موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في زمن يسوع اخذ الكتبة وعلماء الشريعة يحصون وصايا الشريعة حيث بلغ عددها نحو 613 وصية (365 بحسب أيّام السنة و248 بحسب عدد عظام الانسان)، وحاول بعضهم التفريق بين الوصايا العظمى والصغرى واختلفوا في ترتيبها من حيث الأهمية، وتساءلوا: ما الوَصِيَّةُ الأُولى في الوَصايا كُلِّها؟ فأجابهم معلمنا يسوع المسيح ان المحبة هي أولى الوصايا (مرقس 12: 28-34)، وهي خلاصة الشريعة (متَّى 22: 40)، وجوهر الانجيل والحياة الانجيلية وأساس العلاقات البشرية والروابط الإنسانية؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص انجيل مرقس (مرقس 12: 28-34) 28 دَنا إِلَيه أَحدُ الكَتَبَة، وكانَ قد سَمِعَهم يُجادِلونَه، ورأَى أَنَّه أَحسَنَ الرَّدَّ علَيهم، فسأله: ((ما الوَصِيَّةُ الأُولى في الوَصايا كُلِّها؟ عبارة "أَحدُ الكَتَبَة" باليونانية ?????????? (معناها ناموسي) تشير الى أحد علماء الشريعة الذين ينسخون الشريعة ويتعلمونها ويفسرونها. ويُقال لهم معلمو الشريعة (لوقا 5: 17) وكانوا يُدعون "رابي" أي يا معلم. وكانوا يفسِّرون الكتاب للشعب. أخذ عليهم يسوع تشدّدهم وقساوتهم وتمسّكهم بالألفاظ دون المعنى (متى 23: 1-36). أمَّا عبارة " الوَصِيَّةُ " فتشير الى ما نطق به الله في سيناء، وكتبت على لوحي حجر (خروج 31: 18 ). وتدعى الكلمات العشر (خروج 34: 28). وتدعى أيضاً كلمات العهد (تثنية الاشتراع 29: 1)، ولوحي الشهادة (خروج 31: 18)، والشهادة (خروج 25: 16)، وتدل الوصايا أيضا على توجيهات وإرشادات للحياة الصالحة، وهي موجز لكثير من تعاليم العهد القديم. أمَّا عبارة " يُجادِلونَه " فتشير الى الفريسييِّن والصدُّوقييِّن والهيرودسيين الذين جاءوا إلى السيد المسيح بخبثٍ ليجرِّبوه من اجل اصطياده بكلمة كمثير فتنة ضد الحاكم الروماني، أو كمخالف للشريعة الموسوية. فالبعض ركز في اسئلته على أهمية الشرائع الطقسية خاصة تقديم الذبائح، والآخر على الجانب الإيماني، وثالث على الجانب السلوكي العملي. أمَّا عبارة "ما الوَصِيَّةُ الأُولى في الوَصايا كُلِّها؟" باليونانية ???? ????? ?????? ????? ?????? (معناها حرفيا أي أية وصية هي أول الكل) فتشير الى سؤال يعود الى خلاف كبير بين الفريسيين والصدوقيين في حول تفسير احكام الشريعة، فوصلت لديهم نحو 613 وصية، منها 365 (عدد ايام السنة) ومنها وصية 248 (عدد عظام الانسان). وكلها فُرضت على المؤمن وبكل كيانه كل ايام السنة. والسؤال يفترض وجود تباين في الأهمية بين الوصايا. ولقد قسم الربيون وصايا الشريعة الى "ثقيلة" و " خفيفة " وبين الوصايا الأدبية والطقسية (مرقس 1: 33). 29 فأَجابَ يسوع ((الوَصِيَّةُ الأُولى هيَ: ((اِسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد تشير عبارة "أَجابَ يسوع" الى جواب يسوع مستشهداً بثنية الاشتراع الذي يُشدِّد على محبة الله (تثنية الاشتراع 6: 5)، وفي إنجيل متى يسوع هو الذي يدلُّ بالجواب (متى 22: 37)، أمَّا في انجيل لوقا فالكاتب هو الذي يهتدي الى الجواب بحيث يُبيِّن هنا لوقا الإنجيلي كيف ان العهد القديم مهَّد لرسالة يسوع. وقدَّم لوقا الانجيلي جواب يسوع في إطار مثل السامري الرحيم الذي يدعو المؤمن لكي يوسِّع حلقة التضامن من أبعد من الفئة والقبيلة والبلد والدين ليضم كل أنسان. أمَّا عبارة الوَصِيَّةُ الأُولى" فتشير الى اول واجب على الانسان تجاه ربّه. أمَّا عبارة "اِسمَعْ يا إِسرائيل" فتشير الى الصلاة اليومية التي يتلوها اليهود الاتقياء في الصباح وفي المساء ويبدأون بها كل خدمة حتى اليوم. وهذه الصلاة هي الركن الأساسي من اركان إيمانهم، وهي الوصية التي يلبسونها في عصائب. وكانوا أحيانا يُعلقونها على قوائم أبوابهم تمسكا حرفيا لما ورد في الشريعة " أعقِدْها عَلامةً على يَدِكَ، ولتكُنْ عَصائِبَ بَيْنَ عَينَيكَ. واَكتُبْها على دَعائِم أَبْوابِ بَيتِكَ" (تثنية الاشتراع 6: 8-9)، كوسيلة لدخول الفردوس. أمَّا عبارة " إِنَّ الرَّبّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد" فتشير الى ما ورد في الشريعة باللغة العبرية ?????? ?????????? ?????? ????? (تثنية الاشتراع 6: 4)، وهي تأخذ بعين الاعتبار " إنَّه الأَحَد ولَيسَ مِن دونِه آخَر" (مرقس 10: 32). استمرَّ الإيمان بالإله الواحد يتوضَّح بدقَّة متزايدة ويستخرجه المؤمنون من الإيمان بالاختيار والعهد كما جاء في قول الله مع نوح "أُقيمُ عَهْدي معكَ" (التكوين 6: 18)، ويتضمن هذا الايمان وجود ألاله الحي، السيد الأوحد للعالم ولشعبه (تثنية الاشتراع 5: 6) رفضا دائما للآلهة الكاذبة كما أوضح صاحب الحكمة " ما أَشْقى أُولئِكَ الَّذينَ جَعَلوا رَجاءَهم في أَشْياءَ مَيتَة فسَمَّوا أَعْمالَ أَيدي النَّاسِ آِلهَةً ذَهَبًا وفِضَّةً مَصنوعةً بِدِقَّةٍ وفَنّ وتَماثيلَ كائِناتً حيَة أَو حَجَرًا " (الحكمة 13: 10). 30 فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ تشير عبارة " فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ " الى وصية وليس الى امرٍ اختياري. وفي هذه الوصية تتلخص كل فلسفة الحياة. وهذا الحب يتجاوب مع حب الله لشعبه (تثنية الاشتراع 4: 37) ويقوم هذا الحب على افعال عبادة وطاعة (تثنية الاشتراع 11: 13، 19: 9)، ويتطلب اختيارا جذرياً وتضحية كاملة (تثنية الاشتراع 4: 15-31)، ويتضمن مخافة الله وخدمته وحفظ وصاياه " والآنَ يا إِسْرائيل، ما الَّذي يَطلبُهُ مِنكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إلاَّ أن تَتَّقِيَ الرَّبَّ إِلهَكَ سائِرًا في جَميعَ طرُقِه ومُحِبًّا إيّاه، وعابدًا الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ كلِّ نَفسِكَ" (تثنية الاشتراع 10: 12)؛ ووصية الحب لا تَرد صراحة خارج تثنية الاشتراع. ولكن لها مُعادل في سفر الملوك (2ملوك 23: 25) والاسفار النبوية لا سيما هوشع (6: 6) وارميا والمزامير. وعندما يستشهد يسوع بتثنية الاشتراع (5: 6)، يجعل من حب الله أولى الوصايا (مرقس 12: 30). وفي انجيل متى جعل من حب الله أكبر الوصايا (متى 22: 37)؛ وهو حب لا يتعارض مع المخافة البنوية، بل يُحرّر من خوف العبيد كما يؤكد ذلك يوحنا الرسول " لا خَوفَ في المَحبَّة بلِ المَحبَّةُ الكامِلةُ تَنْفي عَنها الخَوف لأَنَّ الخَوفَ يَعْني العِقاب ومَن يَخَفْ لم يَكُنْ كامِلاً في المَحَبَّة" (1 يوحنا 4: 18) موضحا لماذا علينا ان نحب الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة" (1يوحنا 4: 7-8). أمَّا عبارة "كل" باليونانية ???? مأخوذة من العبرية ??? فتشير الى كلية الانسان البشري. يجب ان تملآ محبة الله كل كياننا. هل نحن نحب الله بهذه الطريقة والى هذا الحد؟ أمَّا عبارة " قلبِكَ " فتشير الى مصدر العواطف والانفعالات. وأمَّا عبارة " نَفْسِكَ " فتشير الى مصدر حياة الانسان؛ أمَّا عبارة " ذِهِنكَ " فتشير الى قوى الانسان العاقلة (رومة 13: 8)؛ أمَّا عبارة " قُوَّتِكَ " فتشير الى قدرة الانسان؛ أمَّا عبارة " بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ " فتشير الى مبدأ فعَّال يشمل كل النواحي الشخصية والقوى الحيوية، جسدا ونفسا وطاقات الانسان. ويعلق البابا بندكتس "عَيشِ الحب بهذه الطريقة يُدخل الله في العالم" (الله محبة، الفقرة 39). نحن نحب الله الاب لأنه القوة المحرِّكة لكل فكرة، لكل حركة، ولكل قرار. ومجمل ديناميّة الحياة المسيحيّة مًلّخص بجملتين: أنت محبوب. أحبب. 31 والثَّانِيَةُ هي: ((أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ)). ولا وَصِيَّةَ أُخرى أَكبرُ مِن هاتَيْن تشير عبارة " الثَّانِيَةُ " الى الوصية الثانية التي يلمّح اليها يسوع مع ان الكاتب لم يطلب سوى وصية واحدة. فلا حب الله يصحُ بغير حب القريب، ولا حب القريب يصحُّ بغير حب الله. إنهما وصيتان متشابهتان، متلازمتان ومتكاملتان، لا تقوم الواحدة منهما بغير الأخرى. ويعلق البابا بندكتس السّادس عشر" يسوع جمع، بوصيّة واحدة، وصيّة حبّ الله وحبّ القريب، الموجودة في كتاب الأحبار: أحبب قريبك حبّك لنفسك (أحبار 19، 18) فالحبّ ليس فقط وصيّة، إنّما جواب لعطاء الحبّ الذي من خلاله يأتي الله للقائنا" (منشور البابا بندكتس “الله محبّة" الفقرة 1). أمَّا عبارة " أَحبِبْ قريبَكَ " فتشير الى استشهاد يسوع بما ورد في الاحبار "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ: أَنا الرَّبّ" (الاحبار 19: 18). وجواب يسوع هام لأنه وحَّد بين آيتين منفصلتين: محبة الله (تثنية الاشتراع 6: 4-5) ومحبة القريب (الاحبار 19: 18). وتنبع وصية محبة القريب من محبة الله، وتدل على صدق محبتنا لله (1يوحنا 4: 20). في العهد القديم اكتملت وصية محبة الله بالوصية الثانية، ولكن لم تعطَ لهذه الوصية الاهمية التي اعطيت للوصية الاولى (الاحبار 19: 1-37). أمَّا يسوع بقوله "مثلها" كما أوضّح انجيل متى " والثَّانِيَةُ مِثلُها: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (متى 22: 38) ليس دلالة على نوعية المحبة بل على التساوي في الاهمية بين هاتين الوصيتين، وربط الوصية الثانية بالوصية الاولى. فقد جاء قوله واضحا: "الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه ". (متى 25: 40). وهاتان الوصيتان تلخصان بكلمات بسيطة كل الوصايا الأخرى كما جاء في تعليم بولس الرسول " لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة (رومة 13: 8). وعليه لا تقوم أصالة موجز الشريعة الانجيلي هذه على فكرة محبة الله والقريب، وهي معروفة في العهد القديم (احبار19: 18) وتثنية الاشتراع (6: 5)، بل على اهمية وربط بين محبة الله ومحبة القريب. يسوع جعل محبة القريب هامة مثل محبة الله. ويصف محبة القريب كامتداد لمحبة الله وعلامة عن صدق محبتنا لله (1 يوحنا 4: 20-21). ومحبة القريب هو مقياس ايماننا " إِذا قالَ أَحَد: إِنِّي أُحِبُّ الله، وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه." (1 يوحنا 4: 20). فالربط بين محبة الله ومحبة القريب تضع الانسان ليس امام مجموعة من الأوامر والنواهي الصادرة عن الشريعة، انما امام موقف الانسان بكامله أمام الله نفسه. أمَّا عبارة " قريبَكَ " فتشير في نظر اليهودي في ذلك الزمان الى من ينتمي إلى الشعب العبراني، أو على الأقلّ المرتدّ إليه (خروج 20: 16-17 و21: 14) والآخرون هم غرباء وربما أعداء، وأمَّا في نظر المسيح فالقريب هو كل إنسان حتى العدو في الدين والقومية والعِرق. وقد كشف لنا إنجيل لوقا من هو قريبنا بمثل السامري الصالح (لوقا 10: 25 -37). أن الناس جميعا أبناء أبٍ واحد، هو الله، وأنهم جميعا مُفتدون بدم المسيح, أمَّا عبارة "حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" فتشير الى واجب محبتنا للقريب كحبنا لنفوسنا، وهي محبة لا حدود لها وغير مشروطة تُلزم الانسان كله. وأعتبر الرابي اكيفا بن يوسف في أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني وصية " أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ " مبدأ أساسياً في التعليم اليهودي. وهنا نتذكر القاعدة الذهبية "فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم" (متى7: 12). ويوكِّد بولس الرسول ذلك بقوله " لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ " (غلاطية 5: 14) كما جعل بولس الرسول حبَّ القريب الموهبة العظمى في المواهب كلها " أَعظَمَها المَحبَّة" (1 قورنتس 13: 13). لا توصي هذه الوصية بحب النفس أولا للوصول الى حب القريب بعدئذٍ او بالقدر نفسه بل تعني أنه يجب حب القريب حبا تاماً بكل القلب. ومن هذا المنطلق فإن موقف اللامبالاة او العداء نحو الغير يُعد إهانة موجّهة لله (تكوين3: 12، 4: 9). ولا يستطيع المرء ان يرضي الله بدون احترام سائر البشر وخاصة المنبوذين والمهمشين والفقراء والمساكين، وبدون إجراء الحق والعدل كما توصي الشريعة (خروج 20: 12-17) وكلام الانبياء (ارميا22: 15-16). وأمَّا الشريعة الانجيلية كلها فموجودة في وصية يسوع الجديدة (يوحنا 13: 34) وهي ان نحب بعضنا كما احبنا الله كما اوصانا يسوع "وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً كما أَحبَبتُكم" (يوحنا 15: 12). أمَّا عبارة " ولا وَصِيَّةَ أُخرى أَكبرُ مِن هاتَيْن" الى تلخيص يسوع الوصيتين في وصية واحدة هي وصية المحبة، أولا نحو الله وثانيا نحو الانسان. وفسرها تفسيراً حقيقياً، وعلم الناس أن غاية الناموس إنما هي المحبة لله والقريب " بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ تَرتَبِطُ الشَّريعَةُ كُلُّها والأَنِبياء " (متى 22: 40)، والوصيتان متماسكتان متكاملتان لا تقوم الواحدة بدون الأخرى. وأكد ذلك بولس الرسول " فإِنَّ الوَصايا الَّتي تَقول: لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسْرِقْ، لا تَشتَهِ وسِواها مِنَ الوَصايا، مُجتَمِعةٌ في هذِه الكَلِمَة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (رومة 13: 9). وقد جاء السيد المسيح ليؤكد الحاجة إلى تغيير شامل في النفس والقلب والفكر مع تجاوب كل طاقات الإنسان وإمكانياته مع هذا التغير الداخلي. وقد جاءت إجابة المسيح متفقة مع الوصايا العشر المنقسمة للوحين الأول يختص بمحبة الله (الوصايا الثّلاث الأُولى)، واللوح الآخر يختص في محبة القريب (الوصايا السّبع الأخيرة)، وهكذا لخص السيد الوصايا أن تحب الله وتحب قريبك. والجدير بالإشارة ان الناس في أيامنا يشدّدون على المحبة للناس او الاحسان إليهم ولكنهم ينسون واجب المحبة لله. الرب يربط الاثنين. فعمل الخير (محبة القريب) لا يعتبر بديلا للديانة (محبة الله) بل يجب ان يصدر عنها. 32 فقالَ له الكاتب: ((أَحسَنتَ يا مُعَلِّم، لقد أَصَبْتَ إِذ قُلتَ: إِنَّه الأَحَد ولَيسَ مِن دونِه آخَر، 33 وأَن يُحِبَّه الإِنسانُ يِكُلِّ قلبِهِ وكُلِّ عَقلِه وكُلِّ قُوَّتِه، وأَن يُحِبَّ قَريبَه حُبَّه لِنَفْسِه، أَفضَلُ مِن كُلِّ مُحرَقَةٍ وذبيحَة)) وتشير هذه الآية الى جواب ذلك الكاتب الذي فاق سائر الكتبة والفريسيين في إدراك المعنى الروحي للشريعة. وان عبادتنا لله يجب ان تكون خالصة ومفضلة على كل شيء، وان محبتنا للناس جزء من تلك العبادة، وأن المحبة لله وللقريب أسمى من كل ذبائح الشريعة الموسوية. ليس للشعائر قيمة إن لم تكن متّحدة بشكل وثيق مع محبّة القريب أمَّا عبارة " أَفضَلُ مِن كُلِّ مُحرَقَةٍ وذبيحَة" فتشير الى ما قول صَموئيل: "أترى الرَّبَّ يَهْوى المُحرَقاتِ والذَّبائِحَ، كما يَهْوى الطَّاعةَ لِكَلام الرَّبّ. إِنَّ الطَّاعةَ خَيرٌ مِنَ الذَّبيحة، والانقِياَدَ أَفضَلُ من شَحمِ الكِباش" (1صموئيل 15: 22). لا يستنكر صموئيل عبادة الذبائح بوجه عام. ولكن الطاعة الباطنية هي التي تُرضي الله، لا الرتبة الخارجية. وإن أقام الإنسان هذه الرتبة خلافا لما يُرضي الله، كان إكرامه لغير الله ووقع في عبادة الاوثان كالعرافة والترافيم (التكوين 31: 19- 30، 1 صموئيل 19: 13). وفي الواقع، قاوم الأنبياء التمسك بالشكليات في العبادة، مثل من يظن أنه أتمَّ ما عليه لله لأنه مارس بعض الرتب الطقسية (ذبائح وصوم)، وأهمل أبسط وصايا العدالة والاجتماعية ومحبة القريب (اشعيا 1: 10- 16)؛ وشدَّد أيضا صاحب المزامير على المشاعر الباطنية التي يجب ان تستوحي منها الذبائح (الطاعة والحمد والندامة) “ذَبيحةً وتَقدِمَةً لم تَشأ لَكِنَّكَ فَتَحتَ أُذُنَيَّ ولم تَطلبْ مُحرَقةً وذَبيحَةَ خَطيئة. حينَئِذٍ قُلتُ: هاءَنَذا آتٍ فقَد كُتِبَ علَيَّ في طَيِّ الكِتاب هَوايَ أَن أعمَلَ بِمَشيئَتِكَ يا أَلله شَريعَتُكَ في صَميمِ أحْشائي" (مزمور 40: 7 – 9). وبكلمة أخرى، أدرك الكاتب ان المحبة من القلب والطاعة أفضل من كُلِّ مُحرَقَةٍ وذبيحَة (1صموئيل 15: 22). 34 فلمَّا رأَى يسوعُ أَنَّه أَجابَ بِفَطَنة قالَ له: ((لَستَ بَعيداً مِن مَلَكوتِ الله)). ولَم يَجرُؤْ أَحَدٌ بعدَئذٍ أَن يَسأَلَه عن شَيء. عبارة " بِفَطَنة "باليونانية ???????? (معناها بعقل) تشير الى الحكمة حيث كانت إجابة السيد المسيح مملوءة حكمة. فحبُّ إخوتنا يعتبر مُكملاً لحبنا لله، ولا يمكننا أن نحب الله غير المنظور ولا نحب إخوتنا المنظورين كما أكّد ذلك يوحنا الرسول " إذا قالَ أَحَد: ((إِنِّي أُحِبُّ الله)) وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه " (1 يوحنا 4: 20)؛ أمَّا عبارة "لَستَ بَعيداً مِن مَلَكوتِ الله" فتشير الى معرفة الكاتب ملامح طريق الملكوت، وأنه مستعد لدخول الملكوت لكن لم يكن قد دخله بعد ولا تمتع به. فمعرفة الحق واستحسانه يجعلان الانسان قريبا من الملكوت السماوي. فالمسيح لم يكتفِ بتثبيت إجابته وإعلان صوابها، بل دعاه إلى الدخول في ملكوت السماوات الّذي ليس بعيدًا عنه. ان هذا النص الوحيد في الاناجيل الذي يثني فيه يسوع على أحد "الكتبة" لكي يرفع من قدره ويشجِّعه الى اتخاذ الخطوة الأخرى، وهي الايمان بيسوع نفسه، غاية الشريعة. ويرى فيه انجيل مرقس كاتبا حسن النية ومخلصا وذكيا وباحثًا عن الحقيقة بصدق ومُستمع جيّد ومندفع جاء من اجل الحوار مع يسوع خلافا لما ورد في أنجيل متى حيث الكتبة جاؤوا الى يسوع ليحرجوه (متى 22: 35). ولم ينضم أحد من الكتبة الى يسوع؛ كذلك في انجيل لوقا جاء الكتبة الى يسوع ليحرجوه فسأله أحدهم " لِيُحرِجَه: ((يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟" (لوقا 10: 25) لكن بعضهم كانوا يوافقون يسوع. أمَّا عبارة " ولَم يَجرُؤْ أَحَدٌ بعدَئذٍ أَن يَسأَلَه عن شَيء" فتشير الى عدم جراءة أحد من الفريسيين والصدوقيين لطرح سؤال ليسوع خوفا من الوقوع في الفخ لسمو حكمة يسوع في دفع اعتراضات المقاومين كما يوكّد ذلك متى الإنجيلي " فلَم يَستَطِعْ أَحدٌ أَن يُجيبَهُ بِكَلِمَة، ولا جَرُؤَ أَحدٌ مُنذُ ذلكَ اليَومِ أَن يَسأَلَه عن شَيء" (متى 22: 46). هل هاتان الوصيّتان اللتين هما خلاصة كلّ شرائع الربّ تهيمنان على كلّ أفكارنا وقراراتنا وتصرّفاتنا؟ ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 10: 46- 52) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 10: 46- 52) نستنتج انه يتمحور حول وصية المحبة لله ولنفوسنا وللقريب. 1) على صعيد محبتا لله: كشف الله عن نفسه لبني اسرائيل على انه الوحيد:" اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتكَ" (تثنية الاشتراع 6 :4-5). وعن طريق الأنبياء دعا الله جميع الامم الى التوجه نحوه، هو الوحيد. " تَوجَّهوا إِلَيَّ فتَخلُصوا يا جَميعَ أَقاصي الأَرض فإِنِّي أَنا اللهُ ولَيسَ مِن إِلهٍ آخر " (اشعيا 45: 22- 24). الله احبنا اولاً بكشف ذاته. وهذا ما علمنا إياه يسوع "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16). فيتوجب علينا ان نحب الله "فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ (مرقس 12: 30). ولان الله يحبنا فهو يعتني بنا "أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماءِ كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟"(متى 6: 26) ويريد الله ان يعرف كل واحد مقدار محبة الله له كما جاء في صلاة يسوع "أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني" (يوحنا 17: 23). والوصايا "الكلمات العشر" تشرح جواب المحبة المطلوب من الانسان تأديته له تعالى. ومن هنا جاء التفسير التطبيقي في التعليم المسيحي الكاثوليكي" ان نحب الله لأجل الله ونحبه فوق كل شيء وبسببه نحب من يحبه الله"(بند 201). ومن هذا المنطلق ينبغي ان تملأ محبة الله كل كياننا بكل طاقاتنا؛ ولا يجوز ان نحب الله جزئيا بمعنى ان نعطيه جزءاً من حياتنا ووقتنا، وهذا ما تعنيه الوصية "فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ" (مرقس 12: 30). وإن كان الحب هو جوهر الوصية، فإن هذا الحب ليس تصرفًا خارجيًا نبرزه فحسب، إنما يمثل حياة تمس كل إمكانياتنا: تمس عواطفنا وأحاسيسنا الداخلية " نحب بِكُلِّ قلبِنا "، وتمس كياننا "نحب بكل نفسنا"، وتمس فكرنا " نحب بكُلِّ ذِهِننا" وتمس تصرفاتنا الظاهرة "نحب بكل قدرتنا". يسوع يريد منا ان يكون الله حبنا الأول "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال " (متى 6: 24). طبعا نحن نحب الله". ولكن من أي نوع هي محبتنا لله؟ هل نحب الله لأجل هباته، لأجل صفاته، لأجل ذاته؟ أن أسمى أنواع المحبة للرب هو إن نحبه لا لأجل هباته ولا لأجل صفاته بل لأجل ذاته. يجب أن نحب الله لأنه هو الله. نحبه لأنه هو أحبنا أولا. نحبه كما هو أحبنا. فهو لم يحبنا لأجل أي شيء فينا – إذ أننا خطأة وأعداء – بل أحبنا لأجل ذواتنا. ونحن نحب الله لأجل ذاته عندما نطيعه "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" (يوحنا 14: 21). يسوع يريد منا ان نستمع له تعالى "اِسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد"(مرقس 12: 29). فالاستماع هو أساس لأيّ علاقة صادقة مع الربّ. ولا يمكن للإنسان الدخول في علاقة مع الله والتعرف على وصاياه بدون الاستماع له تعالى من خلال كلماته. فالاستماع هو التفكير بكلمة الله والانفتاح عليها. إنّه أساس محبة الله وحفظ وصاياه. فالإنسان يفكر ويعيش بما يرى ويسمع. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " فالإِيمانُ إِذًا مِنَ السَّماع، والسَّماعُ يَكونُ سَماعَ كَلاَمٍ على المسيح" (رومة 10: 17). فالاستماع هو موقف إيمان تجاه الله الواحد الذي هو محبة كما عرّفه يوحنا الرسول "اللّهَ مَحبَّة"(1يوحنا 4: 7). المهم ان نخدمه ونطيعه ونحفظ وصاياه بمحبة. وأخيرا يريد يسوع منا ان نحب الله في الأوقات الطيبة والاوقات الصعبة كما صرّح ذلك الى بطرس "فقالَ له يسوع: ((الحَقَّ أَقولُ لَك: في هذِه اللَّيلة، قَبلَ أَن يَصيحَ الدِّيك، تُنكِرُني ثَلاثَ مَرَّات" (متى 26: 34)، كما يريدنا ان تكون محبتنا صادقة كما كانت محبة بطرس " قالَ يسوعُ لِسمْعانَ بُطرُس: ((يا سِمْعانُ بنَ يونا، أَتُحِبُّني أَكثَرَ مِمَّا يُحِبُّني هؤلاء؟)) قالَ لَه: ((نَعم يا رَبّ، أَنتَ تَعلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ حُباًّ شَديد"(يوحنا 21: 15-17). وعلى قدر فهمنا حبّ الله لنا نقدر على حبنا لله ولقريبنا والا قد نتشدّق بعبادتنا للإله الواحد ومحبته وفي نفس الوقت يمكن أن نحتقر الآخرين ونهمّشهم ونضَّهدهم. ويمكن يقول قائل ان وصية "أحبِبْ الربّ إلهك من كلّ قلبك وكلّ روحك وكلّ نفسك" هي مستحيلة! فتجيب الام تريزا "تلك كانت وصيّة الله العظيم، وهو لا يمكن أن يوصي بالمستحيل. ويستطيع الجميع بلوغ هذه المحبّة من خلال التأمّل وروح الصلاة والتضحية وعمق الحياة الداخليّة". 2) على صعيد محبتنا لقريب: ان حب الله وحب القريب وصيتين متكاملتين ولا انفصال بين علاقتنا بالله وعلاقتنا بالآخرين. إنّ محبّة القريب ليست ممكنة، إن لم تتقدّمها محبّة الربّ بكلّ كياننا. لكن الجديد الذي اضفاه السيد المسيح، يتمثل في أنه جعلَ من التطبيق العملي لمحبة القريب خلاصة تعليمه والمبدأ والروح لكل الوصايا، حيث أنه قبل أن تكون محبة القريب عقيدة بالنسبة ليسوع، هي قوة جديدة، هي الحياة الإلهية نفسها النازلة الى الأرض معه لتحول العالم، ومن هذا المنطلق نستطيعُ ان نحب القريب كما احبه يسوع ونبذل نفسنا في سبيله كما بذل نفسه في سبيله. والوصية هي حياة داخلية يعيشها الإنسان في أعماقه وتُعلن خلال إيمانه وشوقه نحو الله ومعاملاته مع القريب. ويعلق القديس ايرونيموس" لقد أشار يسوع إلى أول الوصايا العظمى التي يجب على كل واحد منا أن يعطيها المكان الأول في قلبه، كأساس للتقوى، وهي معرفة وحدة اللاهوت والاعتراف بها مع ممارسة العمل الصالح الذي يكمل بحب الله والقريب". القريب في ضوء الكتاب المقدس هو مخلوق على صورة الله ومفتدى بدم المسيح وابن الله ومدعو للتبني الالهي (1 يوحنا 4: 20). فتظهر محبة القريب متجسدة في محبة المسيح على الصليب، فهي محبة مجانية شاملة لكل طبقة او جنس او لون او عرق او مذهب بدون تمييز اجتماعي او عنصري كما صرّح بولس الرسول "لَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى" (غلاطية3: 28). وهذه المحبة لا تزدري أحد "إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان" (لوقا 14: 13) بل أكثر من ذلك فهي تطالب بمحبة الأعداء "أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم" (متى5: 43- 47). والله ينهانا عن بغضهم والانتقام منهم والحكم عليهم. فنحن لا نحب الشر فيهم بل الانسان. ومن هذا المنطلق، علينا ان نحب بعضنا بعضا كما اوصانا يسوع "أعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً (يوحنا 13: 34-35). وشرح الكاتب يشيرك. س. لويز في محبة القريب بقوله: "أن المسيحية هي تعاليم الكتاب المقدس لمحبة الجيران والرغبة في نفعهم ونبذ التفكير بان الإنسان أفضل من جاره". وسألت تريزا الطفل يسوع "أيّ جديد أتى به يسوع فوصيّة الحبّ موجودة منذ البدء وفي العهد القديم أيضًا كان المؤمنون الصادقون يعلمون أنّ عبادة الله ليست بالممارسات بل بالإيمان والرحمة. وتجيب بذكائها المعتاد: وصيّة يسوع هي أن نحبّ القريب "كما هو أحبّنا"، وهذا ما لا يعرفه العهد القديم". والمحبة المتبادلة بين الله الآب ويسوع هي المثال الكامل لما يجب ان تكون عليه محبتنا للآخرين "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 21). ويصف بولس الرسول هذه المحبة بقوله "المَحبَّةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء، ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء، ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم، بل تَفرَحُ بِالحَقّ. وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء" (1 قورنتس 13: 4 -7). وبصورة أخرى، قال الرابي اليهودي هلليل، جد جملائيل الذي كان بولس الرسول تلميذا له: "ما تكره لا تصنعه لقريبك". ويريد يسوع منا ان نحب القريب كما هو احبه. ان يسوع وهب يسوع ذاته كاملة للجميع، أُعطي كل غنى عقله وقلبه وقدرته على صنع العجائب للأشخاص الذين قابلهم، انه يحب القريب كنفسه. أنه بتعليمه ومثله أشعل في محيطه ثورة حقيقية، وقبل كل شيء أحب الجميع دون تمييز، أحب الفقراء والمرضى والصغار والبُسطاء والخطأة، أحبهم الى درجة انه هدم كل الحدود الفاصلة بين الطبقات الاجتماعية. فحمل يسوع تغييراً جذرياً في العقلية حيث كان جوهر الحياة الدينية كلها في الأول يتركز على الهيكل والطقوس الدينية، أما الآن فهو يتركز على القريب وعلى الخدمة المقدمة له، ونحن متأكدون أننا نحب الله إذا أحببنا قريبنا الذي حل فيه المسيح ذاتياً، حيث قال: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). فهل نستطيع ان نسير بوحي الحب الذي عمله يسوع؟ ويريد يسوع منا ان نحب القريب بدون يأس، لان المحبة تتميّز بالصفح والغفران بدون حدود كما قال يسوع لبطرس "لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات عليك ان تغفر لأخيك" (متى 18: 21-22) كما تتميز بالمبادرة الطيبة نحو الخصم كما يأمر الرب: "سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق" (متى5: 25)؛ وتتميز ايضا بالصبر وبمقابلة الشر بالخير كما يوصي القديس بولس الرسول "بارِكوا مُضطَهِديكم، بارِكوا ولا تَلعَنوا ... لا تُبادِلوا أَحَدًا شَرًّا بِشَرّ ... إِذا جاعَ عَدُوُّكَ فأَطعِمْهُ، وإِذا عَطِشَ فاسقِه" (رومة 12: 14-21) . أمَّا في العائلة تتخذ المحبة شكل الهبة الكاملة على مثال ذبيحة المسيح "أَيَّها الرِّجال، أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها" (أفسس 5: 25-32). ويريد يسوع منا أن نُحبّ القريب بحبّ خدمة. والخدمة مزدوجة، في العدل وفي الإحسان. بالعدل نُعطي القريب كلّ ما يخصّه. ولا يمكن انتزاع كلّ ما يخصّه منه. وبالمحبّة نعطيه كلّ ما هو لنا. نعطيه إيّاه لأنّه بحاجة إليه. يلزمه من أجل أن يعيش كإنسان. يجب إعطائه كلّ ما يسمو بإنسانيّته. فإذا توقّفنا عند ما هو أساسي، لحياة البؤس، ولحياة الشدّة، فمن المؤكّد أنّنا لا نحبّه بموجب وصيّة الربّ. كما نريد رفعة أنفسنا، هكذا ينبغي أن نرغب للآخرين ونحبهم. وتعلق الام تريزا "لا يتعلّق الأمر بما نخدم، بل بالحبّ الذي يدفعنا إلى القيام بذلك. لذا، فإنّ الأشخاص الذين لا يعرفون كيفيّة إعطاء المحبّة وكيفيّة تلقّيها، هم أفقر الفقراء، مهما كانت ثرواتهم طائلة". واخيراً يريد يسوع منا ان تكون محبتنا خدمة متبادلة للجميع كما جاء في رسالة بولس "بِفَضلِ المَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكم بَعضًا، لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: ((أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ)). (غلاطية 5: 13-14)، وهذه المحبة تتطلب انكار المرء ذاته مع المسيح المصلوب كما عاش بولس الرسول" مِن أَجْلِ المسيح خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ " (فيلبي3: 1 -11). هي محبة غير مشروطة، لا تطلب مقابل، تعطي دون انتظار مجازاة وترجو الخير للجميع. وتبدأ هذه المحبة مع الوالدين، ثم تنمو مع الأشقاء والأصدقاء. ثم تنضج مع شريك الحياة وتنتهي بمحبة الجميع. فهي خاضعة لقانون التضحية والموت وذلك بان نضحي في سبيل مساعدة القريب على خلاص نفسه وتحسين حالته "وإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا (1 يوحنا3: 16). أما إذا بقينا نعتبر القريب غريباً يُزعجُ راحتنا ويعيق مشاريعنا، لا نستطيع القول اننا نحب الله بكل قلوبنا. وفي الواقع، بدون محبة وجود للعدالة وتضامن لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصاد والسياسية التي يتخبط بها مجتمعنا. لا تضامن وعدالة بدون محبة. ولا محبة بدون تضامن وعدالة. ان جعلنا المحبة شفقة على الناس وتنازلا شوهنا المحبة التي تشمل على العدالة والتضامن. ما هو المطلوب من إنسان اليوم أن يحب الرحمة ويُحيي العدل ويسلك متواضعاً أمام الله، وبكلمة المحبة تلخص كل فلسفة الحياة المسيحية كما جاء في قول مأثور للعلامة أوغسطينوس "أحب وافعل ما تشاء". المحبة هي صلب العقيدة المسيحية. ويعلق القديس افرام السرياني "إنّ محبة الربِّ تنقذنا من الموت، ومحبّة الإنسان تبعدُ عنّا الخطيئة لأنّ ما من أحدٍ يُخطئُ بحقّ من يُحبّه". 3) على صعيد محبتنا لنفوسنا: العدل يقضي ان يبدأ الانسان بمحبة نفسه. ولم يكن هناك بحاجة لوصية صريحة بذلك، لانَّ الانسان مطبوع على محبته لذاته، لكن السيد المسيح رفع هذه المحبة الى المستوى الروحي. فالنفس تكرَّست لله بإقامته فيها كما قال يسوع " إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً "(يوحنا 14: 23)، والجسد أصبح هيكلا للروح القدس كما يقول بولس الرسول " أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ " (1 قورنتس 3: 16). لذلك يتوجب على الانسان ان يحب الله أكثر من نفسه، إذ انه مصدرها ولا قيمة للنفس إزاء قيمة الله. ولكن عليه ان يحب نفسه أكثر مما يحب قريبة، فيهتم بتقديسها لان محبته لنفسه هي الاساس الذي تبنى عليه محبة القريب. ولان الله يطلب منه ان يخلص نفسه "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ " (متى16: 26). وتقوم محبة الانسان لذاته على طلب الخير الحقيقي المفيد لنفسه وجسده واجتناب ما يضرهما. ان الانسان هو هيكل الله وروح الله يسكن فيه كما يقول القديس بولس "أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ مَن هَدَمَ هَيكَلَ اللهِ هَدَمَه الله، لأَنَّ هَيكَلَ اللهِ مُقدَّس، وهذا الهَيكَلُ هو أَنتُم" (1 قورنتس3: 17)؛ فلنحافظ على أجسادنا لأجل خير نفوسنا، ولنحافظ على نفوسنا لأجل خير حياتنا الابدية، ولنحافظ على الحياة الابدية لأجل مجد لله، غايتنا وسعادتنا. وهذا يتطلب ان تكون محبة الانسان لنفسه من غير مبالغة ولا مغالاة ولا أنانية ولا كبرياء ولا غرور. ومن ناحية أخرى، أن محبتنا لنفوسنا تتطلب منا ألا نحب المديح من الناس كما فعل بعض رؤساء اليهود الذين آمنوا بيسوع لكنهم "فضَّلوا المَجدَ الآتيَ مِنَ النَّاسِ على المَجدِ الآتي مِنَ الله"( يوحنا 12: 43) ، ومحبتنا لنفوسنا تتطلب منا أيضا ألا نطلب تقدير الذات كما يفعل الفريسيون "يُحِبُّونَ المَقعَدَ الأَوَّلَ في المآدِب، وصُدورَ المَجالِسِ في المَجامع "( متى 23: 6)، و ومحبتنا لنفوسنا تتطلب منا أيضا ان لا نتمسك بالممتلكات الأرضية كما فعل الرجل الغني مع لعازر الفقير: "فقالَ إِبراهيم له : يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب"(لوقا 16: 19-31). ومما سبق نستنتج ان يسوع لخَّص مجموع الوصايا في وصيتين: محبة الله (تثنية الاشتراع 6: 5) ومحبة الآخرين (الاحبار 19: 18). فعندما نحب الله ونهتم بالآخرين اهتمامنا بنفوسنا، فإننا نتتم الغرض من الوصايا العشر وسائر شرائع العهد القديم,، لانهما خلاصة الشريعة والانبياء. إذا كنا حقيقة نحب الله وقريبنا، فإننا بذلك نحفظ الوصايا. وبدلا من القلق عمَّا لا يجب ان نفعله، ينبغي ان نركز على ما نستطيع أن نفعله لإظهار محبتنا لله وللآخرين. الخلاصة: بعدما دخل يسوع إلى الهيكل (مرقس 11: 1-11) التقي مجموعات مختلفة من الكتبة والفرّيسيّين والصدّوقيين والهيرودسيين، فسال طرح أحد الكتبة يسوع في أولى وصية ليتبعها، فذكر يسوع وصيتين: واحدة محبة الله (تثنية الاشتراع 6: 5) والأخرى محبة القريب (الاحبار (19: 18). لكن الجديد هو انه جمع كل الوصايا في هاتين الوصيتين، وركز الشريعة كلها في إطار المحبة، فجعل محبة القريب مهمة مثل محبة الله. لماذا تعتبر هذه الوصية من أعظم الوصايا؟ لأنها ترتكز على محبة الإنسان لله، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان. إذ كل من يحب الله، يجب أن يحبّ إخوانه في الإنسانية أيضاً. لأن محبة الإنسان لله تُترجم بمحبته لإخوانه بني البشر، وبدون محبتنا بعضنا لبعض كما أوصانا الله، تكون محبتنا ناقصة وإيماننا غير كامل كما صرّح يوحنا الرسول “أَيُّها الأحِبَّاء، فلْيُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا لأَنَّ المَحَبَّةَ مِنَ الله وكُلَّ مُحِبٍّ مَولودٌ لله وعارفٌ بِالله. مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة" (1يوحنا 4: 7-8). فالكتاب المقدس يقدم محبة القريب كامتداد لمحبة الله، وعلامة صدق محبتنا لله (1يوحنا 4: 20-21)، نحب القريب كنفسنا لا يعني ذلك ان المحبة تبدأ بي لتصل فيما بعد الى القريب بل محبة بلاد حدود. فالوصايا أعطيت لمساعدتنا ان نحب الله ونحب الآخرين كما ينبغي. إن الروح الذي يريد يسوع هو روح المحبة لا روح المتاجرة الذي لا يرى في الدين سوى مجموعة من الممارسات الطقسية التي يجب حفظها بدقة. فالدين علاقة حب، إذا كنا حقيقة نحب الله ونفوسنا وقريبنا، فإننا نحفظ الوصايا. حفظ الوصايا علامة لمحبة للمسيح " إذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي" (يوحنا 14: 15). فالوصايا العشر تعلن مطالب محبة الله والقريب. الثلاث الاولى أكثر تعلقا بمحبة الله، والسبع الاخرى بمحبة القريب وكلها يجب ان تشرح بنظرة ايجابية أي في ضوء الوصية المزدوجة الواحدة، وصية المحبة. ومن هذا المنطلق يتوجب علينا ان نركز على كل ما نستطيع ان نفعله لإظهار محبتنا لله وللآخرين. هذه الوصية واحدة تتخذ وجهتين: الله والقريب. لا حب من دون الآخر. إذ كل من يحب الله، يجب أن يحبّ إخوانه في الإنسانية أيضاً. لأن محبة الإنسان لله تُترجم بمحبته لإخوانه بني البشر، وبدون محبتنا بعضنا لبعض كما أوصانا الله، تكون محبتنا ناقصة وإيماننا غير كامل. ويؤكد الكتاب المقدس ذلك بقوله " أَيُّها الأحِبَّاء، فلْيُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا لأَنَّ المَحَبَّةَ مِنَ الله وكُلَّ مُحِبٍّ مَولودٌ لله وعارفٌ بِالله، مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة"(1يوحنا 4: 7). تقوم محبتنا بالمحافظة التامة على الوصايا (يوحنا 14: 15 و21 و23). وإِلهُ المَحبَّةِ والسَّلامِ يَكونُ معَكُم. الدعاء أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع، الذي كشف لنا عن حب الله وحب القريب كوصيتين متكاملتين اجعلنا ان نحبك في القريب فنبذل نفسنا في سبيله حبا لله مرددين مع القديس أنسلموس " "نحن نحبّك، يا إلهنا؛ ونرغب أن نحبّك أكثر وأكثر. هبنا أن نتمكّن من محبّتك بقدر ما نرغب في أن نحبّك، وبقدر ما ينبغي أنّ نحبّك. يا أيّها الصديق الأحبّ، الّذي أحبّنا كثيراً جدّاً وخلّصنا، تعال اسكن في قلوبنا، كي تراقب شفاهنا وخطواتنا وأعمالنا، بحيث لن نحتاج أن نقلق لا على نفوسنا ولا على أجسادنا. امنحنا المحبّة، أولى المواهب، الّتي لا تعرف أيّ عدوّ. امنحنا في قلوبنا حبّاً نقيّاً مولوداً من محبّتك لنا، كي نتمكّن من محبّة الآخرين كما تحبّنا أنت.. ساعدنا وباركنا في ابنك". قصة وعبرة نقرأ في مسرحية الملك لير لشكسبير أن الملك، عندما تقدم به السن، أراد أن يقسِّم مملكته بين بناته الثلاث. ولكنه أراد قبل تنفيذ فكرته أن يعرف مقدار محبة كل منهن له ونوع تلك المحبة. وكان أن دعا كل واحدة وسألها أن كانت تحبه وعلى أي أساس تحبه. طبعا نحن نحب الله". ولكن من أي نوع هي محبتنا لله؟ هل نحب الله لأجل هباته، لأجل صفاته، لأجل ذاته. أن أسمى أنواع المحبة للرب هو إن نحبه لا لأجل هباته ولا لأجل صفاته بل لأجل ذاته. يجب أن نحب الله لأنه هو الله. نحبه لأنه هو أحبنا أولا. نحبه كما هو أحبنا. فهو لم يحبنا لأجل أي شيء فينا – إذ أننا خطأة وأعداء – بل أحبنا لأجل نفوسنا.