موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٨ مايو / أيار ٢٠٢٤

"الحب المجنون" بين كاتبّي سفر الخروج والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (خر 24: 3- 8؛ مر 14: 12. 16. 22-26)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (خر 24: 3- 8؛ مر 14: 12. 16. 22-26)

 

عيد جسد ودمّ الرّبّ (بّ)

 

مُقدّمة

 

لا تزال الإحتفالات الّتي تليّ قيامة الرّبّ تمنحنا الحياة  كمؤمنين بسرّ الحب الإلهي، نعم هذا السرّ الغامض والّذي لن نفهمه إلى أن نتحد بالرّبّ في الأبديّة بالكامل. إلّا أنّه من خلال حياته ورغبته في البقاء معنا باستمرار يود أنّ يمكث بسبب حبه المستمر. إنطلاقًا من الحب الغامر الّذي نصف به قلب الله، نستعين ببعض التعبيرات البشريّة والّتي تدل على سمو هذا الحب بسبب عشق الله للإنسان حتى إنّه يجعله مجنونًا به فيقدم كلّ شيء ولا ينتظر سوى أن يقبل هذا الحب. إلهنا ليس إله يتواصل فقط بالكلام بل بالأفعال أيضًا. لهذا سنتوقف في مقالنا هذا لنناقش موضوع ليتورجيّ وكتابيّ حيث يرغب الإله العظيم أنّ يمنحنا لنا ذاته، بارادته، بالكامل وبشكل سرّي وخفي للتعبير عن حبه. لذا سنسمع الصوت الإلهي في حواره مع موسى بالعهد الأوّل بسفر الخروج (24: 3- 8) لإعلان سرّ إلهي يخص الرّبّ على مسامع الشعب وأمامهم من بعيد. أمّا بالنسبة للعهد الثاني سنتوقف أمام حدث عميق حيث يشير يسوع إلى خلّاصة تعلّيمه وحبه لتلاميذه بحسب مرقس (14: 12-16. 22- 26) حيث يحتفل بالفصح معهم بشكل جنوني، حيث يعطي ذاته بشكل رمزي كاستباق لما سيتم على الصليب. نهدف من خلال هذه النصوص بالغوص في الحب الإلهي الّذي نصفه بـ "الجنوني" لأنه يفوق الفكر البشري.

 

1. كتاب العهد (خر 24: 3-8)

 

يكشف لنا كاتب سفر الخروج بأنّه بالرغم من عدم أمانة الشعب وتجربته للرّبّ في البرّيّة والتذمر عليه وعلى موسى بالصحراء. أنّ الرّبّ لازال يبادر بحب فائق من خلال مرافقته الحسيّة والعمليّة للشعب حيث يدعوهم لعلاقة بشكل أعمق من خلال هذا الأمر الإلهي الّذي يوجهه لموسى بمرافقة بعض الشيوخ قائلاً: «اِصعَدْ إِلى الرَّبِّ أَنتَ وهارون وناداب وأَبيهو وسَبْعونَ مِن شُيوخِ إِسْرائيل، واسجُدوا مِن بَعيد. ثُمَّ يَتَقَدَّمُ موسى وَحدَه إِلى الرَّبِّ، وهُم لا يَتَقَدَّمون. وأَمَّا الشَّعْبُ فلا يَصعَدْ معَه» (خر 24: 1- 2). يُعاين الشيوخ، كشهود عيّان، المباردة الإلهيّة حيث يفاجئ الرّبّ شعبه بحدث جديد وبرغبته ليس فقط بالكلمات بل بالأفعال. وبعد أنّ روى موسى ما يرغب الرّبّ به نلاحظ أن الشعب يجيب بصوت واحد: «كُلُّ ما تَكلَّمَ بِه الرَّبُّ نَعمَلُ بِه» (خر 24: 3). هذا الصوت الواحد علامة على إتفاق الشعب بالطاعة للرّبّ. وبعد أنّ كَتَب موسى جَميعَ كَلامِ الرَّبّ، وبَكَّرَ ببناء مَذبح بأسفل الجبل، أَصعَد محرقات وذبائح للرّبّ. يسرد الكاتب أنّ موسى بعد أنّ قام برش دم الذبائح على المذبح إذ: «أَخَذَ كِتابَ العَهْدِ فتَلا على مَسامِعِ الشَّعْبِ فقال: "كُلُّ ما تَكلَّمَ الرَّبُّ به نَفعَلُه ونَسمَعُه"» (خر 24: 7). وهنا علينا أنّ نتنبه لسمتين: الأوّلى تكرار صيغة العهد "أنتم تكونون ليّ شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا" رغبة الرّبّ أنّ يتواصل مع الشعب بدافع هذا الحب الجنوني إذ لم يتذكر خيانة وتذمر الشعب بعد. والثانيّة تكرار قول الشيوخ الّذيّن يمثلون الشّعب هذا الخضوع، بالطاعة له وهذا التبادل الإيجابي مع الله في التبادل. هنا ولأوّل مرة نسمع فيها قول موسى أثناء رش الدّم على الشيوخ قائلاً: «هُوَذا دَمُ العَهدِ الَّذي قَطَعَه الرَّبُّ معَكم على جَميعِ هذه الأَقْوال"» (خر 24: 8). هذه الأفعال هي إتمام للأمر الإلهي الّذي يكشف ما بقلب الرّبّ حيث يقطع عهد دّم مع شعبه علامة للإنتماء إليه.  الدّم هو الصيغة الجديدة الّتي يتمم هذا العهد الأبدي.

 

2. إستمرار الحب الجنوني (مر 14: 12-16)

 

في السرد المرقسيّ أثناء الإحتفال بعشاء الفصح يركز مرقس على رغبة التلاميذ من خلال تساؤلهم للمعلم دون علّمهم بشئ عن سرّه الإلهي ورغبته قائلين: «أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصْح؟» (مر 14: 12). يجيبهم يسوع بالقول والفعل، معلنًا ما هيأه هو بذاته مرسلاً إثنين منهم قائلاً: «اِذهَبا إِلى المدينة، فَيَلقاكُما رَجُلٌ يَحمِلُ جَرَّةَ ماءٍ فاتبَعاه، وحَيثُما دَخَل فَقولا لِرَبِّ البَيت: "يَقولُ المُعَلِّم: أَينَ غُرفَتي الَّتي آكُلُ فيها الفِصْحَ مَعَ تَلاميذي؟" فيُريكُما عُلِّيَّةً كبيرَةً مَفْروشَةً مُهَيَّأَةً، فأَعِدَّاهُ لَنا هُناك» (مر 14: 13-14). كلّ شئ مُهيأ من قِبل الرّبّ لأنه هو مَن يرغب أن يكشف عن حبه في الأيام الأخيرة قبل إتمام الفصح في جسده. وكعادة النساء هي الّتي كانت تحمل جرات المياه، إلّا أن بهذا النص رجل حيث يُعتقد إنه تلميذ أحد الربانيين (اسينيين أو غيرهم)، يهيأ للإحتفال بالفصح مع معلمه. يعكس يسوع إذ كلّ شي مُعد من قبله وتلاميذه مدعويين للإحتفال حيث يكشف المعلم بالقول والفعل الجديد عن حبه.

 

3. الجسد الإلهيّ (مر 14: 22- 26)

 

بناء على ما تعمقنا فيه بحسب سفر الخروج (24: 3- 8)، نجد الوجه الإلهي يستمر في إظهار سرّ إنتمائه للبشر من خلال ابنه الّذي سيجدد عهد حبه ليس بكلمات يرددها وليس بذبائح ولكن تأتي المفاجئة أثناء الإحتفال بالفصح حيث يلتف التلاميذ حول المعلم الإلهي، بينما يأكلون، بحسب روايّة مرقس والقائل: «أَخذَ خُبزاً وبارَكَ، ثُمَّ كَسَرَه وناوَلَهم وقال: "خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي"» (مر 14: 22). يسوع، هو الّذي هيأ الفصح العبري يحملنا كتلاميذ له ليكشف عن الفصح الحقيقي بكلماته من خلال كسره للخبز مُعطيًا إياه للتلاميذ معلنًا كلمات لتجديد صيغة العهد الإلهي في ذاته. ففي هذا تأسيس سر القربان حيث يفرغ الابن ذاته من الكلمات وهو الكلمة الحيّة، مُسلمًا ذاته لكلاً منّا في رمزيّة قطعة من الخبز، دليل على فقره وتخليّه. وعلى هذا المنوال يستمر الكاتب في روايته التفصيليّة قائلاً: «ثُمَّ أخَذَ كأَساً وشَكَرَ وناوَلَهم، فشَرِبوا مِنها كُلُّهم، وقالَ لَهم: "هذا هو دَمي دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس. الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن أَشرَبَ بَعدَ الآنِ مِن عَصيرِ الكَرمَة، حتى ذلك اليَومِ الَّذي فيه أَشرَبُه جديداً في مَلَكوتِ الله"» (مر 14: 23- 25).

 

بين البركة والشكر من جانب والكسر والتسليم للخبز والخمر من قِبل الابن الإلهي، تحملنا هذه الأفعال المرافقة بأقواله الّتي نصلّيها في كل إفخارستيا ليصير هو إتمام الّذبيحة وهو العلامة الّتي توحدنا بالآب وتحمل العالم الإلهي لحياتنا الأرضية. نعم سرّ القربان هو إعلان عن الحب الإلهيّ المجنون الّذي يكشف رغبة الرّبّ في إتحاده بنا فيصير جسد ودّم الابن هو العهد الّذي يجدد الله حبه لنا. ونحن ما علينا إلّا بتبادل العهد الحبيّ المجنون بقبول جسد ودم الابن الّذي يدعونا للسجود والتسبيح.

 

الخلّاصة

 

الحب الجنوني الّذي إتصف به القلب الإلهي من خلال العهد، الّذي قطعه الله مع إبراهيم وتمّ تجديده بسفر الخروج (24: 3- 8). مما تطلّب الطاعة من قبل شيوخ الشّعب في زمن موسى. وبالإستمرار في فيض هذا الحب الجنوني ليشمل ليس شعب ما بل البشريّة بأكلمها في شخص يسوع، فتركت كلماته وأفعاله أثناء الإحتفال بالفصح صدى عميق حتى يّومنا هذا، فبثّ فينا الحياة الإلهيّة بجسده ودمه بحسب رغبته تاركًا ذاته حبًا بنا في الإفخارستيا علامة عهد دائم بيّ وبك. دُمتم في قبول هذا الحب الجنوني الّذي يحملنا للرّبّ من هنا والآن.