موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة أربعاء الرّماد
يَرُشُّ الكاهِنُ الرّمادَ فَوقَ رؤوسِ المؤمنين، أو يمسحُ به جِباهَهُم الحِنطيّةَ قائِلًا: ((أُذكُر يا إنسان، أنّك تُراب، وإلى التّراب تَعود)). بعضُ الذّكريات ضَروريّة للإنسان، خصوصًا تِلكَ الّتي تَرُدُّهُ وتساعِدهُ على العَودة عِندما يظلُّ وَيَتيه، أو تُنَجّيهِ وَتُنقِذُهُ من شَرٍّ وَضَلال، أو تمنعُه من إلحاقِ الظُّلمِ والأذى بِحقٍ أُناسٍ أَحسَنوا إليه في الْماضي. لِذلك النّسيان لَيس دائِمًا نعمة، كَما تَقول مَيّادة الحنّاوي. النّسيان أحيانًا يَعني هلاكٌ وضياع وتَيهان، وأحيانًا يعني نجاة وخَلاص ورَحمة.
مَا الّذي أعادَ الابنَ الضّال إلى أَبيه بَعد طَيشٍ وضياعٍ وعِيشةِ انْحِطاط؟ إنّه التَّذكُّر: "فَرَجَع إلى نَفسِه وقال: كَم أجيرٍ لأبي يَفضُلُ عَنه الخُبز، وَأنا هُنا أَهلِكُ جوعًا. أَقومُ وأَمضي إلى أبي وأقولُ لَه: يا أبتِ إِنّي خَطِئتُ إلى السّماءِ وإليكَ" (لوقا 17:15-18). رَجَع إلى نفسِه، تَذكّر الأيّامَ الخوالي عِندما كان يعيشُ في رَغدٍ وهَناء وشَبع، فَقادَته الذّكرياتُ ودَفَعتهُ إلى الرّجوعِ والتماسِ التّوبة وإبداءِ النّدم.
يَا أَحبّة، أربعاءُ الرّماد يُحفّز فينا هَذِه الذّاكِرة! ذاكِرة من ناحية تَجعلُنا لا نَغفَل مَصيرَنا، إلى أين نحن صائِرون، وإلى أَين سَنمضي: "فَمِن التُّرابِ وإلى التُّرابِ نَعود" (تكوين 19:3). ومن ناحيِة أخرى، ذاكرةٌ تَشحَذُ فينا مشاعِر التّوبةِ والنّدم وأعمالِ التّكفيرِ وطَلبِ الغُفران. أربعاء الرّماد يُذكّرنا بحقيقةِ زوالِ الإنسان، فَمَهما طَال العُمر فإنّه سَيمضي، ومَهما تَشَبَّثنا بهذهِ الحياة، فالحياةُ سوف تُفلِتُنا مِنها. وإن كَان أربعاء الرّماد يُذّكرنا بهذه الحَقيقةِ الّتي تَسودُ كلَّ حَيٍّ على وَجه البَسيطة، فهو أيضًا يُذكّرنا بواجبِ الاستعداد للحياةِ الّتي ليس لها زوال وبِلا انقضاء. فَكَيفَ تُعدُّ لآخِرَتِك في دُنياك، إِن لَم يَكُن بأعمالِ البّرِّ والتَّقوى والقَدَاسة؟!
وَلكِن، لِماذا الرّماد، وما هو الرّماد؟ الرّماد هو ما يَتبقّى من حرقِ مادّة عُضويّة بالكامِل. فالرّماد الْمُستَخدم في رُتبةِ هذا اليوم، هو ناتِجُ حَرقِ أَغصانِ النّخيلِ وَالزّيتون الّتي تمَّ تَبريكُها العامَ الماضي يومَ أحدِ الشّعانين. الرّمادُ أَيضًا يندفِع ويتطاير عِندَ ثَوران البراكين، فَيُحدِثُ دَمارًا وضَرَرًا واسِعًا. الرّمادُ يَدلّ على نهاية حَتميّة، حتّى أَنّه غير قابلٍ للاشتعال بحسبِ العِلم! وَكَأنَّ الكنيسة من خلالِ استخدامِها لِهذه المادّةِ المحسوسة، خِلال رُتبةِ هذا اليوم، تُريدُ أن تُذكرّ وتؤكِّدَ على النهّاية الحتميّة القاطِعة الْمُتَمثِّلة في موت الكَائِنِ الحّي! وكأنَّ حياةَ الإنسان هي احتراقٌ يَومي بَطيء، يقود يومًا إلى نَتيجَةٍ أَكيدة وموتٍ مُحتّم، لأنَّك تُراب وإلى التُّرابِ تَعود!
هذا الرّماد يحمِلُ عِدّةَ دلالاتٍ في الكتاب الْمُقدّس، فَهو:
- يُشير إلى تواضع الإنسان وَاعترافِه بِضعفه. فَفي سفر التّكوين، يُقرّ إبراهيم بتواضُعه، مُتذلِّلًا أمامَ الله، قائِلًا: "قَد أَقدمتُ على الكلامِ مع سيّدي، وأنا تُرابٌ ورَماد" (تكوين 27:18).
- وسيلةٌ مادّية لإبداءِ التّوبة وإظهارِ النّدم. فَفي سفر أيّوب البار، نَسمعه يُجيب الرّبَّ، قائِلًا: "فَلِذلِكَ أرجِعُ عن كلامي، وأندمُ في التّرابِ والرّماد" (أيّوب 6:42).
- مظهرٌ للتّعبير عن المرارةِ والحسرة. فَفي سفر حزقيال النّبي، نسمع الرّبَّ قائِلًا: "يصرخونَ بِمَرارةٍ، ويَحثونَ فوقَ رؤوسِهم تُرابًا، ويتَمرّغونَ في الرّماد" (حزقيال 30:27).
- وإذا كان الرّمادُ يدلّ على الحُزنِ والانتحاب، فاللهُ يُبشِّرُنا بالخلاص على لسان نَبيّه أشعيا، قائِلًا: "وأُعزّي جميع النّائِحين. لِأمنَحَهم التّاجَ بدل الرّماد، وزيتَ الفرحِ بدلَ النّوح" (أشعيا 2:61-3)
يَصِف القدّيس أوغسطينوس، ديناميكية التّوبة القِشريّة للإنسان، والّتي لا تَدوم سوى لحظات، بشكلٍ رائع وواقعي للغاية، قائِلًا:
إنّا أمامَك ربَّنا بِدمِ الذّنوبِ مُخضّبون
آثامُنا أودَت بِنا وذنوبُنا نُصبَ العيون
إنّا نُكابِدُ ذا العِقاب ونظلُّ نَغرقُ في الذّنوب
وَنَئِنُّ مِن حرّ العذاب والإثمُ باقٍ في القُلوب
إنّا لَنشعُرُ بالألم ورؤوُسُنا لا تَنحني
بُؤسٌ ولَكِن لا نَدم عَن غَيِّنا لا نَنثَني
وَنُقرِّ بالذّنبِ الشّنيع إن حلَّ شَرٌّ أو شَقاء
إن تبتعِد نَنسَ الدّموع لا تنتظِر يَفنَ الرّجاء
إن جِئتَ تضرِبُنا علا مِنّا الصّراخُ لِرَحمَتِك
ونعودُ مِن بَعدِ الرّضى فَنُثير عادِلَ رحمتِك
رَبّي! أمامكَ خاطِئون جاؤوا إليكَ تائِبين
اِغفِر أراهُم يهلِكون إن كُنت تعدِلُ يا مُعين