يُروَى عَنِ العَالِمِ الأَلمانِيِّ فْرانسِيسكُوس يُونِيُوس، الَّذِي اشتَهَرَ بِجَمعِ المَخطُوطَاتِ القَدِيمَةِ، أَنَّهُ فَقَدَ فِي شَبَابِهِ كُلَّ القِيَمِ الدِّينِيَّةِ، وَانغَمَسَ فِي حَيَاةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ اللهِ. وَلَكِن، بِتَدبِيرٍ إِلَهِيٍّ، استَعَادَ إِيمَانَهُ بِنِعمَةِ اللهِ. فَقَد حَدَثَ ذَلِكَ عِندَمَا قُدِّمَت لَهُ مُقَدِّمَةُ إِنجِيلِ القِدِّيسِ يُوحَنَّا عَن غَيرِ قَصدٍ مِن وَالِدِهِ.
وَبَينَمَا كَانَ يَقرَأُ هَذِهِ المُقَدِّمَةَ، شَعَرَ بِقُوَّتِهَا وَسُلطَانِهَا الرُّوحِيِّ العَمِيقِ عَلَى نَفسِهِ. أَثَّرَت الكَلِمَاتُ فِيهِ تَأثِيرًا بَالِغًا، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ أَمضَى يَومَهُ كُلَّهُ مُضطَرِبًا وَمَذهُولًا، لَا يُدرِكُ أَينَ هُوَ وَلَا مَا يَفعَلُ، وَجَسَدُهُ يَرتَجِفُ مِن شِدَّةِ التَّأَثُّرِ.
كَانَ ذَلِكَ اليَومُ نُقطَةَ تَحَوُّلٍ فَارِقَةً فِي حَيَاتِهِ، إِذ أَصبَحَ بَدَايَةً لِرِحلَتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَتَجدِيدِ عِلَاقَتِهِ بِاللهِ. هَذِهِ القِصَّةُ تُبرِزُ قُوَّةَ كَلِمَةِ اللهِ الحَيَّةِ، الَّتِي تَحمِلُ قُدرَةً فَرِيدَةً عَلَى لَمسِ القُلُوبِ وَتَغِيِيرِ الحَيَاةِ.