موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢ يوليو / تموز ٢٠٢٢

إرسالية يسوع التبشيرية الثانية وتوصياته

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الرابع عشر من السنة: إرسالية يسوع التبشيرية الثانية وتوصياته (لوقا 10: 1-20)

الأحد الرابع عشر من السنة: إرسالية يسوع التبشيرية الثانية وتوصياته (لوقا 10: 1-20)

 

النص الإنجيلي (لوقا 10: 1-20)

 

وبَعدَ ذلِكَ، أَقامَ الرَّبُّ اثنَينِ وسبعينَ تِلميذاً آخَرين، وأَرسَلَهمُ اثنَينِ اثنَينِ يتَقَدَّمونَه إِلى كُلِّ مَدينَةٍ أَو مَكانٍ أَوشَكَ هو أَن يَذهَبَ إِلَيه. 2 وقالَ لَهم: ((الحَصادُ كثيرٌ ولكِنَّ العَمَلَةَ قَليلون، فاسأَلوا رَبَّ الحَصَاد أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إِلى حَصادِه. 3 اِذهَبوا! فهاءنَذا أُرسِلُكم كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب. 4 لا تَحمِلوا كِيسَ دَراهِم ولا مِزوَداً ولا حِذاءً ولا تُسَلِّموا في الطَّريقِ على أَحد. 5 وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذا البَيت. 6 فإن كانَ فيهِ ابنُ سَلام، فسَلامُكُم يَحِلُّ بِه، وإِلاَّ عادَ إِلَيكُم. 7 وأَقيموا في ذلكَ البَيتِ تأَكُلونَ وتَشرَبونَ مِمَّا عِندَهم، لِأَنَّ العامِلَ يَستَحِقُّ أُجرَتَه، ولا تَنتَقلوا مِن بَيتٍ إِلى بَيت. 8 وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم وقَبِلوكم، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكم. 9 واشفْوا المَرْضى فيها وقولوا لِلنَّاس: قَدِ اقتَرَبَ مِنكُم مَلَكوتُ الله. 10 وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم ولَم يَقبَلوكم فاخرُجوا إِلى ساحاتِها وقولوا: 11 حتَّى الغُبارُ العالِقُ بِأَقدامِنا مِن مَدينَتِكم نَنفُضُه لَكم. ولكِنِ اعلَموا بِأَنَّ مَلكوتَ اللهِ قدِ اقتَرَب. 12 ((أَقولُ لَكم: إِنَّ سَدومَ سَيَكونُ مصيرُها في ذلكَ اليَومِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِ تِلكَ المَدينَة. 13 الوَيلُ لكِ يا كُورَزِين! الوَيلُ لكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صورَ وصَيدا ما جَرى فيكُما مِنَ المُعجِزات، لَأَظهَرتا التَّوبَةَ مِن زَمَنٍ بَعيد، فلَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد. 14 ولكِنَّ صورَ وصَيدا سَيَكونُ مصيرُهما يومَ الدَّينونةِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مصيرِكما. 15 وأَنتِ يا كَفَرناحوم، أَتُراكِ تُرفَعينَ إِلى السَّماء؟ سَيُهبَطُ بِكِ إلى مَثْوى الأَمْوات. 16 ((مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني)).17 ورَجَعَ التَّلامِذَةُ الاثنانِ والسَّبعونَ وقالوا فَرِحين: ((يا ربّ، حتَّى الشَّياطينُ تَخضَعُ لَنا بِاسمِكَ)). 18 فقالَ لَهم: ((كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق. 19 وها قَد أولَيتُكم سُلطاناً تَدوسونَ بِه الحَيَّاتِ والعَقارِب وكُلَّ قُوَّةٍ لِلعَدُوّ، ولَن يَضُرَّكُم شَيء. 20 ولكِن لا تَفرَحوا بِأَنَّ الأَرواحَ تَخضَعُ لَكُم، بلِ افرَحوا بِأَنَّ أَسماءَكُم مَكْتوبَةٌ في السَّموات)).

 

 

مقدمة

 

بعد الإرساليَّة الأولى الخاصة بالاثني عشر رسولا الموجهة لتبشير اليهود (لوقا 9: 1-6)، يتناول إنجيل اليوم يتناول الإرساليَّة الثانية الخاصة بالتلاميذ الاثنين والسبعين الموجهة لتبشير الأمم (لوقا 10: 1-17). ينفرد لوقا بذكر هذه الإرسالية، لأنه أراد أن يُعلن أن يسوع هو مسيح العالم كله، وليس مسيح اليهود فقط. فرسالة الإنجيل ليست مقصورة على اليهود، إنَّما هي مفتوحة لجميع الشعوب أيضا، وهي صورة مسبقة للمُرسلين في العالم اجمع. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 1-20)

 

1 وبَعدَ ذلِكَ، أَقامَ الرَّبُّ اثنَينِ وسبعينَ تِلميذاً آخَرين، وأَرسَلَهمُ اثنَينِ اثنَينِ يتَقَدَّمونَه إلى كُلِّ مَدينَةٍ أَو مَكانٍ أَوشَكَ هو أَن يَذهَبَ إِلَيه

 

تشير عبارة "بَعدَ ذلِكَ" إلى بعد ترْكِ يسوع الجليل نهائيًا وبعد الإرسالية الأولى للرسل الاثني عشر والحوادث الواردة في الفصل السابق (لوقا 9: 1-50)؛ أمَّا عبارة " أَقامَ الرَّبُّ اثنَينِ وسبعينَ تِلميذاً آخَرين" فتشير إلى تكثير عدد المرسلين من 12 رسولا (لوقا 9: 1) إلى 72 تلميذا لان حقل الرسالة في بيريه. بيريه في الأصل اليوناني πέραν τοῦ Ἰορδάνου (معناها عبر) أي عبر الأردن وعبر بحر طبرية وتشتمل الأرض في بلاد باشان وجلعاد وهي التي كانت لسبط رأوبين وجاد ونصف سبط منسي أي تبشير اليهود والوثنيين الساكنين معا في تلك البلاد من ناحية، ولانّ الوقت الباقي للتبشير قصير من ناحية أخرى.  وهذا العدد من التلاميذ من المرسلين هو رمز إلى رسالة العلمانيين كما يعلق المجمع الفاتيكانيّ الثاني " وُجِدَت الكنيسة لكي يمتدّ ملكوت المسيح على الأرض لمجد الله الآب: إنّها تُشرِكُ جميعَ الناس في ثمار الفداء والخلاص، وبهم يتوجّهُ العالم كلّه نحو الرّب يسوع المسيح. ويُعدُّ عملاً رسوليًّا كلُّ نشاط يقومُ به الجسد السريّ، ويهدفُ إلى هذا الغرض "(قرار في "رسالة العَلمانيين"، العدد 2). أمَّا عبارة "أَقامَ الرَّبُّ" في الأصل اليوناني ἀναδείκνυμι (معناها عيَن) فتشير إلى الرب يسوع الذي يدعو تلاميذه للخدمة كما يؤكده صاحب الرسالة للعبرانيين بقوله: "وما مِن أَحَدٍ يَتَوَلَّى بِنَفْسِه هذا المَقام، بل مَن دَعاهُ اللهُ" (عبرانيين 5: 4)؛ أمَّا عبارة "اثنَينِ وسبعينَ" فتشير إلى عدد لائحة شعوب الأرض كلّها والتي ورد ذكرها في سفر التكوين الفصل العاشر. وهناك مخطوطات، تذكر "سبعين " بحسب النص العبري، وهناك مخطوطات كالسبعينية تذكر اثنَينِ وسبعينَ. لا شك أن القراءتين تدلان على عدد الأمم الوثنية (التكوين 10). ويتبع لوقا النص اليوناني، لكنه يريد هنا أن يرسم صورة مسبقة رمزية لتلك الإرسالية.  وبهذا تشير الإرسالية للكرازة وسط الأمم. ويقابل سبعين تلميذا سبعين شيخًا الذين اِختارهم موسى لساسة بني إسرائيل (عدد 11: 16-25) أو سبعين نخلة في إيليم الجديدة (خروج 15: 27) أو سبعين عضوًا في المجمع اليهودي الأعلى السنهدريم. وأمَّا لوقا الإنجيلي فاقتبس النص اليوناني الذي يضيف اسمين للدلالة على شعوب الأرض المؤلفة من إثنين وسبعين شعباً.  ولا يهمّنا نحن في هذا النّص، الاختلاف بين مخطوطات الكتاب المقدّس، إنما ما يهمُّنا هو معنى العدد، وهو أنَّ الرب اختار هؤلاء التلاميذ لتمثيل شعوب الأرض كلّها، ولحمل بشرى الخلاص إلى الكون بأسره دون تمييز بين يهوديّ أو يونانيّ (وثني)علماً أن الإرسالية إلى الشعوب الوثنية لم تبدأ إلا بعد الفصح والعنصرة كما جاء في وصايا يسوع الأخيرة "تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم" (لوقا 24: 47).   لكن لوقا الإنجيلي أراد أن يرسم صورة مسبقة رمزية لتبشير اليهود والأمم. والتبشير لا يتم بدون اشتراك الآخرين، كما جاء في تعليم بطرس الرسول " أَمَّا أَنتم فإِنَّكم ذُرِّيَّةٌ مُختارة وجَماعةُ المَلِكِ الكَهَنوتِيَّة وأُمَّةٌ مُقَدَّسَة وشَعْبٌ اقتَناه اللهُ للإِشادةِ بِآياتِ الَّذي دَعاكم مِنَ الظُّلُماتِ إِلى نُورِه العَجيب"(1 بطرس 2: 9) وعبّرت صلاة قديمة عن الموقف "يسوع ما له أيدي غير أيدينا، وذلك لتتميم عمله اليوم. لا أقدام له سوى أقدامِنا، لنقود النّاس على طرقِه. لا شفاه له سوى شفاهِنا، لنخبر النّاس عنه. ولا مساعدة سوى مُساعدتِنا، لنقود النّاس إلى جانبه". أمَّا عبارة " أَرسَلَهمُ " فتشير إلى إرسال يسوع المُبشرين بالإنجيل (2 قورنتس 8: 23) لتهيئة الطريق لقبول يسوع والإيمان به كما جاء في تعليم بولس الرسول " كَيفَ يَدْعونَ مَن لم يُؤمِنوا بِه؟ وكَيفَ يُؤمِنونَ بِمَن لم يَسمَعوه؟ وكَيفَ يَسْمَعونَه مِن غَير ِمُبَشِّر؟ 15 وكَيفَ يُبَشِّرونَ إِن لم يُرسَلوا؟"  (رومة 10: 14-15). أمَّا عبارة "اثنَينِ اثنَينِ " فتشير إلى اثنين اثنين لتشديد بعضهم البعض ولإسناد أحدُهما الآخر (مرقس 7:6) كما سبق وأرسل يسوع رسله (لوقا 9: 1-6) وهذا ما ستفعله الكنيسة الأولى (أعمال الرسل 13: 2). وجاء قول صاحب الحكمة " إِثْنانِ خَيرٌ مِن واحِد لأَنَّ لَهما خَيرَ جَزاءً عن تَعَبِهما. إِذا سَقَطَ أحَدُهما أَنهَضَه صاحِبُه والوَيلُ لِمَن هو وَحدَه فسَقَط إذ لَيسَ هُناكَ آخر يُنهِضُه" (جامعة 4: 9-10). يُعلق القديس أوغسطينوس" إن رقم 2 يشير إلى حب لله والناس، وكأن إرساليَّته لم تكن كرازة كلام ووعظ فحسب، إنما أيضا كرازة حب وشركة مع الله والناس"؛ أمَّا عبارة يتَقَدَّمونَه" في الأصل اليوناني  πρὸ προσώπου  (معناها أمام وجهه) فتشير إلى هؤلاء التلاميذ المُمهِّدين الطريق أمام المسيح ولكي يعملوا أمامه، فيكونوا تحت رعايته فيما هم يرعون الآخرين، فيصبحوا مثل يوحنّا المعمدان، صوتاً نبويّاً؛ وتفيد العبارة أيضا معنىً مقدسا لقدوم الرب يسوع المسيح؛ أمَّا عبارة "إلى كُلِّ مَدينَةٍ" فتشير إلى الرسالة الإنجيلية التي هي غير محصورة في شعب معيَّن أو أُمَّة خاصة بل هي مفتوحة لجميع الشعوب. وهنا لم ينهِ المسيح كما نهى الاثني عشر بقوله " لا تَسلُكوا طَريقاً إِلى الوثَنِيِّين" (متى 10: 5) لان اليهود والأمم كانا ساكنيني معا في بيريه. أمَّا عبارة "أَوشَكَ هو أَن يَذهَبَ إِلَيه" فتشير إلى التلاميذ الذين عليهم أن يسبقوا يسوع نفسه ليُعدِّوا الناس لسماع السيد المسيح وقبوله، إذ هو مسيح العالم كله. إن رسالة يسوع غير مقصورة على الاثني عشر لتبشير اليهود، إنما هي صورة مسبقة لرسالة جميع تلاميذ المسيح لدى شعوب الأرض.

 

2 وقالَ لَهم: الحَصادُ كثيرٌ ولكِنَّ العَمَلَةَ قَليلون، فاسأَلوا رَبَّ الحَصَاد أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إلى حَصادِه

 

تشير عبارة "الحَصادُ" إلى استعارة مألوفة لدينونة الله الأخيرة (متى 3: 12) كما وصف أنبياء العهد القديم "الحِصادَ قد بَلغَ وهَلُمُّوا دوسوا فإِنًّ المَعصَرَةَ مَلأَى والدِّنانَ فائِضَة لِأَنَّ شَرَّهم قد كَثُر"(يوئيل 4: 13)، وأشعيا (41: 15) وارميا (51: 33). يرتبط الحصاد بيوم الدينونة وبمجيء الرّب وسط شعبه (أشعيا 63، 1-6)، وجعل يوحنا المعمدان من الحصاد "العمل الأقوى "أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي" (لوقا 3: 16-17)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" لا أرسلكم لتقوموا بالزّرع بل بالحصاد. ومن قوله هذا، يتبيَّن لنا أن الرب أعطاهم الثقة وأظهر لهم أنّ العمل الأهم قد تمّ بالفعل" (العظة 32 حول إنجيل القدّيس متى). أمَّا عبارة "فاسأَلوا رَبَّ الحَصَاد" فتشير إلى اختيار المدعوِّين الذين يأتون بالصلاة أولا، فالصلاة هي خير الوسائل لانتشار إنجيله، لانَّ الرب نفسه هو الذي يُبذر، وهو أيضًا الذي يحصد، فبدونه يحسبون كلا شيء، إذ يقول: " بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً" (يوحنا 15: 5). وتعلق القدّيسة تيريزا الطفل يسوع والوجه الأقدس " أليس الرّب يسوع قادرٌ على كلّ شيء؟ أليست المخلوقات لمن خلقها؟ فلماذا قال الرّب يسوع إذًا: "اسأَلوا رَبَّ الحَصَاد أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إِلى حَصادِه"؟ لماذا؟  ذلك لأنّ الرّب يسوع يحبّنا حبًّا يفوق الإدراك لدرجة أنّه يريدنا أن نشاركه في خلاص النفوس. لا يريد أن يعمل شيئًا من دوننا "(الرسالة 135). أكَّد يسوع للتلاميذ أن الكرازة هي من صميم عمله هو. فهو الذي عيَّنهم، وهو الذي يُسندهم بإرسال فعله يعملون معه لحساب حصاده؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس "الرب نفسه هو الذي يبذر، إذ كان (ساكنا) في الرسل، وهو أيضًا الذي يحصد، فبدونه يحسبون كلا شيء".  ويُشرك يسوع تلاميذه بالصلاة ورسالة التبشير في الحصاد (الدينونة) (متى 9: 37). فالصلاة ضرورية كي يرسل الرب عملة إلى حصاده.  ويعلق القدّيس منصور دي بول " إنّ الكنيسة تُقارَن بموسم حصاد كبير يتطلّب عمّالاً ولكن ليس أي عمّال، إنّما عمّال يعملون" (إرشادات روحيّة للمرسلين). والدينونة تطبق هنا على زمن يسوع. لان ملكوت الله قد أتى (متى 3: 2) عن طريق الخدمة الرسولية التي قام بها يسوع وتلاميذه (متى 10: 15). فهل نصلي لكي يرسل الرب عددًا كافيًا لحمل الرسالة؟

 

3 اِذهَبوا! فهاءنَذا أُرسِلُكم كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب

 

تشير عبارة "فهاءنَذا أُرسِلُكم" إلى يسوع الذي يحمل مسئولية إرسال تلاميذه. يسوع الذي هو المُرسِل، لذا هو المسئول عن المُرسَلين والمحامي عنهم والعامل فيهم الذي يُحوِّل الذئاب لهم حملان، كما يقول القديس أوغسطينوس "إن الذئاب تلتهم الحملان فتتحوَّل الذئاب إلى حملان". إنها ليست إرساليَّة يسوع افتراس رُسله، وإنما لتحويل الذئاب إلى حملان من خلال وداعة حملانه أي رسله، كما جاء في وعظ القديس يوحنا الذهبي الفم" أنه فوق كل شيء يعرف طبيعة الأشياء: إن الشراسة لا تُطفأ بالشراسة وإنما باللطف". جاء مرقس الرسول إلى مصر كحمل وديع ذبحوه لكن قوة الله التي كانت تعمل معه نشرت المسيحية في مصر. أمَّا عبارة " فهاءنَذا " في الأصل اليوناني ἰδοὺ مشتق من العبرية הִנְנִי فتشير إلى استجابة نفس المرسل على الإرادة الإلهية وقبوله الدعوة الإلهية الموجَّهة له بتسليم ذاته لقيادة الرّبّ. فالمرسل مستعد للانطلاق للرسالة الموجهة له بإعلانه “نعم" الشخصية بقوله وبحياته للرّبّ. لكن هنا يسوع نفسه يقول " فهاءنَذا "لتلاميذه كما قال الله يوما إلى اورشليم، رمز البشرية جمعاء، على لسان أشعيا "هاءَنَذا أُميلُ إِلَيها السَّلامَ كالنَّهْر ومَجدَ الأُمَمِ كالوادي الطَّافِح فتَرضَعونَ" (أشعيا 55: 12). الـ "هاءَنَذا" الإلهيّة تكشف ذاته الإلهية ويُعدَّها لخدمة الإنسان حتى يُشجِّعه لقبول حبه. ومن هذا المنطلق، نكتشف استمرارية قُرب الله منّا نحن البشر حتى يومنا هذا، إذ يأتي وينحني علينا ليخدمنا. هذا هو وضع الله الذّي صار قدوة ليملأ الاستعداد البشري الناقص باستعداده الإلهي الكامل. أمَّا عبارة " أُرسِلُكم" فتشير إلى إرسال يسوع تلاميذه مُهيأ إياهم بكلماته: " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني " (لوقا 10: 16). والرسالة هي قبول من المسيح وتقديمها للآخرين. لذلك رسالة المسيحي اليوم هي وجه حقيقي لامتداد رسالة يسوع. أمَّا عبارة "كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب" فتشير إلى نبوءة يسوع بالاضطهادات والضيقات التي يواجها التلاميذ المُرسَلين في تبشيرهم، وفقًا لشهادة بطرس " فقَد تأَلَّمَ المسيحُ أَيضًا مِن أَجلِكم وترَكَ لَكم مِثالاً لِتقتَفوا آثارَه. شُتِمَ ولَم يَرُدَّ على الشَّتيمَةِ بِمِثلِها. تأَلَّمَ ولم يُهَدِّدْ أَحَدًا، بل أَسلَمَ أَمْرَه إلى مَن يَحكُمُ بِالعَدْل" (1بطرس 2: 21-23). فمصير التلاميذ هو مصير يسوع. وحيث أنَّ إعلان الملكوت يعارض معارضة جذرية مصالح العظماء في العالم فان الاضطهادات تحلُّ بالمؤمنين الذين يشهدون للرب. المطلوب من المُرسلين أن يكونوا ودعاء كالحملان تجاه شراسة وعنف الذئاب، فيحوّلوا الذئاب إلى حملان. ويُعلق القدّيس أمبروسيوس (نحو 340 -379)، أسقف ميلانو بقوله: "حين أرسل الرّب يسوع تلاميذه إلى الحصادِ فانه لم يخشَ على قطيعِه من الذئاب؛ أُرسِل أولئك التلاميذ لا ليكونوا فريسةً، بل لينشروا النعمةَ أينما حلّوا. إن عناية الراعي الصالح تقي الحملانَ من اعتداءاتِ الذئاب". إنّه يرسلهم لتتمّ نبوءة أشعيا: "الذئبُ والحملُ يرعيان معًا (أشعيا 65: 25)" (تفسير لإنجيل القدّيس لوقا، الفصل 7: 44-59).

 

4 لا تَحمِلوا كِيسَ دَراهِم ولا مِزوَداً ولا حِذاءً ولا تُسَلِّموا في الطَّريقِ على أَحد

 

تشير عبارة "لا تَحمِلوا" إلى تخلِّي التلاميذ عن كل ما يُعيق مسيرتهم، أمَّا عبارة " كِيسَ دَراهِم" فتشير إلى التجرد من المال. فالكرازة ليست بحاجة إلى المال؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس " ماذا يعني" لا تحملوا كيسًا؟ "أي لا تكونوا حكماء بذواتكم بل اقبلوا الروح القدس، فيكون فيكم ينبوعًا لا كيسًا، منه تُنفقون على الآخرين دون أن ينضب، وهكذا أيضًا بالنسبة للمزود". كان الرسول بطرس أول من نفَّذ وصيَّة الرب موضحًا أن وصيَّة الرب لم تُعط باطلًا، فعندما طلب منه الفقير صدقة، قال: " لا فِضَّةَ عِندي ولا ذَهَب، ولكِنِّي أُعْطيك ما عندي: بِاسمِ يسوعَ المَسيحِ النَّاصِريِّ امشِ!" (أعمال الرسل 3: 6)؛ وأمَّا عبارة " مِزوَداً" فتشير إلى وعاء من جلد ونحوه يُوضع فيه الزاد. ليست الكرازة بحاجة إلى طعام يُتَّخَذُ للسفر، لِأَنَّ العامِلَ يَستَحِقُّ أُجرَتَه (10: 17). فالمُرسل مرتبط بضيافة من يستقبله. والمقصود هنا أن الله هو الذي يُدبِّر كل احتياجاته، فيعتمد عليه وليس على الماديات. وقد سبق وقال يسوع " لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسونَ" (متى 6: 25)؛ أمَّا عبارة "حِذاءً" فتشير إلى علامة السلطة والقدرة على اتخاذ القرار دون إذن أحد، فالعبد لا يلبس حذاء، وبالحذاء كان الملك يطأ رأس عدّوه حين ينتصر عليه.  وأمَّا القديس أوغسطينوس فيعلق"نستخدم الأحذية من جلد الحيوانات الميِّتة فتغطِّي أقدامنا. لهذا يأمرنا أن نجحد الأعمال الميِّتة. هذا هو ما أوُصى به الرب لموسى "اخلع حذاءك من رجليْك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدَّسة" (خروج 3: 5). يعرف هؤلاء التلاميذ أنهم بحماية يسوع مُرسلهم، ونجاحهم هو سيكون من نجاحه. وأمَّا عبارة "لا تُسَلِّموا في الطَّريقِ على أَحد" فتشير إلى عدم ضياع الوقت بالسلامات والتحيات المُطوَّلة والمجاملات الكثيرة والألفة بلا هدف، والرب يُحذِّر من إضاعة الوقت الثمين، لان إرساليتهم عاجلة ومُلحةَّ ومطلوب انتهاز كل فرصة لنشر البشارة كما ورد في العهد القديم على لسان اليشاع الذي أرسل خادمه جيحزَي" ليقيم ابن الشونمية من الموت بقوله له "أشدُدْ حَقوَيكَ وخُذْ عَصايَ في يَدِكَ وآمْضِ، وإِن لَقيتَ أحَدًا فلا تُسَلِّمْ علَيه. وإِن سَلَّمَ علَيكَ أَحَدٌ، فلا تُجِبْه"(2 ملوك 4: 29). لم يكن ثمة مجال لإضاعة الوقت، ويُعلِّق القديس أمبروسيوس "السيِّد لم يمنعنا من تحيَّة السلام، إنما من تقديمها في الطريق، بمعنى ألا تكون معطَّلة للعمل، وذلك كما أمر اليشاع النبي خادمه (2 ملوك 4: 29) لكي يُسرع ويتمِّم الأمر". السلام عادة جميلة، لكن إتمام الأعمال الإلهيَّة أجمل، وهي تستلزم عدم تأخيرها. فالمطلوب من المُرسلين أن يحفظوا قلوبهم وفكرهم منحصرين في الله. فملكوت السماوات قد اقترب، وإتمامه مُلقى على عاتقهم. فلا مجال لتضييع الوقت لأن هذا هو الوقت المُناسب وساعة الخلاص.

 

5 وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذا البَيت

 

تشير عبارة "أيَّ بَيتٍ" إلى سلوك التلاميذ في البيت؛ في حين في الآيات 8-11 تشير إلى سلوك التلاميذ في المدينة. أمَّا عبارة " السَّلامُ " في الأصل اليوناني Εἰρήνη مشتق من العبرية שָׁלוֹם فتشير إلى فيض البركة الإلهية الّتي بدأت مع إبراهيم بحسب وعد الله القائل: " وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة. 3 وأُبارِكُ مُبارِكيكَ"(التكوين 12: 2-3). هي البركة المسيحانية الّتي تفيض به يد الله الحنون على بنيّه. وهي جوهر رسالة المرسلين بالعالم ورسالتنا إذ رسالتنا هي امتداد لرسالتهم. وهو السلام المألوف في العهد القديم "قولوا لَه: كُلُّ سَنَةٍ وأَنتَ سالِم، وبَيتُكَ كلُّ ما لَكَ سالِم" (1صموئيل 25: 6)، وهو تمنّي الازدهار والعافية والهناء والبركة والخير كما يُقال في العبرية (שָׁלוֹם) وفي العربية (السلام عليكم)؛ والمقصود هنا ليس ذلك السلام الرخيص والخالي من المتطلبات، الذي وعد به الأنبياء الكذَّابون كما قال ميخا النبي "هكذا قالَ الرَّبُّ على الأَنبِياء الَّذينَ يُضِلُّونَ شَعْبي ويَعَضُّونَ بِأَسنانِهم ويُنادونَ بِالسَّلام " (ميخا 3: 5)، إنما يُقصد به "سلام" المسيح الذي يحمله الإنجيل" كما جاء في نشيد الكاهن زكريا أبو يوحنا المعمدان " فقَد ظَهَرَ لِلمُقِيمينَ في الظُّلمَةِ وَظِلالِ الـمَوت لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام" (لوقا 1: 79)،  هو سلام يسوع  المسيح الذي حمله  منذ تجسده وهو القائل: " السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ" (يوحنا 14: 27). فالمُرسل أو الرسول يعطي من عند الله سلاماً يُملأ القلب، وهذا السلام فعَّال لمن يتلقاه بإيمان. ومن هذا المنطلق، أرسل يسوع تلاميذه بالتبشير بطرق السلمية، لا بالحرب والسيف: لان كُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيف بِالسَّيفِ يَهلِك"( متى 26: 52).

 

6 فإن كانَ فيهِ ابنُ سَلام، فسَلامُكُم يَحِلُّ بِه، وإِلاَّ عادَ إِلَيكُم

 

تشير عبارة "ابنُ سَلام" إلى من يتقبل سلام الله الذي يُحمل إليه ويتجاوب معه ومستحق أن يُبشَّر بالسلام، لان الرسول حين يلقي السلام فهو يعطي من عند الله سلاماً يملأ القلب فعلاً. وأمَّا عبارة "إِلاَّ عادَ إِلَيكُم " فتشير إلى المُرسلين الذين لن يفقدوا سلامهم بسبب الذين رفضوهم ورفضوا سلامهم لان بركة السلام تعود للرسول الذي قالها، ويمتلئ هو سلاماً. فالتحية الّتي يحملها المسيحي في حياته هي السَّلام المسيحاني الذي يحمل معنيين: الأوّل باطني، فمن يلتقي بيسوع وهو رجل السَّلام تُنزع منه مخاوفه ولا يتسلط عليه اضطراب العالم. والثاني خارجي هو سلامه الباطني الذي يحمله بدوره للآخرين.

 

7 أَقيموا في ذلكَ البَيتِ تأَكُلونَ وتَشرَبونَ مِمَّا عِندَهم، لِأَنَّ العامِلَ يَستَحِقُّ أُجرَتَه، ولا تَنتَقلوا مِن بَيتٍ إلى بَيت

 

تشير عبارة "العامِلَ يَستَحِقُّ أُجرَتَه" إلى حق المعلم -الرابي في العيش من عطايا تلاميذه. وجعل بولس الرسول هذا الحق قانونا لخدمته التبشيرية، مع انه تخلّى عن الاستفادة منه لنفسه (1 قورنتس 9: 14-18)؛ وقد وردت عبارة "إِنَّ العامِلَ يَستَحِقُّ أُجرتَه " في نص رسالته إلى تلميذه طيموتاوس (1 طيموتاوس 5: 18) مما يدلّ أنَّ إنجيل لوقا نشر قبل كتابة بولس رسالته تلميذه طيموتاوس. أمَّا عبارة " ولا تَنتَقلوا مِن بَيتٍ إلى بَيت" فتشير إلى التلاميذ المُرسلين الذين يقيمون في البيت الذي يضيفهم فهم يصبحون أعضاء في ذات الأسرة لذلك يتوجب عليهم أن لا يسعوا وراء طعام أفضل، والولائم الكثيرة التي تشغل الأوقات الثمينة، إنما يركزوا على خدمة الرسولية.

 

8 وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم وقَبِلوكم، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكم

 

تشير عبارة "أَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم" إلى الوصيَّة بالكرازة غير محصورة في شعب معيَّن أو أُمَّة خاصة. أمَّا عبارة "فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكم" فتشير إلى عدم بحث المُرسلين عن ضيافة مريحة، ووراء طعام أفضل، بل عليهم يكتفوا بما يُقدّم لهم كي يتفرّغوا للرسالة تفرّغا تاماً، بعكس الكتبة والفِرِّيسيِّين في ذلك الحين الذين كانوا يقضون جُلَّ وقتهم في الولائم لتكريمهم.  وتعني أيضا أن المرسلين لا يستنكفون من الطعام الذي يقدِّمه الأمميُّون ولا يخشون من التنجُّس حسب ما جاء في الشريعة الموسويَّة، فإنه ليس وقت للأطعمة المحلَّلة والمُحرَّمة، إنما لنجاة النفوس من الهلاك الأبدي.

 

9 واشفْوا المَرْضى فيها وقولوا لِلنَّاس: قَدِ اقتَرَبَ مِنكُم مَلَكوتُ الله

 

تشير عبارة "أشفْوا المَرْضى" إلى إعطاء المسيح لتلاميذه السلطة على مقدرة شفاء المرضى لتأكيد بشارتهم بالبرهان العملي؛ أمَّا عبارة "مَلَكوتُ الله" فتشير إلى موضوع تبشيرهم وذلك انه قد تمَّت المواعيد بمجيء المسيح. وملكوت الله لها معاني متعددة وقد تكرَّرت هذه العبارة 35 مرة في إنجيل لوقا؛ ومن معانيها، مُلك الله الأبدي، أو حضور الملكوت في شخص يسوع، أو اقتراب الملكوت في شكل روحي، وهذا الملكوت هو موضوع كرازة يسوع (لوقا 8: 1) وتلاميذه (لوقا 9: 2-60). وهذا الملكوت هو واقع حاضر ورجاء مقبل. حاضر منذ الآن في شخص المسيح الذي بشّر بمجيء هذا الملكوت فيصل إلى الكنيسة، وبالكنيسة إلى العالم. وليس الملكوت "مكان" ندخل إليه، بل حالة نعيشها. أمَّا عبارة "اقتراب" فتشير إلى انه قد أصبح قريباً وحاضراً في شخص يسوع وتعليمه وأعماله. وهذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها لوقا الإنجيلي " اقتراب " ملكوت الله. وان مجي الملكوت يقتضي توبة الإنسان، كما جاء في كرازة يوحنا المعمدان في البرِّية "توبوا، فقد اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" (متى 3: 2). فان اقتراب مَلَكوتُ الله هو قلب رسالة يسوع الإنجيلية. فكانت مُهمَّة التلاميذ الاثنين والسبعين هي تمنِّي السلام للبشر وشفاء المرضى، والتبشير باقتراب ملكوت الله. وكلُّ إتباع يسوع مُكلّفون لحمل مسؤوليّةٍ كهؤلاء التّلاميذ.

 

10 وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم ولَم يَقبَلوكم فاخرُجوا إلى ساحاتِها وقولوا:

 

تشير عبارة "فاخرُجوا إلى ساحاتِها" إلى إعلان لكل الناس بإثم الذين يرفضون شهادة المرسلين.

 

11 حتَّى الغُبارُ العالِقُ بِأَقدامِنا مِن مَدينَتِكم نَنفُضُه لَكم. ولكِنِ اعلَموا بِأَنَّ مَلكوتَ اللهِ قدِ اقتَرَب

 

تشير عبارة "الغُبارُ العالِقُ بِأَقدامِنا مِن مَدينَتِكم نَنفُضُه لَكم" إلى دعوة المسيح نفسه لتلاميذه إلى الخروج من أي بيت أو مدينة ترفضهم، ولا تزال هذه العادة تحمل المظهر ذاته في بلاد الشرق إلى اليوم. ويفعل ذلك من يخرج من بيت ما فاشلاً في تحقيق مشروع له. وبالتالي نفض الغبار لا للنظافة بل كعلامة لترك كل شيء قد يعلق بالإنسان بعد أن يترك مكاناً ما إلى مكان آخر، سواء أكان المكان بيتاً أم بلدة أم بلاداً. فكان اليهودي ينفض غبار حذائه بعد أن يغادر بلداً وثنياً حتى يتخلص من باقي آثار الوثنية. عبارة "الغُبارُ" فتشير إلى الذرات الصغيرة والدقيقة جداً من بقايا الأوساخ والتراب، التي يتناقلها الهواء وتعلق بالأرجل والأجسام الصلبة. أمَّا عبارة " نَنفُضُه لَكم" فتشير إلى قطع العلاقات مع هذه المدينة التي لم تكن أهلا لتقبل الإنجيل، وهذا ما فعله بولس وبرنابا أمام اليهود في أنطاكيا بسيديه الذين رفضوهما "فنَفَضا علَيهِم غُبارَ أَقدامِهما وذَهَبا إلى أَيقونِية" (أعمال الرسل (13: 51). أما عبارة " ولكِنِ اعلَموا بِأَنَّ مَلكوتَ اللهِ قدِ اقتَرَب" فتشير إلى اقتراب ملكوت الله من الناس بواسطة المرسلين سواء قبلوا شهادتهم أم رفضوها. فالدينونة يوم الدين تبني على رفضهم تلك البشارة بعد تقديمها لهم.  فعدم قبول البشارة يصبح إنذار وعلِّة دينونة.

 

12 أَقولُ لَكم: إِنَّ سَدومَ سَيَكونُ مصيرُها في ذلكَ اليَومِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِ تِلكَ المَدينَة

 

تشير عبارة "سَدومَ" إلى إحدى مدن السهل الخمسة التي أحرقت بالنار التي نزلت من السماء بسبب خطيئة أهلها (التكوين 19: 24-28)، وقد صارت خطيئة سدوم مضرب الأمثال (متى 10: 15)؛ وتقع سدوم تحت الماء اليوم في جنوب البحر الميت؛ أمَّا عبارة "أَخفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِ تِلكَ المَدينَة" فتشير إلى سدوم التي ستكون اقل خطورة وشدة من كورزين وبيت صيدا. وتعتبر هذه الآية رثاء نبوياً يوجّهه يسوع إلى كل مدينة لا تقبل بلاغ رسالة الإنجيل الطاهر، وهذا الرثاء يستهدف مدن شاطئ بحيرة طبرية الشمالي ويلومها على رفضها ليسوع المسيح، إذ رفضت الانفتاح على الملكوت الإيمان به (لوقا 10: 20-30).

 

13 الوَيلُ لكِ يا كُورَزِين! الوَيلُ لكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صورَ وصَيدا ما جَرى فيكُما مِنَ المُعجِزات، لَأَظهَرتا التَّوبَةَ مِن زَمَنٍ بَعيد، فلَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد

 

تشير عبارة "الوَيلُ لكِ" لا إلى لعنةٍ ولا إلى حُكمٍ لا رجوع َعنه، بل إلى رثاء بمعنى (ما أتعسكِ!) وإلى تأسف وتهديد وبالتالي إلى نداءً ودعوة إلى التوبة (لوقا 6: 24)؛ أمَّا عبارة "كُورَزِين! " فتشير إلى مدينة كرازة (أو كرازية) شمالي تل حوم ويُحدِّد اوسابيوس مؤرخ الكنيسة موقعها علـــــى بعد 3كم من كفرناحوم (متى 11: 21) وذكرت مع بيت صيداء وكفرناحوم (متى 11: 21). شاهدت هذ المدن مرات عديدة معجزات السيد المسيح العظيمة وسمعت مواعظه الجليلة، ولكنها مثلهما أيضاً لم تستفد من امتيازاتها العظيمة هذه فاستحقت معهما قصاصاً من الويلات المتتابعة كما أنذر السيد المسيح. وهناك خرب ومن جملتها مجمع بعض حجارته المنحوتة من البازلت وأيضاً بقايا جدران وعواميد وطريق مبلطة تؤدي إلى الطريق الواقع بين أورشليم ودمشق. وذكرت هذه المدينة ثلاث مرات في التلمود.  أمَّا عبارة " بَيتَ صَيدا" فتشير إلى مدينة واقعة عند مصب نهر الأردن في شمال بحيرة طبرية. وقد أعاد بناءها هيرودس فيلبّس فسمّاها يوليا في بدء العصر المسيحي (متى 11: 21)؛ أمَّا عبارة "لَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد " فتشير إلى الاعتراف بالخطيئة والعودة إلى التوبة (متى 11: 21)؛ اعترف يسوع أن كرازته وعجائبه لم تُرجع هذه المدن إلى التوبة، والسبب في ذلك تمسكها بالعالم وشهواته كما يعلنه يسوع المسيح " ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال" (لوقا 16: 13).

 

14 ولكِنَّ صورَ وصَيدا سَيَكونُ مصيرُهما يومَ الدَّينونةِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مصيرِكما

 

تشير عبارة "صورَ وصَيدا" إلى مدينتين وثنيتين في فينيقية على الساحل بين جبال لبنان والبحر المتوسط. (التكوين 1: 15)؛ وصور اسم سامي معناه "صخر" وصيد (أو صيدون) اسم سامي معناه "مكان صيد السمك" وهي من أقدم مدن العالم. وقد مرَّ الرب يسوع على شواطئ صور وصيدا لكن لم يدخلهما (متى 15: 21-28) وقد اتصل به قوم من تلك المنطقة (مرقس 3: 8)، كما أتى إلى الجليل قوم من صيدا ليسمعوا بشارة يسوع ويشاهدوا عجائبه (لوقا 6: 17). ويُعلن يسوع هنا أن مسؤولية تلك المدن الوثنية كانت اقل من مسئولية المدن الواقعة حول بحيرة طبرية التي كانت دوما تسمع بشارته وترى عجائبه (لوقا 10: 13-14)، في حين لو شاهدت صورَ وصَيدا عجائب يسوع وسمعت كلامه لأصبحت توبتهما أفضل من توبة مدن البحيرة.

 

15 وأَنتِ يا كَفَرناحوم، أَتُراكِ تُرفَعينَ إلى السَّماء؟ سَيُهبَطُ بِكِ إلى مَثْوى الأَمْوات

 

تشير عبارة "كَفَرناحوم" إلى المدينة الواقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبرية (متى 4: 13) وكانت مركزا للجباية ( مرقس 2: 1) ومركزا عسكريا رومانيا ( ( لوقا 7: 1-10) وقد اتخذها يسوع مركزاً لتبشيره، ودُعيت "مدينته" (متى 9: 1)، واجترح فيها عجائب عديدة (لوقا 4: 23): شفى فيها غلام قائد المائة ( لوقا 1-10) وحماة بطرس المحمومة ( متى 8: 14-17) ورَجُلٌ فيه رُوحُ شَيطانٍ نَجِس ( لوقا 4: 31-37) والمقعد المفلوج الذي كان يحمله أربعة (مرقس 2: 1-13) وابن خادم الملك ( يوحنا 4: 46-54) وغيرهم كثيرين مرضى بأمراض مختلفة ( متى 8: 16)؛ وكان سمعان يسكنها ويعمل فيها. وهي أكثر المدن الوارد ذكرها في الإنجيل، إذ تكرَّر ذكرها (16) مرة.

 

16 مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني

 

تشير عبارة " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ" إلى عظمة عمل المُرسلين الذين يشاركون في رسالة يسوع، لقد أعطاهم الربّ السّلطة على التبشير بالإنجيل، ومن خلالهم، يتعرف الناس إلى يسوع المسيح الذي هو الرأس، والمُرسلين هم الأعضاء. وأمَّا عبارة "مَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي" فتشير إلى رفض المُرسلين باسم يسوع. نظرً للعلاقة حميمة بين يسوع وتلاميذه. ويُعلق القديس أوغسطينوس "جاء المسيح في أشخاص تلاميذه، فيتكلَّم معنا بواسطتهم. أنه حاضر فيهم. بواسطة كنيسته يأتي، وبواسطتها يتحدَّث مع الأمم. في هذا نشير إلى الكلمات التي نطق بها: "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا" (متى 10: 40)، ويقول الرسول بولس: أَنَّ المسيحَ يَتَكلَّمُ بِلِساني (2 قورنتس 13: 3) ". كلمة يسوع هنا تدل على الشرف الذي يكون للمرسلين باعتبارهم سفراء المسيح، لأنهم يكونون شركاء المسيح في الكرامة.

 

17 ورَجَعَ التَّلامِذَةُ الاثنانِ والسَّبعونَ وقالوا فَرِحين: يا ربّ، حتَّى الشَّياطينُ تَخضَعُ لَنا بِاسمِكَ

 

تشير عبارة "ورَجَعَ التَّلامِذَةُ الاثنانِ والسَّبعونَ" إلى زيارة 35 بيتًا في وقت واحد لأنهم ذهبوا إثنين إثنين. أمَّا عبارة "فَرِحين" فتشير إلى السعادة لنجاح إرساليتهم، ولكتابة أسمائهم في ملكوت السماوات التي هي إشارة إلى الحياة الفاضلة في الرب، أمَّا عبارة " الشَّياطينُ تَخضَعُ لَنا بِاسمِكَ " فتشير إلى إخراج الشيَّاطين بتحريرهم الناس من عبودية الشيطان وتمجيدهم المسيح. وهذه الموهبة من الرب يمكن أن يتمتَّع بها إنسان منحرف فيهلك. ألم يتمتع يهوذا الإسخريوطي بهذه المواهب ثم هلك كما يعلق القديس أنطونيوس. أمَّا عبارة " بِاسمِكَ" فتشير إلى إعطاء كل المجد للمسيح باعتباره انه مصدر كل سلطانهم وعملهم العجائبي.

 

18 فقالَ لَهم: كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق

 

تشير عبارة " الشَّيطانَ " إلى إبليس، عدو الله والإنسان (متى 13: 39). وأمَّا عبارة " كُنتُ أَرى " في الأصل اليوناني Ἐθεώρουν فتشير إلى صيغة الماضي، لأن هذا سيتم حتمًا. فسقوط الشيطان يعني سقوطه من مركز السيادة والقوة على الإنسان، وهي رؤية تشمل ما بعد الصليب.  رأى المسيح لكونه هو الله تأثير تبشير اثنين والسبعين ونتيجة أعمالهم في عالم الأرواح التي لم يروها هم. وهو رأى تلك النتيجة قبل أن أخبروه بأعمالهم.  أمَّا عبارة "كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق" فتشير إلى عبارة مجازية تصف انتصار التلاميذ على الشيطان بطردهم إياه ونجاحهم في حربهم على الشر، وسقوط الشيطان من مقام الكرامة والسلطان إلى هاوية الهوان والهلاك وفقا لقول بولس الرسول " فلَيسَ صِراعُنا مع اللَّحمَ والدَّم، بل مع أَصحابِ الرِّئاسةِ والسُّلْطانِ ووُلاةِ هذا العالَم، عالَمِ الظُّلُمات، والأَرواحِ الخَبيثةِ في السَّمَوات" (أفسس 6: 12).   وهنا بدأ سقوط مملكة الشيطان التي جاء المسيح لينقضها كما يصرّح يوحنا الرسول "وإِنَّما ظَهَرَ ابنُ اللهِ لِيُحبِطَ أَعمالَ إِبْليس" (1 يوحنا 3: 8). أمَّا عبارة "كالبَرْق" فتشير إلى إبليس الذي كان مخلوقًا نورانيًا، أضاء لحظة من الزمان، وبخطيته فقَدَ نوره واستحال ظلامًا، فهو كان نورًا لفترة وجيزة ثم صار ظلامًا. والبرق لا ثبات له فهو ينير للحظة ثم يأتي ظلام وهكذا إبليس.  ويدل أيضا على السرعة. أمَّا المسيح فيقال عنه نوره كالشمس (رؤية 16:1) أي نوره ثابت وهكذا عطاياه.

 

19 وها قَد أولَيتُكم سُلطاناً تَدوسونَ بِه الحَيَّاتِ والعَقارِب وكُلَّ قُوَّةٍ لِلعَدُوّ، ولَن يَضُرَّكُم شَيء

 

تشير عبارة "وها قَد أولَيتُكم سُلطاناً" في النص اليوناني δέδωκα ὑμῖν (معناها أعطيتكم) إلى وعد يسوع بالسلطان لكي يعزّيهم في إتعابهم ومقاسمتهم المقاومة والاضطهاد. أما عبارة "الحَيَّاتِ" فتشير إلى مكر وخداع وسُم مميت وهي رمز للشيطان والا عداء الروحيين. إذ إنَّ الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله (تكوين 1:3). ويؤكد بولس الرسول هذا القول" ولكِنِّي أَخشَى علَيكُم أَن يَكونَ مَثَلُكُم مَثَلَ حَوَّاءَ الَّتي أَغوَتْها الحَيَّةُ بِحيلَتِها، فتَفسُدَ بَصائِرُكُم وتَتَحَوَّلَ عَن صَفائِها لَدى المَسيح" (2 قورنتس 3:11)؛ وأمَّا عبارة "العَقارِب" فتشير إلى شر مستتر مع سرعة اختفاء. فالحيات والعقارب رمز للشيطان وقوى الشر التي يدوسها التلاميذ وقوات الشر الضارة المكروهة. وتذكرنا هذه العبارة بما قاله الله للحية "وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه"(التكوين 3: 15). أمَّا عبارة "وكُلَّ قُوَّةٍ لِلعَدُوّ" فتشير إلى العدو الشيطان وهو تفسير للحيات والعقارب. ومن فعل قوة العدو الأضرار الجسدية والكوارث الطبيعية كالزلازل وتهيج الأشرار وتجارب إبليس الهائلة. أمّا عبارة "ولَن يَضُرَّكُم شَيء" فتشير إلى فتشير إلى وعد المسيح بحماية المرسلين من الأضرار الجسدية التي يقدر عليها الشياطين ومثل ذلك قول الله للشيطان" فهُوَ يَسحَق رأسَكِ" (التكوين 3: 15)، وقول صاحب المزامير " تدوسُ الشبلَ والتنين"(مزمور 91: 13).

 

20 ولكِن لا تَفرَحوا بِأَنَّ الأَرواحَ تَخضَعُ لَكُم، بلِ افرَحوا بِأَنَّ أَسماءَكُم مَكْتوبَةٌ في السَّموات

 

تشير عبارة "لا تَفرَحوا بِأَنَّ الأَرواحَ تَخضَعُ لَكُم" إلى الخلاص الذي هو أكثر أهمية من خضوع الشياطين للتلاميذ. لا نفرح بالمواهب، بل بالتمتع بثمار الروح القدس. فالموهبة لا تُبرِّر صاحبها إن لم يتب ويحيا مع الله.  كثيرون من فعلة الإثم صنعوا تلك المعجزات " فَسَوفَ يقولُ لي كثيرٌ منَ النَّاسِ في ذلكَ اليَوم: ((يا ربّ، يا ربّ، أَما بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟ " (متى 7: 22). وكان ليهوذا الإسخريوطي مثل هذه القوة. أمَّا عبارة "مَكْتوبَةٌ في السَّموات " فتشير إلى استعارة تقليدية بان أسماء المختارين مكتوبة في كتب السماء، ومعنى ذلك انه تعالى يعترف بأنهم أولاده وورثته لأنهم من أهل المدينة السماوية كما ورد في سفر الرؤية "فالغالِبُ سيَلبَسُ هكذا ثِيابًا بيضًا، ولن أَمحُوَ اسمَه مِن سِفْرِ الحَياة" (رؤيا 3: 5). أنه علامة على اقتراب الملكوت. إن فرح التلميذ الحقيقي هو فرح من يعرف أن حياته -وحياة كل شخص تبلّغ الخبر السار-أي اسمه مكتوب في السماوات أي أنه في يدي الله وحمايته. فتكون علة فرح المرسلين انهم نالوا الرحمة والمغفرة والخلاص الأبدي.  ونتيجة لذلك إن هبة النعمة أفضل من هبة القوة وان المواهب السماوية أفضل من المواهب الأرضية.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 10: 1-17)

 

انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 1-17) نستنتج انه يتمحور حول الإرسالية والتوصيات الرب يسوع المسيح.

 

1) الإرسالية (البِعثة)

 

ورد موضوع الإرسالية للتبشير في العهد القديم والعهد الجديد. أمَّا في العهد القديم فارتبطت الإرسالية في الأنبياء، وأمَّا في العهد الجديد فارتبطت في المسيح والرسل والمُرسلين.

 

ا) إرسالية الأنبياء في العهد القديم

 

تفرض الإرسالية الإلهية وجود نداء أو دعوة من قبل الله. فالله يدعو والأنسان يستجيب. وظهرت هذه الإرسالية في دعوة الله للأنبياء الذين يتقدّمهم موسى "مِن يَومَ خَرَجَ آباؤُكم مِن أَرضِ مِصرَ إلى هذا اليَوم، ما زِلتُ أُرسِلُ إِلَيكُم جَميعَ عبيدِيَ الأَنبِياءِ بِلا مَلَل (إرميا 7: 25). فالإرسال هو محور كلّ دعوة نبوية "كما حدث مع إرميا النبي "فإنَّكَ لِكلِّ ما أُرسِلُكَ لَه تَذهَب وكُلَّ ما آمُرُكَ بِه تَقول"(إرميا 1: 7).

 

على هذه الدعوة، يُجيب كلّ الأنبياء منهم بحسب تكوينه الخاص: نرى أشعيا يقدّم نفسه "هاءنذا، فأرسلني" (أشعيا 6: 8)، بينما يثير إرميا الاعتراضات "آهِ ايُّها السَّيِّد الرَّبّ هاءنَذا لا أَعرِفُ أَن آتكم لِأَنِّي وَلَد" (إرميا 1: 6)، أمَّا موسى فيطلب علامات تثُبت إرساليته "فقالَ موسى لله: ((مَن أَنا حَتَّى أَذهَبَ إلى فِرعَون وأُخرِجَ بني إِسرائيلَ من مِصر؟)) قال: ((أَنا أَكونُ معَكَ، وهذه علامةٌ لكَ على أَنِّي أَنا أَرسَلتُكَ: إِذا أَخرَجتَ الشَّعبَ مِن مِصر، تَعبُدونَ اللهَ على هذا الجَبَل " (خروج 3: 11-13)، إلاّ أن جميع الأنبياء في نهاية الأمر يُبدون الطاعة باستثناء حالة يونان الخاصة "فقامَ يونانُ لِيَهرُبَ إلى تَرْشيشَ مِن وَجهِ الرَّبّ، " (يونان 1: 3) فهو يرفض إرساليته العالمية الشاملة، مستنكراً إمكانية الخلاص للأمم. فالأنبياء هم مرسلون لحثّ القلوب على التوبة والإنذار بالعقوبات، أو التبشير بالمواعيد: فيرتبط دورهم ارتباطاً وثيقاً بكلمة الله، التي هم مكلّفون بإعلانها للناس. فتاريخ الخلاص مرتبط ويتحقق بفضل كل هذه الإرساليات.

 

ب) إرسالية يسوع المسيح

 

بعد ظهور يوحنا المعمدان، آخر الأنبياء وأعظمهم، (متى 11: 9-14)، تقدم يسوع المسيح، إلى الناس، باعتباره المُرسل من الله أو الرسول بكل معنى الكلمة، ذاك الذي تحدث عنه أشعيا "روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مسحني وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفقراء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين” (أشعيا 61: 1-2). أرسل الله أخيراً ابنه كما ورد في إنجيل مرقس "فبَقِيَ عِندَه واحِدٌ وهو ابنُه الحَبيب. فأَرسَلَه إِلَيهم آخِرَ الأَمرِ"(مرقس 12: 2-8). أرسله الآب " ليبشّر بالإنجيل" (مرقس 1: 38)، وليكمل الشريعة والأنبياء (متى 5: 17)، وليلقي ناراً على الأرض (لوقا 12: 49)، لا ليحمل سلاماً بل سيفاً (متى 10: 34/)، لا ليدعو الأبرار، بل الخاطئين (مرقس 2: 17)، وليبحث عن الهالك فيخلّصه (لوقا 19: 10)، وليخدم ويفدي بنفسه جماعة كثيرة (مرقس 10: 45). لذلك فإن من يقبله أو ينبذه، إنما يقبل أو ينبذ ذلك الذي أرسله (لوقا 10: 16). ولذلك فإن موضوع الإيمان الذي يطلبه يسوع من الناس هو أنّه مرسل من الآب (يوحنا 11: 42). وهذا ما يتضمن في الوقت نفسه الإيمان بالابن على أنه المُرسل (يوحنا 6: 29) والإيمان بالآب على أنه أرسله (يوحنا 5: 24).

 

لم يتردد بولس الرسول تأكيد هذه الحقيقة بان الله أرسل ابنه في ملء الزمن ليفتدينا ويمنحنا التبني كما جاء في تعليمه إلى أهل غلاطية "فلَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ لِيَفتَدِيَ الَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّريعة، فنَحْظى بِالتَّبَنِّي" (غلاطية 4: 4-5). إن الله أرسل ابنه إلى العالم مُخلصاً وكفارة عن خطايانا، حتى نحيا به: ذلك هو الدليل الأسمى لمحبته لنا "ما ظَهَرَت بِه مَحبَّةُ اللهِ بَينَنا هو أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَه الوَحيدَ إلى العالَم لِنَحْيا بِه" (1 يوحنا 4: 9). ويصبح يسوع هكذا المُرسَل الحقيقي بالمعنى الأكمل (يوحنا 9: 7)، ورسول اعتراف إيماننا كما يعلن صاحب الرسالة للعبرانيين "تَأَمَّلوا رَسولَ شَهادَتِنا وعَظيمَ كَهَنَتِها يَسوع (عبرانيين 3: 1).

 

ج) إرسالية التلاميذ

 

ليست بشرى الإنجيل مجرد فكرة بل حدثا يحتاج إلى بيت -أو بلد -يدخله المرسل ليبثَّ فيه حياة الإنجيل التي جاء بها يسوع المسيح. وإرسالية التلاميذ ترتبط ارتباطا وثيقا بإرسالية يسوع: "كما أرسلني الآب، أرسلكم أنا أيضاً" (20: 21). فالتلميذ هو الشخص الّذي اختار السيّد المسيح ويتبعه.  حياة التلميذ هي مشاركة في رسالة يسوع نفسها لنشر إنجيل ملكوت السماوات، إنجيل الخلاص. ونشر هذا الخلاص ليس أمرا اختياريا، بل ملزِما، لأنه إن لم تنتشر الرسالة المسيحية فكيف يخلص الناس؟ ولذلك فإن إرسالية يسوع لا بدَّ أن تستمر أولا عن طريق رسله الاثني عشر، ثانيا عن طريق التلاميذ الاثنين والسبعين، وثالثا عن طريق الكنيسة. لهذا السبب بالذات يحمل التلاميذ لقب المُرسَلين أو الرسل. وفي أثناء حياته يرسلهم يسوع ليتقدموه (راجع لوقا 10: 1) وليعلنوا ملكوت الله ويشفوا المرضى (لوقا 9: 1-2)، وهذا هو موضوع إرساليته الشخصية. فهم العملة الذين يرسلهم ربّ الحصاد إلى حصاده (متى 9: 38).

 

قد أرسل يسوع المسيح تلاميذه إلى كل مكان، لأنّه أراد أن يُدرّبهم ليس فقط على الجهاد الذي سيقومون به في اليهودية بل من أجل الشدائد التي سيلقونها في كلّ الأرض. لذلك ينبغي ألاّ ينخدع المُرسلون بخصوص المصير الذي ينتظرهم: "ما كانَ الخادِمُ أَعظِمَ مِن سَيِّدهِ ولا كانَ الرَّسولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِه" (يوحنا 13: 16)، وكما عامل العالم السيد المسيح، هكذا سيعامل تلاميذه (متى 10: 24-25).

 

عند ظهور المسيح للرسل بعد القيامة يرسلهم "كالخِرافِ بَينَ الذِّئاب" (متى 10: 16). إنه يعلم أن "الجيل الفاسد" سوف يضطهد من يرسلهم ويُسلمهم إلى الموت "مِنْ أَجْلِ ذلك هاءَنَذا أُرسِلُ إِلَيْكُم أَنبِياءَ وحُكَماءَ وكَتَبَة، فَبَعضَهم تَقتُلونَ وتصلِبون، وبَعضَهم في مَجامِعِكم تَجلِدون ومن مَدينَةٍ إلى مَدينَةٍ تُطارِدون" (متى 23: 34).

 

فهم يذهبون إذاً ليبشروا بالإنجيل (مرقس 16: 15)، وليتلمذوا جميع الأمم (متى 28: 19)، وليقدّموا شهادتهم في كل مكان (أعمال 1: 8). وبذلك تبلّغ إرسالية الابن فعلاً إلى جميع الناس، بفضل إرسالية رسله وكنيسته.

 

المعاملة التي يعاملون بها المرسلون سوف تعود على يسوع المسيح نفسه، وبالتالي على الآب: "مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَـــن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعــــرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني" (لوقا 10: 16)، "ومَن قَبِلَ الَّذي أُرسِلُه قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 13: 20).

 

لم يعتمد المرسلون والمبشّرون بالإنجيل على قواهم البشرية وحدها للقيام بهذه المهمة الإرسالية، وإنما يؤدّون مهمتهم بقوة الروح القدس. وقد أوضح يسوع دور الروح القدس بقوله " المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم "(يوحنا 14: 26). وأعطاهم نفس التوصيات والتعليمات التي أعطاها إلى الاثني عشر (لوقا 10: 3-12).

 

2) توصيات يسوع في الإرسالية (البعثة التبشيرية)

 

أرسل يسوع الاثني عشر في الإرسالية الأولى إلى منطقة الشمال لقلة العملة وكثرة الحصاد (متى 9: 1-7)؛ وأمَّا في الإرسالية الثانية فانه أرسل أعدادا مضاعفة من تلاميذه إلى المنطقة الجنوبية التي كان مزمعا أن يجتاز فيها (لوقا 10: 1-2).

 

قبل إرسال تلاميذه للتبشير في حقل الرب أعطى يسوع تلاميذه بعض التوصيات. وهذه التوصيات ليست توصيات عقائدية تتطرق إلى مضمون الإيمان الذي ينبغي تعليمه، بل إلى إرشادات عملية، لان رسالة يسوع هي أولا حدث خلاصي. فالمرسلون يُبشرون بملكوت الله أولاً بأسلوب حياتهم، لذا أرسلهم إثنين إثنين، وكما قال القديس أوغسطينوس" إن رقم (2) يشير إلى الحب لله والناس، وكأن إرساليَّته لم تكن كرازة كلام ووعظ فحسب، بل كرازة حب وشركة مع الله والناس". ولذلك لم تقم إرسالية يسوع لتلاميذ، على أية مخططات او أية استراتيجيات، بل على أسلوب إنجيلي يحتوي التوصيات التالية:

 

التوصية الأولى: الصلاة

 

توصية يسوع الأولى لتلاميذه هي الصلاة إلى الإرسالية " فاسأَلوا رَبَّ الحَصَاد أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إلى حَصادِه" (لوقا 10: 2). إنّ اختيار المرسلين المدعوين يأتي بالصلاة، لان الرب نفسه هو الذي يُبذر، وهو أيضًا الذي يحصد، فبدونه يحسبون كلا شيء... إذ يقول: " بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً" (يوحنا 15: 5) ويُشرك يسوع تلاميذه بالصلاة ورسالة التبشير في الحصاد (متى 9: 37). فالصلاة ضرورية ليرسل الرب عملة إلى حصاده. أكَّد يسوع للتلاميذ أن الكرازة هي من صميم عمله هو. فهو الذي عيَّنهم، وهو الذي يسندهم بإرسال فَعَلة يعملون معه لحساب حصاده "كما يعلق القديس أوغسطينوس "الرب نفسه هو الذي يبذر، إذ كان (ساكنا) في الرسل، وهو أيضًا الذي يحصد، فبدونه يحسبون كلا شيء". الإنسان يبذر والله ينمي كما أعلن بولس الرسول " أًنا غَرَستُ وأَبُلُّسُ سَقى، ولكِنَّ اللهَ هو الَّذي أَنْمى" (1 قورنتس 3: 6).

 

بالإضافة إلى ذلك يحتاج المرسلون للصلاة. ويعلق القدّيس منصور دي بول " ليس هناك أيّ شيء متطابق مع الإنجيل أكثر من أن نُخزّن فينا النور، والقوّة التي تكتسبها أنفسنا من خلال المناجاة القلبيّة، وقراءة الكتب المقدّسة والعزلة كلّ هذا من جهة، ومن جهة أخرى علينا الذهاب لمشاطرة الناس بهذه التغذية الروحيّة. علينا فعل ما قام به ربّنا ورسله من بعده. إنّه جمع ما قامت به مرتا وما قامت به مريم"(إرشادات روحيّة للمرسلين).  وإن كلمة الله تُعلن أيضًا بالصلاة. ويعلق البابا فرنسيس "بدون الصلاة يمكنك أن تقدّم محاضرة جيّدة أو تعليمًا جميلاً ولكن لن يكون كلمة الله. إن كلمة الله تخرج فقط من القلب المصلّي"، وبالتالي فكلمة الله تُعلَن بالصلاة: صلاة من يعلنها!

 

 أمَّا فيما يتعلق في نقص عدد العملة المرسلين، فلا بدَّ من التغلب عليها من خلال الاعتماد على الصلاة أيضا، لان الدعوة الرسولية هي نعمة مجانية من الله. وقد عبَّر القديس بولس عن ذلك بقوله "وبِنِعمَةِ اللهِ ما أَنا علَيه" (1 قورنتس 15: 10). لذا لا نستغرب من قول المسيح لتلاميذه: ((الحَصادُ كثيرٌ ولكِنَّ العَمَلَةَ قَليلون، فاسأَلوا رَبَّ الحَصَاد أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إلى حَصادِه" (لوقا 10: 2).

 

التوصية الثانية: اللاعنف

 

أرسل يسوع تلاميذه " كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب" (لوقا 10: 3)؛ الحمل هو واحد من القطيع ويعيش مع القطيع ويخضع لراعي القطيع. فإن كان حَمَل الله أقامنا حِملان ذلك لنحمل سماته فينا، في حين الذئاب هم وحوش كاسرة، لا تعرف الرحمة واللين، وتفرض نفسها على غيرها بالمكر والدَّهاء وتختطف من تجد، وتبتلع من تختطف. وبذلك يشهد المرسلون أن قوتهم ليست نابعة منهم، ولا يريدون إكراه الناس على دخول الملكوت، بل يحثّونهم على الانضمام الطوعي للملكوت. ويُعلق القديس أوغسطينوس" إن الذئاب تلتهم الحملان فتتحوَّل الذئاب إلى حملان" إنها ليست إرساليَّة لافتراس رُسله، وإنما لتحويل الذئاب إلى حملان من خلال وداعة حملانه أي رسله ".

 

من هذا المنطلق، فإن المرسل الحقيقي هو الذي يعرف بأنّه ضعيف وأنّه لا يمكنه الدفاع عن نفسه لوحده بين الذئاب، فيعلق القديس يوحنا فم الذهب " إن لم تذهب كحمل بين الذئاب، بل كذئب بين الذئاب فالرب لن يحميك وينبغي عليك أن تدافع عن نفسك". لذلك يوصي يسوع تلاميذه ببذل حياتهم بوداعة الحمل، لأنهم سيتغلبون على الشر بسلوكهم الوديع في البساطة، والطهارة الأفكار والثقة بالله، وليس بالقوة أو التسلط أو او العنف او بقدراتهم الشخصية بل بشهادة المحبة الوديعة ببذل الذات. ويقول المثل الهندوسي: "سيحلّ السلام في قلوبنا عندما تحل قوة الحب مكان محبة القوة".

 

هذا ما حدث بالفعل أثناء كرازة الرسل الذين احتملوا اضطهادات عنيفة، فغيّروا كثيرا من القلوب القاسية، كما جذب الشهداء من كانوا يُعذِّبونهم إلى الإيمان. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " أن الشراسة لا تُطفأ بالشراسة وإنما باللطف". وهكذا تتم هذه الكلمة: " الذِّئبُ والحَمَلُ يَرعَيانِ معاً" (أشعيا 65: 25). ألم يتحول شاول الطرسوسى إلى بولس الرسول الحمل كما يؤكده هو نفسه “إِنَّنا مِن أَجْلِلكَ نُعاني المَوتَ طَوالَ النَّهار ونُعَدُّ غَنَمًا لِلذَّبْح " (رومة 36:8) بعد أن كان ذئباً كما يعترف قائلا "أَمَّا في الحَمِيَّة فأَنا مُضطَهِدُ الكَنيسة" (فيلبي 6:3)؛ وأمَّا القدّيس أمبروسيوس (نحو 340 -379)، أسقف ميلانو فيعلق على توصية الرب بقوله "حين أرسل الرّب يسوع تلاميذه إلى الحصادِ ...فانه لا يخشى على قطيعِه من الذئاب؛ أُرسِل أولئك التلاميذ لا ليكونوا فريسةً، بل لينشروا النعمةَ أينما حلّوا. إن عناية الراعي الصالح تقي الحملانَ من اعتداءاتِ الذئاب. إنّه يرسلهم لتتمّ نبوءة أشعيا: "الذئبُ والحملُ يرعيان معًا (أشعيا 65: 25).

 

 إنّ ما أوصى به الربُّ المتواضع حقّقهُ تلاميذُه بعيشِ التواضع لأنّه أرسلهُم لغرسِ بذورِ الإيمان من خلال التعليمِ لا من خلال الإكراه؛ ولا من خلال استغلال قوّة سلطتهم، بل من خلال ممارسة التواضع. وقد أوضح بولس الرسول هذا الموقف بقوله " ولِذلِك فإِنِّي راضٍ بِحالاتِ الضُّعفِ والإِهاناتِ والشَّدائِدِ والاِضطِهاداتِ والمَضايِقِ في سَبيلِ المسيح، لأَنِّي عِندَما أَكونُ ضَعيفًا أَكونُ قَوِيًّا" (2 قورنتس 12: 10). فقد أَظهِر التلاميذ وداعة الحملان رغم أنهم ذاهبون إلى ذئاب، ليس فقط ذاهبون إلى الذئاب بل أيضاً يعيشون وسطهم. وفي هذا الصدد قال إلى بولس الرسول "حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف " (2 قورنتس 12: 9).

 

التوصية الثالثة: الفقر

 

توصية الرب الثالثة لتلاميذه المُرسلين تنص " لا تَحمِلوا كِيسَ دَراهِم ولا مِزوَداً ولا حِذاءً (لوقا 10: 4). يعلق القدّيس بونافَنتورا " فعندما فهم فرنسيس هذا الكلام وحفظه، وقع أسيرًا لحبّ الفقر الرسولي هذا وصاح فرِحًا: "هذا ما أريده! وهو ما تبتغيه نفسي!" ثمّ أسرع وخلع حذاءه وترك العصا الّتي يستعملها للمشي كما ترك جعبته ونقوده ولم يترك له سوى رداءً واحدًا واستبدل الزّنار بحبل: لقد وضع كلّ قلبه في سبيل تنفيذ ما سمعه للتوّ والتقيّد بطريقة عيش الكمال الإنجيلي الّتي أعطيت للرّسل" (حياة القدّيس فرنسيس الأسيزي، الفصل 3).

 

يطلب يسوع من تلاميذه التمسك بالفقر وذلك بان لا يأخذوا أية احتياطات لازمة، لأن نجاح الإرسالية لا يعتمد على الوسائل والأدوات، بل على شهادة حياة وديعة تعلن عن إله أصبح فقيراً ومتضامناً. فيتوجب على المرسلين أن يعيشوا الفقر فلا يعتمدوا على القدرات والموارد البشرية والضامنات الدنيوية، ولا يثقوا في الوسائل بل يثقوا فقط بالذي يرسلهم. لأنّ العناية الإلهيّة تأتي إلى معونتهم في كلّ حين. وهكذا ينطلق التلاميذ فقراء كي يستطيعوا أن يضعوا ثقتهم فيمن أرسلهم، وفي أولئك الذين سيُرحبون بهم. إن حُب الآخرين لا يقتصر على إعطائهم شيئاً، بل الاعتماد عليهم أيضًا.

 

تركيز يسوع على الفقر الفعلي ينبغي ألاّ يُنسينا القيمة الروحية الكامنة فيه، فهو علامة ووسيلة للتجرد الداخلي والاستعداد لخدمة لرب ونشر ملكوته. هذا الفقر المادي أمر حسن، عندما تلهمه الرغبة في الاقتداء بيسوع والسخاء نحو إخوتنا. ويتيح تقبل هبة الله بمزيد من الحرية، والتكريس بقدر أكمل لخدمة ونشر ملكوته (لوقا 32:12-34).

 

من هذا المنطلق فإن المرسلين ليسوا الأشخاص الذين يملكون ويعرفون كل شيء ويعتقدون أن لديهم كل ما يحتاج إليه الآخرون بل هم فقراء ينطلقون بتواضع لأنهم لا يستطيعون لقاء بعضهم البعض إلا إذا أقروا باحتياجهم وفقرهم. وعليه سيسمحون لأنفسهم بأن يقبلوا كلمة الله أولاً من خلال الناس الذين يلتقون بهم.

 

يقوم مبدأ الفقر وهدفه على المشاركة في سرَ " جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح: فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه"(2 قورنتس 9:8). والفقر الفعلي هو الطريق الأمثل للوصول للفقر الروحي الذي يقوم على الانفتاح على هبة الله، في إيمان ملؤه الثقة والتواضع والصبر. فالرب يسوع يوصي تلاميذه المرسلين بالاستسلام بكلّيتهم له كي يُتمِّموا رسالة الإنجيل. وقد كان الرسول بطرس أول من نفَّذ وصيَّة الرب موضحًا أن وصيَّة الرب لم تُعط باطلًا، فعندما طلب منه الفقير صدقة عند باب الهيكل في اورشليم، قال: " لا فِضَّةَ عِندي ولا ذَهَب" (أعمال الرسل 3: 6).

 

التوصية الرابعة: السلام

 

يطلب يسوع من المرسلين أن يبلغوا للناس سلامه. "وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذا البَيت" (لوقا 10: 5). إنّ السلام هبة من الرب ينبغي تقديمها للآخرين ومشاركتهم فيها. والسلام هنا ليس هو التحيّة، بل هو جوهر إنجيل المسيح، إنه سلام القائم من بين الأموات الذي تغلب على الموت، وأتمّ المصالحة بين الله والإنسان، وحرّر البشر من الموت. إنه السلام بين السماء والأرض، وبين الله والبشر والسلام من أجل القريب والبعيد. والسلام هنا ليس السلام المبني على المساومة أو على الخوف، الّذي يدعو إليه البشر، بل هو سلام المسيح الربّ المبني على الحق والعدل. ويعلق القدّيس أفرام السريانيّ " هذا السلام هو سرّ هذا الإيمان الذي يشعّ في العالم؛ فمن خلاله تخمد نار الحقد وتتوقّف الحروب ويُحبّ الناس بعضهم بعضًا"(تعليق على الدِياطِسَّرون)

 

 السلام هو الرسالة الأساسيّة التي يحملها الرسول إلى البيت الّذي يدخل إليه، إلى الأشخاص الّذين يلتقي بهم، إلى كلّ كائن يحتاج إلى سلام القلب. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم (345-407) بقوله "إنّ الربّ يسوع يريدنا أن نكون رسلاً للسلام، وأن تكون خطانا الأولى في أيّ بيت مكرّسة ببركة السلام". التلاميذ مدعوون لمنحه، ولكنه إن رُفض، فلن يخسر التلميذ سلامه بل سيعود إليه".

 

من هذا المنطلق، فان مهمّة الرسول هي تبديل واقع القلب البشريّ، ودعوته هي زرع السلام في البيوت التي يزورها، ونزع القلق والخوف من قلوبهم واستبدالها بالفرح الحقيقيّ، بفرح بشرى الإنجيل التي تعطي السلام الداخليّ. وهذا السلام لا يمكنه أن يكون مفروضاً، فالسلام الّذي يهبه المسيح يجب أن يُقبل بحرّية وبرغبة، ولا يمكنه أن يبقى من طرف واحد. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على توصية يسوع القائل "وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلاً: السَّلامُ على هذا البَيت" كأنّه قال لهم: توجّهوا إلى الجميع، كبارًا وصغارًا، لكن بركتكم لن تحلّ على مَن هم ليسوا أهلاً. وأضاف: "فإن كانَ فيهِ ابنُ سَلام، فسَلامُكُم يَحِلُّ بِه، وإلاَّ عادَ إِلَيكُم"، أي: تُطلقون عبارات السلام لكنّكم تطلقونها للسلام بحدّ ذاته، وأنا أعطيها لمَن أراه خير أهل لها. وإن لم يكن أحد بأهل لها، لن تكونوا مخطئين والنعمة التي تحملها كلماتكم لن تذهب سدىً، بل على العكس تعود إليكم، كما وعدهم يسوع قائلا "وإلاَّ عادَ إِلَيكُم".

 

نستنتج مما سبق أنَّ سلام المسيح لا يتساكن وشرّ العالم؛ فلا يمكن لسلام المسيح المُحرّر أن يحلّ في قلب مملوء حقداً ورغبة بالانتقام، أو يرفض الصفح والدخول في علاقة مسالمة مع الآخر. لا يمكن أن يكون في قلب واحد، في بيت واحد، سلام المسيح وعنف الإنسان وقسوته. سلام الرّب يحلّ على "ابن السلام"، أي على الشخص الّذي يقبل إرادة الله في حياته، الشخص المُستعد لأنّ يكون على صورة المسيح "أمير السلام"، الذي يقابل العنف بالسلام، والشرّ بالخير، والأنانيّة بالعطاء. سلام الرّب لا يمكن أن يحلّ إلاّ في قلب من هو مستعدّ لإعلان قيم الإنجيل وأن كانت كلفة هذا الإعلان الشتم وهزء الآخرين به. ولكي يحلّ سلام الرّب في قلب الإنسان، لا بدّ أن يقبل الإنسان أن يحوّل قلبه إلى صورة قلب المسيح المطعون بالحربة وهو البريء الطاهر. قبول السلام يحوّلنا إلى مسيحٍ آخر.

 

التوصية الخامسة: شفاء المرضى

 

يوصي يسوع تلاميذه المُرسلين بعمل الخير وإبعاد الشر والمؤاساة " اشفْوا المَرْضى فيها وقولوا لِلنَّاس: قَدِ اقتَرَبَ مِنكُم مَلَكوتُ الله. (لوقا 10: 9). يرى يسوع في المرض شراً يعانيه البشر، كنتيجة للخطيئة، ودليلاً على تسلّط الشيطان عليهم (لوقا 13: 16). فالمرض هو رمز للحالة التي يوجد فيه الإنسان الخاطئ. ولم ينتظر يسوع المسيح مجيء المرضى إليه بل ذهب هو بنفسه إليهم، حاملاً إليهم في الوقت نفسه خيرين أساسيين: البشرى السّارة بالملكوت والشّفاء من كل أمراضهم وشفاء المرضى يعني انتصار يسوع على الشيطان وإقامة ملكوت الله في الحياة الدنيا. لذا أشرك يسوع رسله وتلاميذه في سلطان شفاء المرضى (متى 10: 1) وذلك لتأييد بشارتهم بالإنجيل كان المُبَشِّر بالحقيقة هذا "يَطرُد الشَّياطين ويشفي المَرْضى" (مرقس 16: 17-18). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لقد أعطى الرّب يسوع لتلاميذه القدرة على شفاء الأجساد، في انتظار أن تعهد لهم المهمة الأكثر أهمّية وهي شفاء النفوس" (العظة 32 حول إنجيل القدّيس متى).

 

يذكر سفر أعمال الرسل في مواقف متعددة معجزات الشفاء التي تظهر قوة اسم يسوع وحقيقة قيامته منها: شفاء بطرس الرسول للمقعد عند باب الهيكل في اورشليم (أعمال الرسل 3: 1-3)، وشفاء الشماس فيلبس لمجموعة من الممسوسين والمقعدين والكسحان في السامرة (أعمال الرسل 8: 7)، وشفاء بطرس الرسول للمُعقد أيناس في اللد (أعمال الرسل 9: 32-34)، وشفاء بولس الرسول لكسيح مقعد في لسترة في تركيا حاليا (أعمال الرسل 14: 8-10)، وشفاء بولس الرسول لابي حاكم جزيرة مالطة الذي كان مصاب بالحمّى والدوسنطاريا (أعمال الرسل 28: 8-9). ويُعلق أغناطيوس الأنطاكي على توصية المرسلين لشفاء المرضى بقوله " إن خدمة المرضى هي خدمة يسوع نفسه في أعضائه المتألمة وسوف يقول يوم الدينونة: ومَريضاً فعُدتُموني" (متى 25: 36)". فالمرض هو صورة المسيح يسوع وعلامته الظاهرة. وتعطي القدّيسة تيريزا الكالكوتيّة خبرتها مع المرضى   " نحن لا نحكم على هؤلاء المرضى، بل نهتمّ بهم ولا نطلبُ منهم أن يُعلِمونَنا بما حَدَثَ لهم أَو كيف أَصبحوا مرضى. وأعتقد أنّ الله يبعث لنا رسالةً أكيدةً بالنسبة إلى مرض السيدا: فهو يريدنا ألاّ نرى فيه أيّ شيء سوى الفرصة لإظهار حبّنا. إنّ مرضى السيدا، ربّما قد أيقظوا حبًّا مليئًا بالحنان لدى العديد من الأشخاص الذين تَخلّوا عن هذه المشاعر في حياتِهم" "(A Simple Path،87).

 

التوصية الأخيرة: عدم إصدار حكم

 

يوصي يسوع تلاميذه المُرسلين بعدم إصدار حكم.  التلاميذ هم غير مخوَّلين لإصدار الحكم على أحد. إنما الله هو سيد العالم وله وحده الحكم. "وأَيَّةَ مَدينَةٍ دَخَلتُم ولَم يَقبَلوكم فاخرُجوا إلى ساحاتِها وقولوا: حتَّى الغُبارُ العالِقُ بِأَقدامِنا مِن مَدينَتِكم نَنفُضُه لَكم. ولكِنِ اعلَموا بِأَنَّ مَلكوتَ اللهِ قدِ اقتَرَب. (لوقا 10-11). في حالة الرفض، يحثُ يسوع التلاميذ على التزام الهدوء، لجعل هذا السلام "يعود إليهم"، دون أي اضطراب. ويُعلق يوحنا الذهبي الفم بقوله "تطلقون عبارات السلام لكنّكم تطلقونها للسلام بحدّ ذاته، وأنا أعطيها لمَن أراه خير أهل لها. وإن لم يكن أحد بأهل لها، لن تكونوا مخطئين والنعمة التي تحملها كلماتكم لن تذهب سُدىً، بل على العكس تعود إليكم، لذلك قال: "وإلاَّ عادَ إِلَيكُم". في الواقع، إنّ السلام الذي ينطق به لسان المبشّر يستقرّ على البيت إذا وجد بعض الأشخاص المهيّئين للحياة والذين يتبعون بطاعة التعاليم السماويّة التي أعطيت لهم. لكن إن كان أحدٌ لا يريد سماعها، لن يبقى المبشّر بدون ثمر، والسلام الذي تمنّاه سيرجع له مع الثواب الذي يعطيه إيّاه الربّ مقابل عمله. " فاحترام حريّة الآخرين، ورفضهم لنا، جزء من تحقيق الملكوت. ونستنتج مما سبق أن طرق المسيح لا تملك معها أي شيء من ‏العالم. لكن الضمان الوحيد للتلاميذ في إرساليتهم هو شخص يسوع ‏فقط وسلامه.  ‏

 

 

خلاصة

 

ينفرد إنجيل القديس لوقا بذكر مرتين عن إرسالية التلاميذ. الإرسالية الأولى خاصة الاثني عشر وهي مقصورة على الشعب اليهودي (لوقا 9: 1-6). أمَّا الإرسالية الثانية خاصة بإثنين وسبعين تلميذا وهي موجّهه إلى الجميع، حتى الشعوب الوثنية (لوقا 10: 1-20). فإن ربَّنا يسوع المسيح يرسل لليهود كما للأمم طالبًا صداقتهم بلا تمييز.

 

ترتكز مهمة هؤلاء الاثنين والسبعين إلى تهيئة البشر لقرب مجيء ملكوت الله، فأوصاهم بالصلاة إلى رب الحصاد كي يُرسل فعلة لحصاده، موضحًا لهم كيفية حسن التصرف في الطريق، وطلب إليهم حين دخولهم البيوت، نقل سلامه إلى أهل ذاك البيت، وقبول ضيافتهم، ودعاهم كي يدخلوا المدن الراغبة في تقبل البشرى السعيدة، وأيضا إلى دخول تلك المنازل الرافضة للبشارة، وكل ذلك قبل أن يصدر حكم الله القاسي على سكان المدينة الرافضين للبشرى، واكّد لهم على أن سلطتهم هي سلطة مستمدة من الله ذاته.

 

ويوكل الرب إلى تلاميذه عملاً كبيراً جدّا للتبشير، في الوقت الذي يقلُّ فيها العملة، وفي هذا الموضوع لا بد من التوقف عند كلمة البابا الراحل خادم الله يوحنا بولس الثاني، أثناء استقباله أساقفة التشاد حين قال لهم: "أدعوكم مع مؤمنيكم إلى رفع الصلاة، كي يُرسل الله عملة صالحين إلى كرمه، عملة لا يتَّكلون على المال" ولا يطمئنون إلى الزاد ولا ينتعلون حذاء خوفًا على صحتهم ولا يتوقفون في الطرقات للسلام والكلام وإضاعة الوقت".

 

كل المسيحي بصفته نال سر العماد هو رسول في خدمة سر البشارة، في كل مكان، وعليه أن يمهد السبيل لدخول الرب وحلوله في كل منزل، وقرية، ومدينة، وبلد، وقارة. فالرسالة ليست حكرا على الرسل وخلفائهم الأساقفة والكهنة والشمامسة، إنها واجب كل مُعمَّد في الكنيسة. كلّنا نشكّل جزءاً من فريق الرسالة هذا، كلّ مُعمّد يحمل في طبيعة معموديّته دعوة الرّب له للانطلاق، للمشاركة في الحصاد وإعلان إنجيل الرّب. وإنجيل اليوم يدعونا نحن اليوم أن نقوم على إعلان حبّ الرّب لكلّ إنسان، مهما كان لونه وأصله ومعتقده؛ وإعلان إنجيل السلام والعدل والرحمة

 

 

دعاء
 

أيها الآب السماوي، يا من تعمدنا باسم ابنك يسوع المسيح، وأصبحنا تلاميذه أرسلنا إلى العالم لكي نعلن إنجيل السلام والحبّ والخلاص بروح الصلاة والفقر والتجرد فنبذل حياتنا بوداعة الحمل لكي نحوَّل الذئاب إلى حملان ونحمل السلام والمصالحة للناس ونهتم بالمرضى ومؤاساتهم فتصبح حياتنا بأكملها مكّرسة لمجد الله وخلاص النفوس. آمين.