موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١١ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

"بذور الملكوت" بين كاتبّي نبؤة حزقيال والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حز 17: 22-24؛ مر 4: 26-34)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حز 17: 22-24؛ مر 4: 26-34)

 

الأحد الحادي عشر بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

قد نتفاجأ لقرائتنا لنصي النبي حزقيال (17: 22-24) بالعهد الأوّل وللنص المرقس (4: 26-34) بالعهد الثاني حيث أن النمط الإلهي لا يتناسب مع النمط والفكر البشريّ. على سبيل المثال من الطبعي أنّ نتسأل كيف للهشّ بأنّ يصير قويًا وكيف للصغير أن يصير كبيراً؟ في مقالنا هذا سيدهشنا السلوك الإلهي الّذي يكشف عن أصغريته ككنز مخفي وليس ببعيد عنا بل بداخلنا. مما يدعونا لنجتهد لرعايته ولنموه متى عَلِّمنا إننا بضعفنا نحمل الملكوت العظيم هنا والآن. ففي قرائتنا الأوّلى للنص النبوي (17: 22–24) حيث يتحدث النبي حزقيال عن مستقبل إسرائيل بدءًا من شيء الغصن الصغير والضعيف ولكن الي الإلهيّة هي الّتي ستهتم بزراعته مما يفاجئنا فيصير شجرة كبيرة. وهنا يتجلى أسلوب إلهي قدير حيث بقوة كلمته يتغير مصير شعبه كما سنرى بعناصر المقال لاحقًا.  وفي مرحلة تاليّة على ضوء الآيات النبويّة سنقرأ  المقطع الإنجيلي والمأخوذ من تعاليم يسوع بالأمثال بحسب إنجيل مرقس (4: 26– 34). حيث اتخذ المثل الأوّل من هذا التعلّيم بصورتي الزارع وحبّة الخردل، ليفتتح حواره كاشفًا عن سرّه الإلهي بالحديث عن ملكوت الله من خلال صورة الحبّة الملقاة على الأرض. وهنا يستعين مرقس بالكثير من الصور ليُقرب من فهمنا عظمة سرّ ملكوت الله. نهدف من خلال مقالنا هذا التعرف على نوعيّة الأرض الّتي تحملها قلوبنا وأيضًا مدى قبولنا للبذور الإلهيّة الّتي تُلقى بيّد الله فيها.

 

 

1. النبت الإلهي (حز 17: 22-24)

 

كثيراً ما تأتي تأتي الصّور الزراعيّة في الرسائل النبويّة، منذ العهد الأوّل، لتوضيح حقيقة العلاقة بين الرّبُّ وشعبه. لذا تأتي بنورها رسالة حزقيال النبي، كاشفًا عن مخطط إلهي، مُفتتحا هذه الآيات بالصيغة النبويّة الّتي تؤكد التفويض والسلطة الإلهييّن بقوله:«هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ» (حز 17: 22أ). وهنا يشير النبي إنه مجرد حامل رسالة من الشخص الإلهي ليّ ولك بعالمنا اليّوم.

 

ثمّ يستمر النبي موضحًا صيغة المتكلم على لسان الرّبّ وقراره الّذي ينكشف في كلمته قائلاً: «إِنِّي سآخُذُ مِن ناصِيَةِ الأَرزِ العالي لأَغرِسَها. أَقتَطِع مِن أعالي أَغْصانِه غُصنًا غَضًّا وأَغرِسُه أَنا على جَبَلٍ شامِخٍ شاهِق. في جَبَلِ إِسْرائيل العالي أَغرِسُه فيُنشِئُ أَفْنانًا ويثمِرُ ثَمَرًا ويَصيرُ أَرزًا جَليلاً، فيَأوي تَحتَه كُلُّ طائِر، كُلُّ ذي جَناحٍ يَأوي في ظِلِّ أَغْصانِه. فتَعلَمُ جَميعُ أَشْجارِ الحُقولِ أَنِّي أَنا الرَّبَّ وَضَعتُ الشَّجَرَ الـمُرتَفِعَ ورَفَعتُ الشَّجَرَ الوَضيع، وأَيْبَستُ الشَّجَرَ الرَّطبَ وأَنبَتُّ الشَّجَرَ اليابِس. أَنا الرَّبَّ قُلتُ وفَعَلتُ» (حز 17: 22-24).

 

تحمل، هذه الرسالة النبويّة، فكر لّاهوتي جديد عن الوجه الإلهي. إذّ أنّ الأفعال المستخدمة بهذه الآيات القليلة أفعال بصيغة المتكلم. وهنا الرّبّ الإله هو الّذي يبادرو يتكلم مع النبي ليحمل كلماته للشعب الّذي هو بمثابة الأرض الّتي سيغرس وسينبت الرّبّ ما يريده، لأنّه هو الخالق وسيّد الكلّ. وتشير الأفعال المتناقضة، على لسان الله، إلى قدرته الإلهيّة فكل ما هو هشّ وضغيف وصغير يتحول إلى كبير وشاهق وعظيم ليُتمم مخططه متى بدأ الإنسان في التجاوب بقبول النبت الهشّ الّذي يلقيّه الإله من فضل سخائه في حياة الشعب والّتي ترمز للأرض.  

 

 

2. صورتيّ مثل يسوع (مر 4: 26-34)

 

على ضوء النبت الّذي سيتحول مصيره من صغير لكبير ومن هشّ لعظيم هكذا يستعين يسوع بصورتين من الحياة الزراعيّة الّتي تتناسب مع عصره. فأغلب اليهود في زمن يسوع كانوا من أصحاب الحرف البسيطة مثل الصيادين والمزارعين والرعاة ... إلخ. فالرمزين الّذين يستخدمهما يسوع، في شكل مثل، وهو أسلوب  يسوع التعليميّ، من الوجهة الكتابيّة، شهير بالعهد الثاني ليُفسر أسرار إلهيّة غامضة ومعقدة. في هذين المثليّن الّذين نعرفهما عن ظهر قلب، يكشف يسوع في حديثه عن الملكوت الإلهيّ بصورتيّن بليغتيّن للغاية. الأولى وهي صورة الزارع الّذي يلقي بالبذر في باطن الأرض والثانيّة هي صورة حبّة الخردل. من خلال هاتيّن الصورتين يساعدنا يسوع في تغيير طريقة تفكيرنا حول ملكوت الله، ويدعونا إلى تحويل نظرتنا إلى باطن حياتنا وإلى تاريخنا البشريّ. يسلك يسوع مسيرة بسيطة من حياة البذور في الطبيعة ليحملنا بشكل تدريجي، في هذيّن المثليّن، ليكشف عن سرّ إلهي مشيراً إلى إختلاف ملكوت الله عن الـمُلك البشريّ. إذّ أن طريقة عمل الله في التاريخ تختلف تمامًا عن أي مشروع بشري آخر. وبالتالي، فإن السؤال الّذي سنحاول أن نتوصل إلى إجابته يدور حول نمط حياتنا وخياراتنا وتفضيلاتنا.

 

1.2 صورة الزارع (مر 4: 26- 29)

 

بينما نبحث عن الإجابة يأتي الصوت الإلهي ليعلمنا في شكل مثل إذ أنّ الزارع وعلاقته بالبذر هي ما يشبه ملكوت الله وهنا الله بدروه كزارع إذ يلقيّ البذور في أرض حياتنا بشكل باطنيّ ومتخفيّ. يسلّط النص الضوء من خلال صورة الزارع على شيئين حول ما يتم حقيقة في حياتنا اليوميّة. ففي الجانب الأوّل يتضح من قوله بأنّ: «مَثَلُ مَلَكوتِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض. فسَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار، فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي، وهو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذلك» (مر 4: 26- 27). يُؤكد الإنجيلي على لسان يسوع، بأنّ الزارع لا يعرف ما يحدث تحت الأرض، وكيف يمكن أنّ تنبت البذور حتى تحمل الثمرة المرغوبة. فالزارع، بحسب منطقنا البشري، لا يستطيع أنّ يفعل شيئًا ليُحدد بذاته نمو النبات، سوى أنّ يضمن أفضل الظروف مثل إهتمامه بالري، وإزالة الأعشاب الضّارة، وحماية أرضه من الحيوانات الّتي قد تتلف النباتات أثناء نموه. أمّا بالنسبة لعملية النمو، فلا يمكنه سوى التّرويّ بالإنتظار في صبر إتمام نمو البذور الّتي أُلقيت في الأرض لتعطي ثمارها. إنتظار الله الزارع علينا لأنه لا زال يثق في أنّ نُثمر ونقبل بذور ملكوته فينا.

 

أمّا بالنسبة للجانب الثاني الّذي تم التأكيد عليه يرتكز على دور الأرض: «فَالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل. فما إِن يُدرِكُ الثَّمَرُ حتَّى يُعمَلَ فيه المِنجَل، لِأَنَّ الحَصادَ قد حان» (مر 4: 28- 29). هاتين الآيتيّن يتعلقن بالجانب الأول، حيث أنّ البذور المختبئة في أعماق الأرض تؤتي ثمارها بشكل عفويّ. في واقع الأمر، إنّ الأرض هي رمز للذات، وليست البذور الملقاة فيها. عندما تُلقى البذور فيّ الأرض تلقائيًا وعفويًا، تجعلها تنبت وتنمو وتؤتي ثمارها. وهنا يؤكد يسوع في هذا المثل أنّ الثمار لا تعتمد على عمل الزارع الّذي يرمز للدور الإلهي، بل يعتمد على الأرض الّتي ترمز لكلّاً منا وتجاوبنا في الإهتمام بالبذور بباطننا والحفاظ على نموها يومًا بعد آخر. هذا الأمر لا يمكن التعرف عليه بشكل مُسبق ولا يمكن كبحه أو تأخيره. لأن يد الله دائما ما تلقي فينا بذور تليق به وبالخير الّذي يرجو أن يتحقق بالتعاون مع عمله. علينا التحقق بإنّ ندرك أنّ ملكوت الله لا يعتمد علينا فقط فهو عمل الله قبل كلّ شيء، وهذا الملكوت الإلهي ينمو تلقائيًا وعفويًا من خفايا باطننا ويعطي ثمارًا. مدعويّن أنّ نجتهد لنجعل من باطننا أرضًا تتناسب لقبول البذور الإلهيّة الّتي تُلقى بيد الله يوميًا في حياتنا وبشكل مجاني.

 

2.2 صورة حبّة الخردل (مر 4: 30-32)

 

الصورة الثانية هي صورة حبة الخردل. إنها دائمًا البذرة الهشّة بل أصغر البذور الّتي تُزرع في الأرض. ولكن يؤّد الإنجيلي التأكيد عليه هنا هو صِغّر هذه البذرة فيقول يسوع ثانيّة مُتسائلاً: «بِماذا نُشَبِّهُ مَلَكوتَ الله، أَو بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه؟ إِنَّه مِثلُ حَبَّةِ خَردَل: فهِيَ، حينَ تُزرَعُ في الأَرض، أَصغَرُ سائرِ البُذورِ الَّتي في الأَرض. فإِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت وصارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها، وأَرسَلَت أَغْصاناً كَبيرة، حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها» (مر 4: 30- 34). نعم بالرغم من التناقض الّذي يشير إليه الإنجيليّ: أصغر ثمّ أكبر، مع ذلك، عندما تُزرع هذه البذرة الهشّة والصغيرة جدًا في الأرض إلّا إنها تحمل قوة حياتيّة لا توصف إذ تنمو وتصير أكبر البقول. هذه البذرة الصغيرة جدًا بوقت زرعنها بقلب الأرض، مدعوة لتصير شجرة كبيرة حتّى تسكنها طيور السماء. لذلك تمّ التأكيد على مرحلة الصِغّر الأوليّ إلّا أنّ عظمتها الحقّة والنهائية تكشف حقيقتها. هذا كشف طبيعي وصغير جدًا لا يمكن لأحد أنّ يتخيله، يمكن للبذرة الّتي لا تُري بالعين المجردة أنّ تصبح شجرة. بباطن هذه الحبّة قوة هائلة، وفي داخلها إمكانات لا توصف، يصعب تصورها. كما رأينا بالعهد الأول، فالشجرة الكبيرة مستقبلها هي أنّ تصير ساميّة وتكون ملجأ لطيور السماء هي صورة متكررة للإشارة إلى الملكوت الإلهي الّذي يمكنه أنّ يمنح الأمن والسلام لكل ساكنيه من البشر. متى قبلنا البذرة الإلهيّة بباطننا، بالرغم من صغرها ستنبت وتصير شجرة يكفي أن نهتم بنموها دون أن تختنق من باطن مظلم بالخطيئة، ومُنهك من الشّك، ومتألم من ماضي خاطئ. فالحياة الّتي تحملها هذه الحبّة الهشّة لازالت بباطن كلّاً منا وتتطلب رعاية منا.

 

 

3. بذور الملكوت (حز 17: 22-24؛ مر 4: 26-34)

 

أنا وأنت بمثابة الأرض الّتي قد تقبل أو ترفض هذه البذور الّتي تحمل الملكوت الإلهي في عالمنا البشري. متى قبلنا هذه البذور وسعينا لننميها، نحيا الملكوت هنا والآن. البذور لن تُلقى على سطح الأرض بل في باطنها حيث الظلام والرطوبة والخفاء، بالرغم من إنه قد تظهر لنا بناء على كلمات حزقيال ومرقس إنها معوقات إلّا أن الأرض الّتي تعيّ بقدرة اليّد الإلهيّة هي الّتي تنفتح وتعيّ بأنّ الملكوت هو رسالة حب الله لكلّاً منا. فلنقرر بقبول هذه البذور الّـتي تجعلنا نحمل الملكوت في حياتنا الأرضية ولا تعتمد على فضائلنا بل على كرّم وسخاء الرّبّ حبًا بنا.

 

 

الخُلّاصة

 

يحمل نصا هذا المقال (حز 17: 22-24؛ مر 4: 26-34) صورة النبت الهشّ الّذي يدعونا إلى التدريب على تغيير نظرتنا والتفهم بعمق عن ماهيّة وجوهر الملكوت الإلهيّ. هذا الملكوت هو الّذي حقيقة إلهيّة لا تعتمد علينا البتّة كالبذرة الّتي تُلقى في الأرض. ولا يسعنا إلّا أنّ نُهيئ الظروف الملائمة لها لكي تنبت في حياتنا وتنمو وتؤتي ثمارها. مدعويّن لنعيّ بأنّ ملكوت الله في يد الله، واقع عفويّ سينمو وسيؤتي بثماره.

 

ومع ذلك، فإن هذا النمو لا يحدث وفقًا لمعاييرنا الخاصة بالحجم والقوة. الرغبة المتقدة لكاتبيّ نبؤة حزقيال والإنجيلي المرقسيّ بهذا المقال يحملان لنا نور إلهي جديد، كتلاميذ للرّبّ لكي نتعلم ونحيا بذات النمط الإلهيّ، والسبب هو أنّ المنطق البشري غالبًا ما يقودنا إلى إفتراض معايير وأنماط حياة مختلفة تمامًا عن تلك الحياة الخاصة بالله وهي حياة الملكوت، مدعوين للبدء في حياة تُشابه حياة الله باتباع أسلوبه الخفي والّذي قد نعتقد بإنّه هشّ ولا صوت له، إلّا إننا سنتفاجئ بأن حياة الله بسيطة وملكوته بداخلنا، من خلال هذا النبت الصغير والضعيف في شكل البذرة وحبّة الخردل. ويمكننا أنّ نتأمل لنفتح المجال لمعايشة هذا النص من خلال الحوار مع الذات حول طريقتنا في رعايّة البذور الّتي يلقيا الرّبّ يوميًا بحياتنا. يبدأ الملكوت من واقع صغير جدًا، يكاد يكون غير مرئي، ولكنه حاضر، مدعوين للتخلى عن أفكارنا الّتي قد تعرقل الأمور ومعتقداتنا الـمُسبقّة ومدعوين بألّا نتوقع أنّ نجد الملكوت الإلهي في الأمور الكبيرة، بل هو حاضر في الحقائق الهشّة والخفية، الّتي تُظهر بباطنها قوة الله وعلينا أنّ نستعد بقبولها كالأرض جيدة، حتى نتمكن بعد ذلك من الاحتماء، مثل الطيور في المثل، في ظلّ الرّبّ الإله، فهو ملكوتنا الأبديّ. دُمتم في رعايّة للنبت الإلهيّ بباطننا.