موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
غيرَ أنّ يسوعَ لَم يَطمئنَّ إِليهم! وكأنّ مشاعرَ الاضطرابِ وعدمِ الارتياح والارتياب، والّتي تَنتَابُنا أحيانًا خلال تَعَامُلِنا مع بعض النّاس، هي مشاعرٌ أَحسّ بها المسيحُ أيضًا، فهو اليوم يشعر بعدمِ الاطمئنان إلى هؤلاء النّاس! أليسَ يوحنّا هو مَن خَتَمَ بشارتَه بهذهِ الكلمات: "هناكَ أمورٌ أُخرى كثيرةٌ أتى بها يسوع، لو كُتِبَت واحدًا واحدًا، لَحَسِبتُ أنّ الدّنيا نفسَها لا تَسعُ الأسفارَ الّتي تُدوّن فيها" (يوحنّا 25:21)، فَلِمَاذا نَراه الآن وكَأنَّهُ يُضيع سَطرًا في التّركيزِ على هكذا جُزئيّة بَسيطة، في حين أنّ ربّما هناك أمورًا أكثر أهميّة قالَها أو صَنعَها المسيح؟ ألا تجدونَه أمرًا غريبًا أن يَلتفِتَ يوحنّا الّلاهوتي إلى هذا التّفصيل البَشري الصّغير؟
أَم لأنّه تفصيلٌ هام وجُزئيّةٌ جَسيمَة، يُريد يوحنّا من خلالها، أن يُظهر لنا طبيعةَ العلاقة، الّتي كانت قائِمةً بين يسوع، وبين كثيرٍ من النّاس. وهي العلاقة الّتي أَفضَت آخر الأمر، إلى أن يَنقلِبوا عليه، حتّى صاحوا أمامَ بيلاطسَ أن: "أَعدِمْهُ! اِصلبه" (يوحنّا 15:19). وهذا يؤكّد ما قُلتُه الأسبوع الماضي في عِظَتي، أنّ الدُّنيا بِمَا فيها ومَن فيها عُرضَةٌ لِلتَّقلّب الدّائم، فلا شيء ثابت والكلّ متغيّر! إيجابًا كان أم سَلبًا.
ولكن، الجميل في الأمر أنّ يسوعَ كانَ يعرفُهم كلَّهم! لَم يكن ساذِجًا ولا أَبلَهًا ولا أبْلَدًا. فهم لم يُباغِتوه غَفلة، ولم يَأخذوه على حينِ غِرَّة، بل كان يعرفُهم كلّهم! كان يعرف كلّ إنسان، وكان يعلمُ ما في الإنسان، وما في باطن الإنسان! أَليسَ هو الرّبُّ فاحِصُ القُلوبِ وَمُمتحنُ الكُلى؟ (إرميا 10:17). أَلم يَكُن يَعلم ما كانوا يقولون في قلوبهم مُتَذمّرينَ عَليه، ساعةَ غَفَر خطايا المقعد وشفاهُ في كفرْناحوم (مرقس 7:2-8). لَم يكن يسوع يا أحبّة، جاهلًا ولا غَشيمًا، بل كان يُدرِك مدى نفاقهم وريائهم، ويشعر بمقدار غِشّهم ومكرِهم، فرائِحةُ المواربة والمدَهانَة الكريهة، كانت تفوح منهم.
كان يعلم أنّهم يَطلبونَه لا لكي يَستَمِعوا إلى كلام الحياة، فَيَنَالوا نعمة منه، بل سَعيًا منهم إلى طعام يَفنى، ذلك لأنّهم أَكلوا الخبزَ، ومَلَأوا بطونَهم حتّى أُتخِموا (يوحنّا 26:6-27). كانَ يَعلم بأنّهم يطلبونَه طَمَعًا في الحصولِ على آية، أي على مَكسبٍ ومعجزة. لَم يكن حُبّهم له حبًّا صافيًّا صادقًا، بل كانَ حُبًّا فاسدًا ملوّثًا، كانَ حبًّا مُنتفِعًا طُفيليًّا، هدفه فقط تلبية مصالح وتحقيق غايات، ورغبة مَغشوشة في امتلاكِ المسيحِ والاستحواذ عليه.
كانوا ينظرونَ إليه على أنّه جمعيّة خيرية، موزّع هِبات وعَطايا، مُستشفى ميداني منتقّل، مطعم ومطبخ إنتاجي... ولِذلك، كانَ من السّهولة بمكان أن يَتَخلّوا عنه مُتألّبينَ عليه، بعد أن أكلوا وَشبِعوا وشُفيوا وانتَفعوا ونالوا، جلُّهم لا كلّهم، في لحظة من الّلحظات (يوحنّا 66:6).
وكما نُنشِدُ في ترتيلة واحبيبي: كلُّ عونٍ فرَّ عنّي، مِثل إنسانٍ غَريب! خبرةُ المسيح هذه، هي الخبرةُ الّتي نَعيشُها نحن أيضًا في كثيرٍ من المواقف والّلحظات، ومع كثيرٍ من النّاس. فالعلاقاتُ الإنسانية شيء مُتَأرجح غير ثابت، وكلّ شيء ممكِن، كالأحوال الجويّة تَتبدّلُ من حال إلى حال، فساعة شمسٌ واستقرار، وساعاتٌ غَيمٌ وأمطار! المهم أَبقِ المظلة في يدك، لِكَيلا تَبتَل!
يقول المسيح في بشارةِ متّى أن: "اِحذَروا النّاس"! (17:10). مُفيدٌ جدًّا ألّا تَكتفي بمعرفة نفسك، كما تقول الحكمةُ الإغريقيّة، بل أيضًا أن تعرفَ غيرك، صديقًا كان أم غريمًا. فالمعرفةُ سلاحٌ به نَغلبُ الجهل، ووسيلةٌ بها ننتصرُ على ما في العالم من حماقة.
نَعم، نُسالِمُ جميع النّاس إن أمكن، على قدر ما الأمر بِيدِنا (رومة 18:12)، ولا نُضمرُ العَداء لأحد، ولا نطلبُ الشّرّ لأحد، ولا نفتعِلُ الخصومةَ مع أحد، ولكن من الحكمةِ أن تكونَ على معرفةٍ وإدراكٍ جيّد، بِكلّ مَن وَضَعهم الله في طريقك وحياتِك، وهذه تُدعى فضيلة (الفِطنَة)! والفَطِن لا يُلدَغ من نَفس الجُحر مَرّتين. فنحنُ، وإن بَدَونا كالحمام بسطاء ودعاء، نَبقى كالحياتِ حاذِقين مُتَيقّظين (متّى 16:10).
والأهمّ من ذلك، عندما تكون في موقع مسؤولية، اِصنع الخيرَ للنّاس بحرية ومجّانيّة، كما صنعَ المسيح، دونَ أن تدعَ أحدًا يستحوذُ عليك، أو يحاول السّيطرةَ عليك، أو أن يَدّعي حَقَّ مُلْكيّتِك أو نَشرِك! وكَما يقول الأديب جبران خليل جبران: (المحبةُ لا تملكُ شيئَا، ولا تُريدُ أنْ يَمْلُكَها أَحدٌ)! فالمسيح صنعَ الخير للجميع، بلا تمييز ودون استثناء وبلا مُقايضات، وظلّ حرًّا من كلّ الرّوابط والأربِطة! وهذا ما نَفتقر إليه ولا نُجيده في علاقاتِنا المحكومة بمبدأ فاشل هو: (حِكّ لي تَ اَحكّ لَك). فالحريّة عند التّعامل مع النّاس كَنز، وهَنيئًا لِمَن وَجَدَهُ وَيَنعَمُ به.
الاستقلالُ نِعمَة والتَّبعيّة نِقمَة. الاستقلالُ حُرّية والتّبعيّة عُبوديّة. ليسَ من السّهل أن تكونَ مُستقِلًّا أو أن تَظلّ حُرًّا، في هذا العالم المحكوم بِشبكة خانقة من المصالح والتّبعيات. تَبعيّات سياسيّة وحزبيّة، تَبعيّات عَسكريّة وأمنيّة، تبعيّات اقتصاديّة وتجاريّة، تَبعيّات فكرية وقَلميّة، تبعيّات في المواقفِ والآراء... تبعيّات أحيانًا حتّى في وجبة الطّعام الّتي تَتَناولها، أو في القميص الّذي تلبسه. وَقِس على ذلك كثيرًا. وإذا لَم تمتثِل لِتلك التّبعيّات، عندها تبدأ سلسلة من العقوبات والمواجهات، ليسَ فقط على مُستوى الدّول، بل أيضًا على مستوى الأفراد!
فعلا الاستقلالُ نعمة ورفاهيّة، والحرّيةُ بَركة وراحة. أن تكون سيّدَ نفسك، ومَلِكَ ذاتِك ووليَّ أمرِك، تحكمُ على نفسك، ولا يحكمُ عليكَ أحد! سيّدَ قراراتِك وتصرّفاتِك، حتّى لو أفضت بك إلى الموت، كما أَفضَت بالمسيح، فعلى الأقل أنتَ الّذي تختار، وليس غيرُك يختار عنك.
وإن كانت الحرّية بِمَعناها الإنساني، تحمل كلّ هذا القدر من الجمال والسّعادة، فَكم يا تُرى تكون أجمل وأسمى وأبهى، عندما تكون حرّيتي في معرفةِ المسيح ومع المسيحِ، الّذي هو الحقّ، والحقّ هو الّذي يُحرّرني (يوحنّا 32:8)!