موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (متى 22: 15 -21)
15 فذَهبَ الفِرِّيسيُّونَ وعَقَدوا مَجلِسَ شورى لِيَصطادوه بِكَلِمَة. 16 ثُمَّ أَرسَلوا إِليه تَلاميذَهم والهيرودُسِيِّينَ يقولونَ له: ((يا مُعَلِّم، نَحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ صادق، تُعَلِّمُ سَبيلَ اللهِ بِالحَقّ، ولا تُبالي بِأَحَد، لأَنَّكَ لا تُراعي مَقامَ النَّاس. 17 فقُلْ لَنا ما رأيُكَ: ((أَيحِلُّ دَفعُ الجِزْيَة إلى قَيصَر أَم لا؟)) 18 فشعَرَ يسوع بِخُبْثِهم فقال: ((لِماذا تُحاوِلونَ إِحراجي، أَيُّها المُراؤُون! 19 أَروني نَقْدَ الجِزْيَة)). فَأَتَوهُ بِدينار. 20 فقالَ لَهم: ((لِمَنِ الصُّورَةُ هذه والكِتابة؟)) 21 قالوا: ((لِقَيصَر)). فقالَ لَهم: ((أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله)). 22 فلمَّا سَمِعوا هذا الكَلامَ تَعَجَّبوا وتَركوهُ وانصَرَفوا.
المقدمة
يُسلِّط إنجيلُ هذا الأحد الأضواء على سؤال يتعلق بدفع الجِزْيَة إلى قَيصَر (متى 22: 15 -21). حاول رؤساء اليهود في اورشليم أن يوجّهوا للسيد المسيح أربعة أسئلة خطيرة حول قيامة الأموات (متى 22: 23-33)، الوصية الكبرى (متى 22: 34-40)، ابن داود (متى 22: 41-46) وسؤال سياسي لإيقاعه في مصيدة، وإيجاد ما يشكون به للسلطة الرُّومَانية للقبض عليه: أَيحِلُّ دَفعُ الجِزْيَة إلى قَيصَر أَم لا؟ (متى 22: 17)؛ وهي مواجهة جديدة بين يسوع ومعارضيه. فمن ناحية، يشير يسوع بإعطاء قَيصَر ما هو له، فهو يعلن أن دفع الجِزْيَة ليس بعبادة، إنَّما واجب تِجاه السُّلطة الأرضية؛ ومن جهة ثانية، إذ يُذكّر بأولويّة الله، يطلب بأن يُعطى لله ما هو له كربّ حياة الإنسان وربّ التاريخ. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 22: 15 -21)
15 "فذَهبَ الفِرِّيسيُّونَ وعَقَدوا مَجلِسَ شورى لِيَصطادوه بِكَلِمَة
تُشِير عبارة "الفِرِّيسيُّونَ" في الأصل اليوناني Φαρισαῖοι المشتقَّة من العبرية הַפְּרוּשִׁים (معناها منفصل أو مفروز أو منعزل) إلى لَقب الفرِّيسِيِّين لتزمّتهم ودقّتهم في تفسير "الشَّريعَة"، وترفّعهم عن عامّة الشَّعب. وقد دعاهم المسيح مُراءين (متى 22: 18). وهم حزبٍ يهوديٍ دينيٍ يُشدِّد أعضاؤه على الشَّريعَة، وعلى التقوى الشخصية، والدين، وكانوا يقاومون الاحتلال الرُّومَاني ويُؤدُّون الجِزْيَة للرومان كُرها لا طوعا، وكانوا يُعارضون حزب الهيرودُسِيِّينَ المُوالين للرومانيين. أمَّا عبارة "مَجلِسَ شورى" في الأصل اليوناني συμβούλιον (معناها مجلس) إلى لقاء الفِرِّيسيُّينَ للاستشارة في شأن يسوع. أمَّا عبارة "لِيَصطادوه بِكَلِمَة" فتُشِير إلى وضع شرك أو فخٍ ليسوع لِيَصطادوه، كما يُصطاد الطُّيور. يبحث الفِرِّيسيُّونَ عن طريقة لإحراج يسوع من خلال ثلاث مسائل: الأولى سياسية دينية قدَّمها الفِرِّيسيُّونَ والهيرودُسِيِّينَ (متى 22: 15-22). والثانية أدبية تتعلق بالطَّلاق قدَّمها الصدُّوقيون (متى 22: 33). والثالثة علمية تتعلق بتفسير كتبهم الدينية قدَّمها أحد الكتبة (متى 22: 34-40). فاصطياد الفرِّيسِيِّين ليسوع دلالة على رياء، كما أشر لذلك يوحنا المعمدان فدعاهم "يا أَولادَ الأَفاعي" (متى 12: 34). وهم مستعدُّون أن يتحالفوا مع قَيصَر لكي يُهلكوا يسوع، وهذا ما حدث فعلاً في محكمته أمام بيلاطس البنطي" فصاحوا: ((أَعدِمْه! أَعدِمْه! اِصْلِبْهُ!" (يوحنا 19: 15)، وقد تحقَّقت فيهم نبوءة ارميا "إِنَّهم حَفَروا حُفرَةً لِنَفْسي" (ارميا 18: 20)، كَمَا حَصلَ مَع إرميا، لَمَّا قَال أَعداؤُه: "هَلُمُّوا نَتَآمَرُ عَلَى إرْمِيا. هَلُمُّوا نَضرِبُه بِاللِّسانِ" (إرميا 18:18). وإنهم يَكيدون لِيسوع مَكيدَة، ويحفرون لَه حُفرَةً عَميقَة، يُريدونَ إسقَاطَهُ فيهَا. فوبَّخهم السَّيد المسيح بِشدِّة على رِيائهم وادعائهم البرّ كذباً وتحميلهم النَّاس أثقال العرضيات دون الاكتراث لجوهر الناموس (متى 5: 20، 16: 6).
16 ثُمَّ أَرسَلوا إِليه تَلاميذَهم والهيرودُسِيِّينَ يقولونَ له: "يا مُعَلِّم، نَحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ صادق، تُعَلِّمُ سَبيلَ اللهِ بِالحَقّ، ولا تُبالي بِأَحَد، لأَنَّكَ لا تُراعي مَقامَ النَّاس"
تُشِير عبارة "تَلاميذَهم والهيرودُسِيِّينَ" إلى مجموعتين متناقضتين دخلتا في مواجهة مع الرَّبّ يسوع: كان تلاميذ الفرِّيسِيِّين متدينين ووطنيين، أمَّا الهيرودُسِيِّينَ فقد كانوا مُتحرِّرين ومُتحالفين مع روما، لكن الفريقان تحالفا معًا لمقاومة يسوع بكل طريقة والقضاء عليه. وهنا تلاحمت السُّلطة الدِّينية مع السُّلطة السِّياسِيَّة من أجل إهلاك يسوع. وتصبح العلاقة مع السُّلطة بمثابة ذريعة تستخدم لإخفاء المصالح الخاصة. أمَّا عبارة "الهيرودُسِيِّينَ" فتُشِير إلى أنصار هيرودس الكبير وسلالته المُؤيّدين لحكمه الذّاتي بالانصياع إلى روما. وهم حزبٌ يهوديٌ سياسيٌ وموالي لأسرة هيرودس المالكة، وأعضاؤه يدعمون النِّظام الرُّومَاني بشكلٍ أعمى، ويهتمون بالخضوع للدولة الرومانية وجمع الجزية. ويؤيِّدون هيرودس انتيباس والحُكم الرُّومَاني ودفع الجِزْيَة للقَيصَر طواعية لنيل مأربهم، مع الأمل أنَّ أحد عائلة هيرودس يملك في اورشليم بدل الوالي الرُّومَاني، كما كان في أيام هيرودس الكبير. وبالرغم من عداوة شديدة بين "الهيرودُسِيِّينَ" والفرِّيسِيِّين، اتفقوا على إهلاك المسيح، فادَّعوا انهم اختلفوا في مسالة فرفعوا الأمر إليه ليحكم بينهم. ومن هنا نرى مداهنة نفاقيه بين الحِزبين بتحالفهم على السَّيد المسيح ليصطادوه بكلمة. أمَّا عبارة "صادق" فتُشِير إلى لقب أطلقه تلاميذ الفرِّيسِيِّين والهيرودُسِيِّونَ على السَّيد المسيح، ويدل هذا اللقب أنَّ صاحبه يتكلم بالحقِّ ومُخلص في الحُكم، ولا يتأثر فيما يقوله النَّاس. لكنه في الوقت نفسه ينمُّ على تملقٍ وتزلّفٍ ومديح ليُفقد يسوع حذره منهم لكي يتكلم بكلّ صراحة فيُخطئ في كلامه. أما عبارة "تُعَلِّمُ سَبيلَ اللهِ بِالحَقّ" فتُشِير إلى مدح باللِّسان ممَّا يخالف ما في الجنان، وغايتهم من هذا التَّملق أن يُسرَّ المسيح بهم ويُجيبهم بلا حذر. والتَّملق أشد من التهديد، كما يقول صاحب المزامير "أَلْقى عَدُوِّي يَدَيه على حُلَفائِه واَنتَهَكَ حُرمَةَ عَهدِه" (مزمور 55: 21)، فعلينا أن نحذر المُتملِّقين. أمَّا عبارة "سَبيلَ اللهِ" في الأصل اليوناني" ὁδὸν τοῦ θεοῦ فتُشِير إلى "طريق الله" (مرقس 12: 14) أي السلوك الذي يفرضه الله. إرادة الله وما يُطلبه من الإنسان كما وارد في الشَّريعَة. وهو الصِرَاطٌ المُسْتَقِيمٌ أي الطريق الذي رسمه الله ويقود إليه (أعْمَال الرسل 9: 2)؛ وتعني الطريقة عادة كيفية العيش والعمل، أي السلوك بكل معنى الكلمة، كما يقول أشعيا النبي: "هذا هو الطَّريق فآسلُكوه إذا يامَنتُم وإذا ياسَرتُم "(أشعيا 30: 21). وقد سُمي الإيمان المسيحي في البداية "الطريق" (أعْمَال الرسل 9: 2) لأنهم يتبعون طريقة الرَّبّ، كما ورد في حياة بولس الرَّسُول "طَلَبَ (شاول –بولس) مِنه رَسائِلَ إلى مَجامِعِ دِمَشق، حتَّى إِذا وَجَدَ أُناسًا على هذِه الطَّريقَة، رِجالاً ونِساء، ساقَهم موثَقينَ إلى أُورَشَليم" (أعْمَال الرسل 18: 25)، ودُعي أيضا "طريق الخلاص" كما جاء في سيرة بولس الرَّسُول "فأَخَذَت تَسيرُ في إِثْرِ بولُسَ وإِثرِنا، وهِيَ تَصيح: ((هؤلاءِ الرِّجالُ عَبيدُ اللهِ العَلِيّ، يُبَشِّرونَكُم بِطَريقِ الخَلاص"(أعْمَال الرسل 16: 17). أمَّا عبارة "لا تُبالي بِأَحَد" فتُشِير إلى عدم تحيّز وعدم الخوف من التكلم بالحق أو محاباة للبعض بتغيير الحقِّ في سبيل إرضاء لهم (لوقا 20: 21). أمَّا عبارة "لأَنَّكَ لا تُراعي مَقامَ النَّاس" في الأصل اليونانيοὐ γὰρβλέπεις εἰς πρόσωπον ἀνθρώπων (معناها لا تنظر إلى وجه النَّاس) فتُشِير إلى عدم الأخذ بعين الاعتبار "الوجاهة" والزّعامة والجاهة بين الأشخاص وتفضيل الواحد على الآخر بدون سبب مخالفًا أحكام الشَّريعَة الموسوية التي تنصُّ "لا تَجوروا في الحُكْم، ولا تُحابِ وَجهَ الفقير ولا تُكرِمْ وَجهَ العَظيم، بَل بِالعَدْلِ تَحكُمُ لِقَريبِكَ" (أحبار 19: 15). وهذه هي صفة من صفات الله، كما جاء في عظة بطرس الرَّسُول في بيت قرنيليوس "أَدرَكتُ حَقًّا أَنَّ اللهَ لا يُراعي ظاهِرَ النَّاس" (أعْمَال الرسل 10: 34). صاغ الفِرِّيسيُّونَ والهيرودُسِيِّوَن سؤال مصيدة في قالب من الإطراء والمديح والتملق الممقوت بهدف اصطياد يسوع بكلمة. وبالرغم من كل ذلك نجد في هذه الآية فضائل يسوع التي أقرّها خصومه: إنَّه رجلٌ نزيهٌ لا يُشْتَرى، ولا يتورط في غِشٍّ أو خداعٍ أو تحكيم، ولا يتذلل أمام قوى العصر الغاشمة، رجل مستقيم، سديد الرأي. وهذه الصفات النادرة تؤهل الإنسان ليمارس السِّياسة ممارسة مسيحية.
17 "فقُلْ لَنا ما رأيُكَ: أَيحِلُّ دَفعُ الجِزْيَة إلى قَيصَر أَم لا؟"
تُشِير عبارة "فقُلْ لَنا ما رأيُكَ" إلى إيقاع يسوع المسيح في ورطة ومأزق وإحراج حيث أنه لو قال "نعم" يُمكن أن يُشهَّر به أمام الشَّعب كخائن لوطنه؛ ولو قال "لا" يتم تقديم شكوى ضده كمُحرِّض للفتنة ضدَّ السُّلطات الرُّومَانية. أمَّا عبارة "الجِزْيَة" في الأصل اليوناني κῆνσον (مشتقة من اللاتينية census ومعناها الإحصاء) فلا تُشِير إلى المعنى العربي القرآني أي ما يعطيه أهل الذمة من المال، إنَّما تُشِير إلى ضريبة من رسوم وجمارك إلى جانب التَّكاليف غير المباشرة؛ وكانت الأقاليم تؤدِّي للإمبراطورية الرُّومَانية "الجِزْيَة" وكانت هذه واحدة لجميع اليهود، ولم يكن يُعفى منها إلاّ الأولاد والشُّيوخ. وكان اليهود يكرهون الجِزْيَة، لأنَّ الأموال كانت تذهب مباشرة إلى خزانة قَيصَر، حيث يذهب جزء منها للصَّرف على المعابد الوثنية والحياة المترفة للأرستقراطية الرُّومَانية. كما أنَّ صورة قَيصَر على العِمْلَة تُذكر اليهود بخضوعهم لروما. فالجِزْيَة تُعدُّ علامة خضوع الشَّعب لروما وعبوديتهم. واعتقد الفِرِّيسيُّونَ أنَّ تأدية الجِزْيَة لا تجوز في شريعة موسى كما تنصُّ "فأَقِمْ علَيكَ مَلِكًا، مَن يَخْتارُه الرَّبّ إِلهُكَ. مِن بَينِ إِخوَتكَ تُقيمُ علَيكَ مَلِكًا، ولا يَحِلُّ لَكَ أَن تُقيمَ علَيكَ رَجُلاً غَريبًا لَيسَ بِأَخيكَ" (تثنية الاشتراع 17: 15). كان دفع الجزية لقيصر يعني الإقرار بسيادة روما السياسية والدينية على اليهود. ولذلك كان الغيورون (الثُوار) يُنهون أنصارهم عن تأديتها. ويرفضون دفع الجِزْيَة، مما تسببَّ في قيام ثورات مثل ثورة ثودَس ويهوذا الجليلي، وقد قتلهم الرُّومَانيون وأنهوا ثوراتهم، كما جاء في تاريخ الكنيسة الأولى "فقَد قامَ ثودَسُ قَبلَ هذهِ الأَيَّام، وادَّعى أَنَّه رَجُلٌ عَظيم، فشايَعَه نَحوُ أَربَعِمِائةِ رَجُل، فقُتِلَ وتَبَدَّدَ جَميعُ الَّذينَ انقادوا لَه، ولَم يَبْقَ لَهم أَثَر. وبَعدَ ذلك قامَ يَهوذا الجَليليُّ أَيَّامَ الإِحصاء، فَاستَدرَجَ قَومًا إلى اتِّباعِه، فَهَلَكَ هو أَيضًا وتَشَّتَتَ جَميعُ الَّذينَ انقادوا لَه" (أعْمَال الرسل 5: 36-37). أمَّا عبارة "أَيحِلُّ دَفعُ الجِزْيَة إلى قَيصَر أَم لا" في الأصل اليوناني δοῦναι فتُشِير إلى سؤالٍ اجتمعت فيه ثلاثة عناصر حسّاسة: الدِّين والمّال والسِّياسة. فهو سؤال مُحرجٌ ليسوع عن دفع الجِزْيَة للرومان، لانَّ هدف السؤال إيقاع يسوع في مأزق علما أنَّ الفرّيسيِّين كانوا يطلبون التحرّر من الاستعمار الروماني، ويحسبون هذه الجزية علامة عبوديّة ومذلّة، لذلك فإن قال "يجوز دفع الجِزْيَة لقَيصَر"، لقال الفِرِّيسيُّونَ إنه يُقاوم الله الملك الوحيد الذي به نعترف، واتَّهموه بأنه مُخالف للشريعة التي لا تجيز دفع جِزْيَة للغرباء، فاعتبروه خائنًا لوطنه وعميلاً للمُحتل فيخسر مصداقيته لدى اليهود. وإن قال "لا يجوز دفع الجِزْيَة"، اتهمه الهيرودُسِيِّونَ كمثير للفتنة ضد القَيصَر الذي وضع هذه الضَّرِيبة بتهمة تحريض على التمرد لدى السُّلطات الرُّومَانية كخائن لروما، كما جاء في شهادة "شهود الزور" ضده: "وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزْيَة إلى قَيصَر" (لوقا 23: 2). فهو في الحالتين في مأزق نصبه الخصوم ليسوع حيث يعرّضه لخطر الملاحقة من قبل السُّلطة الرُّومَانية. ويعلق القدّيس بونافَنتورا " إنّنا نحفر فخاخًا بالمكر. عندما نتواطأ لإيقاع أحدهم في فخ، نكون وكأننا نحفر هوّة أمامه. لذلك هو يشكو من هذا الأمر قائلاً: " نَصَبوا شِباكًا لِخَطَواتي فرَزَحَت نَفسي. حَفَروا أَمامي هوةً. " (مزمور 57: 7)"(الكرمة السّرّيّة، الفصل 3، الفقرات 5 -10). أمَّا عبارة "قَيصَر" فتُشِير إلى لقب رسمي للأباطرة الرُّومَانيين الذي أُخذ من اسم عائلة ليوليوس قَيصَر الشَّهير، وهو أول رجل أبتغى الحكم المطلق (14-37م) وخلفه فيه ابنه بالتَّبني الذي صار بعدئذ الإمبراطور أوغسطس. وقد ورد هذا اللقب نحو 30 مرة في العهد الجديد. ويلقب به الأباطرة: أغسطس (لوقا 2: 1) وطيباريوس (لوقا 3: 1) وكلوديوس (أعْمَال الرسل 11: 28) ونيرون (أعْمَال الرسل 25: 8). هؤلاء الأربعة ذُكروا بأسمائهم في العهد الجديد. وقد ولد المسيح في أيام أوغسطس قَيصَر ثم صُلب في عهد طيباريوس. ومع أن المسيح لُقِّب بملك اليهود وصرَّح بأنه هو المسيح لم يقاوم السُّلطة الرُّومَانية، ولم يتدخل في السِّياسة (يوحنا 18: 37 ومرقس 8: 29 -30 ويوحنا 14: 25 -26). بل قال: "أَدُّوا لِقَيصَرَ ما لِقَيصَرَ، ولِلهِ ما لِله" (مرقس 12: 17). وقال "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم" (يوحنا 18: 36). ومن ثم أجاز إعطاء الجِزْيَة لقَيصَر طالما هو يحكم بلاد اليهودية (مرقس 12: 14-17). وكان القَيصَر في أيام المسيح هو طيباريوس الذي اشتهر بالقسوة. وكانت الجِزْيَة مفروضة على كل رأس عائلة علامة الخضوع لقَيصَر. فالسؤال بكل بساطة يدور حول ما إذا كان يسوع عميلاً مع الرُّومانيِّين المُحتلين الذين يعبدون قَيصَر، أم أنه إسرائيلي لا غشَّ فيه يعبد الله؟
18 فشعَرَ يسوع بِخُبْثِهم فقال: لِماذا تُحاوِلونَ إِحراجي، أَيُّها المُراؤُون!
تُشِير عبارة "فشعَرَ" في الأصل اليوناني γνοὺς (معناها عَلِم) إلى قدرة يسوع على علمه في القلوب، كما جاء في الإنجيل الطَّاهر" فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان" (يوحنا 2: 25). أما عبارة "خُبْثِهم" في الأصل اليوناني πονηρίαν (معناها شرَّهم) فتُشِير إلى رياء ومُكر خصومه من الفرِّيسِيِّين والهيرودُسِيِّينَ ودوافعهم الأنانية الخبيثة، إذ أدرك يسوع أن سؤالهم لا ينبع من رغبة حقيقيّة في المعرفة، فلم يكن ما يُحرِّك الفرِّيسِيِّين محبتهم لشرائع الله، كما لم يكن ما يُحرِّك الهيرودُسِيِّينَ محبتهم للعدالة الرُّومَانية. فكانوا يتظاهرون أنَّهم يرغبون في معرفة الحق، ولكن غايتهم الحقيقية كانت تكمن في اصطياده بكلمة. أطلق يسوع على خبثهم "خمير" "تَبَصَّروا واحذَروا خَميرَ الفرِّيسِيِّين وخَميرَ هيرودُس!" (مرقس 8: 15)، ويُحذِّرنا السَّيد المسيح أن نحترس من التملق ونحذر من المديح كي نكتشفه لنتجنب الوقوع فيه. ويُعلق البابا فرنسيس "هؤلاء يبحثون عن التملّق ليسوع، فالمرائي بشكل ظاهر أم خفي، لا يقول الحقيقة ويبالغ وينمّي الغرور في نفسه. يمكن للمُنافق أن يتحدّث بلطافة، إنَّما هو يحكم بوحشية على الآخر". (6/6/2017). أمَّا عبارة "لِماذا تُحاوِلونَ إِحراجي" فتُشِير إلى رفض يسوع الدُّخول في منطق سائليه، لأنَّهم "يَنصُبونَ له المَكايِدَ لِيَصطادوا مِن فَمِه كَلِمَة" (لوقا 11: 54)، لأنَّه إن أجاب على سؤالهم "نعم"، يصبح مُتعاونًا مع العَدو الرُّومَاني، وبالتَّالي فهو غير جدير بالثقة؛ وإن أجاب "لا"، يصبح شخصًا خطيرًا يُقاوم النِّظام الرُّومَاني. وإذا قارنّا تصرّف الفرِّيسِيِّين بتصرّف الشَّيطان في تجارب يسوع الثلاث (متّى 4: 1-11) لوجدنا الفعل اليوناني الأصل نفسه πειράζετε (تجرِّبون) يستخدمه الفريسيُّون والشَّيطان. كما فعل الشيطان المُجرِّب πειράζων (متى 4: 3) كذلك حاول الفريسيُّون يُجرِّبون يسوع. كان اليهود على امتداد التاريخ يضعون الله تحت الاختبار. أمَّا عبارة "المُراؤُون!" فتُشِير إلى الفرِّيسِيِّين بنوع خاص الذين يُبطنون غير ما يُظهرون. وقد كشف المسيح رياءهم ومكرهم وخبثهم، لأنَّه لا يُخفى عليه شيء، فنعتَهم بالمرائين للمرّة الثانية في الإنجيل بعد المرة الأولى (متى 15: 7)، قبل أن يؤنّبهم بشدّة سبع مرّات (متى23: 13-36). فالمرائيّ يخدع نفسه قبل أن يخدع الآخرين. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لقد دعاهم مُرائين حتى متى عرفوا أنَّه قارئ قلوب البشر فلم لا يتجاسروا بعد أن يتمِّموا خططهم".
19 أَروني نَقْدَ الجِزْيَة. فَأَتَوهُ بِدينار.
تُشِير عبارة "نَقْدَ" في الأصل اليوناني νόμισμα إلى عملة النقود التي كان اليهود يؤدُّونها كجِزْيَة. أمَّا عبارة "الجِزْيَة" فتُشِير هنا إلى الدِّينار الذي عليه صورة القَيصَر. وكانت تدفع الجِزْيَة وعليها صورة قَيصَر والجِزْيَة فقط بالنَّقد الرُّومَاني لتذهب حالا إلى مركز السُّلطة الرُّومَانية. وكون أن اليهود يقدِّمون لقَيصَر الدِّينار الرُّومَاني، دلالة على اعترافهم أنهم تحت حكم قَيصَر؛ فالعِمْلَة الجارية كانت تُظهر نظام الحكم والسُّلطة القائمة. وإن استعمال خصوم يسوع هذه العِمْلَة الرُّومَانية برهان قبولهم الاستفادة من نظام سياسي معيّن. وإذا أرادوا أن يرفضوا دفع الجِزْيَة، وجب عليهم أن يعترضوا على جميع أشكال الوجود الرُّومَاني، الأمر الذي لا يتجنبونه. ومع ذلك كان اليهود يستخدمون هذا النقد للجِزْيَة فيما يتعلق بالمُعاملات المَدنيَّة. ولكن بما أنَّ اليهود يرفضون الصور والتماثيل، كان لهم عملة الشاقل بلا صورة تمامًا يستخدمونها للمعاملات الدينية. أمَّا عبارة "فَأَتَوهُ بِدينار " فتُشِير إلى وجود الدِّينار بحوزتهم داخل الهيكل يعني أنّهم يقرّون بحقوق قَيصَر عليهم. وهنا ينكشف من هم الذين يتعاملون في الحقيقة مع السُّلطة الرُّومَانية. وبتقديمهم هذا الدينار، يعلن الفرّيسيّون خضوعهم للسلطة، عكس ما ينادون به من أن خضوعهم يلزم أن يكون للهيكل فقط. فليست معهم نقود يهودية فقط، مثل الشاقل، بل نقود رومانية أيضًا. فأعلن لهم أنهم ينادون بما لا يطبقونه، خوفا من السلطة. أمَّا عبارة "دينار" فتُشِير إلى أصل لاتيني denarius (معناها عشرة) لان هذه العِمْلَة تساوي أصلا عشرة أسات رومانية، وكان الدِّينار عملة رومانية من الفضة، وهي أجرة يوم العامل في ذلك الوقت، كما يتَّضح من إنجيل متى " فاتَّفقَ رب البيت معَ العِمْلَة على دينارٍ في اليَوم وأَرسَلهم إلى كَرْمِه" (متى 20: 2). وكان على اليهود أن يتعاملوا بالدينار الروماني عندما يدفعون الجِزْيَة لروما. وكان وجود الدِّينار في أيديهم جوابًا لسؤالهم. فالفِرِّيسيُّونَ باستعمالهم نقود الرُّومَاني يقرُّون بسلطة قَيصَر عليهم، فبيَّنوا بذلك انهم أجازوا تأدِية الجِزْيَة له. وقد نُقش على الدِّينار الذي كان متداولا في أيام السيد المسيح صورة طيباريوس قَيصَر واسمه وألقابه. وأمَّا الجِزْيَة التي كانت تؤدي للهيكل فهي شاقل أو نصف شاقل وهو نقد يهودي.
20 فقالَ لَهم: لِمَنِ الصُّورَةُ هذه والكِتابة؟:
تُشِير عبارة "الصُّورَةُ هذه والكِتابة" إلى صورة طيباريوس قَيصَر (14-37م)، الإمبراطور الرُّومَاني الثاني (متى 22: 13) ومن حولها كتابة تنص: Ti[berivs] Caesar Divi Avg[vsti] F[ilivs] Avgvstvs أي "طيباريوس قَيصَر، ابن أوغسطس الإله السامي"، وعلى الوجه الآخر من العِمْلَة صورة آلهة جالسة على العرش وحاملة غصن زيتون في يدها اليسرى وصولجان طويل في يدها اليمنى وحولها كتب "الحبر الأعظم للأمّة الرُّومَانية. تدلّ هذه الكِتابة على أن هذه النقود هي مُلك القَيصَر. وهذه الصُّورَةُ كما تذكِّر اليهود صورة القَيصَر على الدِّينار، بما عليهم له، يوجب أن تذكّرهم صورة الرَّبّ التي خُلق عليها الإنسان، بما عليهم للربّ. يرفض يسوع مبدئيا صورة إمبراطور الذي جعل نفسه إلهًا. ولم يجادل في مبدأ رفض الصُّورَةُ، لانَّ صورة الله الوحيدة هي الإنسان بلحمه ودمه.
21 قالوا: لِقَيصَر. فقالَ لَهم: أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله.
تُشِير عبارة "أَدُّوا" في الأصل اليوناني Ἀπόδοτε (أي سدِّدوا) فتُشِير إلى الجِزْيَة الواجبة وليس إلى هبة، لانَّ قَيصَر يدافع ويحمي الشَّعب ويُمهِّد الطرق ويصونها. فغيّر يسوع سؤال الفرِّيسِيِّين من دَفعُ δοῦναι الجِزْيَة أي إعطاء الجِزْيَة كهدية (متى 22: 17) إلى فعل أدّوا " Ἀπόδοτε أي سدِّدوا كدين وواجب. فقول يسوع" أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله" تعني سدِّدوا ما هو مطلوب قانونيًا، أي ادفعوا الدَّين. فالجِزْيَة لم تكن هبة بل دَيْنا؛ لقد أعطاهم قَيصَر ميّزة، وهي حكومة مستقرَّة، فهل يأخذون هذه، ويرفضون أن يدفعوا شيئًا مقابل صيانتها. أمَّا عبارة "أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله" فتُشِير إلى جواب يسوع التي تُظهر حكمته وكماله بحيث أصبح جوابه قولٌ مأثور وحكمة على كل لسان على مرِّ الزَّمان. وهذه حكمة تلمّح إلى ما ورد في سفر الأمثال " يا بُنَيَّ اتَقِ الرَّبّ والمَلِك" (أمثال 24: 21). وما ورد أيضًا في سفر الجامعة " احفظ أَمرَ المَلِك، ومِن أَجلِ يَمين الله" (الجامعة 8: 2). لم يترك المسيح في جوابه بابا إلى الشَّعب أو إلى الحاكم ُالرُّومَاني للشكوى عليه. فالقيام بالواجبات السِّياسِيَّة لا يلزم ضرورة مخالفة القِيام بالواجبات لله. يجب إدَّاء الدِّينار لقَيصَر وإعطاء النفس لله. وفي حالة التناقض بينهما وجب التصرف بحسب قول الكتاب المقدس "الله أَحَقُّ بِالطَّاعَةِ مِنَ النَّاس" (أعْمَال الرسل 5: 29). أمَّا عبارة "لِقَيصَرَ ما لِقَيصر" فتُشِير إلى الجزء الأول من جواب المسيح المُوجّه خاصة إلى الفرِّيسِيِّين الذين رفضوا في قلوبهم سلطان قَيصَر عليهم. بما أنَّ صورة قَيصَر صُكَّت على النقود، فله الجِزْيَة نقودًا، فيطلب يسوع " أعطوه إياها، فأنها ليست لكم، فإن قَيصَر يطلب منكم ما هو له وما هو من حقِّه. الكتاب المقدس يوجب الطاعة للحكومة السِّياسِيَّة والشَّريعَة البشرية ضمن حدودها، كما جاء في تعليمات بولس الرَّسُول بقوله: "لِيَخضَعْ كُلُّ امرِئٍ لِلسُّلُطاتِ الَّتي بأَيدِيها الأَمْر، أَدُّوا لِكُلٍّ حَقَّه: الضَّرِيبة φόρον لِمَن لَه الضَّرِيبة، والخَراجَ لِمَن لَه الخَراج τέλος ، والمَهابةَ لِمَن لَه المَهابَة، والإِكرامَ لِمَن لَه الإِكرام." (رومة 13: 1-2، 7). إنَّ إطاعة السُّلطة المَدنيَّة واجبٌ، لا خَوفًا مِنَ العقوبة المحتومة على نتائج العصيان وحسب، وإنَّما مُراعاةً لِلضَّميرِ أَيضًا (رومة 13/5). يتوجب علينا أن نعطي للحكام المَدنيِّين كل ما هو واجب لهم، طالما أنَّ ذلك لا يتعارض مع الواجبات التي تخصُّ لله. أمَّا عبارة " للهِ ما لله " فتُشِير إلى صورة الله التي صُكت على القلوب " فَخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه َ" (التكوين 1: 27)، فله الجِزْيَة عبادة وسجودًا أي يجب أن تُعطي النفس لله. فالجزء الثاني من جواب المسيح كان موجّهاً بشكل خاص إلى الهيرودُسِيِّينَ الذين كانوا في خطر أن ينسوا تأدية واجباتهم لله بسبب رغبتهم في الخضوع إلى قَيصَر. فأعطوا الله ما هو لله وأعملوا بحسب شريعته ووصاياه. والله أيضاً يطلب منكم أن تقدموا له ما هو من حقِّه. فقد طالبهم يسوع بدفع ما كان مطلوب قانونًا. هذا الأمر يعني أن حقوق الله وحقوق الدولة لا ينفي الواحد منهما الآخر بل يتكاملان. وهذه العبارة تذكرنا بأن لله حقوق علينا، لأنَّه خلقنا ويُحبنا ويعتني بنا ويهبنا النعم والبركات ولا يغفل عن طلباتنا واحتياجاتنا. وحقوق الله هي تقديم لله ما هو لله، لأنَّنا منه وإليه. إننا ننتمي إلى الله وإنّنا إليه سنعود. لله يستحق منا الشُّكر والحمد والتَّسبيح والسُّجود والعِبادة، فهو مصدر حياتنا. وهذا العبارة التي أصبحت مثلا مأثورًا لا تجيز بمطالبة المسيحيين بالخضوع غير المشروط تِجاه الدَّولة. لا واجبات مطلقة إلاَّ لله، وعلى ضوء الواجبات تِجاه الله تأتي سائر الواجبات البشرية. ومع كل الحكمة في إجابة المسيح هذه في حق قَيصَر قد اتَّهموه شهود زورٍ أنَّه يُفسد الأُمَّة، ويمنع أن تُعطي جِزْيَة لقَيصَر قائلاً أنَّه ملك " وأَخذوا يَتَّهِمونَه قالوا: ((وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزْيَة إلى قَيصَر، ويَقولُ إِنَّه المسيحُ المَلِك" (لوقا 23: 2). وباختصار، يفصل يسوع بين الدِّين والدَّولة، معتبرًا أن لكلِّ منهما وجهًا ودورًا يلتقيان في خدمة الإنسان. كشف المسيح رياء الفرِّيسِيِّين والهيرودُسِيِّينَ وأجابهم على مسألتهم بطريق لم يُعرض نفسه لأحد الفريقين. وعلمهم، علاوة على ذلك، تعليمًا مفيدًا مُظهرًا سمو الحكمة السَّماوية والعِلم الإلهي. إذا كان يجب علينا أن نعطي لله ما هو لله، فيجب علينا أن نعطي للنَّاس ما يعود للنَّاس محافظين على ما يؤول لخلاصهم. فنحن صورة الله فلنعطيه قلوبنا وحياتنا ولنستعيد صورته فينا إن فقدانها بسبب خطايانا.
22 فلمَّا سَمِعوا هذا الكَلامَ تَعَجَّبوا وتَركوهُ وانصَرَفوا.
تُشِير عبارة "تَعَجَّبوا" إلى إصابة كل من الفرِّيسِيِّين والهيرودُسِيِّينَ بالدَّهشة والحَيرة من حكمته، إذ استوفى يسوع جواب الفريقين، ولم يُمكِّن أحدهما من علَّةٍ للشِّكاية عليه، مع أنَّهم كانوا يظنُّون أنَّه لا يُمكنه أن ينجو من الفخ الذي اخفوه له. أما عبارة "وتَركوهُ وانصَرَفوا" إلى انتصار يسوع على خصومه الفرِّيسِيِّين والهيرودُسِيِّينَ تمامًا، كما فعل الشيطان بعد انتصار يسوع عليه. فكما إنَّ الفرِّيسِيِّين والهيرودُسِيِّينَ تَركوهُ ἀφέντες αὐτὸν كذلك الشيطان αὐτὸν ἀφίησιν تَركَه (متى 4: 11). لم يخالف يسوع النَّاموس، بل اكَّد معناه الحقيقي ووضَّح أنهم أيضًا يخضعون لقَيصَر، لأنَّهم يتعاملون بعِملة قَيصَر، ولم يقدروا أن يقولوا أنَّه مُخالفٌ لقَيصَر، وأنَّه مثيرٌ للفِتنه. وبالرُّغم من كل ذلك، اتَّهموه بأنَّه يُفسد الأُمَّة، ويمنع أن تُعطى الجِزْيَة لقَيصَر مدَّعيًا أنه ملكٌ، كما ورد في الإنجيل المقدس " أَخذوا يَتَّهِمونَه قالوا: ((وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزْيَة إلى قَيصَر، ويَقولُ إِنَّه المسيحُ المَلِك" (لوقا 23: 2).
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 22: 15 -21)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي (متى 22: 15 -21)، نستنتج انه يتمحور حول موقف يسوع من دفع الجِزْيَة تِجاه تيارات زمنه الدِّينية المختلفة الفرِّيسيَّة والهيرودُسية. ومن هنا نتساءل ما هي الجِزْيَة في مفهوم الكتاب المقدس؟ ما هو موقف يسوع من دفع الجِزْيَة؟ وكيف نعيش كلمة يسوع في هذا المجال؟
1) ما هو مفهم الجِزْيَة في الكتاب المقدس؟
طرح رؤساء الشَّعب اليهودي على يسوع أسئلة خطيرة، ومنها: الجِزْيَة لقَيصَر (متى 22: 15022)، إقامة الأموات (متى 22: 23-33)، الوصيَّة الكُبرى (متى 22: 34-40)، ابن داود (متى 22: 41-46). واليوم نتناول الموضوع دفع الجِزْيَة في العهد القديم والعهد الجديد.
هناك ضريبتان في فلسطين: الضَّرِيبة المَدنيَّة والضَّرِيبة الدينيَّة. والضَّرِيبة المَدنيَّة كانت تُدفع للملوك اليهود مثل للملك سليمان، وللوثنيين مثل ملوك الفرس واليونانيِّين والرُّومَانيِّين.
كان الشَّعب في أيام المسيح يدفعون نوعين من الضَّرائِب المَدنيَّة: ضرائب مباشرة، وأخرى غير مباشرة، أمَّا الضَّرائِب المباشرة فتُدفع على أساس المدخول الإنتاجي كلٌّ حسب إمكانياته المادِّية، والضَّرائِب غير المباشرة هي بمثابة رسوم جُمركية تُدفع مقابل العبور على الطرق ومداخل المدن. وسأل الفِرِّيسيُّونَ يسوع عن شرعية كلتا الضريبتين " أَيحِلُّ دَفعُ الجِزْيَة إلى قَيصَر أَم لا؟"(متى 22: 17).
يتم تحصيل الرسوم الضَّرِيبة عن طريق جباه الضَّرائِب، إذ يتفق شخص أو مجموعة أشخاص مع الدولة على دفع مبلغ مُعيّن كلِّ سنة، ولمدَّة خمس سنوات؛ وعلى سبيل المثال زكا، جابي الضَّرائِب على مدخل أريحا، ومتى اللاوي على مدخل كفرناحوم.
كانت في أيَّام يسوع أنواع كثيرة من العِمْلَة، منها من المعادن الثمينة كالذهب والفضة، ومنها المعادن العادية كالبرونز والنحاس. وسُميت العِمْلَة بأسماء متنوعة منها الدِّينار والدِّرهم والإستار، وكان من عادة كل حاكم أن يصكُّ عملة خاصة به، وتُدفع الضَّرائِب لروما بعِمَلة قَيصَر التي تحمل صورته.
لنوع الثاني من الضَّرائِب، هو الضَّرِيبة الدينية، وتنقسم تلك الضَّرِيبة إلى قسمين: القسم الأول يُخصص للهيكل من اجل ترميمه ولإعالة الكهنة الذين يخدمون فيه؛ يدفعها كلُّ إسرائيلي بلغ عمره أكثر من ثلاث عشرة سنة. وكان الضَّرِيبة في أيام يسوع درهمين كما ورد في سيرة يسوع المسيح: "لَمَّا وَصَلُوا إلى كَفَرناحوم، دنَا جُباةُ الدِّرهَمَينِ إلى بُطرس وقالوا له: أمَّا يُؤَدِّي مُعَلِّم كُمُ الدِّرهَمَين؟ " (متى 17: 24).
القسم الثاني من الضَّرِيبة هو الأعشار، فيتوجب على كل إنسان أن يدفع عُشر ما تنتجه أرضه، كعرفان وشكر للرب الذي وهبها له، وكانت الأعشار تُوزع على الكهنة والفقراء "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون، بَعدَما أَهمَلتُم أَهَمَّ ما في الشَّريعَة: العَدلَ والرَّحمَةَ والأَمانة. فهذا ما كانَ يَجِبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك"(متى 23: 23).
الجِزْيَة في العهد القديم
استعمل العهد القديم لفظة מְנֻחָה (معناها هديّة، تقدمة) للدلالة على الجِزْيَة، والتي دلّت على عدد من الذبائح. فالجِزْيَة هي مال أو بضاعة أو خدمة تُقدَّم من أمة أو من فرد لأمة (قضاة 1: 28) أو للملك علامة الخضوع والنفقة، أو ضريبة تُفرض على المغلوب، أو تُدفع لملك غريب دلالة على التبعيّة. ويمكن أن نميّز ثلاثة مستويات من الجِزْيَة: جِزْيَة يدفعها أفراد إسرائيل إلى الله أو الملك، وجِزْيَة يدفعها الملوك لبني إسرائيل، وجِزْيَة يدفعها بني إسرائيل للملوك. ودفع الجِزْيَة يعني الاعتراف بالحكم السِّيَاسِي القائم، ولو كان مستّعمِرًا.
المستوى الأول: جِزْيَة يدفعها أفراد إسرائيل إلى الله أو الملك. الجِزْيَة حسب الشَّريعَة الموسوية هي عبارة عن درهمين كانت تفرض على كل نفس فوق سِن العِشرين ومقدارها نصف شاقل ينفق في سبيل خدمة خيمة الاجتماع " هذا ما يُعْطيه كُلُّ مَن كانَ خاضِعاً لِلإحْصاء: نِصْفُ مِثْقالٍ بِحَسَبِ مِثْقالِ القُدْس-المِثقالُ بِعِشرْينَ دانَقاً-نِصْفُ المِثْقالِ يَكونُ تَقدِمةً لِلرَّبّ " (خروج 30: 13)، وقد جعل الملك سليمان على الشَّعب جِزْيَة ثقيلة (1 ملوك 12: 4).
في أيام نحميا كان كل إسرائيلي يدفع جِزْيَة اختيارية، وهي (ثلث) شاقل لنفقة الخِدمة في الهيكل، كما جاء في محضر العهد الذي قطعته الجماعة: "نُؤَدِّيَ عن أَنفُسِنا ثُلثَ مِثْقالٍ في السَّنَةِ لِخِدمَةِ بَيتِ إِلهِنا (نحميا 10: 32 و33)، ثم صار فيما بعد نصف شاقل كضريبة سنوية تجمع من كل يهودي جاوز العشرين من عمره في كل أنحاء العَالَم. وكان واجب على كلِّ ذكَرٍ في زمن يسوع أن يدفع نصف شاقل ضريبة للهيكل كلَّ سنةٍ (خروج 30: 11-14).
المستوى الثاني: ذكر الكتاب المقدس الجِزْيَة الباهظة التي دفعتها الأمم لملوك بني إسرائيل مع بعض المبالغة. مثلاً قيل إن سليمان تسلّم الجِزْيَة من كل الممالك بين الفرات وأرض الفلسطينيِّين (1ملوك 5 :1) جِزْيَة سنوية (1ملوك 10 :25). ونشير أيضًا هنا إلى الجِزْيَة التي دفعها موآب وأرام لداود الملك (2صموئيل 8 :2، 6)، وميشع، ملك موآب لآخاب (2 ملوك 3 :4)، والفلسطينيون ليوشافاط (2أخبار 17 :11)، والعمونيون لعزّيا الملك (2أخبار 26 :8). والعَالَم القديم كله كان يدفع الجِزْيَة للملك داود، كما جاء في سفر المزامير " مُلوكُ تَرْشيشَ والجُزُرِ الجِزْيَة يؤدُّون ومُلوكُ شَبَأَ وسبَأَ الهَدايا يقَدِّمون. جَميعُ المُلوكِ لَه يَسجُدون كلّ الأمَمِ لَه يَخدُمون" (مزمور 72: 10-11).
المستوى الثالث: ذكر الكتاب المقدس الجِزْيَة التي دفعها بنو إسرائيل لعجلون الموآبي (قضاة 3 :15-18)، والملك هوشع لشلمنأصر (2ملوك 17 :3-4)، والملك يوآش للأراميين (2أخبار 24 :27). كما حُمل عجل بيت إيل إلى أشورية كجِزْيَة للملك العظيم (هوشع 10 :6)، وفرض السلوقيون الجِزْيَة (1ملوك 3 :29). أمَّا ديمتريوس الأول فعفا منها اليهود (1ملوك 10 :29-33). وإن أنطيوخس الرَّابع دفع للرُّومانيين جِزْيَة فرضوها عليه في معاهدة أفاميا (188 ق.م.).
الجِزْيَة في العهد الجديد
استعمل إنجيل متى كلمة يونانية κῆνσον من أصل لاتينية censum (متى 22: 17 ومرقس 12: 14) للدلالة على "الجِزْيَة، والجِزْيَة هي الدِّينار الرُّومَاني. وعلى الدِّينار منقوش صورة وكتابة. وهذه النقوش لا توافق مبادئ الشَّعب اليهودي الذي ترفض الصُّور خاصة صُورة الإمبراطور نفسه التي جعل نفسه إلهًا، محاولاً أن يجعل رايته في هيكل اورشليم. ولم يجادل يسوع رفض الصُّور، إنما ترك للناس حرية خيارهم السِّيَاسِي إلا أن إكرام الله له الأولوية على كل شيء.
استخدم لوقا الإنجيلي لفظ φόρος (معناها الضَّرِيبة) (لوقا 20 :22) في الجدال حول الجِزْيَة التي تُدفع لقَيصَر؛ وأُتُّهم يسوع بأنَّه يمنع اليهود من دفع الجِزْيَة φόρος (لوقا 23 :2). وكلمة " φόρος" قد استعملها يوسيفوس فلافيوس ليتحدّث عن الجِزْيَة الرُّومَانية التي فرضها بومبيوس على منطقة اليهودية وعلى أورشليم، وحوّلها من أجل روما. ولما جاء يوليوس قَيصَر، خفّف هذه الضَّرِيبة، بل عفا اليهود منها في السنة السبتية. وإحصاء قيرينِيوس حاكمَ سورية كان في خدمة الضَّرائِب التي تُجمع بشكل خاص في سورية وفي اليهودية في زمن الإحصاء (لوقا 2: 2).
كان المقصود من محاورة المسيح وبطرس في أمر الجِزْيَة التي دفعها المسيح في كفرناحوم هي توضيح يسوع لبطرس أنَّه كان ممكنًا أن يُعفي من دفع الجِزْيَة لو شاء، لأنه ابن الله الذي كانت تدفع تلك الضَّرائِب لخدمة بيته، لكنَّه دفع الإستار لكيلا يعثِّر الشَّعب (متى 17: 24-27).
علاوة على التكاليف غير المباشرة (من رسوم وجمارك)، كانت الأقاليم تؤدِّي للإمبراطورية الرُّومَانية "الجِزْيَة"، وكانت هذه واحدة لجميع اليهود، ولم يكن يُعفى منها إلاّ الأولاد والشُّيوخ. وكانت الجِزْيَة تُعد علامة خضوع الشَّعب لروما والاعتراف بالحكم السِّيَاسِي القائم. وكان اليهود يكرهون الجِزْيَة، لان الأموال كانت تذهب مباشرة إلى خزانة قَيصَر، حيث يذهب جزء منها للصَّرف على المعابد الوثنية والحياة الإباحية التي تتسم بها الأرستقراطية الرُّومَانية. كما أنَّ صورة قَيصَر على العِمْلَة تذكر اليهود بخضوعهم لروما. وكان الغيورون (الثوار اليهود) ينهون أنصارهم عن تأديتها، كما جاء في كتب يوسيفوس عن غيوري يهوذا الجليلي أنهم لم يقبلوا أن يدفعوا الجِزْيَة للرومان، ولا يتحمّلون أسيادًا بجانب الله.
وحثَّ بولس الرَّسُول المؤمنين على دفع الضَّرائِب (رومة 13 :7). ويقول يوسيفوس المؤرِّخ أنه بعد خراب أورشليم، ألزم الإمبراطور فاسبسيان جميع اليهود في أنحاء الإمبراطورية أن يدفعوا لهيكل جوبيتر في روما، الدِّرهمين اللذين كانوا يدفعونهما سابقاً للهيكل. في هذه النصوص كما عند كتابات يوسيفوس (الحرب 12 :158) دلّت φόρος (الجِزْيَة) على ضريبة تُدفع للإمبراطور، فتميّزت عن سائر الضَّرائِب مثل "تالوس" التي قد تفرضها سلطات البلد، أو يفرضها البلد المحتلّ. أمَّا في المفهوم الإسلامي فالجِزْيَة تختلف معناها كليًا هي ما يعطيه أهل الذمة من المال (التّوبة 9، 29)، وهي فعل من الجزاء كأنَّها جزت عن قتله.
2) ما هو موقف يسوع من دفع الجِزْيَة؟
أثناء وجوده في اليوم الثاني في أورشليم (لوقا 21: 18) دخل يسوع ساحات الهيكل واخذ يجيب على سؤال الفرِّيسِيِّين والهيرودُسِيِّينَ "َيحِلُّ دَفعُ الجِزْيَة إلى قَيصَر أَم لا؟" قائلا ((أَدُّوا إِذاً لِقَيصَر ما لِقَيصر، وللهِ ما لله)). يُمكن أن نميِّز جواب يسوع لدفع الجِزْيَة على ثلاثة أصعدة: اللاهوتية والأخلاقية والسِّياسِيَّة.
(ا) على الصَّعيد اللاهوتي:
اظهر لنا يسوع من خلال مبدئه " أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله" (متى 22: 21) أن لنا انتماء ثنائي: الله والدولة. إن الإشارة إلى صورة قَيصَر المحفورة على العِمْلَة، تقول إنه من العدل أن نشعر بأنّنا مواطني الدولة، ولنا الحقوق والواجبات، لكنّها رمزيًّا تجعلنا نفكّر في الصُّورَةُ الأخرى المحفورة في كلّ إنسان: صورة الله. هو رَبّ كلّ شيء، ونحن، الذين خُلِقنا "على صورته"، إننا ننتمي إليه تعالى. ويُعلق البابا فرنسيس " لمن أنتمي أنا؟ للعائلة، للمدينة، للأصدقاء، للعلم، للعمل، للسِّياسة، للدَّولة؟ أجل، بالطبع. لكن قبل كلّ شيء، يذكّرنا يسوع أنت تنتمي لله. هذا هو الانتماء الأساسي. هو الذي أعطاك كلّ ما أنت عليه وكلّ ما لك" (عظة الأحد 22/10/2017).
انتماؤنا للدولة يقتضي منا دفع الأموال للخدمات التي نتمتع بها، وانتماؤنا لله يقتضي منا أن نقدِّم لله ولاء نفوسنا وطاعتها. فيسوع لا يُقارن هنا بين مملكتين متوازيتين، بل يفصل بينهما. فصل يسوع الدّين عن السِّياسة، فالسِّياسة مصالح، والدّين مبادئ وتقوى وأخلاق. فالمؤمن الذي يُعطي لله ما لله يضع الله في المقام الأول اللائق به. الله الذي لا يُقارن بأحد، ولا بأيِّ شيء آخر، لأنَّه فوق الجميع وفوق كل شيء. وكل الخليقة يجب أن تؤدِّي لله ما هو لله أولاً، وكل شيءٍ آخر يتبع.
يطالبنا سيدنا يسوع المسيح "اطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 66)؛ ويُشدِّد على ذلك بطرس الرَّسُول "اِتَّقوا الله، أَكرِموا المَلِك" (1 بطرس 2: 17)، وهكذا يطلب بولس الرَّسُول من أتباعه أن يصلوا لأصحاب السُّلطة "فأَسأَلُ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ أَن يُقامَ الدُّعاءُ والصَّلاةُ والاِبتِهالُ والشُّكرُ مِن أَجْلِ جَميعِ النَّاس ومِن أَجْلِ المُلوكِ وسائِرِ ذَوي السُّلطة، لِنَحْيا حَياةً سالِمةً مُطمَئِنَّة بِكُلِّ تَقْوى ورَصانة" (1 طيموتاوس 2: 1-2).
راح جواب يسوعُ إلى أبعدِ من ذلك، "أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله" (متى 22: 21) مُشيرًا إلى ما هو محور الموضوع وجوهره: "أعطوا لله ما هو أصلاً له"، فكما أن القطعة النَّقدية الرُّومَانية تحملُ صورة القَيصَر، هكذا يحملُ قلب كل كائن بشري صورة الله، لقد خلقنا الله على صورتهِ كمثاله، إذا نحنُ له، وإليه يجبُ أن نعود، وبالتالي فنحن له، وله وحد ندين بوجودنا. فهو وحده يستحق جِزْيَة ذاتنا الكاملة، يستحق منَّا الشُّكر والحمد والتَّسبيح والسُّجود والعِبادة. أن ندفع الجِزْيَة للقَيصَر هو أمرٌ مهم، ولكن الأهم هو أن نُعطي الله حياتنا وقلبنا كأبنائه الأحرار. ليست هنا ثنائيّة بين عطاء قَيصَر حقّه وعطاء الله حقّه، فإن كليهما ينبعان عن قلبٍ واحدٍ يؤمن بالشهادة لله خلال الأمانة في التزامه نحو الله والآخرين.
ولكنّه يذكّر بشكل خاص أنَّ كل شخص يحمل في داخله صورة أخرى، صورة الله، وبالتالي فهو له، وله وحده، يدين كل شخص بوجوده. إن نشر الرومان للقطع النَّقدية التي تحمل صورة قَيصَر في الأراضي الخاضعة للإمبراطورية لم تكن طريقة لممارسة السِّيادة فحسب، بل أيضًا لتعزيز عبادة الإمبراطور، إذ كان القيصر يُعتبر في منزلة إله لدى الرومانيّين. لكن مبدأ المسيح أشار أنَّ عبارة " أَدُّوا إِذاً لِقَيصَر ما لِقَيصر، وللهِ ما لله" هو اعتراف بسلطة قَيصَر على الأشياء، وسلطة الله على الحياة، والسُّلطة على الحياة لا يملكها أي شخص سوى مَن يمنحه إيَّاها. ومن هذا المنطلق، يعترف يسوع أيضًا أنَّ الواجبات تِجاه الله هي غير الواجبات تِجاه القَيصَر. مطلوب في الدرجة الأولى الاعتراف بسيادة الله وابنه يسوع المسيح على العَالَم وعلى التاريخ، إذ "صارَ مُلكُ العَالَمينَ لِرَبِّنا ولِمَسيحِه. فسَيَملِكُ أَبَدَ الدُّهور " (رؤيا 11: 15)؛ ويشير أيضًا إلى الاعتراف بانَّه لا يجوز للإنسان أن يُخضع حريته الشَّخصية، إخضاعا مطلقا، لأي سلطان ارضي، بل للآب وحده، وللرَّبِّ يسوع المسيح "الله أَحَقُّ بِالطَّاعَةِ مِنَ النَّاس" (أعْمَال الرسل 5: 29). والكنيسة "تؤمن أنَّ مفتاح تاريخ البشر، ومركزه، وغايته هي في ربِّها ومُعَلِّمها "(التعليم المسيحي الكاثوليكي، 450)، وليس في "قَيصَر"، فقَيصَر ليس "الرَّبّ".
حقُّ الله فوق كل حق. والطاعة لله لها طابع مُطلق ونهائي. فاذا كانت الواجبات تِجاه البشر لا تعارض واجباتنا تِجاه الله، فهذا يعني أننا ينبغي أن نقوم بها، كما جاء في تعليم بولس الرَّسُول " لِيَخضَعْ كُلُّ امرِئٍ لِلسُّلُطاتِ الَّتي بأَيدِيها الأَمْر، فلا سُلْطَةَ إِلاَّ مِن عِندِ اللّه، والسُّلُطاتُ القائِمة هو الَّذي أَقامَها"(رومة 13: 1). لذلك يتوجب علينا أن نعطي للحُكام المَدنيِّين كل ما هو واجب لهم، طالما أن ذلك لا يتنافى مع واجبات تِجاه الله. فكما يطلب قَيصَر صورته على عملته هكذا يطلب المسيح صورته فينا. نحن نحمل صورة الله. هل نعطي لله كل ما هو له؟
(ب) على الصَّعيد الأخلاقي:
يقتضي مبدأ المسيح "أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله" (متى 22: 21) وجهًا أخلاقيًا، للموقف المسيحي تِجاه الحكومة. وجواب يسوع له الأثر العميق على مجرى الفكر المسيحي في المشاكل الأدبية للموقف المسيحي حيال الحكومة؛ فواجبنا نحو الله لا يتعارض مع واجبنا نحو الحكومة، فنحن مدينون لكليهما.
يطالب يسوع المسيحيِّين أن يؤدوّا واجباتهم تِجاه السُّلطة السِّياسِيَّة، وأن لا يقلبوا النِّظام الذي أساسه العَدل، ولا يُعطلوا القَوانين التي تعمل من أجل الخير العام، بل أن يُميّزوا ما هو لله وما هو لقَيصَر، دون أن يقاوم الواحد الآخر، وان يتعاونوا بإخلاص، من أجل صالح الدولة والخير العام، لكن الأولويّة هي دائمًا لله. ويُعلق البابا فرنسيس "المسيحي هو مدعوّ إلى الالتزام في الواقع الأرضي، إنَّمَا ملقيًا عليه النور الآتي من الله. إن تسليم الذَّات بالأولويَّة لله والرَّجاء به لا ينطويان على الهروب من الواقع، إنَّما الجهد في إعادة ما هو لله، لله. ينظر المؤمن إلى واقع الله، كي يحيا الحياة الأرضية بملئها، ويواجه تحدّياتها بكلّ شجاعة" (عظة الأحد 22/10/2017). أن تُعطي لله لا يعني فقط أن نصلّي ونَصوم ونلتزم بوصايا الكنيسة، إنّما أن نساهم في بناء ملكوتهِ وأن نعمل من أجل مجيء عالمٍ أفضل، يُمكن للأطفال أن يكبروا فيه بسلام وأن يموت كبار السنّ بكرامة ويعيش الفقراء بكرامتهم، وهذا أفضل سبيل لأن نؤدّي لله ولقيصر، ما يتوجّب علينا لكلٍّ منهما.
يمكننا أن نكون مسيحيِّين حقيقييِّن ومواطنين موالين في الوقت نفسه. فالمسيحي يعيش كمواطن صالح في بلده ويحترم قوانينها، يقوم بواجباته، ويُساهم في الجمعيات ويشارك في الحياة السِّياسِيَّة. وكذلك الالتزام بقوانين الدولة العادلة. وهذا ما جعل اتباع يسوع يتبعون هذه الوصية. فقال القديس بطرس: "إتَّقوا الله، أَكرِموا المَلِك" (1 بطرس 2: 17)؛ أمَّا القديس بولس فقال: "أَدُّوا لِكُلٍّ حَقَّه: الضَّرِيبة لِمَن لَه الضَّرِيبة، والخَراجَ لِمَن لَه الخَراج، والمَهابةَ لِمَن لَه المَهابَة، والإِكرامَ لِمَن لَه الإِكرام" (رومة 13: 7). فالمسيحيون يتوجب عليهم أن يكونوا دومًا أمناء تِجاه الله، كما هم أمناء تِجاه السلطات المَدنيَّة. وبهذا المعنى قال بولس الرَّسُول " يَخضَعْ كُلُّ امرِئٍ لِلسُّلُطاتِ الَّتي بأَيدِيها الأَمْر، فلا سُلْطَةَ إِلاَّ مِن عِندِ اللّه، والسُّلُطاتُ القائِمة هو الَّذي أَقامَها" (رومة 13: 1). لذلك يحضُّ بولس المسيحِّيين على دفع الضَّرائِب، لأنَّ السُّلطات خدّام لله. يجب أن نطيع السُّلطة السِّياسِيَّة وندفع الضَّرائِب، لأن السُّلطة " في خِدمَةِ اللّهِ في سَبيلِ خَيرِكَ" يقول بولس الرَّسُول (روم 13: 4 أ). هذه هي تعليمات الكتاب المقدس على الأنسان المسيحي أن يلتزم بها.
يستطيع الإنسان أن يوفّق بين التزامه الدِّينيّ والمَـدنيّ، خاصةً إذا كانت قرارات الدولة لا تتنافى مع النِّظام الأدبيّ الذي أراده الله. لكن على المواطن انطلاقًا من واجب ضميره بأن لا يخضع لأوامر السُّلطات المَدنيَّة عندما تفرض ما يتعارض ومقتضيات النِّظام الخلقي، والحقوق الأساسية للأشخاص وتعاليم الإنجيل والضمير المستقيم والكرامة الإنسانية. وهذا الرفض يجد تبريره في التمييز بين خدمة الله وخدمة الجماعة السِّياسِيَّة " أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصَر، وللهِ ما لله"، وهذا كان رد فعل بطرس والرُّسل أمام مجلس اليهود "الله أَحَقُّ بِالطَّاعَةِ مِنَ النَّاس" (أعْمَال الرسل 5: 29).
نستنتج مما سبق انه للمؤمنين التزامات قانونية تِجاه كل من الله والحُكومة. لكن المهم أن نحفظ أولوياتنا سليمة، فعندما يتصارع الواجبان، فدائما ما يأتي واجبنا نحو الله أولا. "ويحق للمسيحيين أن يدافعوا عن حقوقهم وحقوق مواطنيهم، ويقاوموا تجاوزات هذه السُّلطة، على أن يراعوا الحدود التي رسمتها الشَّريعَة الطبيعية والشَّريعَة الإنجيلية" (وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني، ك ع 74).
(ج) على الصَّعيد السِّيَاسِي
لم يقسم يسوع من خلال المبدأ "أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله" (متى 22: 21) مجالات العمل بين الله وقَيصَر، بين السِّياسة والدِّين. أن الواجبات للدولة مقدسة وضمن الواجب الدِّيني. فحين نُعطي ما لنا لله فإننا نعطيه كل شيء، نسلمه حياتنا كلها مع التزاماتنا الشَّخصية والسِّياسِيَّة أيضًا. ضمن ما نعطيه لله هناك التزاماتنا الدِّينية تِجاه قَيصَر، تِجاه المَسؤولين عن حياة الجماعة والدَّولة ومؤسَّساتها.
يدفعنا كلام يسوع إلى خدمة قَيصَر حين يكون قَيصَر في خدمة شعبه يؤمِّن له المساعدة؛ ويدفعنا إلى معارضته حين يقود إلى شقاء شعبه، ولا سيما الضُّعفاء والفقراء أو الابتعاد عن عبادة الله الحق، كما حدث مع رجال الله مثل دانيال شَدرَكَ وميشَكَ وعَبدَ نَجو الذين كانوا خاضعين لنَبوكد نصَّر ما عدا ما يخالف وصايا الرَّبّ (دانيال 2: 49). فيتوجب على المسيحيين أن يقوموا بدورهم في حياة الجماعة السِّياسِيَّة، كما أكدت تعليم الكنيسة. (التعليم المسيحي الكاثوليكي، 2231). فهناك احترام الكنيسة لقَيصَر، فلا تتدخل في السِّياسة بل تعطيه حقّه في تدبير أموره، لكن ليس على حساب حقِّ الله وشهادتها له.
يُرشدنا النص الإنجيلي (متى 22: 15 -21) أولا إلى التعامل مع السِّياسة. والسياسة" ليست سوى فنّ العمل من أجل الصالح العام للشعب. وفي هذا النص نجد أولا فضائل يسوع المطلوبة للتعامل في السِّياسة وقد أقرّها خصومه" يا مُعَلِّم، نَحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ صادق، تُعَلِّمُ سَبيلَ اللهِ بِالحَقّ، ولا تُبالي بِأَحَد، لأَنَّكَ لا تُراعي مَقامَ النَّاس" (متى 22: 16). إنه رجل نزيه لا يُشْتَرى، ولا يتورط في غش أو خداع أو تحكيم، ولا يتذلل أمام قوى العصر الغاشمة، إنه رجل سديد الرأي. وهذه الصفات النادرة تؤهل الإنسان ليمارس السِّياسة ممارسة مسيحيَّة.
ثانيًا، قبل الخوض في قرارات سياسيَّة يتوجب على الإنسان أن يدرس السؤال ويدقّق فيه، وأن يفكر فيه ويُحلِّله، وواجبه أيضا أن يتفحص الأمر قبل أن يصدر حكمه، وألاّ يتصرّف على هواه لكيلا يقع في فخ السِّياسة. لذلك قال يسوع للفِرِّيسيُّينَ والهيرودُسِيِّينَ "أَروني نَقْدَ الجِزْيَة. فَأَتَوهُ بِدينار" (متى 22: 19)؛ ومن هنا يتوجب علينا أن نطرح الأسئلة أيضا على الآخرين وان نتباحث ونتدارس الأمر معاً، كما فعل يسوع "فقالَ لَهم: لِمَنِ الصُّورَةُ هذه والكِتابة؟ (متى 22: 20).
ثالثًا، يُدلى الإنسان برأيه صريحًا أنَّ في العَالَم سلطة مدنية "أَدُّوا إِذاً لِقَيصَر ما لِقَيصر، وللهِ ما لله". فجاءت عبارته حكمة على كل لسان كدستور يقضي بالتعايش بين السلطتين الدِّينية والمَدنيَّة. ويسوع يريدنا أن نؤدِّي لكلِّ صاحب صورة عندنا حقه، فصورة القَيصَر قد صُكت عندنا على النقود، فله الجِزْيَة نقودًا، وأمَّا صورة الله قد صُكت عندنا على القلوب، فله الجِزْيَة عبادة وسجودًا. يعلق القديس أوغسطينوس "كما يطلب قَيصَر صورته على العِمْلَة هكذا يطلب الله صورته فينا".
يقتضي انتماؤنا للدولة دفع الأموال للخدمات التي نتمتع بها والمشاركة في المسؤوليَّة في الخير العام بما فيه المشاريع الاجتماعية العامة الضُّرورية، كجلب المَّاء والكهرباء والبريد وفتح الشَّوارع لفائدة الجميع، كما ولا ننسى دفع معاشات موظّفيِّ الحكومة الّذين يخدمون الشَّعب. وماذا نقول عن بناء المدارس ورياض الطفال والمستشفيات وملاجئ العجزة والبُنى التحتيّة والدفاع عن البلد. وقد أوضّح ذلك القديس بولس الرَّسُول "أَدُّوا لِكُلٍّ حَقَّه: الضَّرِيبة لِمَن لَه الضَّرِيبة، والخَراجَ لِمَن لَه الخَراج، والمَهابةَ لِمَن لَه المَهابَة، والإِكرامَ لِمَن لَه الإِكرام. (رومة 13: 7).
العجيب أننا نريد أن تُؤمِّن لنا الدولة كل أنواع الخدمات مثل المياه والكهرباء والمجاري والطرق والمدارس والمواصلات والشُّرطة لحمايتنا، ولكنّنا لا نريد أن نعطي الدولة حقها حتى تستطيع أن تؤدي تلك الخدمات. فواجب المسيحيين كمواطنين هو أن يساهموا مع السُّلطات المَدنيَّة لخير المجتمع بروح الحق والعدالة والتضامن والحرِّية. وتعلّم الكنيسة أن الانتماء الاجتماعي للإنسان هو من حُكْم طبيعته نفسها، وطليعة هذا الانتماء هي العائلة والجَّماعة القريبة، ثم المدينة والوطن. فالوطن يضمن حرّية النَّاس لا يسلبها.
المواطن الحقيقي هو ذاك الشَّخص الأمين لمسؤوليته الدِّينية والمَدنيَّة، والمُلتزم بكل الواجبات الوطنية، لا يهرب من عمل صالح، ولا من خدمة الآخرين، ولا من مسئوليات وظيفته، ولا من واجبه الوطني المدني والعسكري، ولا من إدَّاء الضَّرائِب، ولا من دوره في بناء المجتمع من خلال الأحزاب والنقابات والجمعيات واتحادات الطلاب وكافة مؤسَّسات المجتمع المدني. فواجبه نحو الله لا يتعارض مع واجبه نحو الحكومة، فهو مديون لكليهما. فحقوق الله وحقوق الدولة لا ينفي الواحد منهما الآخر (رومة 13: 1-7)، لذلك يُكرر البابا والأساقفة القول "لا يحق لأي مسيحي أن يظل خارج الطوق، وبعيداً عن هذا الإطار".
3) كيف يمكننا أن نعيش واجباتنا السِّياسِيَّة؟
يفصل يسوع بين الدين والدولة، معتبراً أن لكل منهما وجهاً ودوراً يلتقيان في خدمة الإنسان. إن انتظام الإنسان في دولة ما هو لحمايته وتأمين سلامته وإعطائه صفة المواطن الذي يتنازل عن حقه بالحكم لصالح الجماعة الكبيرة التي تتعهده، ضمن إطار الحقوق الإنسانية المشروعة والواجبات العادلة. لكن السُّؤال الصعب الذي أمامنا اليوم: هل ندفع الضَّرائِب للدولة الحاكمة أم لا؟ خاصة في الحالات الصَّعبة، أي في حالة كانت الدولة معادية للإنجيل، أو كانت دولة محتلة أو دولة ظالمة؟
أن الواجبات تجاه الدولة هي مقدسة وضمن الواجب الدِّيني. فدفع الضرائب لقيصر ليس فقط مشروعًا، لكنّهُ أيضاَ واجِب، إنهُ واجبٌ مدنيّ أيضًا. مَن لا يدفع الضرائب المترتّبة عليه هو سارق ويمنع الدولة من رعاية الخير العام ونموّ الشعب. أراد يسوع بعبارة " أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصر" (متى 22: 20) أن يعترف بحقِّ الحكومة القائمة التي تنظِّم حياة المواطنين. إذ كل سلطة هي من الله" يقول بطرس الرَّسُول (2 بطرس 1: 3). ويتوجب علينا أن نطيع القوانين ما دامت هذه القوانين لا تطلب منا ما يخالف إيماننا وضمائرنا وولاءنا الرئيسي للربّ. أنّه في المكان الذي يُحترَم فيه الله، يستطيع الإنسان أن يتنفّس بحريّة وتُصبح الدولة المكان الذي يجد كلُّ واحدٍ فيه مكانهُ.
نعيش واجباتنا السِّياسِيَّة ليس بإقامة مملكة روحيَّة بعيدة عن واقعنا، مملكة مثاليَّة، بعيدًا عن عبء الحياة، لكن بقدر ما نحافظ على كرامتنا وكرامة الإنسان الذي "خلقه اللهُ على صُورَتِه ومثاله (التكوين 1: 26)، ولا نسمح لأي شخص أو شيء، أو قوة تقضي عليها.
نعيش واجباتنا السِّياسِيَّة والمواطنة بالتحلِّي بروح المَسؤوليَّة والالتزام بمبادئ الحرِّية والدِّيمقراطية والعدالة الاجتماعية والتَّحرر من التَّعصب والتَّحيِّز، وباهتمامنا بالخير العام، وباحترامنا القوانين والنِّظام العام والانتماء والعطاء وحب الوطن والتَّضحية من أجله والدِّفاع عنه.
نعيش واجباتنا السِّياسِيَّة بدفع "الضَّرِيبة" حيث نكون مُساهمين في تمويل خزينة الدولة التي تعود وتوزِّع المداخيل على شكل معونات اجتماعية ضمن إطار السِّياسات الاجتماعية من صحة وتعليم وسكن لائق وغيرها الهادفة إلى رُقي المُواطن وصولاً إلى مجتمع الرفاه. لذلك إنّ دفْعَ الضَّرائِب لقيصر ليس فقط مشروعًا، لكنّهُ أيضًا واجِبٌ، إنهُ واجبٌ مدنيّ. مَن لا يدفع الضَّرائِب المُترتّبة عليه هو سارق ويمنع الدولة من رعاية الخير العام ونمو الشَّعب.
نعيش واجباتنا السِّياسِيَّة والمواطنة بالعمل على حماية الحياة والدِّفاع عنها، واحترام حقوق الإنسان والتَّسامح وقبول الآخر وحرِّية التَّعبير وبالحرص على الممتلكات العامة من طُرقات ومبانٍ ووسائل نقل وسلامة البيئة.
نعيش واجباتنا السِّياسِيَّة عندما نتخلى عن مواقفنا السَّلبية ونشارك بفاعليةٍ بتطوير بلدتنا ووطننا، ونقدم الأفكار والاقتراحات بحس نقدي بنَّاء، وننخرط في النسيج الاجتماعي من خلال الجماعات والمؤسَّسات التَّطوعية التي تربط المُواطنين بحياة مجتمعاتهم.
نعيش واجباتنا السِّياسِيَّة عندما نتطوعُ لخدمةِ المجالات الصِّحيَّة والاجتماعيَّة والمَدنيَّة، وعندما نتقنُ عملنا ونساهم في خلق مجتمع أفضل. ونقوم بكل عملٍ بكفاءةٍ ومحبَّة، لأننا هكذا نخدمُ الله من خلال خدمتنا للأخرين ومساهمتنا حتى نجعل الدولة والمجتمع في خدمة الإنسان، فيستجيبان لمشروع الله على البشرية.
التزام المسيحي بالطَّاعة لقَيصَر أو للرُّؤساء وتقديم حقوق الوطن بما عليه من ضرائب والتزامات أخرى أدبيّة وماديّة فيها شهادة حق لحساب الله نفسه. إذن ليست هنا ثنائيّة بين عطاء قَيصَر حقّه وعطاء الله حقّه، فإن كليهما ينبعان عن قلبٍ واحدٍ يؤمن بالشهادة لله خلال الأمانة في التزامه نحو المُواطنين الآخرين ونحو الله.
الخلاصة
دخل يسوع الهيكل في اورشليم (متى21: 18)، وهناك جرت خمس مجادلات مع الفِرِّيسِيِّين والصَّدوقيِّين فالمجادلة الأولى كانت حول موضوع سُلطته، من أين هي، من الله أم من النَّاس؟ لم يجب يسوع مباشرةً عن هذا السؤال إنما أعطى ثلاثة أمثال (الابنين، الكرّامين القتلة، ووليمة الملك) مُبيّنًا أن سلطته من الله. أمّا مواضيع المجادلات الأربع الأخرى فهي: مجادلة مع الفرِّيسِيِّين والهيرودسيِّين حول أداء الجِزْيَة لقَيصَر (متى 22: 15-22)، ومجادلة مع الصدوقيين حول قيامة الأموات (متى 22: 23-33) ومجادلة مع مُعَلِّم الشَّريعَة حول أكبر الوصايا (متى 22: 34-40) وفي النهاية مجادلة مع الفرِّيسِيِّين حول وكيف يمكن للمسيح أن يكون ابن داود وربّه في الوقت نفسه (متى 22: 41-46).
ويوضِّح متّى الإنجيلي في المجادلة الثانية غاية انعقاد مجلس شورى الفرِّيسِيِّين وهو: «كي يصطادوه بكلمة» (متى22: 15). هنا يسوع يناضل مع رياء أعدائه. فهم يثنون عليه كثيرًا ثم يطرحون عليه سؤالاً ماكرًا ليضعوه في مأزق ويشوِّهون مصداقيته أمام الشعب. ستغل يسوع هذه الفرصة لكي يعلمهم مبدأ "أَدُّوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ إلى قَيْصَرَ ومَا للهِ إلى الله". والمراد في هذا المبدأ هو واجب الإنسان أن يكون بكلّيته لله الذي خلقه وخلّصه، والإنسان هو خاصته. أمّا بالنسبة إلى قيصر، فالمعلوم أنّه سلطة زائلة وليست دائمة، وواجبنا التزام قراراتها ما دامت لا تتعارض مع المبادئ الخلقيّة وحقوق الإنسان وكرامته وحريته الدِّينية.
يوضِّح يسوع أنّ هناك نوعين من السُّلطة: أحدهما أرضي وإنساني والآخر سَماويّ وإلهي. ونحن مُلزَمون بطاعة ثنائية: طاعة شريعة البشر وطاعة شريعة السَماء. علينا أن ندفع لقَيصَر النقود التي تحمل صورته وكتابته، وأن نُعيد إلى الله كلّ ما يحمل صورته ومثاله فينا " لقد خُلِقنا على صورة الله كَمِثالِه (تكوين1: 26). إنّنا نحمل صورة وكتابة الله، الملك السَّماوي. كما يترنَّم صاحب المزامير "إنّ "نور وجهك، يا ربّ" قد ترك خَتمَكَ علينا (مزمور4: 7).
ويطالب مبدأ سيدنا يسوع المسيح أن نؤدّي لكلّ واحدٍ ما يخصُّه. إن كنّا نريد أن نكون حقًّا صورة لله، علينا أن نتشبّه بالمسيح لأنّه يُمثّلُ صورة الله "وهو صُورةُ جَوهَرِه" (عبرانيين 1: 3). والله "قَضى بأَن يَكونوا على مِثالِ صُورَةِ ابنِه" (روم 8: 29). فلِمَ لا نؤدّي إذًا لله ما هو له وما لقَيصَر ما هو لقَيصَر؟".
دعاء
أيها الآب السَّماوي، نطلب إليك أن تمنحنا النِّعمة بان نعرف كلمة ابنك يسوع " أَدُّوا إِذاً لِقَيصَرَ ما لِقَيصَر، وللهِ ما لله فنؤدي كل واجباتنا، ونمارس أدوارنا في خدمة الله والوطن على أكمل وجه، فنحب الجميع، ولا نحصر أنفسنا في مجال جماعة معينة، بل نوسع أفقنا إلى الوطن الواسع، بل إلى البشرية جمعاء! ونهرب من جميع أشكال الرياء فنكن حقًا مواطنين صادقين وبناءين في الأرض وأعضاء في ملكوت السماوات. آمين