موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

الأحد الخامِس من زمن الفصح الْمجيد – ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
طُوبَى لِمَنْ أَنتَجَ وأَثمَر، وويلًا لِمَنْ أَجدَبَ وأَعقَر

طُوبَى لِمَنْ أَنتَجَ وأَثمَر، وويلًا لِمَنْ أَجدَبَ وأَعقَر

 

﴿هَا هيَ ذي الفَأسُ عَلَى أُصولِ الشَّجَر﴾ (متّى 10:3)

 

أَيُّهَا الإخوَةُ والأَخَواتُ الأحِبَّةُ جَميعًا في الْمَسيحِ يَسوع. لَطَالَمَا لَعِبَتْ الكَرمَةُ والكَرْم، دَورًا أَسَاسِيًّا في تَعَاليمِ السَّيدِ الْمَسيح. فَفِي الفَصلِ العَشرين مِنْ بِشَارةِ القِدّيسِ مَتّى، يَضرِبُ يَسوعُ مَثلَ "العَمَلَةِ في الكَرم"، مُدَلِّلًا عَلَى أَنَّ خَلاصَ اللهِ هوَ خَلاصٌ لِكُلِّ إنْسَان، مَتَى مَا قَرَّر قُبُولَ هَذَا الخَلاص. وفي الفَصلِ الحَادي والعَشرين يَضَربُ مَثلَ الابْنَين الَّلذينِ طَلَبَ مَنهُمَا أَباهُمَا أنْ يَذهَبَا "للعَمَلِ في الكَرم"، مُشيرًا إلى أنَّ تَجاوُبَ البَشَرِ مَع دَعوَةِ اللهِ والعَمَلِ بِمَشيئَتِه، يَتَبَايَنُ بَينَ عَاصٍ مُتَمَرِّدٍ وبَينَ طَائِعٍ مُسْتَجِيب. ثُمَّ يَضرِبُ مُبَاشَرةٍ "مَثَلَ الكرَّامِينَ القَتَلة"، أُولَئِكَ الّذينَ يَعيثُونَ في الكَرمِ فَسَادًا، يُحارِبونَ النِّعمَةَ والخَلاص، وهُم زُّؤانٌ خَبيثٌ نَمَى وَسَطَ القَمحِ الطّيب!

 

وَحِينَ أَرَادَ الرّبُّ يسوع أنْ يمكُثَ مَعَنَا طوالَ الأيّامِ، مُكُوثًا جَوهَريًّا وحَقِيقيًّا، جَعَلَ مِنْ عَصيرِ "الكَرمَة" إلى جَانِبِ القَمح، وَسِيلَةً لِحُضورهِ العَجِيبِ في سِرِّ القُربَانِ الأقدَس. أَمَّا في إنجيلِ هَذَا الأحَدِ الخامِسِ مِنْ زَمَنِ الفَصحِ الْمَجيد، مِنَ الفَصلِ الخَامسِ عَشَر مِنْ بِشَارةِ القِدّيسِ يُوحَنّا، يَضرِبُ لَنَا السّيدُ الْمَسيحُ مَثلَ "الكَرمَةِ والأغصَان"، واصِفًا تِلكَ العَلاقَةَ الوُجُوديَّةَ الّتي تَجمَعُنَا نحنُ الأغصانَ مَعِ الْمَسيحِ كَرمَتِنَا!

 

فَعَلاقَتُنَا بالْمَسيحِ يا أَحِبَّة هيَ عَلاقَةُ الْمَصدَرِ والصَّادِرِ عَنه، عَلاقَةُ النَّبعِ والجَدولِ الخَارِجِ مِنه، عَلاقَةُ الكَرمَةِ الّتي تَهَبُ أَغصَانَهَا الوُجودَ والحَياةَ، وتَمنَحُنَا القُدرَةَ عَلَى الإتيَانِ بِكُلِّ ثَمرٍ طَيّبٍ ومُستَحَب، دَلالَةً عَلَى مَتَانَةِ تَأصُّلِنَا وصِدقِ انْتِمَائِنَا لِلْمَسيحِ الكَرمَة. إذْ لا ثَمَرٌ طَيّبٌ يَستطيعُ الْمُؤمِنُ الحَقيقيُّ أنْ يَأتِيه، دُونَ أن يَكونَ ثَابِتًا ثُبُوتًا راسِخًا بالْمَسيحِ، لِأنَّهُ: ﴿كَمَا أَنَّ الغُصنَ إِنْ لم يَثْبُتْ في الكَرمَةِ، لا يَستَطيعُ أَن يُثمِرَ مِن نَفْسِه، فَكَذلِكَ لا تَستَطيعونَ أَنتُم أَن تُثمِروا، إِن لم تَثبُتوا فيَّ﴾ (يو 4:15).

 

قُلنَا أنَّ مَثَلَ "الكَرمَةِ والأغصَان"، يَصِفُ العَلاقَةَ الوُجُوديَّةَ الّتي تَجمَعُنَا بالْمَسيحِ الرَّبّ. فَمِنْ خِلالِ هَذهِ الصّورَةِ التَّشبِيهِيَّة، يُؤكِّدُ السَّيدُ الْمَسيح عَلَى الحَقيقةِ الْمُطلَقة، بِأنَّ اللهَ هوَ خَالِقُ كُلِّ شَيء، الّذي أَخرَجَ كُلَّ شَيءٍ مِنَ العَدمِ والغِيابِ إلى الوُجُودِ والصَّيرورَة. وبِدونِ كَلِمَتِهِ الخَالِق، مَا كَانَ لِيَكُنْ شَيءٌ مِمّا كَانَ ويَكونُ وسَيَكُون. وهو الأمرُ الّذي عَبّرَ عَنهُ القِدّيسُ يُوحَنَّا في مُستَهَلِّ بِشَارتِه، قَائِلا: ﴿بِهِ كَانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان﴾ (يو 3:1). وأَكَّدَ عَلَيهِ الرَّسولُ بُولسُ في الرِّسالَةِ إلى أَهلِ قُولِسِّي، قَائِلًا: ﴿فيهِ خُلِقَ كُلُّ شيَءٍ، مِمَّا في السَّمَواتِ ومِمَّا في الأَرْض. وبِه قِوامُ كُلِّ شيَء﴾ (قو 15:1-17).

 

هَذهِ العَلاقَةُ الوُجوديّةُ لَيسَت عَلاقَةَ عَائِلٍ ومُعيِل، ولا هيَ عَلاقَةُ أَجسَامٍ طُفَيلِيَّةٍ تَقتَاتُ عَلَى غَيرِها! إِنّمَا هيَ عَلاقَةُ مَصدَرٍ، وصَادِرٍ عَنه، وثَمرٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الصُّدُور. وكَمَا أَنَّهُ لا: ﴿يُجنَّى مِنَ الشَّوْكِ عِنَبٌ، أَو مِنَ العُلَّيْقِ تَين﴾ (متّى 16:7)، بَلَ: ﴿كُلُّ شَجَرةٍ طَيِّبَةٍ تُثمِرُ ثِمارًا طَيِّبَة﴾ (متّى 17:7)، هَكَذا يَنتَظرُ الْمَسيحُ مَصدرُنَا، أَنْ نُثمِرَ ثمارَ الخَيرِ والنِّعمَةِ والصَّلاح.

 

والْمَسيحُ الّذي يَعمَلُ فينَا عَملَ الكَّرامِ في كَرْمِه، يَعلَمُ بِضُعفِنَا وبِطَبيعَتِنَا الْمَجروحَةِ بالخَطيئَة. ومَع ذلِكَ هو يُحبِّنَا ويُريدُنَا أَنْ نَبْقَى ثَابِتينَ فِيه. ولِذَلِكَ أيضًا نَرَاهُ "كالأَغصَانِ يُقَضِّبُنا"، لِيُزيلَ مَا فَسَدَ فِينَا، ويُطهِّرَنا ويُقوّينَا، حتَّى نُثمِرَ ثمارًا ذَاتِ جُودَةٍ أَفضَلَ وأَنْقَى، ثِمارَ بِرٍّ وقَدَاسَةٍ وفَضيلَة. وكَمَا أَنَّ كُلَّ كَرَّامٍ يِجِدُ سُرورَهُ ورِضاهُ بِثِمَارِ كَرمِه، كَذَلِكَ يَجِدُ الْمَسيحُ سُرورَهُ ورِضَاهُ فِينَا، عِندَمَا يَرَى ثِمارَنا النَّافِعَة.

 

فَالْمَسيحُ لَهُ الْمَجدُ رَبٌّ طَيّب، ولكنَّهُ في الوَقتِ عَينِهِ "مُتَطلِّب"، يَنتَظِرُ مِنَّا ثمارًا لا أَقوَال. فَمَا الفَائِدةُ مِنَ الأغصَانِ إنْ كَثُرَتْ أَوراقُهَا وقَلَّت ثِمارُهَا؟! ومَا الفَائِدَةُ مِنْ تَلَبُّدِ الغُيومِ إنْ هَدَرت رُعودُهَا وشُحَّتْ أَمطَارُهَا؟! ومَا الفَائِدةُ مِن كَثرَةِ الْمَسيحيّينَ إنْ سَاءَتْ ثِمارُهُم؟! وهَا هوَ سَابِقُ الرّبِّ، يُوحنَّا الْمَعمدانُ، يُنذِرُنا بِقَولِهِ: ﴿أَثمِروا ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم. هَا هيَ ذي الفَأسُ عَلَى أُصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار﴾ (متّى 8:3-10).

 

فَيَا لبُؤسِ أُولئِكَ الّذينَ سَيَجِدونَ أنفُسَهم عِندَ النِّهَايةِ، قَدْ أنطَبَقَ عَلَيهم قَولُ الرّبِّ عَلَى لِسَانِ نَبيِّهِ أشعيا: ﴿أَيُّ شَيءٍ يُصنَعُ لِلكَرْمِ ولَم أَصنَعْهُ لِكَرْمي؟ فَمَا بالِيَ اِنْتَظَرتُ أَنْ يُثمِرَ عِنبًا، فَأَثمَرَ حِصرِماً بَرِّيًّا؟ فَالآنَ لَأُعلِمَنَّكُمْ مَا أَصنعُ بِكَرْمي. أُزيلُ سِياجَهُ فيَصيرُ مَرعًى، وأَهدِمُ جِدارَه فيَصيرُ مَدَاسًا، وأَجعلْهُ بوراً لا يُقضَبُ، ولا تُقلعُ أَعشَابُه، فيَطلعُ فيهِ الحَسَكُ والشَّوكُ، وأُوصِي الغُيومَ أَلّا تُمطِرَ عليه مَطَرًا﴾ (أش 4:5-7). فَطُوبَى لِمَنْ أَنتَجَ وأَثمَر، وويلًا لِمَنْ أَجدَبَ وأَعقَر!