موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة الأحد الثّاني والثّلاثون من زمن السّنة-أ
مَا أَجمَلَ الحِكمَة، ومَا أَحَبَّ مَالِكَهَا. ومَا أَبشَعَ الجَهالَة، ومَا أَغَلَظَ صَاحِبَها. وفي الوَقتِ الَّذي تَسْتَأنِسُ فيهِ بِمُجَالَسَةِ الحَكيم، لِأنّهُ يُغْنيكَ ويُنَمِّيك، تَهرُبُ مِنَ الغَّبيِّ الجَاهِل، لأنَّهُ يَضُرُّكَ ويُؤذِيك. بَلْ أَنَّ هُناكَ مَقولَةً تُنْسَبُ لِلْفَيلَسوفِ وعَالمِ الرِّيَاضِيَّاتِ الإغرِيقيّ فِيثَاغورس، مَفَادُهَا: "لا تُجادِلْ الأحمَق. فَقَدْ يُخطِأُ النَّاسُ في التَّفريقِ بَينَكُمَا". ذلِكَ أَنَّ بَعضَ الجِدَالاتِ تُضْحِي عَقيمَةً بِلا نَتيجَة. والحَكيمُ يَعرِفُ أَنْ يَتَرفَّعَ عَنْ هَذِهِ الْمُمَاحَكَات، بَعدَ اسْتِنفَاذِ طُرُقِ النِّقَاشِ الْمَنطِقيّ، لِكَي يُحافِظَ عَلَى سَلامِ نَفسِهِ وسَكينَةِ قَلْبِه.
في مَثلِ هَذا الأحد "العَذَارى العَشر"، نَرَى أَنَّ الحَكيمَ هوَ الّذي يُحسِنُ التَّصَرُّفَ في أُمورِ الدُّنيا، دُونَ أَنْ يَغفَلَ عَنِ الاستِعدادِ لِمَا هوَ آَتٍ. فالحَكيمُ هوَ اليَقِظ، الّذي لا يَدَعُ شُؤونَ دُنيَاه، تَطغَى عَلَى الاستِعدادِ الحَسنِ لِآخرَتِه ومُلاقَاةِ العَريس، أَي رَبِّه، مُلاقاةَ الأحبَاب. أَمَّا الجَاهِلُ فَهوَ مَن: ﴿يَصرِفُ هَمَّهُ إلى أمورِ العالم﴾ (1قور 33:7)، فَيَغُطُّ في نَومٍ عَميقٍ مِنَ الكَسَلِ والتَّراخي، مُعتَقِدًا أنَّهُ مُخلَّدٌ في هذهِ الحَياة، ولا يَستَيقِظُ إلّا عِندَ فَوَاتِ الأوَان، وقَدْ "أُغلِقَ البَاب"، لِيَظلَّ خَارجَ الدَّارِ الأبَديَّة، جَزَاءَ إِهمالِهِ وقِلَّةِ استِعدَادِه!
لَرُبَّما حَادِثَةُ مَريمَ ومَرتا (لوقا 38:10-42)، تُعَبِّرُ عَنِ العَذراءِ الحَكيمَةِ والعَذراءِ الجاهِلَة! فَمَريمُ هِيَ الحَكيمَةُ الّتي عَرَفَت أنْ تَختارَ النَّصيبَ الأفضَل، الّذي لَنْ يُنزَعَ مِنهَا، عِندَما: ﴿جَلَسَتْ عِندَ قَدَمَيِّ الرّب، تَستَمِعُ إلى كلامِه﴾ (لوقا 39:10). في حينِ أنَّ مَرتا الْمِسكينَة، ولَو لَمْ يَكُنُ الأمرُ عَنْ سُوءِ نيّة، إلّا أَنَّها قَدْ أَساءتِ الاختِيار، إذْ كَانَت: ﴿في هَمٍّ وارْتِبَاكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة﴾ (لوقا 41:10). فالْحَكيمُ عِندَ الله، هوَ مَنْ يُحسِنُ اختيارَ "النَّصيبِ الأفضَل"، ذَاكَ الّذي يَؤولُ إلى خَلاصِه.
أَحيانًا كَثيرَة، تُدَاهِمُنا الحَياةُ كالْمَوجِ العَاتي، بِتَزَاحُمِ أَشغالِهَا ومُتَطَلَّباتِها وهُمومِهَا، فَنَغفَلُ ونُهمِل، بِقَصدٍ أو بِغيرِ قَصد، عَنِ اختيارِ النَّصيبِ الأفضَل، فَيَغدُو حَالُنا كَحَالِ مَرتا، أَو حَالِ العَذَارَى الجَاهِلات، الَّلواتي فَقَدْنَ حَقَّ الدُّخولِ إلى رُدهَةِ العُرس، جَرَّاءَ الإهمالِ والكَسَل. ونحنُ كُلُّنا، مَعَرَّضونَ أَيضًا لِأنْ نَفقِدَ نِعمةَ الدُّخولِ إلى رُدهةِ العُرسِ الأبَديّ حَيثُ العَريسُ السَّمَاوي. مُعَرَّضونَ لأنْ نَفقِدَ نِعمةَ الجُلوسِ إلى مَائدة الحَملِ يَسوعَ الْمَسيح، نَظَرًا لِقلّةِ السَّهرِ والاستِعدادِ، والانشِغَالِ بِكُلِّ مَا هو دُنْيَوي، وإهمالِ اللهِ والتَّغَاضي عَنه.
يُدرِكُ الإنْسانُ كُلَّ خَيرٍ زَمَنيّ، مِن الصِّحَّةِ إلى الْمَال، ويَسعَى وَراءَهُ كُلَّ العُمر، دُونَ كَلَلٍ وبِلا مَلَل. ويَسْتَهتِرُ ويَتَقَاعَسُ ويَتَهَاوَنُ في شَأنِ خَيرِهِ الرُّوحِيّ وخَلاصِهِ الأبَديّ، مُعْتَقِدًا أنَّ "العَريسَ يُبْطِئ". ولا يُفطَنُ إلَّا والْمَوتُ يَقرَعُ البَابَ قَابِضًا النَّفَس، الّتي تَمثُلُ أَمَامَ رَبِّها، كَمِصباحِ الزَّيتِ الفَارِغِ الجَافِّ الْمُطفَأ. وعِندَها تُمسِي يَا إنْسَانُ زَيتًا، ولَكِنْ لِنَارِ جَهَنّمَ والهَلاكِ الأبَديّ!
في رِسَالتِهِ الثَّانيةِ إلى أَهلِ قُورنتوس، يَقولُ القِدّيسُ بولس: ﴿عَلَى أنَّ هَذا الكَنزَ نَحمِلُهُ في آَنيةٍ مِنْ خَزَف﴾ (2قور 7:4). هَذا الكَنزُ الثّمينُ هو الإيمان، لَكِنَّهُ كَنزٌ مُعَرَّضٌ لِلفُقدانِ والضَّيَاع، إذا لَمْ تَحرُسهُ وتَحميِه. وهوَ هَشٌّ إذا لَم تُغَذِّيهِ وتُقَوِّيه، كِآَنيةِ الخَزَفِ الجَميلَة، لَكِنّهَا إِنْ وَقَعَتْ تَنْكَسِر! وكَيفَ تُقَوّي إيمانَك؟ بِزَيتِ الأعمَال! وفي هَذَا الشَّأنِ كَتبَ الرّسولُ يَعقوبُ قَائِلًا: ﴿وكَذلِكَ الإيمان، فَإنْ لَم يَقتَرِنْ بالأعمَالِ، كَانَ مَيتًا في حَدِّ ذَاتِه. فَأَرني إيمانَكَ مِنْ غَيرِ أَعمَال، أُرِكَ أَنَا إيماني بِأعمَالي﴾ (يع 17:2-18).
الإيمانُ إناءٌ جَميلٌ زَيتُهُ الأعمَالُ الصّالِحَة. ولِكَي يَبقَى إناءُكَ مُضَاءً إلى أنْ يَأتي العَريس، لا بُدَّ مِنْ مَلْئِهِ دَومًا بِزيتِ الأعمَال. وكُلَّمَا كَانَت أَعمالُكَ صَالِحة، كُلَّمَا ازَدادَ إيمانُكَ اشْتِعَالًا وتَوَهُّجًا. وكُلَّما كَانَتْ أَعمَالُكَ قَبيحَة، كُلَّمَا خَمُدَ إيمانُكَ وكَانَ عُرضَةً لِأنْ يَنْطَفِئ.
"إبْطاءُ العَريسِ" قَدْ يَكونُ سَبَبًا لِأنْ نُصَابَ بالإحباطِ وفُتورِ الهِمّةِ أو حَتّى اليَأس. وعِندَ النَّظَرِ إلى كُلِّ مَا يَحدُثُ في مَنْطِقتِنَا مِنْ عُنفٍ واقْتِتالٍ ودَمَارٍ ومَآسٍ بالجُملَة، وأَجواءٍ حَالِكةٍ مُظلِمَة، بَاعِثَةٍ عَلَى الكَآبَةِ والكَراهِية، نَشعرُ وكَأَنَّ اللهَ "يُبْطِئُ أَكثرَ مِن الّلازِم". وعِندَهَا يَستَسلِمُ البَعضُ بجهالَةٍ لِلنَّوم، أَي لِفُقدَانِ الأمَلِ وانْطِفَاءِ الرَّجَاء، والبَعضُ الآخرُ يَظلُّ بِحكمَةٍ سَاهِرًا يَقِظًا، والإيمانُ واليَقينُ في قَلبِهِ يَبقَى مُشتَعِلًا: ﴿بالرّبِّ الَّذي عِندَهِ الرَّحمَةُ، ووَفرَةُ الفِدَاء﴾ (مزمور 7:130ب).
وحينَ يَأتي العَريسُ، لَنْ يَجِدَ سِوَى الحُكماءِ أَصحابِ الآنيةِ الْمُضاءَة. أَمّا الجَهَلَةُ الَّذينَ انْطَفَأت آَنِيتُهم، فسَيَبْقونَ في عَتمَتِهم الأبَديّة، حَيثُ الضَّياعُ والحُزنُ الأبديّ.