موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٤ مارس / آذار ٢٠٢٣

حِينَ كَانَت كَلِمَاتُكَ تَبلُغُ إليَّ، كُنتُ الْتَهِمُها

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

عظة الأحد الأوّل مِن زمن الصّوم

 

﴿حِينَ كَانَت كَلِمَاتُكَ تَبلُغُ إليَّ، كُنتُ الْتَهِمُها﴾ (إر 16:15)

 

أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في الْمسيحِ يَسوع. بَعدَ أنْ تَأمَّلنَا، مَع إنجيلِ أربعاءِ الرَّمَاد (متّى 1:6-6، 16-18)، في الْمَحاورِ الثّلاثَة لِلزَّمَنِ الأربعينيّ: الصّدقة، والصّلاة، والصّوم، والّتي تهدُفُ لِتَقديسِ الإنسانِ بِأَبعَادِهِ الثّلاثَة. نَتَأمّلُ في هذا الأحدِ الأوّل للصّوم، مَع إنجيلِ التَّجربَة (متّى 1:4-11)، في ثلاثةِ مَحاور مُغايِرَة تمامًا، تهدُفُ لِتَدميرِ الإنسانِ، وتحطيمِ الصَّورةِ وَالْمِثَالِ الإلهيّ الّذي خُلِقَ عَليه، أَلا وَهِي: السَّعيُ وَراءَ الْمَلذّاتِ الحِسَّية، السَّعيُ وَراءَ الخيراتِ الْمَادّية والثَّرواتِ الزَّمنيّة، السَّعيُ وَراءَ أَمْجَادِ العَالَمِ الفَانِيَة. والْمَسيحُ بانْتصارِهِ عَلَى هَذهِ التَّجارِبِ الثَّلاثة، أَعَادَ للإنسانِ كَرامَتَهُ الْمَسْلُوبَة: اِبْنًا لله، وَخَليقَةً سَامِيَة، وَشقَّ أَمَامَهُ طَريقًا للانتصارِ بِدَورِهِ، عَلَى كُلِّ تجربَةٍ يَتَعرّضُ لَها.

 

﴿لَيسَ بالخبزِ وَحدَهُ يحيَا الإنسان، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فمِ الله﴾ (متى 4:4). فالإنسانُ يا أَحبّة، كائِنٌ سامٍ رَفيع، وَسموُّهُ مُستَمَدٌّ مِن اللهِ نَفسِه، الّذي جَعَلَهُ أَحسَنَ الخلائِقِ وَأَسماهَا. كَمَا نَقرَأُ في الْمزمورِ الثّامِن: ﴿دونَ الإلهِ حَطَطتَهُ قَليلًا، بالْمجدِ والكرامَةِ كَلَّلتَهُ﴾ (مز 6:8). وَهو يَسمَو عَلَى الْمَادّة، فَالْمَادّةُ سَخَّرَهَا اللهُ لِتكونَ في خدمَةِ الإنسان، لا أَنْ يكونَ الإنسانُ في خدمَةِ الْمادّةِ وعبدًا لَها: ﴿عَلَى صُنعِ يَديكَ وَلّيتَهُ، وَكُلُّ شَيءٍ تَحت قَدَميهِ جَعلتَهُ﴾ (مز 7:8).

 

فَقَولُ السّيد: ﴿لَيسَ بالخبزِ وَحدَهُ يحيَا الإنسان﴾، دَعوَةٌ لأنْ يَتَحَرّرَ الإنسانُ مِن كُلِّ قَيدٍ دُنيَوي وَرِباطٍ زَمَني، فَلا يَكونَ عَبْدًا لأحَدٍ أَو لِشَيء. أَلَم يَقُل بُولسُ في رِسَالتِهِ الأولى لأهلِ قورنتوس: ﴿كُلُّ شَيءٍ يَحِلُّ لَي، ولكنّي لَنْ أَدَع شيئًا يتسلّطُ عَليَّ﴾ (1قور 12:6). لِذلك، الصّومُ الجَسَدي عَن الأطْعِمَةِ، هُوَ أَوّلُ وَسيلَةٍ لِلْتَّعبيرِ عَنْ قُدْرَتِنا عَلَى لَجمِ الجسد، وَصلابَةِ إرادَتِنا في ضَبطِ شَهواتِ البَطن، وَعَدم الرُّضوخِ لِرَغبَاتِه. وَهيَ التَّجرِبَةُ الأولى الّتي قَاوَمَها الْمَسيحُ وانتَصَرَ عَلَيها.

 

أَمّا الّذينَ يُقَلِّلونَ مِن شَأنِ الصّومِ الجَسَدي، تحتَ مُسَمَّيَاتٍ وَشِعَاراتٍ مُسْتَحدَثة، تُدغدِغ العَواطِفَ والإراداتِ الضَّعيفَة، فَهَذَا يَدلُّ عَلَى روحٍ انهزامِيّةٍ مُتَرَاخِيَة، تُسقِطها مُجرَّدُ أَطْبَاقٍ مِن الطَّعام، وترفُضُ بَذلَ أَدنَى مَجهُود، وَتَسْعَى لإيجادِ مُبرّراتٍ طُفُولِيَّة تَسْمَحُ بالاستمرارِ في التّنعُّمِ بملذّاتِ البَطنِ وَرَغباتِه.

 

اللهُ لَمَّا خَلَقَ الإنسان، جَعَلَهُ جَسدًا وروحًا، في كَيانٍ واحِد. والْمسيحُ أَوْصَانَا بالصّلاةِ وَبِالصّومِ، وَسيلَةً لِمُقَاوَمَةِ الشِّرير (راجِع متّى 21:17). فَالصّومُ لِتقويَةِ الجَسَد، والصَّلاةُ لِتَمْكينِ الرّوح، وَكلاهُما مَعًا كَجَنَاحينِ يَسْمُوانِ بالإنسان.

 

﴿لَيسَ بالخبزِ وَحدَهُ يحيَا الإنسان، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فمِ الله﴾. فَالْمسيحُ يَا أَحِبّة بِقَولِهِ هَذا، لا يُقلِّلُ مِن شَأَنِ الأشياء، فاللهُ خَلَق كُلَّ شيءٍ حَسنًا جِدًّا (راجِع تكوين 31:1). لَكِنَّهُ في نَفسِ الوَقتِ يُشيرُ إلى أَهميّةِ وَضرورةِ كَلِمَةِ اللهِ في حَياتِنا، والّتي قَدْ تحجُبُها الأشياءُ عَنَّا، وَكثرةُ الاهتِمَامَاتِ وَتَزاحُمُ الحَاجَات، تجعَلُنَا نَنْسَاهَا وَنُهمِلُها. فَإذا كانَ الخُبزُ وَسيلَةً أَسَاسيَّةً لِيَحيَا الجَسد، فَكَلِمَةُ اللهِ غِذاءُ الرّوحِ البشريّة، وَزَادُ نُفوسِنَا، الّذي لا غِنَى عَنهُ أبدًا، في حَجِّهَا صَوبَ الْمَنَازِلِ الأبديّة، ولا بُدَّ لَنَا أَنْ نَتَغَذَّى دَومًا بِها، لِتَقُوتَنا وَتُقوّينَا في دَربِ جِهادِنَا الرّوحي، وَمَسيرتِنَا الأرضِيَّة.

 

﴿لَيسَ بالخبزِ وَحدَهُ يحيَا الإنسان، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فمِ الله﴾. فَنَحنُ يا أَحِبَّة لا نَأكلْ وَنَشربْ، فَإنَّنَا غَدًا نَموت (راجع 1قورنتوس 32:15)، وَلَكنَّنَا نَحيَا الآنَ حَيَاةً بَشَريّة، في انْتِظَارِ الحياةِ الأبديّةِ الّتي أَعَدَّها اللهُ لَنَا وَدَعانَا إليها. فَحَياتُنا أَسمى مِن الطَّعَامِ وَالشَّراب، وحياتُنا أَسمى مِن الْمَلَذَّاتِ وَالأموَالِ وَالثَّرَوَات، وَحَياتُنا تَفوقُ الأمجادَ والألْقَابَ الدُّنيويَّةَ الباطِلة. حياتُنا لا تَنْتَهي بالْمَوتِ بَل تَبدَأ فَ: ﴿يا رب، إلى مَنْ نَذهَبْ وكلامُ الحَياةِ الابديّةِ عندك؟﴾ (يوحنا 68:6).

 

وَأَخيرًا، إن كُنَّا في هذا الزّمَنِ نَصومُ عَنْ كَذا وَنَمتَنِعُ عَن كَذا، فَذلِكَ لِكَي نَشعُرَ بالجوعِ الحقيقيِّ إلى كَلمةِ الله، فَنَنهَلَ وَنَمتَلِئَ ونَشبَعَ مِنْها. ذاكرين كَلمَاتِ إرميا النّبي، لَمَّا وَصَفَ عَلاقَتَهُ مَع كَلمةِ الله فَقَال: ﴿حِينَ كَانَت كَلِمَاتُكَ تَبلُغُ إليَّ، كُنتُ الْتَهِمُها، فَكَانَت لي سُرورًا وفرحًا في قَلبي﴾ (إر 16:15). فَلْنَمْتَلِئ إذًا مِنَ الكَلِمَةِ الإلهية، ولْتَكُنْ لَنَا وَسيلَةً لِمُقاوَمَةِ الشّرِّ، وَالانْتِصارِ عَلَى كُلِّ تجرِبَة، وبلوغِ الوَطَنِ السّماويّ.