موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ مارس / آذار ٢٠٢٣

اِرْحَموا تُرْحَموا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
اِرْحَموا تُرْحَموا

اِرْحَموا تُرْحَموا

 

عظة الأحد الثّالث مِن زمن الصّوم

 

في مُسَلْسَلاتِنَا الأرُدنيّةِ البَدَويِّة، أَلِفنَا مَشْهَدَ النِّسوَةِ يُبَكّرنَ إلى الغَديرِ جَماعَةً، لِيَمْلأنَ القِرَبَ ماءً. وَهُناكَ يَتَجاذَبنَ أَطرَافَ الحَديث، ثُمَّ يَرجِعنَ مَعًا. أَمَّا في مَشهدِ السّامِريَّة، فَالأمرُ مُغَاير! فَهِي أَوَّلًا تذهبُ وَحدَها، لا أَحدَ يُرافِقُها. وَمِن ثَمَّ تَذهَبُ وَقَد اقْتَرَبَ الظُّهرِ، في الوَّقتِ الّذي يُفتَرضُ بِهَا أَنْ تَكونَ قَدْ عَادَتْ إلى بَيتِها، لِتَعتَني بِشُؤونٍ مَنزِلِها. وَمِنْ هُنا، نَستَدِلُّ عَلى أَنَّ هَذهِ الْمَرأَة لَم تَكُنْ عَلى وِفاقٍ مَع أَهلِ مَدينَتِها، وَيَبْدو أَنْ لا صَديقَات لَها، وَهِيَ مُهَمَّشَة لا أَحدَ يُخالِطُها أو يُرافِقُها.

 

وَمِن خلالِ حَديثِ الْمَسيحِ مَع هَذهِ الْمَرأَة، كَما وَرَدَ في الفَصلِ الرّابع مِن بِشارَةِ يوحنّا، نَعلَمُ أَنَّها مِزْوَاجَةٌ كانَ لها خَمسَةُ أزواج، والرَّجُلُ الّذي كانَ عِندَها في الَّلحظَةِ الّتي حادَثَها فيها يَسوع، لَم يَكنْ زَوجَها (راجِع يوحنّا 17:4-18). وَعَليه، يَبدو أَنَّ أَهلَ الْمَدينَة كَانوا يَرونَ فِيهَا اِمرَأَةً سَيّئةَ السُّمعَة، ذَاتِ عَلاقاتٍ مُتَعدِّدَة، ولِذلِكَ يَتَجَنَّبونَها وَرُبّما يَحتَقِرونَها.

 

أَلَم نَكْنُ نحنُ لِنَتَّخِذَ نَفس رَدّةِ الفعِل، لَو أَنَّ هَذهِ الْمَرأَة حَاضِرةٌ مَعَنَا اليَوم؟! طَبعًا نَعم. فَطَبيعَةُ النّاسِ هيَ البَحثُ عَن مَساوئِ بعضِهم البِعض، ومُراقَبَةُ أَخطاءِ بَعضِهم البَعض، والحُكمُ عَلى بَعضِهم البَعض، مَعْ أَنَّنَا جَميعًا مُتَسربِلونَ بالأخطاء. ولكنَّ قِلَّةً هيَ الّتي تملِكُ الشَّجَاعَةَ وَالتّواضُعَ والعَدالَةَ، لِلاعتِرافِ بِأَخطائِها، وَالنَّظَرِ إلى عُيوبِها، وَالحُكمِ عَلَى نِفسِها. ذلِكَ أنَّ الْمَرءَ يُحاوِلُ جَاهِدًا، سِترَ عُيوبِهِ وَإِخفائِها، فَإذا مَا تَلاشَى سِترُهُ وَانْكَشَفَتْ أَخطَاؤه، صَارَ عُرضَةً لِهَجماتِ الآخرين! هُمُ الّذينَ كُلُّهم عُيوبٌ، وَكُلُّهم مَساوِئ، وَإنْ كَانَت لا تَزالُ خَفَيَّةً مَستُورَة.

 

فَيَا أَيُّها الّذي تَدَّعي الأخلاقَ والفضيلَة، رِفْقًا بِمَن سَقَط، وَاتْرُك حِجارَةَ الأحكامِ وَالدَّينونَةِ مِن يَدِك. فاللهُ عالِمٌ حَقيقةَ النّفوسِ وَمَا أَخفَت، وَهوَ سَابِرُ القُلوبِ وَمَا أَضمَرَت. وقَدْ يَأتي يَومٌ تَسقُطُ فيهِ أَنت، فيكونُ سُقوطُكَ مُدَوِّيًا. فَ: ﴿مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئَة، فَلْيَكُن أوَّلَ مَن يَرميها بِحَجر﴾ (يوحنّا 7:8).

 

يَا أَحبَّة، في هَذا الوَقت، حيثُ الكُلُّ يُهمِلُ هَذهِ الْمَرأة، يَظهرُ يسوع كَعَادَتِه، غَيرَ مُكْترِثٍ بِنَظرَةِ الْمُجتَمعِ لِهذهِ الْمَرأة، وَلا يُقيمُ وَزنًا لاحتِقارِ النَّاسِ لَها وَحُكمِهم عَليها، لأنَّهُ بِبَسَاطةٍ لا يَكترِثُ إلّا بالإنْسَان: أَيًّا كَان، وَبِأيِّ حَالٍ كَان! ذلكَ أَنَّ: ﴿ابنَ الإنسانِ جَاءَ لِيَبحَثَ عَن الهالِكِ فَيُخلِّصَهُ﴾ (لوقا 10:19).

 

هَكَذا هُوَ الْمَسيح: هُمْ يَنبِذونَ وهوَ يَهتَم، هُمْ يَحكمونَ وهوَ يَرحَم، هُم يُبْعِدونَ وهوَ يَدنو، هُم يُجافونَ وهوَ يَصِل، هُم يُبْغِضونَ وهوَ يُحِب. مِعيَارُهُ غَيرُ مَعايِرِنَا، وَنَظرتُهُ غَيرُ نَظَراتِنَا، وَحُكمُهُ غيرُ أَحْكَامِنا. وَكَمَا يَقولُ الرّبُّ عَلَى لِسانِ نَبيِّهِ أَشعيا: ﴿فَإنَّ أَفكاري لَيسَت أفكارَكُم، وَلا طُرقُكُم طُرُقي﴾ (أشعيا 8:55).

 

أَضِفْ إلى ذَلِك، أَنَّ الْمَسيحَ يَتَحَدَّى الوَضعَ القَائِم! فَنَراهُ يَدْخُلُ مَنطِقَةً مُعَادِية؛ ذَلِكَ أَنَّ السَّامِريّين وَاليهودَ لا يُخالِطونَ بَعضُهم البَعض. وَمَع ذلك، يَتَجاوزُ الْمسيح كُلَّ هَذهِ العَدَاوَاتِ وَيَتَخَطّاها، لأنْ هُناكَ أَيضًا: "مَرْضَى يحتاجونَ إلى الطَّبيب" (راجِع مرقس 17:2). وَهوَ الّذي: ﴿جَعَل مِن الجماعَتين جماعَةً واحِدة، وَهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الّذي يفصِلُ بَينَهُما، أي العداوة﴾ (أفسس 14:2).

 

أَيُّها الأحبّة، لِقاءُ الْمسيح معِ السَّامريّةِ، أَفْضَى إلى تَغْيرٍ جَوهَري، لَيسَ في حياتِها فَحَسب، بَل أَيضًا في حَياةِ أَهلِ مَدينَتِها، الّذينَ سَاروا إلى يَسوع، وَالْتَقوا مَعَهُ، وَسَمِعوهُ وَآَمَنوا بِه. وَلَكنّي أَتَسَاءَل، وَقَد يَتَساءَلُ البَعضُ مَعي: هل يا تُرَى جَرى نَفسُ التَّحوِّل وَالتَّبدُّل، في عَلاقةِ أَهلِ الْمَدينَةِ مَع ابنَةِ مَدينَتِهم، أَمْ أنَّهُم لا يَزالونَ يحكمونَ عَليها ويَتجنَّبونَها؟! لأنَّ الإيمانَ بالْمسيح إن لَم يقتَرِن بمحبّةِ النّاس وَمُسَالَمَتِهم ومُعامَلَتِهم بالرّحمة، وإنْ لَم يَقُدْ إلى تَلِينِ القُلوبِ وتهدِئَةِ النّفوس، وإنْ لَم يُمهِّد السَّبيلَ إلى الْمُصالَحةِ والْمُسامَحَة، وإنْ لم يُفضي إلى نَبذِ الخلافاتِ وَوَئدِ الخُصومَات، يَبقَى إيمانًا مَبتورًا مُشَوَّهًا مَشكُوكًا في صِحَّتِه، لأنَّ الفَضَائِل كَأَصابِع اليَد، لا بُدَّ أن تَنموَ مَعًا! تَمامًا كَما يقول يعقوبُ الرّسول في رسالتِه: ﴿وَكَذلِكَ الإيمان، فإنْ لَم يَقتَرِن بالأعمالِ، كانَ مَيتًا في حَدِّ ذاتِه﴾ (يع 17:2).

 

وَهُنا نَتَساءَل عَن عَددِ الأشخَاصِ "الْمُؤمنين" الّذين يَقصِدونَ الكَنائِسَ كُلَّ يومِ أَحَد، ويَرتادونَ الصّلواتِ، ويُشارِكون في القَدَاديس، وَيقتَرِبون مِن الْمناوَلَةِ الْمقدَّسَة، ولكنَّ القُلوبَ مَليئةٌ غَضَبًا وَسُخطًا، والنّفوسُ مُحمَّلةٌ عَدَاءً وازْدِراءً!

 

وَأَخيرًا، وبالرّغمِ مِن مَوقفِ أَهلِ الْمَدينةِ نحوَ هَذهِ الْمَرأة، إلّا أَنّها ﴿تَرَكَت جرَّتَها﴾، وَتَجاوَزَت عن زلّاتِ النّاسِ تُجاهَها، وَذَهبَتْ تَحمِلُ لهُم البُشرَى، بِأنْ قَدْ وَجَدَتْ الْمَاءَ الحَيّ، مَنْ: ﴿يَشرَبْ مِنهُ فَلَنْ يَعطَشَ أبَدًا، بَل يصيرُ فيهِ عَينَ مَاءٍ، يَتَفجَّرُ حياةً أبديّة﴾ (راجع يوحنّا 14:4). لأنَّ الّذي يَلتَقي حَقًّا بالْمَسيح، لا يُمكنُ لهُ أَنْ يَسمَحَ لِلمَشاعرِ السَّلبيّةِ أَنْ تُستَملِكَه وَتُسيطِرَ عَلَيه.

 

وَكَما يقولُ سفرُ الجامِعة: ﴿لِلحَربِ وَقتٌ وَلِلصُّلحِ وَقت﴾ (جامعة 8:3)، فأيُّ وقتٍ يا أحبّة، أَنْسبُ مِنْ هَذَا الوَقت، لِمَنحِ الصّفحِ وَلِطَلَبِ الغُفران وإنهاءِ الخصومات؟! ﴿فَإذَا كُنتَ تُقرِّبُ إلى الْمَذبحِ قُربانَكَ، وَذَكرتَ هُناكَ أنَّ لأخيكَ عَليكَ شيئًا، فَدَعْ قربانَكَ، واذْهَب أَوَّلًا فَصالِحْ أَخَاكَ، ثمَّ عُدْ فَقرِّب قربانَك﴾ (متّى 23:5)