موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٤ يوليو / تموز ٢٠٢٤

"الوجبة الإلهيّة" بين كاتبّي سفر الملوك الثاني والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (2مل 4: 42- 44؛ يو 6: 1-15)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (2مل 4: 42- 44؛ يو 6: 1-15)

 

الأحد السابع العشر بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

نحن الفقراء، الّذين نخطأ حينما نكرس أوقاتًا طويلة لتحضير أشهى الوجبات بمطابخنا. لكن يفاجئنا الله في كلا العهديّن بأنّه أمهّر المعديّن لأنواع الأطعمة الّتي لها مذاق متميز، لأنها تُعد بناء على الثقة في الكلمة الإلهيّة ولا تعتمد على الكلمة البشريّة. القراء الأفاضل، نتوقف في مقالنا هذا على نصيّ من كِلّا العهديّن كعادتنا. إلّا أن مضمون النصييّن يشغلا الكثير من حياتنا بل إشكاليتنا اليّوم، إذ يناقشا واقعنا اليّوميّ بالأخص حول الأزمة الإقتصاديّة الّتي يعاني منها عالمنا اليّوم حيث الشكوى من عدم توافر ما هو أساسي للحياة وهو الطعام. في الكتب المقدسة يشير الخبز للطعام كجوهر وأساس في بيوت الفقراء والأغنياء معًا من بني إسرائيل. لذا سنناقش من العهد الأوّل لقاء إليشع بخادمه الّذي يتعامل معه بناء على ثقته في كلمة الله (2مل 4: 42-44). نهدف من خلاله إلى التوقف أمام شخصيّة إليشع الّذي يؤيد أقوال الرّبّ ويطيعها.

 

على ضوئه هذا الحدث، سنقرأ لاحقًا نص يوحنّاوي، بالعهد الثاني (6: 1- 15). سنتوقف أمام حدث مُعاش وواقعيّ، ولقد أتمّه يسوع لخير الشعب وفي حضور تلاميذه الّذي رغب في معاونتهم من خلال طرحه سؤاله عليهم بحسب إنجيل اللّاهوتي يوحنّا (6 : 1-15). حيث من خلال البركة يسوع، أكثر الخمس أرغفة والسمكتين. ربّما هناك البعض لم يختبر الجوع حقًا! ولكن من المؤكد إنّ هناك العديد من الرجال والنساء منذ أجيال ليست ببعيدة، وقد تكون حاليّة وقريبة منّا، قد إختبروا معنى الجوع.، كحال الجمع الّذي رافق يسوع. وها اليّوم، هناك العديد من البشر في أنحاء العالم، يعاني الجوع، أي ليس لديّه ما هو أساسيّ ليحيوا حياة إنسانيّة كريمة تليق بهم. فجّرا أزمتي الناحية الإقتصاديّة من جانب والغلاء من الجانب الآخر، الكثير من المعاناة وكشفن عن أُناس يموتون من الجوع، وهم يعرفون جيدًا ما هو الجوع. فهناك أغلبية من البشر لا يعرفن ما هي الراحة حقًا، والسبب هو العمل المتواصل. إذ هم مشغوليّن بمتابعة الأعمال الكثيرة والـمِهّن الّتي توفر لهم الأساسيّ لهم ولأفراد أسرّهم، فيصير وقت الراحة بمثابة وقت العمل والإستمرار بالتعب لتوفير الإحتياجات الأساسيّة.  لكن هناك أجيال أخرى، وهي الأكثر إهتمامًا بالحياة، عرفن ما هي الراحة والشبع. حسنًا، في مقالنا اليّوم، يلحّا كِلّا النصين بأنّنا كمؤمنين مدعوين لإكتشاف إلهنا كمصدر لتغذيتنا وتحررنا من الجوع الأرضي، فهو الّذي يّطعِمنا وينقذنا من الجوع، ويجعلنا نرتاح في المراعي الخضراء الّتي يرافقنا إليها وقد أعدها خصيصًا لنا (راج مز 23). نهدف من خلال هذا المقال إلى إعادة إكتشاف جوعنا الحقيقيّ.

 

 

1. الإستحالة البشريّة والقدرة الإلهيّة (2مل 4: 42- 44)

 

بقرأتنا كمرحلة أوّلى لنص العهد الأوّل بسفر الملوك الثاني (4: 42- 44)، حيث نتأمل كيف قام نبي الله، إليشع، بإطعام حشدًا يتكون من مائة شخص من خلال بضعة أرغفة من الخبز. يعود السبب في هذا العمل الإعجازي إلى طاعته لكلمة الرّبّ وبالأحرى الوثوق بكلمة الرّبّ بالرغم من العدد القليل للأرغفة المقدمة للجمع الكثير. يروي كاتب سفر الملوك، وهو أحد الأسفار الّتي تنتمي للكتب التاريخية، إلى توضيح لقاء مُعاش من خلال إليشع، تلميذ إيليا النّبيّ، حيث يتم تكثير الأرغفة. حيث يشير بأن رجل ما قدّم للنّبيّ، وهو بمثابة رجل الله، خبز البواكير، بما يعادل عشرين رغيفا من الشعير وبعض السنابل الليّنة الخضراء. ونفاجأ بأن النّبي يطلب طلبًا غريبًا من خادمه قائلاً بتلقائية: «أَعطِ القَومَ لِيَأكُلوا» (2مل 4: 42). وبناء على هذا ينظر هذا الخادم متعجبًا بشكل سلبي، مؤكداً إستحالة شبع هذا القوم قائلاً: «ما هذا؟ أَأَضَعُ هذا [القليل] أمامَ مِئَةِ رَجُل؟» (2مل 4: 43). من خبرة الخادم أنّ الرجال الّذين يشكلون قوم كبير العدد، يستحيل أنّ يكفي هذا الخبز لإشباعهم. ثمّ يأتي ردّ إليشع النبي بثقة وبهدوء معلنًا أنّ هذا الأمر ليس منه قائلاً: «أَعطِ القَومَ فيأكُلوا، لأنه هكذا قالَ الرَّبّإِنَّهم يأكُلونَ ويفضُلُ عنهم» (2مل 4: 43). هذه الثقة الّتي وضعها رجل الله في الرّبّ، الّذي يحمل رسالته، جعلته يتحاور متأكداً بأنّ المستحيل بشريًا غير مستحيل إلهيًا. وهنا تأتي الـمفاجأة إذ يؤكد كاتب سفر الملوك الثاني في سردة، ثقة إليشع في الرّبّ قائلاً: «فوَضَعَ أمامَهم، فأَكَلوا وفَضَلَ عنهم، كما قالَ الرَّبّ» (2مل 4: 44). هذا هو السرّ الإلهي الّذي كشفه الله قبلاً فقط لنّبيّه ثمّ لخادم النّبيّ. فكم بالأحرى يكشف لنا الرّبّ الإله اليّوم ونحن أبناءه الّذين نؤمن به بأن أزماتنا الإقتصادية وجوعنا وحياتنا الّتي ينقصها الأساسي لن تستمر لأنّ لازال الله يتدخّل، من خلال كلماتة وأفعاله، يغير المنطق البشريّ فيجعل إيماننا أقوى لأننا ننتمي للرّبّ. مدعويّن أنّ نحيا في عالم بشريّ يإيمان حيّ بحسب المنطق الإلهي وليس البشريّ. سرّ إكثار أرغفة الشعير ليس فقط في طاعة إليشع بل في قوة الكلمة الإلهيّة الّتي تحمل لنا كلّ هو ما هو صالح وخيّر في فكر الله.

 

 

2. سخاء الصَبِيٌّ (يو 6: 1- 9)

 

مقارنة بالرجل الّذي قدم بواكير محصوله لرجل الله، يشير كاتب البُشرى اليوحنّاويّة، والّذي يؤكد في سرده حدث تكثير الخمس أرغفة والسمكتين على وجود طفل صغير. حيث يشير كاتب الإنجيل الرابع بأنّ بين الجمع هناك صبيّ حاملاً وجبته والّتي تشمل خمسة أرغفة شعير وسمكتين، وهما كمية قليلة بالنسبة للجمع الحاضر أمام يسوع. وها هو من جديد تأتي الكلمات الإلهيّة من خلال التدخل الإلهيّ ليسوع الابن فيحمل جوع الجمع والتلاميذ والصّبيّ معًا أمام الله الآب، مباركًا إياه. إلّا أن الرجال الناضجين، أيّ التلاميذ، بدأوا في طرح تساءلاتهم قائلين على لسان فيلبس: «"لوِ اشتَرَينا خُبزاً بِمَائَتي دينار، لما كفَى أَن يَحصُلَ الواحِدُ مِنهُم على كِسرَةٍ صَغيرة". وقالَ له أّحَدُ تَلاميذه، أَندَراوَس أَخو سِمْعانَ بُطرُس: "ههُنا صَبِيٌّ معَهُ خَمسَةُ أَرغِفَةٍ مِن شَعير وسَمَكتان، ولكِن ما هذا لِمِثلِ هذا العَدَدِ الكَبير؟"» (يو 6: 7- 9). بالطبع قليل جدًا، لابد من الوعي بأنّه لا شيء لدينا. ومع ردود أفعال التلاميذ هذه، سيغير يسوع الأحداث بل يقلبها رأس على عقب وبدلاً من الجوع والإنهاك من السير لتابعيه، سيتدخل بالشبع ويفاجئ تلاميذه بقدرته على إنّ يطعم هذا الحشد الهائل من العدم الّذي لديهم.مدعوين أن نطرح أما الرّبّ جوعنا وعدمنا أيضًا فنحن لن نتمكن من الإكتفاء بذاواتنا وضمان الشبع المادي لبطوننا. في واقع الأمر لابد وأنّ نختبر الجوع، إذا لم نكن جياعًا، وإذا إعتقدنا إنّنا شبعنا، وإذا كنا لا نعتقد إنّنا بحاجة إلى مراعي خضراء لنستريح عليها، فكيف يمكننا إنّ نلتقي بالله الّذي يغذي ويعافي؟ إذا لم نشعر كنساء وكرجال زمننا المعاصر بالجوع، فكيف لنا أنّ نتمكن من سماع البُشرى السّارة؟ لقد تعلمنا إنّ نعلن الإنجيل كرسالة رجاء لمؤمنين راضين، ليس لديهم سوى القليل ليتلقوه من الله والكثير هو ما يفعلوه من أجله أيضًا. فالصبّي الصغير أخرج القليل من طعامه، ولم يبخل به بالرغم من حداثة عمره يعلمنا السخاء وهو الّذي حثّ يسوع على إتمامّ العمل الإعجازي «لِأَنَّهُ كانَ يَعلَمُ ما سَيَصنَع» (يو 6: 6).

 

 

3. الجوع الحقيقي (يو 6: 10- 15)

 

يخبرنا النص اليوحنّاوي بإنّه لكي نلتقي بالله في الكتاب المقدس، نحتاج إلى إعادة اكتشاف جوعنا، جوعنا كنساء وكرجال عصرنا؛ مدعويّن لنتعلم إنّ الله لا يحتاج منا شيئًا ولكن مساهمتنا بما لدينا من القليل، خمسة أرغفة وسمكتين، تجعلنا أغنياء وهذه المشاركة بالقليل ولكن بثقة بأنه سيشبعنا بينما يجب إنّ نتلقى منه طعامًا وافرًا يكفي الجميع ويفيض أيضًا. وفي حدث تكثير الأرغفة، الّذي لا يرد بالنص الكتابي بل هو عنوان أُعطي من اللّاهوتيين لهذه المعجزة، لا يجب علينا إنّ نرى في عمل يسوع الإعجازي إظهار لقوته، بل طريقته في الكشف عن وجه الله الآب، هذا وحده هو الله الّذي له معنى بالنسبة للرجال والنساء الراضين في مجتمعنا. فالعلاقة بالله هي الّتي تحثنا على أنّ نبحث عنه ليسدّ جوعنا الحقيقي وليس الطعام المادي.

 

يعرف الله حقيقة جوعنا بل يرى كلّ ما هو يخفي علينا حتى الّذي لّا نعرفه حتى كيف نتعرف عليه؛ الله هو صاحب الوجه الساميّ الّذي لا يزال بإمكاننا كمؤمنين أنّ نستقبله اليّوم، ليس بسبب بطن يتسم بالشبع، بل يتسم بالجوع. ليس من أجل إحتياجنا للطعام، بل للتعرف على الجوع الأعمق الّذي يعيش في قلوبنا. في هذا المقال، يدعونا الرّبّ مرة أخرى إلى الجلوس والتحلي بالراحة على العشب الأخضر والشبع من طعامه؛ إنّه يتوقع منا تقديم ما لدينا سواء أرغفتنا الخمسة والسمكتين، أم أشياء أخرى حتى لو تقدمنا أمامه بأيديّنا الفارغة والـمتأهبة للخدمة مستعدين لتقديم القليل الّذي يبارك الرّبّ فيه للجمع الكبير. مدعويّن كمؤمنين، أنّ نعتم بتغذيّة أنفسنا على مائدته الإفخارستيّة وإنّ نصبح معاونيّن له في إعلانه للجميع باعتباره طعامنا الوحيد الّذي يستطيع إنّ يقدم ذاته كوجبة إلهيّة ليسدّ جوعنا الباطني بل ويفيض منا. يدل هذا الفيض على أنّ الكرّم الإلهي، مدعوين ليتناول كلّاً منا، بشهيّة، من هذه الوجبة الإلهيّة الّتي تُطهى على نّار ثقتنا كمؤمنين، وقبول سخاء خدمة الله بعد أنّ قدم بحب ذاته أمام القليل الّذي لدينا. وبعد الشبع علينا بالإمتنان والشكر للرّبّ.

 

 

4. الوجبة الإلهيّة (2مل 4: 24- 44؛ يو 6: 1- 15)

 

قدرة الكلمة الإلهيّة بالعهديّن، أشبعت جوع الكثيرين من الجمع سواء مع إليشع أم مع يسوع. هذه الوجبة لازالت تنتظرنا بل وتزداد من خلال الثقة بالرّبّ، هذا هو مصدر غنانا البشريّ لـمواجهة مشاكلنا. دون الثقة بالرّبّ مع السعي الدؤوب والإجتهاد بالعمل، سيبارك الرّبّ مهما كان الدخل قليلاً فهو يدعونا ليكون أساس ومصدر حياتنا. لذا مدعوين لإستعادة ثقتنا بالرّبّ والإستمرار على مباركته في كل ما يصل لأيدينا فهذا من فيضه وليس فقط من عرق جبيننا. فكثير من الأحيان لا نعلم ماذا نأكل أو نشرب ولكن نبارك على ما لدينا، فالقليل أي الضروري لسدّ الجوع البشري. وهنا يأتي يسوع بجسده ودمه مأكلاً لخلاص العالم، فيسدّ جوعنا الروحيّ.

 

 

الخلّاصة

 

قَدمَ كاتبي سفر الملوك الثاني، في الآيات القليلة (4: 24- 44) ثقة إليشع النّبيّ وطاعته وعدم إنصياغه للفكر البشري الـمُتمثل في رأيّ خادمه مما أدى إلى شبع الرجال الكثيرين. وعلى ضوء كلمة الله بالعهد الأوّل تناولنا إستمراريتها بحسب إنجيل يوحنّا، إذ أعدّ يسوع بذاته الوجبة لرجال ونساء وأطفال عصره المنهكين. مما أظهر إنّ إلهنا هو الّذي يقلق على جوعنا وسيطعمنا من خلال القليل، خمسة أرغفة وسمكتين، بوجبة لها مذاق خاص. في كلتا الحدثيّن، تمّ التدخل الإلهيّ بطريقة فيّاضة، إثنى عشر سلّة من الخبز. لازال الله يستعد ليطعمنا بكلمته وبالقليل الّذي لدينا فلا داعي للقلق، فهو أبينا الّذي سيدهشنا في الوقت الملائم ليشبعنا بطريقته الخاصة. لابد وأن نتذكر أنّ الله لنّ يطعمنا ولا يجيب على جوعنا بدون تقديم ما لدينا حتى القليل منه. مهما كانت الكميات قليلة في معتقداتنا، لكن من هذا القليل يطعم الله بشريتنا ببركته الّتي لا تنتهي وما علينا إلّا بالثقة فيه. دمُتم أبناء واثقين في الله الآب.