موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ يوليو / تموز ٢٠٢١

إذا كانَ الله مَعنا، فَمن يكون عَلينا؟

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
إذا كانَ الله مَعنا، فَمن يكون عَلينا؟

إذا كانَ الله مَعنا، فَمن يكون عَلينا؟

 

إذا كانَ الله مَعنا، فَمن يكون عَلينا؟ (رومة 31:8)

 

أَيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاءُ في المسيحِ يسوع. عُدْنَا من جديدٍ إلى مَسيرة الزّمنِ العَادي. ونحنُ اليوم في الأحدِ الخامسِ عشر من زمنِ السّنة. وهو الزّمنُ الّذي يُرافِقنا حتّى نَصِلَ إلى الأحدِ الرّابعِ والثّلاثين، وَفيه نحتفِلُ بِعيدِ الْمَسيح مَلِكِ الكَون، لِندخُلَ بَعدَهُ مباشرةً زَمنَ المجيءِ والاستعداد للميلادِ المجيد. وخلالَ آَحادِ هذا الزّمن، ستكونُ قِراءَتُنا مُركّزَةً على بشارةِ القدّيسِ مَرقس، مع التّعريجِ في بعضِ الآحاد على بِشارةِ القدّيسِ يوحنّا أيضًا.

 

أمّا في هذا الأحد، فَنحنُ في الفصلِ السّادس من بشارةِ الإنجيليّ مَرقس، حيثُ نَرى المسيحَ يُنادي رُسلَه الاثني عَشر، ثمّ يُرسِلُهم اثنينِ اِثْنَين. يدعوهم الرّبُّ إليِه قَبل الانطلاق، لِكَي يُهَيِّأَهُم للرّسالة، ويُسلِّحَهم بكلِّ ما يحتاجونَه خلالَ هذهِ الْمَهمَة، ويُزوّدَهم بالسّلطةِ الّلازِمةِ للقيامِ بِوَاجبِهم نَحوَ النّاس، الّذينَ هم مُرسَلونَ إليهم. فَمَع المسيح لا مجالَ لِلعَبثيّة والفَوضى، فالقضية ليست قَضية (فَزعة)، كَما يَحدُث عِندَنا اليوم، بِقَدر ما هي نظامٌ وتخطيطٌ واستعدادٌ وَجُهوزيّة.

 

أَوصَاهُم الرّبُّ ألّا يَأخذوا للطّريقِ شَيئًا سوى عصًا! فَالعَصا رمزُ السُّلطة أوَّلًا، وهي رمزُ الرّعايةِ أيضًا ووسيلةُ حماية. ونذكُر أَيضًا عصا موسى، والّتي كانت أداةً تُشيرُ إلى قدرةِ اللهِ الفائقة، الّتي كانت تُرافِقُ موسى أَثَناءَ مُواجَهَتِه لِفِرعونَ وَأَعوانِه. ثمّ أنّ العَصا وسيلة عَليها يرتكِزُ الإنسان وَإليها يَستنِدُ، خلال الْمَسير وخلالَ الوقوف أيضًا. فَالعَصا هنا تعني أنَّ الْمُرسلَ يَضَعُ كلَّ اتّكالِه وَثقتِه بالله تعالى الّذي أرسلَه: "عصاك وعكّازك يُسكّنانِ رَوعي" (مزمور 4:23). فالرّسولُ الحقيقيّ لِيَسوع المسيح، لا يَركُنُ إلى تَطميناتٍ حِسّية ولا يَرتَكِزُ على ضَماناتٍ دُنيَويّة، إنّما يَعتمِدُ فَقط على الله، مُعطيِهِ الشّرعيّةَ والسُّلطَان. واللهُ يَعلم كَيف يَعتَني بِمَن أَرسَل، ف: "الرّبّ راعيَّ فَما مِن شيءٍ يُعوِزُني... إنّي وَلو سِرتُ في وادي الظّلماتِ لا أخافُ سوءًا لأنّكَ مَعي" (مزمور 1:23، 4).

 

يا أحبّة، هذا الكلام لا يَنطبِق فَقَط على الكهنةِ والرّهبانِ والرّاهبات، ولا على الْمرسلينَ والْمُرسلات في أدغالِ الأمازون أو في سفاري أفريقيا، إنّما ينطبِقُ على كلِّ واحدٍ منّا. فكلُّ مَسيحيّ هو رسولُ المسيح وحامِلٌ للرّسالة، وكلُّ مسيحي هو ملحُ الأرضِ ونورُ العالم. وكلُّ مسيحي مَدعو لأنْ يَضَعَ ثِقتَهُ واتّكالَه على الله، فهو السّندُ والْمَلجَأ، وإليهِ الرّكونُ وَعَليه التّعويل.

 

قالَ الرّب: "أُطلبوا ملكوتَ الله وبِرّهُ والباقي يُزادُ لَكم" (متّى 33:6). وَلَكنّنا في الواقِع نحيا الآية مَعكوسة! فَنَحن نطلبُ الباقي، ونعتمِدُ على الأشياء، ونتّكِل على الغِنى والمادّة بأشكالِها، وَنَضعُ الضَّماناتِ في الأموالِ والأراضي والْمُمتَلَكات الّتي بحوزَتِنا. واللهُ هناك يَقبَعُ في قَاعِ سُلَّمِ الأولويّات، قَد نَفطَنُ إليه بين الفَينَةِ والأخرى عندَ الحاجة، أو قَد لا يَطلبُه البعضُ أَبدًا!

 

نَأخذُ لِلطَّريقِ كلَّ شيء، نحاولُ في الحياةِ أن نستَحوِذَ على كلّ شيء، تَسودُنا الرّوحُ الانتهازية، وتَطغى علينا العَقليّةُ الاحتكاريّة. لا نَكتفي أبدًا، ولا نرتَوي أبدًا، ولن نشبَعَ بتاتًا. يمكنُكَ أن تفهمَ بسهولةٍ حَاجةَ الجائِعِ الْمُعدَمِ وَسَعيَه، ولكنَّكَ تَعجزُ أبدًا عن إدراكِ طَمعِ الشّبعانِ وَفَجعِ الْمُتخَم، الأسوء أنْ تَراهُ مُتباكٍ مُتشاكٍ، ولَن يُطفِئ ذلك النَّهَم سوى التّرابُ المردوم على جثمانه، والْمُلقَى فوقَ قَبرِه!

 

قَبل أن يُرسِلَ الْمَسيحُ تلاميذَه، حَدّثَهم صراحةً بأنّهم قَد يُقبلونَ في أماكن وبيوت، وحذّرهم في الوقتِ عَينه مِن أنّهم قَد يُرفضونَ هم ورسالتُهم، الّتي جاؤوا بها إلى ذَلِكَ المكان وإلى أولئِكَ النّاس! فَرِسالةُ المسيحِ لا تُقْبَلُ دومًا، ولا تُفْهَمُ دومًا، ورُسلُ المسيح قد يكونون: "آيةً مُعرّضةً للرّفض" (لوقا 34:2)، وقَد يتألّمونَ ويُعانون من الرّفضِ وعدمِ الفهم أو القبول، بِسبب هذهِ الرّسالة وَمَضْمونِها. وهنا تحضُرني كلماتُ يشوعَ بن سيراخ، حين قال: "يا بُنيَّ، إذا أَقبَلتَ لِخدمَةِ الرَّبّ، فَأَعدِد نَفسَكَ لِلمِحنَة" (يشوع بن سيراخ 1:2).

 

نَعم، كرُسلٍ للمسيح، نخدمُ جميعَ النَّاس، عن طِيبِ خَاطِر وَبمحبَّةٍ وَمجَّانيّة وعَدالَة، وَفي نَفسِ الوَقت، نَسْتَعدُّ لِلرّفضِ والشَّجبِ والعداوةِ وغيرِها... أَلَم يَفعلوا ذَلِكَ بالْمُعلّم نَفسِه، فَمَن نكون نَحن، حتّى لا نَلقى أَحيانًا نَفسَ الْمُعامَلةِ الْمُجْحِفَة؟! ومع ذلك، لِسان حالِنا يقول مع القدّيس بولس: "أَيُّها الإخوة، لا تَفتُر هِمَّتُكُم في عَمَلِ الخير" (2تسالونيقي 13:3).

 

أَمّا الآيةُ الّتي فيها يطلب الرّبُّ من رُسُلِه نَفضَ الغَبارِ مِن تحت أقدامِهم، شهادةً عَلى القَومِ الرّافضينَ لرسالِته، فإنّي أَمتنِعُ عَن الخوضِ فيها، مع أنّها إمكانيةٌ وارِدة وَضعها المسيح نفسه، واحتمالٌ يبقى قائِمًا كحلٍّ جَذري أخير. ولَكن، مِن صفاتِ الرّاعي الصّالح الأملُ في رَعَيّته دوًما، دونَ الرّغبةِ أو السَّعيِّ من طَرف الرّاعي، لأن تَصِلَ الأمورُ إلى هذا الحدّ حيثُ لا رجعة!