موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٣ مارس / آذار ٢٠٢٤

تَجْرِبَة يَسوع بمَفْهوم مَرقس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الأوَّل من الصَّوم: تَجْرِبَة يَسوع بمَفْهوم مَرقس الإنْجيلي (مرقس 1: 12-15)

الأحد الأوَّل من الصَّوم: تَجْرِبَة يَسوع بمَفْهوم مَرقس الإنْجيلي (مرقس 1: 12-15)

 

 النَّص الإنْجيلي: (مرقس 1: 12-15)


12 وأَخَرجَه الرُّوحُ عِندَئِذٍ إلى البرِّيَّة، 13فأَقام فيها أربَعينَ يَومًا يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ وَكانَ معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه. 14 وبَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إلى الجَليل يُعلِنُ بِشارَةَ الله، فيَقول:  15 ((تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة)).

 

 

المقدمة

 

تُذِّكر الكنيسة كل سَنة في زمن الصَّوم الكبير بتَجْرِبَة يسوع في البرِّيَّة (مرقس 1: 12-15)، في بداية خدمته العلنيَّة بعد عِماده في نهر الأرْدنِّ على يد يُوحَنَّا المَعْمَدان وصيامه أربعين يومًا في البرِّيَّة. إذ قَبْلَ رسالته العلنيَّة في العَالَم كان على يسوع أن يتحدَّى قوَّة الشَّيطان ويُكسر شوكته، كما يقول صاحب الرِّسالة إلى العِبرانيِّين "لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة"(عبرانيِّين4: 15). فيسوع قضى أربعين يومًا للصلاة والوحدة بالله الآب كي يُعلمنا كيف نقاوم تحدِّيات وتجارب ليس بمفردنا بل بقوة الرّوح الحال فينا، وبدخولنا بعلاقة بالآب السَّماوي وقبول بُشرى الملكوت والانتصارعلى وقوات الشَّر التي تُهاجمنا ليس في وقتٍ معين، بل في كل لحظةٍ من لحظات حياتنا، لأنَّ الحياة هي بمثابة تَجْرِبَة وصراع.  ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنْجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النَّص الإنْجيلي (مرقس 1: 12-15)

 

12 وأَخَرجَه الرُّوحُ عِندَئِذٍ إلى البرِّيَّة:

 

تشير عبارة "أَخَرجَه الرُّوحُ" إلى أول عمل ليسوع الذي تمُّ بتأثير قوَّة الرُّوح القُدُس بعد أن نزل عليه في اعتماده في نهر الأردنِّ (مرقس 1: 9-11). وهنا يظهر عمل الرّوح القُدُس في ارتباط بحدث المَعموديّة.  إذ امتلئ يسوع من الرُّوح القُدُس لكي يتم َّرسالته (لوقا 4: 4: 14-18)، فقاده الرُّوح إلى البرِّيَّة لمُجابهة سُلطان الشَّيطان ومُحاربته وتحطيم قوته لحساب الإنْسَان. ومن هذا المنطلق، تدخل التَّجْرِبَة في مُخطَّط الله من خلال تضامن يسوع مع الإنْسَان لكيلا يسقط في التَّجْرِبَة، بل يستفيد من هذه التَّجْرِبَة ليمتحن إيمانه بالله ويختبر حبَّه له تعالى (أيوب 1-2) فيُثبِّت حريته بالله. يعلق البابا فرنسيس " يسوع نفسه، دفعه الرّوح القدس إلى البرِّيَّة ليُجرَّبَ في حرّيّته" (رسالة البابا لمناسبة الزمن الأربعيني 2024).  جُرِّب يسوع فعرف ضعفنا، "لِيَكونَ عَظيمَ كَهَنَةٍ رَحيمًا مُؤتَمَنًا عِندَ الله" (عبرانيِّين 2: 17) فاستطاع مساعدة المُجرَّبين "لأنَّه قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين" (عبرانيِّين 2: 18). أمَّا لفظة "عِندَئِذٍ " في الأصل اليوناني εὐθὺς (معناها في الحال أو للوقت) فتشير إلى تعبير ممّيز في إنْجيل مرقس الذي تكرَّر 41 مرة. وتدلَّ هذه اللفظة هنا على فوريَّة حدث التَّجْرِبَة بعد اعتماد يسوع. فهناك علاقة وثيقة بين المَعْمودِيّة والتَّجْرِبَة. بالمَعْمودِيّة كرّس يسوع نفسه لطريق الصَّليب، وفي التَّجْرِبَة، عرض الشَّيطان لعقله طرقًا لإنجاز خدمته دون أن يتعرَّض للصَّليب. إنَّ يسوع كان في المَعْموديّة عاملا مُسلِمًا ذاته لأبيه السَّماوي؛ أمَّا في التَّجْرِبَة فكان مُنقادًا من الرُّوح؛ في المَعْمودِيّة أكمل البِرَّ، وفي التَّجْرِبَة كان بِرَّه تحت التَّجْرِبَة؛ وأمَّا متى الإنْجيلي فقد ربط التَّجْرِبَة بعماد يسوع ليدل على أنَّ المؤمن هو ابن الله الذي انتصر على إبليس منذ عماده فلا يبقى له إلاَّ أن يجعل هذا الانتصار واقعًا محسوسًا. لذلك بعد العماد مباشرة، يحقد الشَّيطان على المُؤمن ويَحسده عقب كل بركة ينالها. أمَّا عبارة "البرِّيَّة" فتشير إلى العزلة حيث واجه يسوع تجربته العظيمة منفردًا. فالبَرِّيَّة ضرورية حيث يمكن للمرء حيث لا يسمع الإنسان عن الله فقط (أيوب 42: 5)، ولكنه يعيش تجربة شخصية. ويُعلق القدّيس العلامة أمبروسيوس، أسقف ميلانو "يجب أن نتذكّر كيف طُرِد آدم الأوّل من الفردوس إلى البرَيَّة، لكي تشدّ انتباهنا الطَّريقة التي عاد فيها "آدم الآخر"، يسوع المسيح (1قورنتس 15: 45) من البريَّة إلى الفردوس" (تأمّل عن إنْجيل القدّيس لوقا). وبدخولِه البرّيَّة دَخَلَ الرَّبَّ يسوعَ تاريخَ الخلاصِ لشعبه، شعب الله المُختار ليعيش ثانيَّة تجارب شعبه. فأصبحت البرِّيَّة المكان الذي يمكن أن تنضج فيه حرّيتنا فنتَّخذ قرارًا شخصيًّا بألّا نعود مرّة أخرى إلى العبوديّة. والتَّقليد حدّد مكان التَّجْرِبَة في بَريَّة أريحا على جبل قرنطل المَعروف بجبل التَّجْرِبَة، وهي رمزٌ إلى بَريَّة سيناء (خروج 24: 18). وتعتبر البرِّيَّة المُقفرة المُوحشة الخَربة مكانَ الشَّياطين، وبها وحوش مخيفة، يخيف بها إبليس الإنْسَان.  فقد جاء السَّيد المسيح إلى البرِّيَّة ليُحارب الشَّر في عقر داره (لوقا 11: 18-19). ويعُلق البابا فرنسيس "نعرف أن الشَّرّ يعمل للأسف في حياتنا وحولنا وفينا، حيث يظهر العنف ونبذ الآخر والانغلاق والحروب والظلم. فجميع هذه الأعمال هي من صنع الشَّرير، من صنع الشَّر" (عظة 18/2/2018).

 

13 فأَقام فيها أربَعينَ يَومًا يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ وَكانَ معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه:

 

تشير عبارة "أربَعينَ يَومًا " إلى دوام التَّجْرِبَة طوال إقامة يسوع في البرِّيَّة، في حين أن التَّجْرِبَة في إنْجيلي متى ولوقا تَمَّت في نهاية إقامة يسوع في البرِّيَّة "فصامَ أَربَعينَ يومًا وأَربَعينَ لَيلةً حتَّى جاع فدَنا مِنه المُجَرِّبُ" (متى 4: 2، ولوقا 4: 1).  وذكر متى الإنْجيلي تَجْرِبَة يسوع كأنَّها حدثت عند نهاية تلك المُدَّة  ( متى 4: 2-3)  ويذكِّرنا الرَّقم (40) بخبرة موسى خلال أربعين يومًا التي قضاها في صومٍ مُطلق، بعيدًا عن شعبه، في عُزلة الغمام، على قمّة جَبَلِ سيناء (خروج 24: 18)، ويُذكرنا هذا العدد أيضًا بخبرة إيليا: فبعد اضطهاد الملك آحاب، سار إيليّا في البرِّيَّة أربعين يومًا، عائدًا بذلك إلى نبع العهد، إلى صوت الله، من أجل انطلاقة جديدة لتاريخ الخلاص (1ملوك 19: 18)، ويُذكرنا هذا الرَّقم أخيرًا بالأربعين سنة التي فيها جُرّب الشَّعب العبراني في البرِّيَّة (تثنية الاشتراع 8: 2-3) التَّجارب الثلاث: تَجْرِبَة الجوع (المنّ: خروج 16)، تَجْرِبَة مطالبة الله بالخوارق (معجزة الماء: خروج 17)، تَجْرِبَة عبادة الأصنام (عجل الذَّهب: خروج 3). ومن هذا المنطلق يدل الرَّقم 40 على زمن مِحْنة، ولكنَّ الكتاب المقدس أراد بالأحرى أن يُشدِّد على المعنى الرَّمزي، وهو عمر جيل بكامله وهي فترة زمنية طويلة لا نعرف مدتها معرفة دقيقة (التَّكوين 7: 4 وخروج 24: 18). والغريب أنَّ أيامنا المعاصرة دخلت عبارة " أربعين يوما" على كلمة الحَجر الصِحِّي لمدة أربعين يومًا (quarantine)، وذلك للشِفاء من كارثة كورونا وعدم نشر هذا الوباء للقريب منّا لئلا يصاب هو أيضًا بالعدوى. وما الصِيام إلّا حجرٌ وعزلٌ عن مرض الخطيئة لكي ننتصر على التَّجْرِبَة. مدّة أربعين يومًا سيكون يسوع أمامنا ومعنا.  أمَّا عبارة " يُجَرِّبُهُ " في الأصل اليوناني πειράζω وفي العبريَّة נסה فتشير إلى إدراك يسوع وجود صوت المُجرّب يتكلّم بشكل مُعاكس لصوت الله حيث يدعو إلى التَّمرُّد بدل الطَّاعة، والخيانة بدل الأمانة لمشيئته الإلهيَّة والغنى بدل الفقر؛ ويعلق البابا بندكتس السادس عشر "حتى في حالة الفقر المدقع والتواضع، عندما جرّبه الشيطان، بقي يسوع ابن الله، المسيح الرَّبّ" (1/3/ 2009). وبالتَّالي تقوم التَّجْرِبَة بتفضيل العَالَم ومُغرياته على الله (تكوين 2 :17). فالتجربة إذن هي صراع واختبار إذا كان إيمان الإنسان يصمد ويقاوم خاصة عندما تبدو الأمور مستحيلة أو صعبة. والتَّجْرِبَة هي الحَقل الذي يُعطى فيه الإنْسَان جوابه لله بكل الحرِّيَّة (التَّكوين 2 :17) إن إرادة الله لا تُفرض نفسها علينا، بل تسأل أن يتمَّ اختيارها بحرِّيَّة ومَحَبَّة. والمَحَبَّة تعني الاختيار. لذلك يدرك الإنْسَان أنه عليه أن يختار إلى من يُصغي، والطَّريق التي يسلك فيها، وفيمن يضع ثقته، وهكذا مثل كل إنسان، على يسوع أن يُقرِّر.  أمَّا عبارة "الشَّيطانُ" في الأصل اليوناني Σατανᾶ وفي العبريَّة שָׂטָן (أي العدو أو الخصم أو المقاوم) وسمَّاه إنْجيل متى (4: 1) ولوقا (4: 2)  " إبْليس" في الأصل اليوناني διάβολος, (المشتكي لأنَّه يشكو الله إلى النَّاس) ( التَّكوين 3: 1-5) ويشكو النَّاس إلى الله (أيوب 1: 9-11) فتشير إلى العدو الذي يُعارض الله وإقامة مَلَكوته على الأرض، فالشَّيطان يرفع الدعوى على أبناء الله مُتَّهمًا إيَّاهم أمام محكمة السَّماء، فهو "المُتّهم "؛ وهكذا أصبحت لفظة "الشَّيطان" اسم علم لروح الشَّرّ الذي يُفسِد علاقة البشر مع الله (أيوب 1 : 6).  ويُدعى أيضًا " بَعلَ زَبول أو "بعل زبوب" (متى 3: 22)، وهو أحد أسماء رئيس الشَّياطين (مرقس 3: 22)، أو "بعل الزّبل" أو " بعل الذَّباب" أو "بليعال" أو "بليعار" من العبريَّة בְּלִיַּעַל ومعناها "عدم" (2 قورنتس 6: 15). ولذلك فإنّ اسمه مرتبط دائمًا بأفعاله، فحيث يكون الكَذب والنَّميمة والحَسد والقتل والسِّرقة والغَضب، فهناك الشَّيطان مُسبِّبُها (تكوين 3: 13). إنه الشَّريّر، أبو الكَذب الذي طغى على الإنْسَان وأضلّه. وأمَّا متى الإنْجيلي "(متى 4: 3) وبولس الرَّسول فقد أطلقا على الشَّيطان اسم "المُجرِّب (1 تسالونيقي 3: 5). والتَّعليم عن شخصيَّة الشَّيطان في الكتاب المقدس تعليمٌ واحدٌ متماسكٌ من سفر التَّكوين حتى سفر الرُّؤيا. إبليس هو "العدو رقم واحد، إنه المُجرِّب بامتياز". ويعلق البابا بولس السادس إلى أن أحد أعظم احتياجات الكنيسة "أن تحمي من الشَّرِّ الذي نسميه الشيطان" (15 تشرين الثاني 1972).

 

 

وأمَّا عبارة "كانَ معَ الوُحوش" فتشير إمَّا للتَّشديد على عزلة المعركة في البرِّيَّة، كما تلمِّح سيرة دانيال ورفاقه الذين كانوا مدعوِّين لاختيار الشَّخص الذي سيصغون إليه ويضعون ثقتهم به كأبناء: الله أم المَلك داريوس (دانيال 6: 17)، وإمَّا  تشير إلى نبوءة أشعيا " تُلاقي وُحوشُ القَفْرِ الضِّباع ...وتَجِدُ لِنَفسِها مَكانًا مُريحًا "(أشعيا 34: 11-15)، أو تعطي فكرة سابقة عن وئام العَالَم تحت سلطة المسيح، كما ورد في نبوءة أشعيا " فيَسكُنُ الذِّئبُ مع الحَمَل وَيربِضُ النَّمِرُ مع الجَدْيِ ويَعلِفُ العِجلُ والشِّبلُ معًا وصَبِيٌّ صَغيرٌ يَسوقُهما "(أشعيا 11: 6). ولعَلَّ يعيد مرقس الإنجيلي قراءة الصفحات الأولى من سفر التكويّن معتمداً في خلفيته على رواية الخلق حيث كان آدم وحواء قبل الزَّلة يعيشان في انسجام مع الحيوانات والخليقة. فيسوع، وهو ابن الله الحبيب، هو الإنسان الجديد الذي أعاد الانسجام في الكون والحياة الجديدة، أو لعلَّ مرقس الإنْجيلي يقصد بها أيضًا وحوش الشَّر، كما يوحي صاحب المزامير" ثيرانٌ كثيرةٌ أَحاطَت بي وضَواري باشانَ حاصَرَتني فَغَرَت أَشْداقَها علَيَّ أُسودًا مُفتَرِسةً مُزَمجِرة" (مزمور 22: 13-14)؛ وأمَّا عبارة "كانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه" فتشير إلى العَون الإلهي لتشديد عزيمة يسوع بسبب قسوة المعركة، كما ورد في إنْجيل لوقا عند نزاع يسوع في الجسمانيَّة "تَراءَى له مَلاكٌ مِنَ السَّماءِ يُشَدِّدُ عزيمَتَه " (لوقا 22: 43). فالملائكة هم للتّعزية والخدمة، والشَّياطين للتَجْرِبَة والهلاك. أمَّا عبارة "يخدُمونَه" فتشير إلى خدمة المائدة وتقديم الطَّعام بعد صومه الطَّويل (متى 8: 15)؛ ينال يسوع الطَّعام من الله على يد الملائكة. ويُعلِّم يسوع تلاميذه أن يطلبوا وينالوا هذا الطَّعام من الآب السَّماوي أيضا "رزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا" (لوقا 11: 3). وحيث أنّ يسوع الابن لم يطالب لنفسه أن يكون مساويًا لله (فيلبي 2)، لذلك أعطي له ما لم يطالب به: هوّذا يسوع يعامَل بصفة ملك، يتلقّى طعامه من مرسلي الله: "وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه". وتعتبر الخدمة مع التَّسلط على الوحوش إحدى وعود الله التي يمنحها للمتوكِّلين عليه كما يترنَّم صاحب المزامير " لأنَّه أَوصى مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ في جَميعِ طرقِكَ. على أَيديهم يَحمِلونَكَ لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَكَ. تطأ الأَسَدَ والأفعى تدوسُ الشبلَ والتَّنين. أُنجيه لأنَّه تعَلق بي أَحْميه لأنَّه عَرَفَ اسْمي" (مزمور91: 11-13). وأخيرًا، إذ كان يسوع مع الوحوش والملائكة تخدمه، فهي صورة آدم الحقيقيَّة، آدم الجديد الذي يُحيي آدم القديم. إنّها صورة الفِردوس الأوّل، حيث يسود الإنْسَان على الوحوش بكلمته مثلما يفعل الله. وهكذا يلمِّح لنا مرقس الإنْجيلي أن يسوع قد انتصر على التَّجْرِبَة دون ذكر محتوى هذه التَّجْرِبَة ولا عددها ولا الوسائل التي استخدمها يسوع للتغلب عليها.  وباختصار، أراد مرقس الإنْجيلي أن يركِّز على أهميَّة التَّجْرِبَة حيث قَبِلَ يسوع أن يجرِّبه إبليس كما يُجرّب كل إنسان تضامنًا مع الوضع البشري.

 

14 وبَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إلى الجَليل يُعلِنُ بِشارَةَ الله، فيَقول:

 

تشير عبارة "بَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إلى الجَليل" إلى تعليق القدّيس العلامة ايرونيموس " حسب تفسيرنا، يُمثّل يُوحَنَّا الشَّريعة، ويُمثّل يسوع الإنْجيل. في الواقع، يقول يوحنّا: "يَأتي بَعدي مَن هو أَقوى مِنيِّ": هكذا يقارن الشَّريعة بالإنْجيل. جاء يسوع إذن لأنَّ يُوحنَّا كان قد سُجِن. في الواقع، الشَّريعة مغلقة ومسجونة، لم تعدْ تملك حرّيّتها السَّابقة؛ لكنّنا انتقلنا من الشَّريعة إلى الإنْجيل" (عظات حول إنْجيل القدّيس مرقس). أمَّا عبارة "بَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا " في الأصل اليوناني παραδοθῆναι (معناها حبس دون إصدار حكم على المُتهم) فتشير إلى حبس يُوحَنَّا المَعْمَدان من قبل الملك هيرودس انتيباس (4 ق.م – 39 ب. م) في قلعة مكاور (كلمة يونانيَّة الأصل μάχαιραمعناها سيف) الواقعة شرقي البحر الميت على بعد 32 كم جنوب غرب مدينة مادبا كما يروي المؤرخ يوسيفوس فلافيوس (الحرب اليهوديَّة 6. 7. 2. ).  فبعد اعتقال يُوحَنَّا، بدأ يسوع بشارة الله. ولكي يتجنَّب يسوع الخطر الذي يُهدِّد حياته، كما حدث مع يُوحَنَّا المَعْمَدان ابتعد إلى الجليل. أمَّا عبارة "يُعلِنُ بِشارَةَ الله" فلا تعني فقط أنَّ البشرى تأتي من الله، بل أنها "قوَّة الله للخلاص" (رومة 1: 16)، وإعلان عمل الله في يسوع. فبعد التَّجْرِبَة في البرِّيَّة، بدأ يسوع فورًا بإعلان َ الإنْجيل، أي البشرى السَّارة، وهي أنَّ المسيح الذي طال انتظاره قد جاء ليبدأ مَلَكوت الله على الأرض، وغالبيَّة النَّاس الذين سمعوا تعاليمه كانوا من الفقراء والمساكين ومن لا رجاء لهم، فكانت كلماته البشرى السَّارة لهم، لأنَّها تمنح الحُرِّيَّة والبركات والوعد بالحياة الأبديَّة. إن المسيح قد كمَّل زمن الانتظار، وان مَلَكوت الله الذي طال انتظاره قد اقترب. وأصبح إعلان بشارة الله مُهمّة الرُّسل الذين يتابعون رسالة المسيح، كما ورد في رسالة بولس الرَّسول " فقَد لَقِينا في فيلِبِّيَ العَذابَ والإِهانَةَ كما تَعلَمون، ولكِنَّنا جَرؤْنا، لِثِقَتِنا بِإِلهِنا، أَن نُكلِّمَكم بِبِشارةِ الله في جِهادٍ كَثير"(1 تسالونيقي 2: 2).

 

15 تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة.

 

تشير عبارة " تَمَّ الزَّمانُ" إلى الوقت الذي حدّده الله الآب لتحقيق مواعيده (مرقس 13: 20). وعليه يبدأ يسوع عصرًا جديدًا. ولا يجوز أن ننتظر زمانًا آخر كما ينتظر اليهود؛ وقد أكد ذلك يسوع بقوله "ولَو لم يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلكَ الأَيَّام، لَما نَجا أَحَدٌ مِنَ البَشَر. ولكِن مِن أَجلِ المُختارينَ الَّذينَ اختارَهم قَصَّرَ تِلك الأَيَّام. (مرقس 13: 20). أمَّا عبارة "اقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله" فتشير إلى المَلَكوت الذي هو قريب وحاضر بهزيمة إبليس، إذ تمّ افتتاح الملكوت في شخص يسوع وعمله في صورة خَفيَّة قبل ظهوره علانيَّة للجميع. وليس مَلَكوت الله مكانٌ ندخل فيه، بل حالةٌ نعيشها. وإنَّ مجيء المَلَكوت يتمُّ من خلال التَّوبة وقبول البشارة بالإيمان (1 تسالونيقي1: 5-6). ويعلق القدّيس إقليمنضُس الإسكندريّ "يسوع يصرخ إذًا ليحثّ البشر على إنقاذ أنفسهم: "تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله". هو يريد أن يهتدي النَّاسُ الذين يأتون إليه "("بروترِبتيكوس" أو الإرشاد لليونانيِّين، 9).  أمَّا عبارة " َاقْتَرَبَ " فتشير إلى مجيء المسيح الذي يجعل المَلَكوت قريبًا من النَّاس. فبعد تركه البَرِّيَّة، يستطيع يسوع أن يعلن حقًا ملئ الزمان واقتراب مَلَكوت الله. وانتصار يسوع في بدء حياته العلنيَّة على تَجْرِبَة الشَّيطان يجعل منه استباقًا لانتصاره في الفصح. أمَّا عبارة " مَلَكوتُ الله " فتشير إلى حكم الله في قلوب النَّاس وفي المجتمع البشري الذي حقّقه يسوع في ذاته بانتصارك على إبليس بقوة الرّوح ثم وإعلان الملكوت. أمَّا عبارة "فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة" فتشير إلى نِداء يسوع إلى التَّوبة والإيمان بالإنْجيل وجواب الإنْسَان لدعوة مَلَكوت الله. إنَّها رسالة الخلاص التي حملها يسوع إلى العَالَم. فالتَّوبة والإيمان هما مفتاح الإنْجيل الذي سيتواصل في الكرازة المسيحيَّة، ويصبح بعد القيامة خلاصًا يُعطى لنا في يسوع المسيح، كما جاء في رسالة بولس الرَّسول لأهل تسالونيقي "لأنَّ بِشارَتَنا لم تَصِرْ إِلَيكم بِالكَلامِ وَحْدَه، بل بِعَمَلِ القُوَّةِ وبِالرُّوحٍ القُدُسِ وبِاليَقينِ التَّامَّ " (1 تسالونيقي 2: 5). أمَّا عبارة "فَتوبوا" فتشير إلى تغيير نمط الحياة للتطابق على حياة الإنْجيل الذي يتطلّب من الإنْسَان التَّغيير الجَذري لحياتنا وقبول الكلمة التي يُوجِّهها الله، من خلالِ يسوع، إلى البشريَّة في الأزمنة كلِّها. إنها كلمات تفتح طريق الرجاء لجميع الذين يستمعون إليها ويؤمنون بها. وتتسأل القديسة تيريزا الكالكوتيَّة: "عن أي شيء نتوب؟ عن لامبالاتنا، عن قساوة قلبنا"(رسالة بتاريخ 25/3/1993 إلى رهبنتها بعنوان "العهد الرُّوحي").  ويضيف القدّيس كيرِلُّس، بطريرك أورشليم " ها هوذا الأنَّ وقت التَّوبة. اعترفوا بالخطايا التي فعلتموها، بالكلام أو بالفعل، في الليل أو في خلال النَّهار، اعترفوا في " وَقتِ الرِّضى" (أشعيا 49: 8)، واحصلوا على كنز السَّماء " في يَومِ الخَلاص" (2 قورنتس 6: 2)، وتخلّصوا من كلّ المشاغل البشريَّة واعتنوا بروحكم. تحرّروا من الحاضر وآمنوا بالمستقبل: " كُفُّوا واْعلَموا أنَي أَنا الله"(مزمور 46: 11). وطهّروا قلوبكم لتنالوا النِّعم بغزارةٍ، شراكة الرُّوح القُدُس مُنحت لكلّ واحدٍ بحسب إيمانه" (تعليم مسيحيّ للموعوظين). أمَّا عبارة " وآمِنوا "فلا تشير إلى مجرد عقيدة، إنَّما هو أيضًا حياة الطَّاعة لله والعمل بوصاياه والسَّير معه وصنع البِرِّ، كما فعلوا آباؤنا الأقدمين " فهُم بِفَضلِ الإيمان دوَّخوا المَمالِك وأَقاموا العَدْل ونالوا المَواعِد وكَمُّوا أَفْواهَ الأُسود" (عبرانيِّين 11: 33). أمَّا عبارة "البِشارة" فتشير إلى الإنْجيل الذي يُعلن عمل الله في يسوع المسيح " فهو قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن" (رومة 1: 16). ويُعلق العلامة القدّيس بونافَنتورا "آمِنوا بِالنُّور، ما دام لكُمُ النُّور لِتَصيروا أَبناءَ النُّور" (يُوحَنَّا 12: 36). بدون هذا النُّور الذي هو الرَّبّ يسوع المسيح، لا يستطيع أحد أن يدركَ أسرار الإيمان "(عظة بعنوان "الرَّبّ يسوع المسيح المعلّم الأوحد"). فالتَّوبة والإيمان مُتلازمان، لا تقوم التَّوبة من دون إيمان، فالاثنان ينبعان من تلاقيهما ببشارة الكلمة الحيَّة، ومن حُضور يسوع الذي لا يزالُ يُردِّد اليوم أيضًا: " توبوا وآمِنوا بِالبِشارة ". فكلمات يسوع هي يسوع بالذَّات، حيث أن يسوع وكلمتُه واحدٌ.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنْجيلي (مرقس 1: 12-15)

  بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنْجيلي وتحليله (مرقس 1: 12-15يمكن الاستنتاج أنَّ النَّص يتمحور حول ثلاثة نقاط: مفهوم التَّجْرِبَة وتَجْرِبَة يسوع وتَجْرِبَة الإنْسَان.

 

1) مفهوم التَّجْرِبَة:

 

التَّجْرِبَة هي محاولة الإنْسَان أن يُثبت لنفسه أنه "مِثل الله" نتيجة إغراء الشَّيطان، كما ورد في قول الشَّيطان في تَجْرِبَة آدم وحواء " فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلان مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ "(التَّكوين 3: 5). فالتَّجْرِبَة ليس من الله لكن يسمح بها إذ هي دعوة إلى الخطيئة. والخطيئة تلد الموت، كما جاء في تعليم يعقوب الرَّسول "الخَطيئَةُ إِذا تمَّ أَمرُها خَلَّفَتِ المَوت" (يعقوب 1: 15). والشَّيطان هو الذي يجرّب؛ في حين أنَّ الله لا يجرّب إنما يمتحن، كما صرّح يعقوب الرَّسول "إِذا جُرِّبَ أَحَدٌ فلا يَقُلْ: إِنَّ اللهَ يُجَرِّبُني. إِنَّ اللهَ لا يُجَرِّبُه الشَّرُّ ولا يُجَرِّبُ أَحَدًا" (يعقوب 1: 13)، بل يمتحن الإنْسَان ويختبره ليكشف بواطن قلبِه، كما جاء في الشَّريعة "اذكُرْ كُلَّ الطَّريقِ الَّتي سَيَّرَكَ فيها الرَّبُّ إِلهُكَ في البرِّيَّة هذه السِّنينَ الأَربَعين، لِيُذَلِّلَكَ ويَمتَحِنَكَ فيَعرِفَ ما في قَلبِكَ هل تَحفَظُ وَصاياه أَم لا "(تثنية الاشتراع 8: 2).  فالتَّجْرِبَة تأتي من المجرّب (1 قورنتس 7: 5) عبر العَالَم الذَّي هُو كُلُّه تَحتَ وَطْأَةِ الشِّرِّير (1 يُوحَنَّا 5: 19)، ومن خلال المال، كما يصرِّح بولس الرَّسول " الَّذينَ يَطلُبونَ الغِنى يَقَعونَ في التَّجْرِبَة" (1 طيموتاوس 6: 9).

 

نستنتج مما سبق أن الاختبار أو الامتحان موجّه لمنح الحياة (تكوين 2: 17)، في حين أنَّ التَّجْرِبَة تلد الموت (تكوين3). فالاختبار هو عطيَّة النِّعمة، إذ يسبر الله غور القلوب ويختبرها، كما جاء في أقوال بولس الرَّسول: "كَلامُنا كَلامُ مَنِ اختَبَرَهُمُ اللهُ لِكَي يَأتَمِنَهم على البِشارة، لا لِنُرضِيَ النَّاس، بل لِنُرضِيَ اللهَ الَّذي يَختَبِرُ قُلوبَنا" (1 تسالونيقي 2: 4)، بينما التَّجْرِبَة هي الدعوة إلى الخطيئة. ولكن يسمح الله بها لكي يمنح الإنْسَان الحياة، كما أوضح ذلك يعقوب الرَّسول" طوبى لِلرَّجُلِ الَّذي يَحتَمِلُ التَّجْرِبَة! لأنَّه سيَخرُجُ مُزَكًّى فيَنالُ إِكليلَ الحَياةِ الَّذي وُعِدَ بِه مَن يُحِبُّونَه"(يعقوب 1: 12). ولكن لا يسمح الله بتَجْرِبَة فوق طاقة الإنْسَان كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "إِنَّ اللهَ أَمينٌ فلَن يأذَنَ أَن تُجَرَّبوا بما يفوقُ طاقتَكم" (1 قورنتس 10: 13).

 

 يُعلمنا يسوع أن نصلِّي في سبيل تجنُّب الدُّخول في التَّجْرِبَة " لا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلتَجْرِبَة " (متى 6 :13)، لأنَّ التَّجْرِبَة تقود إلى الموت عن الله (يعقوب 1 :14-15). وهذا الموقف، موقف الصَّلاة الرَّبيَّة، ولكن توحي صلاة أبانا " لا تعرضنا للتَجْرِبَة (متى 6: 9-13، ولوقا 11: 1-4) بان الله هو الذي يُجرّبنا، وهذا أمر غير صحيح. لأنَّ الشَّيطان هو الذي يجرِّب المؤمنين ويسعى إلى إيقاعهم في الخطيئة "مَنِ ارتَكَبَ الخَطيئَة كانَ مِن إِبْليس لأنَّ إِبْليسَ خاطِئٌ مُنذُ البَدْء"(1 يُوحَنَّا 3: 8). ولكن لا يحسن أن نطلب من الله أن نكون في مأمن من التَّجْرِبَة، لأنَّ التَّجْرِبَة نُثبِّت حريتنا.

 

في البريَّة علَّمنا يسوع ما معنى أن نكون "ابنًا"، أي أن نكون أحرارًا. أن نكون أبناءً يعني بالضرورة أن ندخل في تَجْرِبَة. الخادم لا يُجرّب وليس عليه أن يختار بل عليه فقط أن يطيع. الابن في المقابل يستطيع ويجب أن يختار: إن لم يقم باختيار الآب، سيصبح خادمًا. والاختيار يتضمن المرور بخبرة الشَّك والاضطراب والصَّلاة والتَّذكر والفطنة. ومن هذا المنطلق، الحياة هي بمثابة تَجْرِبَة وصراع، ليس في وقت معين بل في كل لحظة.

 

إن التَّجْرِبَة من شرائع الوضع البشري، خضع لها يسوع نفسه، ومن هنا يكون المَعنى: لا تدعنا نستسلم للتَجْرِبَة"؛ فأننا نخاطب الله وننتظر عمله ونسأله أن يساعدنا إن سمح للشيطان أن يٌجرّبنا كما جرّب أبوينا الأولين آدم وحواء (التَّكوين (التَّكوين 1: 23) وأيوب (أيوب 1: 13) في العهد القديم، وجرّب يسوع في العهد الجديد.

 

وللتَجْرِبَة ثلاثة مراحل؛ وهي الإغراء من الخارج، والتَّأثير على الإرادة من الداخل، واتخاذ القرار، قبولا أو رفضًا. ولا تُصبح التَّجْرِبَة خطيئة ألاّ بقرار القبول والرِّضى بها. وإذا قبل الإنْسَان التَّجْرِبَة هلك. وإذا رفض التَّجْرِبَة نال أجرًا وثوابًا.  وباختصار، إنَّ التَّجْرِبَة تجعل الإنْسَان أن يَعبُر من الحريَّة المعروضة إلى الحريَّة المُعاشة، وبالتَّالي إلى اختيار العهد والأمانة لله على خطى السَّيد المسيح.

 

 

2) تَجْرِبَة يسوع:

 

يكشف لنا يسوع الّذي يتوجَّه إلى البرِّيَّة ليواجه تَجْربَة إبليس من خلال الصَّلاة -باتحاده بآبيه السَّماوي وبالرُّوح القُدُس وبالصَّوم. لم تكن تَجْرِبَة يسوع رمزيَّة فحسب، إنما أيضا تَجْرِبَة حقيقيَّة. وهي صراع عاشه يسوع خلال إقامته في البرِّيَّة، رافضًا المسيحانيَّة البشريَّة السِّياسيَّة التي عرضها إبليس عليه. في البرِّيَّة يُدرك يسوع وجود صوت آخر يُعاكس صوت الآب، كما حصل في البدء مع آدم وحواء. فحينما يتكلم الآب عن التَّضحية والصَّليب، يتحدث الآخر عن تحقيق الذَّات. وحينما يتكلم الآب عن الخدمة المتواضعة يتحدث الآخر عن القوَّة والنَّجاح. لذلك يدرك يسوع أنه عليه أن يختار إلى من سيصغي، والطَّريق التي سيمشي فيها، وفيمن سيضع ثقته.

 

بدأت التَّجْرِبَة بعد مَعْمودِيّة يسوع مباشرة (مرقس 1: 11-12) وانتهت بالموت والقيامة. فهناك صِلةٌ ٌوثيقةٌ بين المَعْمودِيّة والتَّجْرِبَة. فبالمَعْمودِيّة كرّس يسوع نفسه عن طريق الصَّليب، وفي التَّجْرِبَة عرض الشَّيطان ليسوع طرقًا لإنجاز رسالته دون إن يتعرّض للصَّليب رمز المسيحانيَّة الرُّوحيَّة. وإن ربط التَّجْرِبَة بالمَعْمودِيّة توضِّح معنى الحياة المسيحيَّة: أي المفروض في كل ابنٍ لله أن ينتصرَ على الشَّيطان.

 

لم يتكلم القدِّيس مرقس عن محتوى التَّجْرِبَة، ولا عن عددها، ولا الوسائل التي استخدمها يسوع للتغلب عليها، إنَّما الدُّخول فيها، وقام إنْجيل متى بذكر محتوى التَّجارب وعددها، حيث رفض يسوع التَّجارب الثلاث الأولى مع الشَّيطان (متى 4: 1-11) التي تقوده إلى مسيحانيَّة بشريَّة أرضيَّة، انتظارًا إلى التَّجْرِبَة الرَّابعة عند نهائية حياته العلنيَّة في النِّزاع في بستان الزَّيتون.

 

 

(ا) التَّجْرِبَة الأولى: رفض يسوع في التَّجْرِبَة الأولى مسيحانيَّة أرضيَّة التي تُنسِّيه أنَّه إنسانٌ، واجبه أن يعمل بيديه مثل آدم (تكوين 3: 19)؛ فطلب الشَّيطان من يسوع أن يلجا إلى قوى فائقة الطَّبيعة بتحويل الحجارة إلى خبز " فدَنا مِنه المُجَرِّبُ وقالَ له: إِن كُنتَ ابنَ الله، فمُرْ أَن تَصيرَ هذِه الحِجارةُ أَرغِفة "(متى 4: 3). ويُعلق القدّيس غريغوريوس النَّازيانزيّ " إذا عرض الشَّيطان أمامك الحاجة التي ترهقك – فهو لم يمتنع عن فعل هذا مع يسوع -، إذا ذكّرك بأنّك جائع، لا تَبدِ وكأنّك تتجاهل اقتراحاته. علّمه ما لا يعرفه؛ قاومه بكلمة الحياة، بهذا الخبز الحقيقي المُرسل من السَّماء، والذي يمنح الحياة للعالم" (العظة 40، 10).

 

(ب) التَّجْرِبَة الثانيَّة: رفض يسوع في التَّجْرِبَة الثانيَّة مسيحانيَّة أرضيَّة تُنسِّيه أنَّ عليه أن يمرَّ في الألم قبل أن يمرّ بالمجد، لذلك رفض اللجوء إلى قوته ليُبهر الجمهور بإلقاء نفسه من شرفة الهيكل كي يحمله الملائكة " إِن كُنتَ ابنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إلى الأَسفَل، لأنَّه مَكتوب: يُوصي مَلائكتَه بِكَ فعلى أَيديهم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ"(متى 4: 5-6). ويُعلق القدّيس غريغوريوس النَّازيانزيّ " إذا نصب لك فخّ الفراغ – فقد استخدمه مع المسيح، عندما جعله يصعد إلى شرفة الهيكل وقال له: "أَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إلى الأَسفَل" لكي يظهر له ألوهيّته – انتبهْ ألاّ تقع لمجرّد رغبتك في الارتفاع... " (العظة 40، 10).

 

(ج) التَّجْرِبَة الثالثة: رفض يسوع في التَّجْرِبَة الثالثة مسيحانيَّة أرضيَّة التي تُنسِّيه عون الله الذي انتظره، كما انتظره شعبه في البرِّيَّة (خروج17: 2-7) ليساوم مع الشَّيطان لاقتسام العَالَم وثرواته " ثُمَّ مَضى بِه إِبليسُ إلى جَبَلٍ عالٍ جدًّا وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدُّنيا ومَجدَها، وقالَ له: "أُعطيكَ هذا كُلَّه إِن جَثوتَ لي سـاجدًا " (متى 4: 8). ويُعلق القدّيس غريغوريوس النَّازيانزيّ " إن جرّبك بالطَّموح، مُظهرًا لك من خلال رؤيا سريعة، كلّ ممالك الأرض وكأنّها تخضع لسلطته، وإذا طلب منك العبادة، أرذله: فهو ليس سوى أخ بائس. قلْ له، واثقًا بالختم الإلهي: "أنا كذلك صورة الله؛ لم أقعْ مثلك من أعلى مجدي بسبب كبريائي! أنا لبستُ المسيح؛ لقد أصبحتُ مسيحًا آخر بمعموديّتي؛ فعليك أنت أن تعبدني". حينها، سيبتعد عنك، أنا متأكّد من ذلك، مهزومًا ومهانًا بهذه الكلمات" (العظة 40، 10).  إن يسوع لم يحاور الشيطان أبدًا، بل طرده بكلمات الكتاب المقدس، بكلمة الله. ويعلق البابا فرنسيس "لا يجب أن نتحاور أبدًا مع الشيطان" (27 كانون الأول 2023).

 

انصرف إبليس عن المسيح إلى الوقت المُعين، كما جاء في إنْجيل لوقا "فلَمَّا أَنْهى إِبليسُ جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجْرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إلى أَن يَحينَ الوَقْت" أي وقت الآلام والصَّلب (لوقا 4: 13). وهكذا تغلب يسوع على إبليس (مرقس 3: 27).  ويعلق التَّعليم المسيحي: "إن انتصار يسوع على المجرّب في البرِّيَّة هو استباق لانتصار الآلام، أي خضوع مَحَبَّة يسوع المُطلقة للآب" (التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيَّة، 539).  ويُعلق البابا يوحنا بولس الثاني: "إنَّ الكنيسة تشارك في انتصار المسيح على الشيطان".

 

(د) التَّجْرِبَة الرَّابعة والأخيرة: كانت التَّجْرِبَة الأخيرة نزاعه في بستان الزيتون كما قال يسوع للَّذينَ قَصَدوا إِلَيه مِن عُظَماءِ الكَهَنَة وقادَةِ حَرَسِ الهَيكَلِ والشُّيوخ "كُنتُ كُلَّ يَومٍ مَعَكم في الهَيكَل، فلَم تَبسُطوا أَيدِيَكُم إِليَّ، ولكِن هذه ساعتُكم! وهذا سُلطانُ الظَّلام!  "(لوقا 22: 53). فما حدث خلال الأربعين يومًا في البرِّيَّة لم يكن إلا بداية معركة ذُروتها عند الصَّليب والصَّليب هو المِحنة الكبرى (يُوحَنَّا 12 :27-28) التي فيها برهن الله عن حبّه لخلاص الإنْسَان على يد ابنه يسوع المسيح " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة. فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم " (يُوحَنَّا 3 :16-17).

 

اشتهى الشَّيطان القضاء على المسيح حيث صُلب، لكن المسيح المَصلوب جرّد خصمَه من كل سلطان، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "خَلَعَ أَصحابَ الرِّئاسةِ والسُّلْطان وشَهَّرَهم فسارَ بِهِم في رَكْبِه ظافِرا" (قولسي 2: 15).  وروايةُ التَّجارب هي بمثابة صورة لكلّ الظروف التي تُمتَحَنُ فيها أمانةُ يسوع لرسالته، حتى الصَّليب كما يوكّده تحدِّي عُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَةِ والشُّيوخ بقوله له: " فَليُنقِذْهُ الأنَّ، إِن كانَ راضِيًا عَنه، فقَد قال: أَنا ابنُ الله" (متى 27: 43). وهكذا كان للمسيح حرب مع إبليس انتهت في موت يسوع وقيامته.

 

نتيجة التَّجارب انتصر يسوع على المُجرّب منذ البداية حتى النِّهاية (لوقا 4: 13). فأعاد البشريَّة إلى وضعها الحقيقيّ وإلى دعوتها في أبّوة الله، كما جاء في تعليم صاحب الرِّسالة إلى العبرانيِّين " لَمَّا كانَ الأَبناءُ شُرَكاءَ في الدَّمِ واللَّحْم، شارَكَهُم هو أَيضًا فيهِما مُشاركةً تامّة لِيَكسِرَ بِمَوتِه شَوكَةَ ذاكَ الَّذي لَه القُدرَةُ على المَوت، أَي إِبليس، ويُحَرِّرَ الَّذينَ ظَلُّوا طَوالَ حَياتِهِم في العُبودِيَّةِ مَخافَةَ المَوتفإِنَّه كما لا يَخْفى علَيكم، لم يَقُمْ لِنُصرَةِ المَلائِكَة، بل قامَ لِنُصرَةِ نَسْلِ إِبراهيم" (عبرانيِّين 2 :14-15).

 

 

(ه) انتصار يسوع في التَّجارب

 

جُرِّب يسوع كما نُجرب نحن ولكنَّه لم يخطأ " لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة"(عبرانيِّين 4: 15)، بل خرج يسوع من التَّجْرِبَة منتصرًا، ولم يدع الشَّيطان يفصله عن الله. انتصر يسوع على المُجرِّب في عقر داره (لوقا 11: 18-19). فهو "الإنْسَان" الذي يحيا بكلمة الله وفي الوقت نفسه هو الرَّبّ "المُخلّص"، الذي يُساند شعبه في تجربته (متى 16: 1). فحمل على الصَّليب خطيئة البشر وحوّل تَجْرِبَة التَّجديف إلى شكوى بنويَّة، والموت اللامعقول إلى قيامة " فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب، لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء" (فيلبي 2: 8-9). وأعاد البشريَّة إلى وضعها الحقيقيّ وإلى دعوتها في أبّوة الله (عبرانيِّين 2 :10-18). وهكذا كل تلميذ المدعو لخدمة الله أن ينتظر مجابهة مماثلة، وان يتمتع بغلبة مماثلة. ويُعلق الرَّاهب الدومنيكاني جان تولي: "في أوقات التَّجْرِبَة، يجب على الإنْسَان الذي لا يريد سوى الله ولا يرغب إلاّ فيه، أن يحتمي به وينتظر بكلّ صبر أن تعود السَّكينة" (العظة 23 للأحد بعد الصُعود). وفي هذا الصَّدد يُوصينا بولس الرسول في جهادنا ضد الأرواح الشرية: "شُدُّوا أَوساطَكم بِالحَقّ والبَسوا دِرْعَ البِرّ.  وشُدُّوا أَقْدامَكم بالنَّشاطِ لإِعلانِ بِشارةِ السَّلام، واحمِلوا تُرْسَ الإِيمانِ في كُلِّ حال، فبِه تَستَطيعونَ أَن تُخمِدوا جَميعَ سِهامِ الشِّرِّيرِ المُشتَعِلَة. واتَّخِذوا لَكم خُوذَةَ الخَلاص وسَيفَ الرُّوح، أَي كَلِمَةَ الله." (أفسس 6: 14-17).  

 

(و) هدف تَجْرِبَة يسوع

 

قَبِلَ يسوع التَّعرض للتَجْرِبَة لثلاث غايات: التَّضامن مع الإنْسَان وإعطائه القدوة والعون: 

 

(1) تضامن مع الإنْسَان: جُرب يسوع كي يتضامن مع الإنْسَان كونه صار إنسانًا.  فكان يتوجب عليه أن يتعرض لتجارب الشَّيطان، كما يتعرض لها الإنْسَان. لذا سمح يسوع للتَّعرض للتَجْرِبَة مِثلنا. فعرف تجاربَنا وتغلَّب عليها من أجلنا "لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة"(عبرانيِّين 4: 15)، ومرّ بكلّ ظروفنا الإنْسَانيَّة، وما من شيء من مشاعرنا وإحساساتنا وأفكارنا وأميالنا غريبة عنه. أحبّنا نحن البشر، فتجسّد وصار مثلنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، وُيعلق القدّيس أوغسطينوس: " قد مثّلنا الرَّبّ يسوع بشخصه حين أراد أن يجرّبه الشَّيطان. بالحقيقة، إنّك أنت (أيّها الإنْسَان) مَنْ تعرّض للتَّجارب من خلال التَّجارب الّتي تعرّض لها الرَّبّ يسوع المسيح، لأنَّه منكَ قد اتّخذ جَسَده ليُعطيك خلاصه، ومنك أخذ موته لكي يُعطيك حياته، ومنك أخذ حزنه لكي يُعطيك سعادته. فإنّه منك قد أخذ التَّجارب أيضًا لكي يُعطيك انتصاره. فإذا تجرّبنا باسمه، فباسمه أيضًا ننتصر على الشَّيطان" (شرح للمزامير، المزمور 61).

 

(2) دوة للإنسان: جرّب يسوع كي يكون قدوة ومثالا في مواقفنا تجاه التَّجْرِبَة والشَّيطان. قد اختبر يسوع مثلنا كل التَّجارب التي نجتازها اليوم. لكنه يختلف عنا، لأنَّه برغم التَّجْرِبَة لم يسقط في الخطيئة، كما جاء الكتاب المقدس " لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (عبرانيِّين 4: 15). فهو الإنْسَان الوحيد الذي لم يقترف إثمًا، ولم يرتكب خطيئة طوال أيام حياته على الأرض. جُرِّب كما نُجرَّب نحن. لكنه لم يخطأ، بل انتصر ولم ينفصل عن الله. واجه المُجرِّب، كما يواجه كل واحد منا، واستعمل سلاحًا يجب أن نستعمله، وهو سلاحُ الرُّوح الذي هو كلام الله (أفسس 6: 17)، وثبت على أمانته لله تجاه التَّجْرِبَة، فكان مثال الثبات للمؤمنين؛ وهكذا أصبح لنا مثالاً في كيفيَّة مواجهة التَّجْرِبَة والتَّغلب عليها. يُعلق البابا فرنسيس "مرّ يسوع بهذا الاختبار، من أجل نفسه، كي يُطيع مشيئة الآب، ومن أجلنا، كي يُعطينا نعمة التَّغلّب على التَّجارب"(عظة 18/2/2018).  لو لم يخضع يسوع للتَجْرِبَة، كيف بإمكانه أن يُعلّمنا كيف ننتصر عليها؟

 

(3) عون للإنسان: جُرِّب يسوع كي يكون معينًا لنا، لأنَّه يعرف تمامًا كم نحن بحاجة إليه، إذ هو نفسه جاز في نفس الاختبار "لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ" (عبرانيِّين 4: 15)، جُرِّب يسوع، وانتصر على التَّجْرِبَة ليَعبر بنا فيها من الهزيمة إلى النصرة، ومن الموت إلى الحياة. ويُعلق القديس أوغسطينوس: " جُرِّبَ يسوعُ على يدِ إبليس. ومع المسيحِ أنتَ جُرِّبْتَ، لأنَّ المسيحَ منكَ أخذَ لذاتِه جسدًا، ومن ذاتِه وهبَ لك الخلاص. منكَ له التَّجْرِبَة، ومنه كان لك النَّصر". فالمسيح الأنَ في السَّماء يتفهم ضُعفنا، ويُدرك تجاربنا ويهبنا المغفرة. بتَجْرِبَة المسيح جُرِّبْنا نحن أيضًا، وبه هَزَمْنا إبليسَ. ويُعلق القديس أمبروسيوس "لو لم يجربه إبليس لما انتصر الرَّبّ لأجلي بطريقة سرِّيَّة ليُحرِّر آدم من السَّبي".  

 

(4) تَجْرِبَة الإنْسَان: ربط مرقس الإنْجيلي التَّجْرِبَة بالمعمودية ليدلَّ على واجب المؤمن ابن لله أن ينتصر على إبليس منذ عماده. بالمعمودية نصير أبناء الله، وأن نكون أبناءً يعني بالضرورة أن ندخل في تَجْرِبَة. العبد لا يجرّب وليس عليه أن يختار، لأنَّ لا يملك حريَّة، بل عليه فقط أن يُنفذ الأوامر فقط. الابن في المُقابل حرٌ، يستطيع ويجب أن يختار: إن لم يختار الله، يصبح عبدًا. لا يكون الإنْسَان إنسانًا ومسؤولًا مسؤوليَّة كاملة إلاَّ إذا كان له القدرة الدائمة على اختيار الله الذي دعاه أن يكون "على صورته" وان يكون ابنه بالمَعْمودِيّة. ويطلب الله أن يكون جواب الإنْسَان في اختياره على أعظم قدر من الحريَّة. ومن هنا يأتي تَجْرِبَة الإنْسَان هي تَجْرِبَة الإيمان والمَحَبَّة والرَّجاء.

 

(ا) تَجْرِبَة الإيمان: الإنْسَان مدعو إلى الالتزام تجاه وعد الله بالتَّعبير عن إيمانه بطاعة حرة، كما حصل لإبراهيم ويوسف وموسى ويشوع (عبرانيِّين 11: 1-40).  وتُشكِّل ذبيحة إسحاق الاختبار الأمثل (تكوين 22). وههنا قد يمرّ الإنْسَان بتَجْرِبَة إيمان عندما يتدخل الشَّيطان ويجعل الإنْسَان أن يشكَّ في حضور الله الخلاصي، وهذا ما حدث مع الشَّعب الإسرائيلي أثناء محنته في البرِّيَّة (خروج 17: 7).

 

(ب) تَجْرِبَة المَحَبَّة: يختبر الله أمانة الشَّعب للعهد. اختار شعب العهد القديم أن يخدم إلهه (يشوع 24: 18)، لكن كان قلبه مُنقسمًا. الاختبار يُلزم الشَّعب بإعلان محبته لله وإثباتها بالفعل، ويعمل على تنقية القلب من كلّ شوائبه. ولا يفرض الله محبته على الإنْسَان فرضًا، بل يتطلب منه قبولها بحريَّة. المَحَبَّة تعني الاختيار.  ومن هنا لا بد من الاختبار، فاختار آدم نفسه كإله (تكوين (3:5)، ذلك أنَّ بين الاختبار والاختيار حدثت التَّجْرِبَة من خلال الشَّيطان (تكوين 3) وهنا يظهر الشَّيطان بمظهر المُضل لإغراء قلب الإنْسَان ليكون بعيدًا عن الله.  في حين أن تَجْرِبَة يسوع هي تَجْرِبَة ِّمَحَبَّة تساعدنا في مَحَبَّة الله والقريب، لأنَّ المَحَبَّة هي حركة تُركِّز الانتباه َ على الآخر “معتبرة إيّاه واحدًا مع الشَّخص نفسه" (البابا فرنسيس، الرِّسالة العامة Fratelli tutti، عدد 93).  ولا يكفي اختيار أولي بل يجب أن نواصل اختياراتنا وتفضيلنا لله، في المواقف الجديدة التي تقدِّمها الحياة.

 

(ج) تَجْرِبَة الرَّجاء: إنَّ مَلَكوت الله يبدو متأخرًا في ظهوره. فتأتي التَّجْرِبَة اللحظة الحاضرة، تَجْرِبَة العِلمانيَّة، أي العيش دون الله، إنَّها تَجْرِبَة هذا العصر، تَجْرِبَة الاندماج والاستقرار في هذا العَالَم بناء على إغراء الشَّيطان، سيِّد هذا العَالَم (أيوب 1-2). وهي التَّجْرِبَة التي مرّ بها الشَّعب العِبري في الصَّحراء لمَّا تخلَّ عن الله ووعوده وتمسك بالعِجل الذَّهبي (خروج 32: 4). وكلما قرب مجيء الرَّبّ كلما زادت المُقاومة بين النُّور والظلمات حيث تتقوّى الأمانة في الاضِّطهاد (لوقا 8: 13-15)، وحيث يخرج الإنْسَان من الشدّة "مُمحَّصًا". بهذا المعنى يبلغ الاختبار والرِّسالة ذروتهما في الاستشهاد (لوقا 22: 31، رؤيا 2: 10). ويعلق البابا فرنسيس أنَّ تَجْرِبَة المسيح تعلمنا: "أن نقبل رجاءَ المسيح الذي يبذل حياته على الصَّليب والذي أقامه الله في اليوم الثالث، وأن نكون "مُستَعِدِّينَ لأنَّ نَرُدّ على مَن يَطلُبُ مِنا دَليلَ ما نحن علَيه مِنَ الرَّجاء" (1 بطرس 3، 15). (رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة الصَّوم الأربعيني 2021، 2).

 

 

الخلاصة

 

احتلت التَّجْرِبَة دورًا رئيسيًا في تاريخ الخلاص، فقد دخل يسوع في معركة علنيَّة مع العدو الشَّرير لحساب شعبه بعد اعتماده في نهر الأردن. وقد دوَّن مرقس الإنْجيلي رواية التَّجْرِبَة في اختصار شديد في مقارنتها بما ورد في إنْجيل متى (4: 1-11) وإنْجيل لوقا (4: 1-13)، لأنَّه أراد أن يركّز على التَّجْرِبَة بحد ذاتها.

 

إن الاختبار هو كالتَّجْرِبَة عندما لا يسقط فيها المرء، تفضي به إلى الحياة، وهي من متطلبات الحياة في يسوع المسيح (2 طيموتاوس 3: 12)، إنها شرط ضروري للنُّموّ (لوقا 8: 13-15) وبلوغ غاية الإيمان (1 بطرس 1: 6-7) والفضيلة المجرّبة (1 قورنتس 11: 19). والتَّواضع (1 قورنتس 10: 12) والغلبة، كما يقول العلامة أوغسطينوس: " فإن جُرِّبْنا معه، فمعه نحن سوف ننتصرُ على إبليس. أتعرفُ أنّ يسوعَ جُرِّبَ، ولا تعرفُ أنّه انتصر؟ اعرِفْ أنَّك أنت جُرِّبْتَ معه، واعرِفْ أنّك ستنتصرُ معه. كانَ بوِسعِه أن يمنعَ الشَّيطانَ من الاقترابِ منه. ولكنَّه لو لم يُجرَّبْ لمَا علَّمَك كيف تنتصرُ حينَ تُجرَّبُ".

 

باختصار، إن الاختبار هو طريق الفصح الدَّاخلي، طريق المَحَبَّة الممتلئة بالرَّجاء (رومة 5: 3-5). يجب على كل تلميذ مدعو لخدمة الله أن ينتظر معركة مماثلة ويتمتع بغلبة مماثلة. ومن هنا جاء قول القدّيس غريغوريوس النَّيزينزي في مقاومة التَّجارب "إذا هاجمك بعد المَعْمودِيّة المُضْطَهِد، مُجَرِّب النُّور، فلديك طريقة لانتصار عليه. لا تخفْ من المعركة. حاربه بمياه المَعْمودِيّة، حاربه بالرُّوح القُدُس الذي فيه تنطفئ كلّ الحيل المشتعلة التي يرميها الشَّرّير. قاومه بكلمة الحياة، قاومه بالمسيح الذي لبسته بالمَعْمودِيّة وأصبحتَ مسيحًا آخرًا بمعموديّتك" (العظة 40، 10).

 

 

دعاء

 

نطلب إليك أيها الآب السَّماوي، باسم ابنك يسوع المسيح، أن تكون معنا وتساعدنا على عيش زمن الصَّوم الأربعيني بالتَّوبة والصَّلاة والإيمان لمواجهة تجارب الشَّيطان، كما واجها يسوع المسيح بكلمةِ الله وبصلاةٍ مستمرّة، وإن لم نستطع التَّغلب عليها، نطلب إليك يا رب، أن لا تدخلنا في التَّجْرِبَة فنبقى أبناء أمناء لمعموديتنا وشهودًا لإنْجيلك الطَّاهر فنحصل على خلاصنا الأبدي. أمين.