موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٥ يوليو / تموز ٢٠٢٤

"أَمُتمرّدُ أَنَا؟" بين كاتبّي نبؤة حِزقِيالْ والإنجيلُ الثّاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حز 2: 2- 5؛ مر 6: 1- 6)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (حز 2: 2- 5؛ مر 6: 1- 6)

 

الأحد الرابع عشر بالزمن العادي (ب)

 

مُقدّمة

 

نناقش في هذا المقال، في سلسلة قرائتنا الكتابيّة فيما بين العهديّن موضوع يُعاش على مختلف العصور والأزمنة وهو التمرّد. في نص العهد الأوّل، من نبؤة حزقيال (حز 2:2-5) سنسمع الصوت الإلهي الّذي سيرسل نبيه إلى شعب متمرّد، أي إنّ الله يعرف حقيقة شعبه. فمهما كان ماكراً إلّا إنّه أمام الرّبّ فهو خليقته المعروف بكلّ ما يحياه أمام خالقه. ومن جديد الرّبّ يرسل لشعبه حامل رسالة جديدة ليرافقه. فهل يسمع الشعب الـمُتمرّد لصوت الرّبّ؟ بناء على هذا سنقرأ في مرحلة تاليّة نص من العهد الثاني بحسب إنجيل مرقس (1:6-6)، حيث نتابع إستمراريّة التمرّد حينما يتم رفض يسوع وهو يُتمم بحضوره بيننا الرسالة النبويّة، الّتي بدأها حزقيال والأنبياء، فيعاني مصير جميع الأنبياء الّذين حملوا رسالة الله في وطنهم، بين شعبهم الـمُتمرّد. يتعرضا حزقيال ويسوع، وهم حامليّ الرسالة الله، للإضطهاد، من قِبل الـمُنتميّن إليه فهو شعبه أي نحن اليّوم. تبقى رسالتهم علامة دائمة على قُرب الله السّامي والقريب جدًا وفي الوقت نفسه حيث لا يسمح لنا بأنّ يكون سجينًا لتوقعاتنا الـمُتمردة. نهدف من خلال هذا المقال تتابع مدى تمرّدنا الباطنيّ أمام الرسائل الإلهيّة الّتي يقترب من خلالها الله لنا. هل يمكننا أن نضع نهاية لتمرّدنا البشري؟

 

1. نبيّ الله (حز 2: 1- 5)

 

نعلم أنّ الرسائل النبويّة، بالعهد الأوّل، كانت بمثابة مرافقة الله لشعبه. فكان يدعو الله مَن يحملون رسالته حينما كان هناك بعض الملوك والقادة الّذين بسلطتهم يحيدوا الشعب عن العلاقة بالله. إذن رسالة الأنبياء ذات أهميّة بالغة في وقت يرغب الله أن يتواصل مع شعبه ويقترب منهم بالرغم من تجاهله، عدم عبادته أو عبادته من قبل لاشعب بشكل سطحي. وعلى هذا المنوال تأتي دعوة حزقيال منذ البدء من خلال الصوت الإلهي القائل: «يا ابنَ الإنسان، قُمْ على قَدَمَيكَ فأَتَكلَمَ معَكَ» (حز 2: 1). رغبة الله في التواصل مع شعبه من خلال هذا الأمر الإلهي والّذي فيه يتنازل الإلهي عن مستواه الـمُمجد داعيًا حزقيال-الإنسان ليقف أمامه أي ليصير بالقرب منه ليهيئة ليحمل رسالته.

  الرسالة النبويّة لحزقيال مرتبطة بالوحيّ الإلهيّ الّذي يحل عليه كمُختار الله أذّ يشعر النبي بهذا القُرب الإلهي: «فدَخَلَ فِيَّ الرُّوح، لَمَّا تَكَلَّمَ معي وأَقامَني على قَدَمَيَّ وسَمِعتُ الـمتكَلِّمَ معي» (حز 2:2). بعد بحلول الرّوح ليدعوه للرسالة بشكل مباشر قائلاً: «يا ابنَ الإنسان، إنّي مُرسِلُكَ إِلى بَني إِسْرائيل، إِلى أُنّاسٍ مُتَمَرِّدينَ قد تَمرَدوا عَلَّي فقَد عَصَوني هم وآباؤُهم إِلى هذا اليّوم نَفْسِه،  فأُرسِلُكَ إِلى البَنينَ الصِّلابِ الوُجوهِ القُساةِ القلوب، فتَقولُ لَهم: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: سَواءٌ أَسَمِعوا أَم لم يَسمَعوا، - فإنّهم بَيتُ تَمَرُّد - سيَعلَمونَ إنّ بَينَهم نَبِيًّا» (حز 2: 3- 5). أمام عصياننا البشري وصّلابة وجوهنا وقساوة قلوبنا يأتي الصوت الإلهي مُرسلاً إلينا مَن يتحاور بكلام الله لنعود إليه ونستفيق من سطحيتنا. نحن، بالرغم من تمرّدنا لازلنا مركز إهتمام الله الّذي يقترب ويتواصل معنا داعيًا إيّانا للطاعة الحرة والتدريب على مرونة الوجه والقلب معًا.

 

2. الأسئلة الـمُتمرّدة (مر 6: 1- 6)

 

يزداد هذا القُرب الإلهي، بالعهد الثاني من خلال حضور ابن الله، يسوع، وتجسده في عالمنا البشري. ففي هذا المطقع بحسب مرقس يفاجئنا مرقس بيسوع كمُتمم النبؤات. حيث يقترب من الإنسان، وكما نوهنا بأنّ التمرّد هو سمّته، يدهشنا هذا التصرف البشري المحدود والمتمرّد من أهل الناصرة أي بلدته. إذ بداخل مجمع الناصرة يروي مرقس: «لـمَّا أَتى السَّبت أَخذَ يُعَلـم [يسوع] في الـمَجمَع، فَدَهِشَ كثيرٌ مِنَ الّذينَ سَمِعوه» (مر 6: 2). هذا الإندهاش من معاصري يسوع بناء على تعلّيمه الشافيّ فيأتي رد فعلّهم ليس كترحيب حقيقي ولا حتّى إستماعًا فعالاً، بل بدء لرفضه على الفور.

 

هذا التمرّد تعبير عن إنغلاقهم مما لا يعاون يسوع ليُتمم الأعمال الإعجازيّة لأهل بلدته. عدم قبول شفائه هو دليل على إصّرارهم على الإنغلاق أمام قُرب يسوع. يصف مرقس تمرّدهم هذا من خلال أسئلتهم الأربع لذاواتهم والتّي تحمل إستياء تكشف هذه التساؤلات عن مصدر قساوة قلوب معاصري يسوع وقلوبنا فهم يُمثلوننا.

 

2.1. لا جديد! (مر 6 :2)

السؤال الأوّل: «مِن أَينَ له هذا؟» (مر 6: 2) يرتبط إرتباطًا وثيقًا بما فعله يسوع في مجمعهم "علَّم". هذه التساؤلات تتعلق بدور يسوع كمعلم. كيف يمكن إنّ يتوقع أنّ يأتي ويعلّم؟ إنّه تساؤل أولئك الّذين يعتقدون إنّه لا يوجد جديد ليتعلموه عن الله وهنا يكمن الخطأ الكبير. لأن الله جديد في ذاته ويكشف عن قُربه في ابنه الّذي يجهلونه معاصريّه كمعلّم وكابن الله.

 

2.2. أين المصدر؟ (مر 8: 2)

 

والسؤال الثّاني يتعلق بالحكمة الّتي يعلمها يسوع: «ما هذهِ الحِكمَةُ الّتي أُعطِيَها ...» (مر 6: 2). لقد تنبأ اشعيا عن المسيح بحلّول رّوح الرّبّ، رّوح الحكمة والفهم ... (راج اش 11: 2). إنّ طرح هذا السؤال يعني عدم الإعتراف بإنّ يسوع يأتي من الله، وعدم الإعتراف بهويته كمسيّا خلافًا لإعتراف بطرس (راج مر 8: 29). فهو تساؤل الّذين يعترفوا بصحة بعض التعاليم إلّا إنّهم يعترفوا بطبيعتها الرسميّة ومصدرها، إذن من أعطى يسوع هذه الحكمة؟ هل هو مرخص من قبل السلطة المختصة؟ إنّه تساؤل أولئك الّذين لا يتركون مساحة كبيرة لله ليُظهر وجهه، بلّ يبحثون عنه فقط في تلك الأماكن الّتي يعرفونها بالفعل والّتي يوجد فيها الله بالفعل.

 

2.3. ترك مساحة لله (مر 6: 3)

 

السؤال الثالث لم يعد يتعلق بتعليم يسوع، بل بأعماله، وأفعاله: « حتَّى إنّ الـمعجِزاتِ الـمُبِينَةَ تَجري عن يَديَه؟» (مر 6: 3). حتى الأعمال العظيمة الّتي يقوم بها يسوع، مِن أين أتت، ما هو التفويض الّذي لديه للقيام بتلك المعجزات؟ إنّه تساؤل الّذين لا يتركون لله مساحة ليظهر نفسه في التاريخ وفي إطار الأقارب، فيتوقعون إلهًا بعيدًا.

 

2.4. أليس هذا...؟ (6: 5)

 

السؤال الرابع يتعلق بأصل يسوع نفسه. إذا سألنا إنّفسنا في الأسئلة السابقة عن أصل كلماته وحركاته، فالآن هو الّذي يصير موضع للتساؤل عن أصله: «أَلَيسَ هذا النَّجَّارَ ابنَ مَريَم، أَخا يعقوبَ ويوسى ويَهوذا وسِمعان؟ لَيسَت أَخَواتُهُ عِندَنا ههُنا؟» (مر 6: 5). يعرف سكان الناصرة كل شيء عن يسوع، يعرفون مهنته وأمه وعائلته، تساؤلهم يدور حول كيف يمكنه إنّ يتظاهر بإنّه يقدم نفسه لهم بكلمات وإشارات مماثلة؟ (راج يو 7: 27). فقد لا نعرف يسوع شخصيًا ولكننا نعرف كل شيء عنه، وعائلته! إنّه تساؤل الّذين يسمحون لإنّفسهم بإنّ تعميهم معرفتهم المزعومة، أولئك الّذين يضعون إنّفسهم أمام الله والآخرين كما لو إنّه لا يوجد شيء جديد ليكتشفوه فيهم.

 

الخُلّاصة

 

أَمتمرّد أنا؟ (حز 2: 1- 5؛ مر 6: 1- 6)، على ضوء تّمرّد مُعاصري النبي حزقيال، نجد أنّ قُسّاة الرقاب لازالوا معاصرين ليسوع، بحسب مرقس، من خلال أسئلتهم الأربع. وللإجابة على هذا التساؤل الآن: أَمتمرّد أنا؟ في العلاقة بالرّبّ وبمن حولى؟ فالمتمرّدين هم الّذين يكتفون بالعلم الباطل ويحصرون الله في ما سبق وذكرناه. لكن إله إسرائيل الّذي الّذي دعا حزقيال ليرسله وتمّ رفضه أرسل ذاته في يسوع كالإله الحيّ، الّذي هو جديد دائمًا، والّذي لديه الجديد ليعلنه ليبقى بالقرب منا نازعًأ كلّ تمرّد سلبيّ وهو الّذي يجعلنا نرفض الله في مَن يرسله لنا. فالله لا يتركنا أبدًا كشعب، فنحن ننتمي له. إلهنا إله يرافقنا حتى في قلب تمرّدنا لكن الخطر بالنسبة لأولئك الّذين لم يعودوا يتوقعون أي شيء، لأولئك الّذين يخافون من اكتشاف شيء جديد عن الله حتّى إنّ يسوع «لَم يَستَطِعْ إنّ يُجرِيَ هُناكَ شَيْئاً مِنَ الـمعجزات، سِوى إنّه وَضَعَ يَديَهِ على بَعضِ المَرْضى فَشَفاهم. وكان يَتَعَجَّبُ مِنْ عَدَمِ إِيمإنّهم» (مر 6: 5 - 6). والسبب هو أنّ وجه إله يسوع لا يمكن رؤيته إلا من قبل أولئك الّذين يدركون إنّهم بحاجة إليه فقط ويصل إليهم بكلمات جديدة تصلهم في أي وقت وفي أي مكان، حتى بشكل غير متوقع. تتبعنا بحسب خلفية نص حزقيال التعرّف على حامل الرسالة الّتي أُرسلت لتوصيل كلمة الله إلى الشعب حتّى يضع الرّبّ نهاية للتمرّد البشري. كما رأينا التمرّد العنيف تجاه يسوع، مُرسل الله الآب، ورأينا أنّ منبع مأساة معاصري يسوع من أسئلتهم الأربع، فصار لهم مصدر عثرة، وهو الحجر الّذي يعثر مَن يقرر التمرّد دون أن يعرف حقيقة الله في أنبيائه وابنه. دُمتم مؤمنين متمرّدين على ذاواتكم وغير متمردّين على الرّبّ والآخرين.