موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣ يوليو / تموز ٢٠٢١

أُمكُث معنا يا رب

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أُمكُث معنا يا رب

أُمكُث معنا يا رب

 

الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في الْمَسيحِ يسوع. الرّبُّ حَاضِرٌ في كُلِّ مَكان وَفي كلِّ زَمان، دونَ أن يَحُدَّه المكانُ ولا الزّمان. هُو حَاضِرٌ في كَلمتِه الْمقدّسة الّتي نَقرؤها وَنتأمَّلُ بها. هو حَاضِرٌ في شَخصِ القَريب الّذي نَقِفُ إلى جَانِبِهِ، ساعةَ يكون بحاجةٍ إلينا: "فَكُلَّما صَنَعتم شيئًا مِن ذلِك لِواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصّغار، فَلي قَد صَنعتموه" (متى 40:25). هو حاضِرٌ مَعنا في لِقاءَاتِنا وَصلواتِنا: "فحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنتُ هناكَ بينَهم" (متّى 20:18). ولكنَّ أَسمى أَشكالِ هذا الحضور، يَبقى حُضورُ الرّبّ في سرِّ الإفخارستيّا، سرِّ القربانِ الأقدس، جسدِ الرّبِّ ودمِه الأقدَسَين! فَهو في الّليلةِ الّتي أُسلِمَ فيها، تركَ لنا ذاتَهُ زادًا يُقوتُنا، وخُبزًا يُقوِّينا، وَمَشربًا يُروينا.

 

هذا كانَ إيمانُ الكنيسةِ مُنذ نَشأَتِها، فَها هو القدّيسُ بولس يُنَبِّهُنا على ضَرورةِ الحِرصِ في التَّعامُلِ مع هذا السّرِّ قائِلًا: "مَن أكلَ خُبزَ الرّبِّ أو شَرِبَ كأسَهُ ولَم يَكُن أهلًا لَهُما، فَقَد أذنَبَ إلى جَسدِ الرّبِّ وَدَمِه" (1قورنتوس 27:11). وهذهِ كانت ممارسةُ الكنيسة منذُ أيامِ الرّسل، إِذْ كَانوا يُواظِبونَ على الاجتماعِ يومَ الأحدِ لِكَسر الخبز، كما يُحدِّثُنا سفرُ أعمالِ الرُّسل (أعمال 42:2/ 7:20).

 

وَكما أنَّ سرَّ القُربانِ هو سرُّ حَياةٍ أَبَديّة، لأن: "مَن أكلَ جَسدي وشَرِب دمي فَلَهُ الحياة الأبدية" (يوحنّا 54:6)، وَكما أنَّهُ سرُّ ثَبَاتٍ في الرّبّ، لأن: "مَن أكلَ جَسدي وَشَرِبَ دَمي، ثبتَ فيَّ وثَبتُّ فيه" (يوحنّا 56:6)، كَذلِك قَد يُصبِحُ سببَ عَثرةٍ وحجرَ صَدمٍ، لأولئِكَ الّذينَ لا يُؤمِنون! فكثيرٌ مِن تَلاميذِه قَالوا مُتَذمّرين: "هذا كلامٌ عَسير، مَن يُطيق سماعَهُ؟" (يوحنّا 60:6). سرُّ القربان هو حَقًّا سرُّ الإيمان، كما نُعلِنُ قَائلينَ في كلِّ ذَبيحة قُدّاس، وإن لم يَكُنْ كَذلِك، فَهو حجرُ عَثرةٍ بامتياز.

 

نَشَأَ الاحتفالُ بعيد جَسدِ الرّبِ ودمِه الأقدَسين بداية بِشَكل محلّي، ثمّ أَخَذَ طابِعًا احتفاليًّا عامًّا على مُستوى الكنيسةِ الجامعة. فَفي بَلجيكا وتحديدًا في مدينةِ لييج، في منتصفِ القرنِ الثّالثِ عِشر، عَاشَت راهبةٌ مُتَنسّكةٌ تُدعى جوليانا، عُرِفَت بِتَعبُّدِهَا الفائقِ وَتبجِيلِها العظيمِ لِلمسيحِ في سرِّ القربان. وَبناءً على طلبِ المسيحِ منها في إحدى ظهوراتِهِ لها، أنْ تَعملَ على إنشاءِ عيدٍ، فيه يتمُّ تكريمُ سرِّ جَسدِهِ وَدَمِه. وَلكنّها أَبقَتْ موضوعَ الرّؤيا سِرًّا مدّةَ عشرين عام، إلى أن كاشَفَت بهِ أخيرًا أُسقُفَها، الّذي بادر إلى إنشاءِ هذا العيدِ بِشكل عَلني سنةَ 1246، وَحَدّد لهُ يومَ الخميسِ الواقعِ مُباشرة، بَعد الاحتفالِ بِعيدِ الثّالوثِ الأقدس.

 

ثمّ أنّ رئيسَ الشّمامسةِ في تلكَ المدينة، والّذي كانَ شاهِدًا على إنشاءِ العيد، أَصبحَ البابا أوربانوس الرّابع سنة 1261. فَعمِل على تَعميم الاحتفال بهذا العيد على مستوى الكنيسة كلّها، بَعدَ معجزة حدثت في مدينة (Bolsena) الإيطاليّة سنة 1263، حَيثُ تحوّل الخبزُ (البرشانة) إلى قطعةِ لحمٍ تنزِفُ دمًا، بين يديِّ كاهنٍ كانَ يشكُّ في حقيقةِ وجود المسيح، في سرِّ القربان. فأمرَ البابا حينَها بإقامةِ هذا العيد إجلالًا لهذا السّر العظيم، ولتعزيز مشاعرِ التقوى ومظاهرِ السّجود، تجاه الْمَسيح الحاضرِ في القربان الأقدس. وقد طلبَ البابا أيضًا من الّلاهوتيّ العظيم، القدّيسِ تُوما الأكويني، أَن يَنظمَ الأناشيدَ احتفاءً بهذه المناسبةِ البهيّة، فَألّفَ أناشيدًا مُلهَمَةً، تَجَلَّت في كلماتِ: (Pange Lingua gloriosi/ يا لساني جُد بوصف، وAdore Te Devote/ لكَ أجثو خاشِعًا).

 

يا أَحِبَّة، بعدَ ما يَقرُب من ثمانيةِ قرونٍ على إنشاءِ هذا العيد، بِهدفِ تَعزيز مشاعرِ التَّقوى ومظاهِرِ السّجود، نحوَ حُضورِ المسيحِ الحقيقيّ في القربان الأقدس، دَعونا نَتساءَل كيفَ هو اليوم مُستوى الإكرامِ والإجلالِ تجاه سرّ الإفخارستيّا؟ لا نَسْتَطيعُ أن نُنكرَ وأن نَغضَّ البَصرَ عن حقيقةِ أن أزمةَ الكورونا، لم تُصِب فقط النّواحيَ الصّحيةَ والاقتصادية والتّعلميةَ والاجتماعيةَ والنّفسية، بل أيضًا أصابَتْ النّاحيةَ الإيمانيّة! وواحدةٌ من مظاهرِ هَذهِ الإصابةِ البَليغة، تَدَنّي عام في مستوى اِحترام القُربان الأقدس، وانخفاضٌ شبهُ شائِع في مشاعرِ التَّوقير والسّجودِ، للمسيحِ الحاضرِ حقيقة في هذا السّر.

 

وأعتقدُ أنّ الْمُناولةَ باليد، وما حَملَت من مَظاهرِ استخفافٍ وجَهلٍ في كيفيّة التّعامل مع قُدسيّة هذا السّر، وحوادثِ تَدنيس غير مباشرة، ونَعلمُ أنّها غير مقصودة في أحيانٍ كثيرة، ولكنّها تَحدُثُ مع كلِّ أسف، لهي أشدُّ خطرًا على حياةِ الكنيسةِ والمؤمنين من الكورونا نَفسِها! وقبلَ أنْ أُوَجّهَ أصابِعَ الّلومِ وسِهامَ الانتقادِ لأحد، فأنا ألومُ وانتقدُ نفسي فَقط. نحتاجُ لقرونٍ من التّعويضِ والاستغفار، على كلِّ ما جَرى ويجري، خِلالَ هَاتَين السّنَتين الّلعينَتين وما يَتبع!

 

في رعيّةِ سَيّدةِ الوردية في الكرك، حيث أَخدمُ اليَوم، لَفَتَ انتباهي مَشهدُ أُمٍّ وَقورةٍ فَاضلة، تَرفعُ يَدَيهَا نحوَ السّماءِ مُبتَهِلة، تُناجي الجالِس على عَرشِ الرّبوبيّة، وتقرعُ أبوابَ البَلاطِ الإلهي، عِندَ رَفعِ الجَسَدِ والدّمِ الكَريمَين، في مَشهد تَقَويٍّ جَميل قَلَّ نَظيرُه! هَذهِ هي التَّقوى الّتي نَبحثُ عَنها، وهذا هو الإيمانُ الّذي نَسعَى له. نَسألُ اللهَ أن يَستَجيبَ لَها، ولِكلِّ مَن مَاثَلَها، كلَّ طِلبةٍ وَدُعاء، فهؤلاءِ يُصلّونَ بِصدقٍ، ويُناجونَ بإيمانٍ لا غِشَّ فيه.

 

أَيّها الأحبة، عيدُ جسدِ الرّبِّ وَدَمِهِ الأقدَسَين، يَدعونا من جديدٍ لأن نُركّزَ على أَهميّة الإفخارستّيا في حياتِنا كَمَسيحيّين. ومن هنا أُناشِدُ جميعَ الْمُنقطِعينَ عن الْمَناولةِ المقدّسة منذُ أسابيع أو أشهرٍ أو سَنوات، أن يُعاوِدا التّفكيرَ والنّظرَ في هذا الأمر. أَلِهذِهِ الدّرجة الأمرُ جَسيم، حتّى أَنّهُ يمنعُكَ من التّقدّم نحوَ الزّادِ المقدّس كلَّ هَذه المدّة؟ لا أعتقِدُ ذلك! فَما الفائدة إذًا من الاشتراكِ في مَائدةِ الرّب، وَمِن حُضور عَشاء الحَمل، إن كُنَّا لا نَنوي الأكلَ مِنه؟! نَعَم، هناك فائدة أَنّني قد لَبّيتُ الدّعوة، ولكنَّ تَلبيَتي تَبقى مَنقوصَة، فَهَلّا أَتمَمتُها!

 

الإفخارستيّا سِرُّ الشّكر؛ فَلْنشكرْ المسيحَ على حُضورِه وتواجُدِه مَعَنا، لِنَشكُرُه على مُكوثِه وبقائِه مَعنا. وَإن كُنَّا اليومَ لا نَراهُ بالعَيان، إلّا أنّنا على يَقين مِن أَنّنا نُبصِره بِأَعينِ الإيمان! فَعلى مِثال تَلميذي عمّاوس، نخاطبُ الرّبَّ قَائِلين، أن: "أُمكث معنا يا رب، فقد حانَ المساءُ ومالَ النّهار" (لوقا 29:24).