موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢١

الحقُّ يُحرِرُكم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الحقُّ يُحرِرُكم

الحقُّ يُحرِرُكم

 

عظة الأحد الرّابع والثّلاثون-ب

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء جميعًا في المسيحِ يسوع. مع هذا الأحدِ الرّابعِ والثّلاثين من زمن السّنة، نكون قَد وَصلنا إلى خِتام سنةٍ ليتورجيّة، ونَطوي حَولًا كَنسيًّا كامِلًا، بَدأناهُ مع الأحدِ الأوّلِ مِن زمنِ المجيء، وَنُنهيهِ اليوم مع الاحتفالِ بِعيدِ يسوع المسيح ملكِ الكون. وما هذا العيد إلا تأكيدٌ على إيمانِنا بأنّ المسيح هو محورُ كلِّ شيء: فَهو البداية وهو النّهاية، هو الألفُ وهو الياء، هو التّمامُ والكمال، سَيّدُ الأزمنة وَمالِكُ الدّهور، فيه تَمّت النّبوءاتِ وهو قِمّةُ الوحي الإلهي، الكلمة الّذي "بِه كانَ كلّ شيءٍ، وبدونِه ما كان شيءٌ مِمّا كان" (يوحنا 3:1). فَلَهُ المجدُ والعزّةُ دائمًا وأبدًا، وله الرّئاسةُ والسّيادةُ على جَميعِ الكائِنات.

 

في عيدِ يسوع الْملك، تَضعُ لنا الكنيسةُ مَقطَعًا من روايةِ الآلامِ بحسبِ الإنجيليّ يُوحنّا. وهي الرّوايةُ الّتي نَتْلوها يومَ الجمعةِ العَظيمة. قَد يبدو ذلك غريبًا أو غيرَ مفهوم! ولكن يا أحبّة: العودُ عرشُ الخاَلق، كَما النّبيُّ قَد شَدا (مِن نشيد لاحت علاماتُ الفِدا). فَهُناك فوق الصّليب، جَعَلَ يسوعُ له عرشًا، "فهو إذا رُفِعَ مِن الأرضِ، جَذبَ إليهِ النّاس أجمعين" (يوحنا 32:12).

 

يسوعُ ملك مُتَفَرِّدٌ فريدٌ، مُميّز وَحيد، لا يُشابِهُه أحدٌ في الْمُلك، وليس لِمُلكِه مَثيل. فَملكُه مُلكُ عَدلٍ، قائِمٌ على الحق! فهو "ما أَتى العالَم إلا ليشهدَ للحق" (يوحنّا 37:18). والحقُّ نَقيضُ الباطل، والمسيحُ جاءَ ليدحضَ الباطل ويهدِمَ أركانَه. ولكنّ المشكلةَ تَكمُن في أنّ النّاسَ فَضّلوا الباطلَ على الحق، لأنَّ النورَ "جاءَ إلى بَيتِه، فَما قَبِلَهُ أهل بيته" (يوحنّا 11:1). وإنّما "فَضّلوا الظّلامَ على النّور، لأنَّ أعمالَهم كانَت سَيّئة" (يوحنّا 19:3). فكلُّ فاعلٍ للشّر وكلُّ مرتكِبٍ للمعصية، هو مُبغِضٌ للنّور وكارِهٌ للحق، أي للمسيحِ نفسِه!

 

ما أكثرَ مُنكري الحقِّ، عُبّادَ الباطل! بيلاطُس أكبرُ مِثالٍ على ذلك. فالحقُّ كلُّه كانَ أَمَامَه، ومع ذلك لم يَقف إلى جانبِه، ولم يُنصِفهُ، ولم يُؤازِره. إنّما وقفَ إلى جانبِ قِوم ظَالِمين، مُتَسربلين بالباطِل، مُتَّشِحين بالكذب، مُلتَفّين بعباءةِ الظّلام. أبغضوا النّورَ الحقّ ورفضوه.

 

أَلَا ما أصعبَها عليكَ يا إنسان، عندما تكونُ على حَق، ويكون الحقُّ كلُّه معَكَ، ومع ذلِكَ تَكادُ لا تَجِدُ من يَنصرُكَ ويُنصِفُكَ. أَلَم يَقُلها جبران بإنَّ الحقّ يحتاجُ إلى رَجُلين: رجلٌ ينطِق بِه، ورجلٌ يفهمُه! أحيانًا كثيرة يكونُ الحقُّ مَفهومًا وجَليًّا، وَلَكِنّكَ تَجِدُ نُدرةً فيمَن يَنطِقُ به جهارًا نهارًا! ذلِك بَأَنّنا شعوبٌ اِعتَادت جُملةً دَسمةً من النّفاقِ الاجتماعي، وجُرعاتٍ من الْمجاملاتِ المقيتة، والمحسوبيات والوساطات ونظام التّخجيل أو التّهويل، وكلّها ضمن سلسلةٍ لا مُتناهية من الفساد. ولم تَعتَد قولَ الحقيقة والعملَ بالحق! ولذلك مجتمعاتُنا مُتأخرة مُتخلخِلة، وستظلّ كذلك حتّى تتغيّر العقليّةُ والنّهجُ والأسلوب، والأهم من ذلك حتّى يستيقظَ الضّمير، ويكون هناك صحوة حقيقية وفاعلة في منظومة المبادئ والقيم، لا مجرّد شعاراتٍ وعباراتٍ وأدعية تصدحُ كالصّدى، مُرتَدّةً إلى صاحبها!

 

ثُمّ أنّ واحدةً من الخطايا الجَسيمة الْمُضادّة للرّوح القُدس: مُقاومة الحقِّ الواضِح! وهذهِ خطيئةُ اليهودِ وزعمائِهم بامتياز ضدَّ المسيح. فَهم سَمعوا وشاهدوا كلَّ ما عَلَّمَ وعَمِلَ يسوع، وكَثيرون اِنتفعوا ونالوا مِنه، ومع ذلك أَنكروا كل ذلك وكذّبوه، حتّى افتروا عليه بأنّه بعل زبول سيّد الشّياطين! (راجِع لوقا 15:11). وجَعلوا منه مُخرِّبًا مُتمرِّدًا، مُدَّعِيًا لِلْمُلكَ، وكأنَّه يُريدُ الإطاحة بقيصر (راجع يوحنّا 12:1)!

 

مَن يُقاوم الحق، يُقاومُ الله، ويجعل نفسَه في عداوةٍ مباشرة مع الله! فَإيّانا ومحاربةُ الحق، إيانا والتَّصفيقُ للباطل، ولو حتّى بالشّعور. وإنْ لَم يَكُن إِحقاقُ الحقّ في صالِحك، فهذا لا يُجيزُ لكَ أن تُقاوِمَه، محاولًا تغييرَ مَجرى الأمور وتحويرَ الوقائِع. هذهِ خطيئة جَسيمة ضد روحَ الله. لأنّ اللهَ حَق، ويُحبّ العَدلَ والبِر، ويكره كلَّ كذب ونفاقٍ وزيفِ اِدّعَاء.

 

يقولُ السّيد: "تعرِفون الحق، والحقّ يُحرّركم" (يوحنا 32:8). ولكنَّ الخَللَ يَكمن في عدم معرفةِ الحق، أو في إنكارِه. ولذلك كثيرون هُم أَسرى الباطل الّذي صَنعوه لأنْفُسِهم، بما يُناسب مَقاسَهم الخاص وفِكرَهم الشّخصي، مُكبّلون بالكذب والنّفاق، يحاولون رفضَ الحقيقة، مُبرّرينَ أَخطاءَهم بأيّة طريقة، يذودونَ عن زيفِ اِدّعَاءاتهم، إلى أن يَلطُمُهم الحقُّ على وجوهِهم، وتُوضَعُ الوقائِع أمامَ عيونِهم، فَحينَها يصمتون ولَكن على مَضَض، لا عَن قناعة واعترافٍ ورِضى.

 

"لَيست مَملَكَتي مِن هذا العالم" يقول الرّب. طبعًا، فَمملكةُ يسوع لا مكانَ فيها للشرِّ والظلم، ولا للكذبِ والباطل. مملكةُ يسوع سامية، تحكُمها مبادئُ العَدلِ والخير العام، ولا مكان فيها سوى للحقِّ والحقيقة. لِذَلِكَ أَيّها الأحبّة، دورُنا نحن تلاميذ المسيح، أن نكونَ شهودًا للحق. نعرِفُ الحق أي نعرف المسيح، والمسيحُ الحق يُحرّرُنا من قيودِ الكذبِ والباطلِ والنّفاق.

 

نَعرفُ الحق، ونحيا شهودًا له، ساعين دومًا أن نَعيشَ بموجبِ الحقيقة، مَهما كانَ الثّمن. وهل هناكَ مِن مثالٍ أَسمى من مثالِ يوحنّا المعمدان، شهيدِ الحق؟!

 

في رسالتِه إلى أهلِ رومه، يقول القدّيسُ بولس: "فَقد ظَهرَ غَضبُ اللهِ من السّماء، على كُلِّ كُفرٍ وظُلمٍ يأتي بهِ النّاس، فإنّهم يجعلونَ الحقَّ أسيرًا للظُّلم" (رومة 18:1). فيا أيّها الكذّابُ الظّالِم، إن كُنتَ لا تخشى غَضب النّاس، أفلا تَخشى غضبَ الله الّذي تَذَّخِرُه لنفسِك، في يومِ الغضبِ وساعة الانتقامِ ولحظةِ الجزاء؟! حين: "يُجازي كُلَّ واحِدٍ بِحَسَبِ أَعمالِه، إِمَّا بِالحَياةِ الأَبَدِيَّةِ لِلَّذينَ يَسعَونَ إِلى المَجدِ والكَرامةِ والمَنعَةِ مِنَ الفَساد. وإِمَّا بِالغَضَبِ والسُّخْطِ على الَّذينَ يَثورونَ، فَيَعصُونَ الحَقَّ ويَنقادونَ لِلْظُلْم" (رومة 5:2-8)