موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢

"الكتب المقدّسة" بين نحميا النبي وكاتب الإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"الكتب المقدّسة" بين نحميا النبي وكاتب الإنجيل الثالث

"الكتب المقدّسة" بين نحميا النبي وكاتب الإنجيل الثالث

 

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (نح 8: 2- 10؛ لو 4: 14 - 21)

 

مُقدّمة

 

يشير مار بولس بأن الهوية المسيانيّة التي قد تمَّ إعلانها لنا هي «البِشارةَ الَّتي سَبَقَ أَن وَعَدَ بِها على أَلسِنَةِ أَنبِيائِه في الكُتُبُ المُقَدَّسة، في شَأنِ ابنِه الَّذي وُلِدَ مِن نَسْلِ داوُدَ بِحَسَبِ الطَّبيعةِ البَشَرِيَّة» (رو 1: 2- 3). وهذا يؤكد بكلماتنا اليوم على إننا من خلال، هذه السلسة الكتابيّة، نجد في شخص المسيح ملء وجوهر الكُتُبُ المُقَدَّسة. لذا بناء على هذا سنلقي الضوء لنتعَّرف، في هذا المقال، على المفهوم الكتابي لمضمون "الكُتُبُ المُقَدَّسة" فيما بين العهدين. ففي العهد القديم سنتوقف على بعض الآيات من سفر نحميا (8: 1- 10)، أما بالعهد الجديد فقد إخترنا مقطع من الإنجيل بحسب مار لُوقا (4: 14- 21). علينا أن نأخذ في الإعتبار أن هناك مجموعتين من الكُتُبُ المُقَدَّسة: العبريّة لذوي الديانة اليهوديّة، والكُتُبُ المُقَدَّسة المسيحيّة التي تجد جذورها في المجموعة الأوّلى. من هذا الـمُنطلق سنتأمل عدة نقاط تساعدنا على التوقف أمام الحديث عن معنى الكُتُبُ المُقَدَّسة.

 

 

1. أوّل ليتورجية (نح 8: 1- 8)

 

يعرض نصّ نحميا أوّل ليتورجية حقيقية للكلمة المقدسة، بعد الليتورجية الأصلية التي تمت عند سفح جبل سيناء (راج خر 20). إنه نص غني لتفسير قيمة قراءة الكُتُبُ المُقَدَّسة في حياة الشعب. إن الكُتُبُ المُقَدَّسة  مُعلنة للجميع من الرجال والنساء. نُفاجأ  كقراء لسفر نحميا بأنه قد: «اِجتَمَعَ الشَّعبُ كلُه كرَجُلٍ واحِدٍ في السَّاحَةِ» (8: 1). إذن يتم توجيه كلمة الله للشعب، الّذي طلب من الكاهن عزرا أن يُعلنها في حضوره الجسدي مما يؤكد بأن القراءة ليست مجرد تأكيد على فهم المفاهيم فحسب، بل تحمل مفاهيم إلهيّة. تؤكد أفعال الشعب الجسديّة أثناء سماع الكُتُبُ المُقَدَّسة، بأنّ هناك علاقة متجددة؛ يجتمع الشعب، ويميل آذانه، ويقف، ويسجد على الأرض. يشمل الاستماع إلى الكُتُبُ المُقَدَّسة السامعين بشكل كامل، ليس فقط آذانهم بل أجسادهم أيضًا. هناك وعي بوجود شخص آخر عظيم للدخول في علاقة معه. قراءة الكُتُبُ المُقَدَّسة تتطلب الاستماع، إذ القراءة بالعهد الأوّل كانت تحتاج إلى وسطاء كالكاهن واللّاوّييّن والكاتب مثل عزرا الذي أخذ الكتاب وفتحه في حضور الشعب: «قَرَأُوا في سِفرِ شَريعَةِ اللهِ مُتَرجمينَ وشارِحينَ المَعْنى حتَّى فَهِموا القِراءَة» (8: 8). لقد قرأوا شريعة الله في مقاطع مميزة وفسروها، وبالتالي صار ما سمعوه أكثر وضوحًا.

 

2. الاصغاء للكُتُبُ المُقَدَّسة (نح 8: 9- 10)

 

سِمَّة قراءة الكُتُبُ المُقَدَّسة في الجماعة المؤمنة وهي إنها تنتقل من شخص إلى آخر. تحتاج الكلمة الإلهيّة إلى مُعاونين حتى يتردد صدّاها لتجديد علاقة الله مع شعبه. يمكننا أن نستشف نتيجتين من خلال وصف نحميا على سماع الكُتُبُ المُقَدَّسة. الأوّلى «كانَ الشَّعبُ كُلُّه يَبْكي عِندَ سَماعِه كَلِماتِ الشَّريعَة» (8: 9ب)، إذن نتيجة الإستماع هو البكاء. هذا يشير إلى الإصغاء الأصيل إلى شريعة الرَّبّ، أولاً وقبل كل شيء، يجعلنا نكتشف الخطيئة الكامنة وتستمر بالتوبة. ليس بكاء متمركز على الإنسان، بل بكاء بسبب اللا مركزية نحو الله.

 

أما نتيجة الاستماع الثانية هي الفرح بعد ذرف الدموع. يصير يوم إعلان الكلمة الإلهيّة "يوم مقدس" لا يجب الحزن والبكاء فيه. يشارك الجسد أيضًا في الاحتفال، لذا مِن الضروري تناول الأكل والشرب والسبب هو أنَّ الشعب فَهِمَ الكلمات التي سمعها. يدرك الشعب أن: «هذا يَومٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ [...] أُمْضوا كُلوا المُسَمَّنات، وآشرَبوا الحُلْو، ووَزِّعوا حِصَصاً على الَّذينَ لم يُهَيَّأْ لَهم، لأِنَّه "يَومٌ مُقَدَّسٌ" لِرَبِّنا. فلا تَحزَنوا، لأِنَّ فرَحَ الرَّبّ حِصنُكم» (8: 8- 10). الاحتفال بالفرح الذي ينشأ عند الاصغاء كجماعة إلى كلمة الرَّبّ من خلال الدخول في علاقة معه ومع الآخرين. يوضح هذا النصّ ديناميكيات الاستماع ويقدم معايير للتعرف على مدى علاقتنا بكلمة الله وعن الاستماع الشخصي والجماعي. يتجدد هذا الحدث في الإفخارستيا بالنسبة لنا لأننا في البكاء ندرك عظمة الله وبفرح نفرح لأن "فرح الرَّبّ هو قوتنا". من هذا المنطلق اليهودي ننطلق لنتعرف على قيمة الكُتُبُ المُقَدَّسة بحسب البُشري اللُوقاويّة، إّ يبدأ هذا الـمقطع المسيرة العلنيّة لرسالة يسوع القارئ للكُتُبُ المُقَدَّسة العبريّة بالناصرة. أثناء ممارسته لليتورجية السبت العبرية، ويدعونا لُوقا في بدء مسيرة التبعيّة للمعلم. يتسم هذا المقطع بـ "نقطة الإنطلاق" لرسالة يسوع في جماعته.

 

 

3. بِقُوَّةِ الرُّوح القدس (لو 4: 14)

 

لا يمكننا أن نقرأ ما يحدث في مجمع الناصرة، بشكل منفصل عن دور الروح القدس «عَادَ يسوعُ إِلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح» (لو 4: 14)، هذه الإفتتاحية  تقدم خُلاصة  تصف بإيجاز "رسالة يسوع" في وطنه. يمكن أن تصبح قراءة الكُتُبُ المُقَدَّسة اليوم ذات صدى روحي عميق إذا تمت بقوة الروح القدس. بدون الروح، تظل الكُتُبُ المُقَدَّسة كالكتب الأخرى؛ بفضل الروح فقط يصبح الإنجيل قوة للحياة البشرية. هكذا يبدأ المقطع الذي نناقشه، بوضع أحد أبطال الثالوث، وهو الروح القدس، مـُعلنًا لرسالة يسوع بأكملها. هذه الإشارة إلى الروح القدس مرتبطة قبل كل شيء بحدث المعمودية الذي يشكل التنصيب المسياني ليسوع وبداية خدمته، لكنها مرتبطة أيضًا بالعنصرة التي تمثل بداية حياة الكنيسة.

 

 

4. الجديد في الـمُعتاد (لو 4: 17- 20)

 

يذهب يسوع إلى المجمع كما كان يفعل كل سبت ليؤدي طقس قراءة الكُتُبُ المُقَدَّسة يوم السبت بحسب الشريعة اليهودية. يتوقف النص على وجه التحديد ليصف تصرفات يسوع، فهي سلوكيات متكررة لا شيء مميز. ولكن بفضل هذه السلوك المُعتادة، يمكن للجديد أن يتجلى فيها. إنها بالتأكيد إشارة مرتبطة بالروح القدس. الأفعال المتكررة تنتمي لعمل الروح فتخلق "أحداثًا غير مسبقة". ليست هناك حاجة للبحث عن الجديد من أجل الجديد. علينا الأن نقتنع بأن الأعمال التي يصنعها الروح دائمًا "جديدة". هنا يمكننا أن نجد الجديد في الأفعال المتكررة باليتورجية الكنسية، تكرار نصوص الكُتُبُ المُقَدَّسة التي تُقرأ عدة مرات بالسنة لها مكانًا جديدًا. ليس الحداثة التي تخدم فقط لمحاربة الملل، ولكن الجدة التي أصبحت "اليوم". فالقضية ليست في الأفعال المتكررة ولكن القضية فينا وفي مدى إنفتاحنا على الروح القدس القادر على صنع كل شيء جديد في كل يوم.

 

 

5. السبت (لو 4: 16)

 

تقع الأحداث السرديّة لفهم يسوع بحسب لاهوت ومنهجية مار لوقا بانجيله في يوم السبت بالمجمع اليهودي. حيث يجتمع شعب الله لإستماع الكُتُبُ المُقَدَّسة وبالتالي تجديد عهدهم مع أدّونايّ الّذي أحبه. يتمَّ التفسير في يوم الرَّبّ (راج رؤ 1: 10)، كذلك يتمّ الكشف أيضًا في يوم السبت، وهو اليوم المميز في الكُتُبُ المُقَدَّسة، فهو يوم إتمام الخليقة ويوم ذكرى التحرير، لا يتمّ أي شيء بشكل فردي بل هو جزء من تاريخ طويل. هذا أيضًا عنصر مهم لقراءتنا سواء الكنسية أو الشخصية للكتب المقدسة أن تكون مقرؤة دائمًا في إطار التاريخ الخلاصي بحياة الشعب، فتبقى الكُتُبُ المُقَدَّسة مختومة. من الضروري الدخول في تاريخ الله مع بني إسرائيل المُستمر في تاريخ الكنيسة.

 

صادف يسوع مقطع من الكُتُبُ المُقَدَّسة العبرية فقد وجده أمامه ولم يطلبها. تلك الكلمة التي ستكون قادرة على تفسير حياته ورسالته، تلك الكلمة التي سيعلنها "اليوم"، هي كلمة تأتيه من القراءات ليتورجيا بالمَجمع اليهودي. لا يبحث يسوع عن الكلمة ليقرأها ليصف حياته ورسالته ولم يختاره ما يقرأه ولا يفتح الكُتُبُ المُقَدَّسة "عشوائيًا" ويجد هناك نصّ أشعيا. إنها كلمة طقسية مختارة "بموضوعية" ينقلها مُجتمع مؤمن. يتم هذا في كل مرة يجتمع أعضاء الجماعة الكنسية لتقسيم الخبز والكلمة المُعلنة من للكتب المقدسة. لا يمكن أن يكون نصًا مختار ولكنه دائمًا نص مُحضر لنا. فقط النص الكتابي المقبول يمكن أن يصبح سرًا للإله "العظيم"، قد لا يتوافق مع توقعاتنا، بل يتفوق عليها ويعطيها بالحداثة وروح جديدة.

 

 

6. الَـيَومٌ  (لو 4: 21)

 

 هذه الكلمة المُختارة من يسوع هي المقبولة لتتوافق بطريقة مُدهشة مع حياتنا اليوميّة. هذا هو هدف كل جماعة فرد للكتب المقدسة الوصول إلى لفظ "اليوم". يؤكد يسوع أن هذه الكلمات قد تمت اليوم لأولئك الذين يسمعونه: اليوم تم قبول نور الكُتُبُ المُقَدَّسة في باطنه. إن النص الكتابي الذي قرأه يسوع ويشير إليه يحمل إتمام للكتب. الإتّمام من خلال آذان المستمع بالصلاة، هذا يشبه ما تمَّ لتلميذي عمواس اللذان سمعا ليسوع يروي إذ «بَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه» (لو 24: 27). فالقراءة المسيحية للكتب المقدسة تُعيد إلينا حماسة القلب في الصدر (راج لو 24: 32) وبكاء الاهتداء (راج نح 8: 9)، وفرحة التبشير بالقائم (راج لو 24 :33)، هذا هو الهدف الأساسي لقراءة الكُتُبُ المُقَدَّسة.

 

 

الخلاصّة

 

من خلال هذين النصيّن، الأوّل من سفر نحميا والثاني من لوقا توقفنا لمعنى قراءة وإعلان الكُتُبُ المُقَدَّسة في حياة الكنيسة كأفراد وكمؤمنين. شكَّل النصّين بطريقة ما كـ "عرض ذاتي" لأحداث مُعاشة في خبرة بني إسرائيل لدى نحميا ولخبرة يسوع لدى لوقا. مدعويين المقال أن نُمارس خبرتنا مع كُتُبُنا المُقَدَّسة لتنفتح أعيننا على فهم جديد لما نقرأه فيها. هدفنا من هذا المقال أن تكون عيوننا نحن المستمعين والحاضرين بالجماعة الكنسية مًثبتة على يسوع، جوهر الكُتُبُ المُقَدَّسة وملئها. إذا كان الهدف هو الاستماع إلى الكُتُبُ المُقَدَّسة المُوجهة لنا، فإن نص نحميا يعطينا مثل من رد فعل الشعب وإصغائه ويدعونا لوقا لأن تنقي أعيننا دائمًا ثابتة على يسوع، كلمة الحياة ومُتمم الكُتُبُ المُقَدَّسة ( راج عب 12: 1-2).