موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٥ ابريل / نيسان ٢٠٢٢
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج) مع المطران بشار وردة - اللقاء التاسع
"فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً" (تك 12: 2)

أبرشية أربيل الكلدانية :

 

المقدمة

 

جاءت طقوس عيد الفصح إذن لتُبشّر بما صنعهُ الله لشعبهِ، ليكون الله في مركز هذا الحدث الخلاصيّ، فلا يتمّ التركيز على القضايا التنظيمية، مع أهميّـها القصوى، ولكن على ألويّةِ الله في هذا الحدث الخلاصي، ويظهر ذلك من تكرار الفعل "فعلوا" في العبارة: "فَخَرَّ الشّعب وَسَجَدُوا. وَمَضَى بَنُو إسرائيل وَفَعَلُوا كَمَا أمَرَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ. هَكَذَا فَعَلُوا" (خر 12: 27- 28)، في عترافٍ صريح منهم بأنهم ليسوا المُبادرين، بل المُستجيبين لله الذي بادرَ وتضامن معهم وأنقذهم من المذلّة التي عانوا منها. لذا، فتعبّد الإنسان لله ليس حاجة نفسيّة أو توجهاً أخلاقياً من أجل عيش حياة صالحة، بل صلاة شُكرٍ لله الذي يطلبُ اللقّاء مع الإنسان فيكون التعبّد ذبيحة شكرٍ وتذكّر لهذا اللقّاء، فالغاية من الذبيحة تكريس الحياة كلّها لله الذي يقبل التقدمة ويُقّدسها ويُعيدها إلى الإنسان مُقدَّسة، لتُصبحَ الذبيحةُ وليمةً تجمَع الإنسان مع أخيه الإنسان شاكرين الله على محبّته، وهكذا يخلقُ الربُّ الإله السلام الذي فقده الإنسان بالخطيئةِ والتي كانت وما زالت انفصالاً عن الله. الذبيحة إذن، ليست من أجل التأثير في الله مثلما أرادَها قائين، وغضبَ عندما لم يقبل الله تقدمتهُ (تك 4: 4- 7)، بل من أجل تقديس الإنسان ليكون حُراً أمام الله، الذي يقبل تقدمة الإنسان ويُعيدها إليه مُقدَّسةً، لأنَّه (الله) يُريد قلباً نقياً متواضعاً.

 

طقوس الفصح إذن، عمل بشريً موجَّه نحو الله من قبل جماعةٍ قرَّرت الخضوع لما يُريده الله منها: "كَلِّمَا كُلَّ جَمَاعَةِ اسْرَائِيلَ" (خر 12: 2)، وهكذا نشأت وتأسس الأسرار المُقدسة، فهي عملٌ إنسانيٌ منظورٌ مُكرَّسٌ للإحتفال بما هو غير منظور من خلال التأملِ فيه ليكون الشعب كلّهم مسكناً لله: "لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ" (مت 18: 20). من هنا يكون كلُّ عملٍ طقسيّ عملَ الله الموجّه نحو الإنسان، ومن هنا جاء التأكيد على ضرورة الاستعدادِ الصحيح للاحتفالِ بالفصح (الأسرار) والاشترِاك الفاعلِ فيه بدءاً من تقدمةِ الحياة بمجملها لله ذبيحةً مُقدسةً عبر أعمالِ الخير والإحسانِ التي تتوافق مع دعوتنا وانتاءً بذبيحة الرّب يسوع فداءً عنّا. فنحن نؤمن أن الاحتفال الليتوجي مبنيٌّ على أساس أن الله هو الذي يُكلّمنا ويُبشّرنا بيسوع المسيح، ونحنُ نستجيبُ له بصلواتنا وتراتيلنا وطقوسنا.

 

موت الأبكار

 

نأتي الآن إلى أكثر صفحات الكتاب المُقدّس قسوة، حيث عاقبَ الله مصرَ بسبب تمرّد ملكها وعصيانهِ بقتلِ أبكارِها جميعاً، فلم ينجُ بكرٌ من هذا العقاب، من بكرِ فرعونَ الجالس على العرش إلى بكرِ الأسيرِ في السجنِ، بل حتّى البهائم. وجرى كلُّ شيءٍ ليلاً، فلا قُدرة للإنسان للسيطرة على مجريات الأحداث، كما أنها ليست مناسبة للشماتةِ بالأعداء حتّى تكون علنيةً، فالضربة العاشرة مؤلمةٌ بالنسبة لله نفسه، ففرعون وشعبُ مصر هم أبناؤه أيضاً وإن اختاروا عدم الإيمان به وتقديم الطاعة له، لذا، جاءت الرواية قصيرة من دونِ تفاصيل تُذكر مُقارنة بروية التحضير للفصح التي سبقتها، فلا نعلَمُ كيف حصلَ هذا؟ وكيف ماتَ الأبكارُ؟ وكأن الله نفسه لم يحتمل مثل هذا المشهد، فذكره الراوي بجملة قصيرة: "فَحَدَثَ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ انَّ الرَّبَّ ضَرَبَ كُلَّ بِكْرٍ فِي أرض مِصْرَ مِنْ بِكْرِ فِرْعَوْنَ الْجَالِسِ عَلَى كُرْسِيِّهِ إلى بِكْرِ الأسِيرِ الَّذِي فِي السِّجْنِ وَكُلَّ بِكْرِ بَهِيمَة." (خر 12: 29)

 

علينا أن نقرأ هذه النصوصَ ضمنَ السياقِ الذي كُتبَت فيه ومن منظار الجماعة التي كُشِفَت لها؛ إنها جماعةٌ كانت تتأرجح في تعبّدها، كانت تميلُ مراراً نحو تقديمِ الذبائح لآلهةٍ كانوا يظنونها أكثر قُدرة من إله آبائهم، فكانت تلجأ إلى مثل هذه العبادات الباطلة عندما تشعرُ بالإحباط واليأس. هنا، تأتي هذه القصّة لتؤكّدَ على أن إلهَ إبراهيم َوإسحق ويعقوب، إله الآباء هو الإله الحقُّ وحدهُ، وعبادته الحقّة تتطلَّب طاعتنا المُطلقة، وما عصيانُ فرعونَ وتمّردهُ إلا ليُظهِرَ الله له وللجميع: مَن هو الإلهُ الحق. ففرعونُ ليسَ إلهاً، كما أن آلهةَ مصرَ ليست آلهةً حقّة وهذا ما كشفهُ الله لمصرَ في تسعِ آياتٍ، لاسيّما عندما هزمَ فرعونَ ابنَ الآلهةِ كما كان المصريون يعتقدونَ آنذاك. فلا يستطيع فرعون تأمينَ الحياة لشعبهِ في مواجهةِ الله مانح الحياة وسيّد الموتِ، وخالق الطبيعة. بل أكثرُ من ذلك، نجد أن الراوي ذكرَ عدّة مراتٍ عبارة: "وقسّى الله قلبَ فرعون"، وهي عبارة تهكميةٌ تُبرزِ عدم أهليةِ فرعون ليكون قائداً لشعبهِ، لأنه ليس بإمكانهِ السيطرة حتّى على مشاعرهِ الخاصّة، فكيفَ له أن يقود أمةً برمتها؟

 

وصلَ فرعونُ أخيراً إلى قرارٍ حكيمٍ: أن يخلي سبيلَ الشّعب ويمنح موسى وهارون مطلبهما. فجسامة الحدث حملت فرعونَ على أن يستدعيهما ليلاً ويقول لهما: "قُومُوا أخْرُجُوا مِنْ بَيْنِ شَعْبِي أنْتُمَا وَبَنُو إسرائيل جَمِيعا وَاذْهَبُوا اعْبُدُوا الرَّبَّ كَمَا تَكَلَّمْتُمْ. خُذُوا غَنَمَكُمْ أيْضا وَبَقَرَكُمْ كَمَا تَكَلَّمْتُمْ وَاذْهَبُوا. وَبَارِكُونِي أيْضا" (خر 12: 31- 32). بمعنى: "أنتم أحرارٌ الآن من خدمتي، وصرتُم في خدمةِ الرّب"، ويُضيف النص العبري عبارة: "وباركوني أيضاً"، وهي بخلاف ما كان مُعتاداً، فحتّى تلك الساعة ظنَّ المصريون أن فرعون يمتلك قوّةَ المُباركةِ وقدرة منح الحياةِ وتأمينهما، وبيّنت مواجهةُ الله بُطلانَ هذا الاعتقاد، لأن البركة هي مع العبيد والفقراء والمعوزينَ الذين لا يمتلكون شيئاً وهكذا صلّت أمنّا مريم: "صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إسرائيل فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً" (لو 1: 51- 54). فرعون صارَ بحاجةٍ ماسّة إلى ما يمتلكهُ إسرائيل؛ هبةُ الحياة، بل حياتهُ نفسها صارت في خطرِ، إلاَّ أن ذلك لا يعني استسلام فرعون الكليّ لقُدرة الرّب الإله.

 

كيف لنا أن نفهم قسوة هذا النص؟

 

يُشيرُ شرّاح الكتاب المُقدس إلى أن وباءً ضربَ مصر وحصد حياة كثير من شعبها، ورأى المؤمن في ذلك يدُ الله التي حققت العدالة للعبرانيين فعاقبت مصر على إذلالها لهم. قد تكون رغبة الإنسان المُهان بالعبودية ينتقم الله له من مُعذبيهِ في الوقت الذي لا يقوى هو على مقاومتهم أو التخلّص من حالتهِ، وفي كلتا الحالتين؛ العبودية أو التحرر، يُعبِر الإنسان بصورة غير صحيحة عن إلهِ إبراهيم وإسحق ويعقوب الذي أظهرَ وفي مناسباتٍ عدّة، قبل هذه الضربة، أنّه إله رحوم طويل الأناة نادمٌ على الشرّ، مُستعدٌ للتراجع عن قراره بإهلاك شعب سدوم وعمّورة عندما تضرعَ إبراهيم لأجلهما (تك 18: 16- 33)، بل تراجع عن قرار معاقبة الخليقة كلّها بسبب شرّ الإنسان: "لا أعُودُ ألْعَنُ الأرض أيْضا مِنْ أجْلِ الإنسان لانَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإنسان شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ. وَلا أعُودُ أيْضا امِيتُ كُلَّ حَيٍّ كَمَا فَعَلْتُ." (تك 8: 21)، كما أنَّ الله نفسه قبِلَ ولمرّات عديدة تضرّع موسى لأجل مصر وفرعونها الذي ندِمَ على عصانه وطلبَ الغفران: "أخْطَاتُ هَذِهِ الْمَرَّةَ. الرَّبُّ هُوَ الْبَارُّ وَأنَا وَشَعْبِي الاشْرَارُ" (خر 9: 27)، فنيلُ رحمة الله وغفرانه ممكن إذا اعترفَ الإنسان بعدالة الله إزاء الخطيئة التي يقترفها، وإلاَّ فلا معنى لرحمةِ الله وغفرانهِ، فالعدالة الإلهية لن تُفارِق رحمةَ الله التي تهبُ الإنسان الفرصة تلو الأخرى ليكون صالحاً ويختار مواقف تنعش حياته وحياة القريب.

 

من جانبٍ آخر نلاحظ أن الضربة العاشرة تبرز أيضاً، أن الله يمنع الإنسان من الانتقام من مُضطهديهِ، فلا يُسمحُ للعبرانيين بقتل أبكارِ مصر انتقاماً قرار ملكها بإهلاك المواليد الذكور، فالحياة عطيّة من الله لكلِّ البشر، وهو مانحُ الحياة وليس هناك إله آخر يلتجئون إليه من أجل الخصوبة والإنجاب، بل هو الذي يُعطي وهو الذي يأخذ مثلما يُعلِنُ أيوب: "عُرْيَاناً خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي وَعُرْيَاناً أَعُودُ إلى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكاً" (أيو 1: 21)، الله هو واهبُ الحياة والجميع هو مخلوقون على صورتهِ ومثالهِ (تك 1: 26)، بل وأكدّ موسى على الشّعب لاحقاً بأن لا يكرهوا مصرياً حتّى وإن تحرروا: "لا تَكْرَهْ أَدُومِيّاً لأَنَّهُ أَخُوكَ. لا تَكْرَهْ مِصْرِيّاً لأَنَّكَ كُنْتَ نَزِيلاً فِي أرضهِ." (تث 23: 7)

 

رحيلُ الأحرار

 

عرَف المصريونَ أن بقاءَ بني إسرائيل يعني بقاءَ الموتِ في وسطهِم فاستعجلوا رحيلهم، واستخدمَ الرّاوي الفعلَ العبري: "حَزَق" والذي يعني شدَّ، وهو الفعل نفسه الذي استخدمهُ عندما قال لنا: "إن قلبَ فرعونَ قسا"، فالفعل الذي منعَ بني إسرائيل من الرحيل هو الفعلِ نفسه الذي شجّعهم على الرحيل الآن، لا سيّما بعد خبرةِ الألم التي عاشها كلُّ بيت مصريّ بسبب موت الأبكار.

 

رحلَ بنو إسرائيل عن مصرَ منتصرينَ، وطُلِبَت إليهم المغادرة على وجهِ السُّرعةِ، فحملوا عجينهم قبلَ أن يختمِرَ، وحصلوا على مصوغات من فضةٍ وذهبٍ وثيابٍ. رأى بعض شُرّاح الكتاب المُقدس أن هذه العطايا كانت تعويضاً عن سنوات العبودية التي تحمّلها العبرانيون بسبب قرارات فرعون ومَن تعاون معه، فلم يكن كلّ المصريين موافقين على سياسات فرعون الظالمة. فيما يرى آخرون أن هذه الهدايا كانت اعترافاً من المصريين بقدرة إله العبرانيين، فقدموها متطلعّين إلى نيل رضاء هذا الإله، فيما فسّرها بعض آخر أنها أشبهُ ما تكون بغنائمَ حربٍ، فلقد كانت بالحقيقةِ مواجهةً حاميّة بين الله وفرعونَ، وجمع الشّعب الغنائمَ، وخرج مُكلَّلاً بالعِزَّةِ لابساً ثيابَ الفرحِ والانتصار، فلم يخرجوا عبيداً بل أحراراً، فيما أضحى الأحرارُ مُجرّدينَ من عزّتهم، وتحوّل ميزانُ القوّة من ترجيح كفّة المصريين، لتكونَ كفّة بني إسرائيل ه يالراجحة، وهذا كلّه لأن الله كان معهم، فغادروا أرض رعمسيس حيثُ المذلّةُ والمهانة والظُلم والموت، ليبدؤوا حياة جديدة، كونهم خليقة جديدة، في أرض جديدة، لكنّ هناك معنى أعمق من ذلك متعلّق بالعبرانيين أنفسهم، إذ نقرأ في في سفر تثنية الاشتراع ما أوصى به موسى الشّعب: "إِذَا بِيعَ لكَ أَخُوكَ العِبْرَانِيُّ أَوْ أُخْتُكَ العِبْرَانِيَّةُ وَخَدَمَكَ سِتَّ سِنِينَ فَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ تُطْلِقُهُ حُرّاً مِنْ عِنْدِكَ. وَحِينَ تُطْلِقُهُ حُرّاً مِنْ عِنْدِكَ لا تُطْلِقُهُ فَارِغاً. تُزَوِّدُهُ مِنْ غَنَمِكَ وَمِنْ بَيْدَرِكَ وَمِنْ مَعْصَرَتِكَ. كَمَا بَارَكَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ تُعْطِيهِ. وَاذْكُرْ أَنَّكَ كُنْتَ عَبْداً فِي أرض مِصْرَ فَفَدَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. لِذَلِكَ أَنَا أُوصِيكَ بِهَذَا الأَمْرِ اليَوْمَ" (تث 15: 12- 15).

 

بمعنى آخر، من الضروري أولاً مواجهة كل أشكالِ العبودية ورفضها رفضاً قاطعاً، بضمنها عبودية الإنسان لمشاعر الكراهية التي فيه تجاه الآخرين. فالمصريون أذلّوا العبرانيين لقرون طويلة، ومن الطبيعيّ أن يشعر العبرانيون بالكراهية والعداوة تجاههم، لكنَ الربّ الإله، وعلى لسان موسى، يدعوهم إلى نبذِ هذه المشاعر الكريهة، وإذ يُخرجهم اللّه من أرضِ العبودية ويدعوهم إلى أرض الحُرية، فهو في الوقت عينه يُفهِمهم أن عليهم أن يتحرروا من هذه الضغينة قبل أن يدخلوا أرض الحُرية، متحررين من مشاعر الانتقام المؤجّلة والتي إن لم يتخلّصوا منها، سيوجهونها ضد إخوتهم وأخواتهم، ولا ينعمون حينها بالحرية مُطلقاً، والواقع أننا ربّما نعايش، في حياتنا اليومية، كثيرين ممن مازالوا يعيشون في الماضي ويرفضون التعايش مع الواقع الحاضر، ولهؤلاء نقول: إن إستذكار الماضي يجب أن ينحصِر في أخذ الدروس والعبَر، لمنع تكرار ما حدثَ فيه من مآسٍ وكوارث. فالهدايا إذاً ليست تعويضاً عن العبودية، فلا شيءَ مهما غلا ثمنهُ، يُمكن أن يعوّض الإنسان عن سنوات الإذلال التي اختبرها، بل ربّما تكون مجر محاولةٍ لقطع سلسلة الكراهية من خلال علامات رمزية، فلقد بدأت علاقةٌ جديدة ليست مبنية على مفهوم السيّد والعبد، بل على الإخوّة الإنسانية، فغادرَ الشّعب مصر وغادرَ معها مشاعرِ الكراهية والعداواة تجاة المصريين، فصارت الهدية علامة التصالح ما بين المصريين والعبرانيين.

 

ذكرَ الرّواي أيضاً أن أكثرَ من ستمائة ألفِ رجلٍ غادروا مصرَ في مسيرةِ حجٍّ عظيمةٍ (خر 12: 37)، وهو رقمٌ مُبالغٌ فيه. فلو حسبنا أن مع كلِّ رجلٍ أمرأةً وطفلاً واحداً فقط، فسيصلُ العدد إلى قُرابةِ المليونين فضلاً عن ذكر الماشية التي أخذوها معهم والغرباء الذين انظموا إلى المسيرة: "وَصَعِدَ مَعَهُمْ لَفِيفٌ كَثِيرٌ أيْضا مَعَ غَنَمٍ وَبَقَرٍ، مَوَاشٍ وَافِرَةٍ جِدّا." (خر 12: 38)، وهذا تجمّع كبير، ولكنّ الراوي ربّما أرادَ التأكيد على حقيقةِ أنَّ أُمةً عظيمة خرجت من مصرَ بيد الله القديرةِ، وهذه الأمة، مع عددها الكبير، ضعيفةٌ وليس لها إسمٌ. الله القدير هو الذي جعلَ لها اسماً تهابهُ الشّعوبُ. الله الذي سهِرَ الليل كلّهُ ليُؤمِّنَ طريقَ الخلاصِ لشعبهِ، فأخراجهم من أرض مِصْر، وليلةُ السهرِ هذه يَحفظها بنو إسرائيل للرَّبِّ مدى أجيالهم (12: 42). فتولّى الله قيادة عمليةِ الخروجِ بنفسهِ، ولم يسمح أن تفوتهُ أيّ تفاصيلٌ لربّما تُسّبّب خطراً على الشّعب، على يلتزِم كلٌّ مَن يحتفلُ بالفصح بشريعةٍ واحدة من دون تمييز: "تَكُونُ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَوْلُودِ الأرض وَلِلنَّزِيلِ النَّازِلِ بَيْنَكُمْ" (خر 12: 49).

 

وصايا الفصح

 

عادَ الراوي مرةً أُخرى إلى طقوس الاحتفال بعيدِ الفصحِ، فبعدما عزلَ الشّعب خروفاً منذ اليوم العاشر، بمعنى أنهم كرّسوه ليكونَ ذبيحةً للرّبِّ، وضعوا إشارةٍ من دمهِ على بيوتهم، علامةً على أن هذا البيت هو خاصةُّ الرّبِّ ومُكرَّسٌ له، فليس المقصود هنا تعبّد فرديّ، بل يُريد الرّبُ أن تكون الجماعةَ كلُّها نفساً واحدة، وشعباً واحداً. هذا التكريس يفترِض هويةً خاصةً يُعبّر عنها من خلال طقوس متميّزة، ونالَ الشّعب هذه الهوية من الرّب المُخلِّص، فصار هناك حجُّ تحرر، للتعبير عن مسيرة فيها إنتقالٌ من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، ومن حالةٍ إلى حالةٍ أُخرى. هو عبورُ الربِّ على بيوت المصريين مُهِلكاً أبكارها، وعلى بيوتِ بني إسرائيل حافظاً لها الحياة. والشّعب مدعوٌ هو أيضاً ليُشارِك في هذا العبور من حالةِ الإنسان القديم إلى حالةِ الإنسان الجديد.

 

كان الشّعب يحتفلُ بهذا العيد في معابدَ عديدة في مُدن شكيمَ وبيت إيل وبئر سبعَ وحبرون، أي في معظمِ المُدنِ التي ارتبطتَ بحياة الآباء، ولكن مع إصلاح يوشيا الملك سنة 622 ق. م فرض الملك الاحتفال بالعيد ِفي أورشليمَ، فكانوا يأتونَ إلى أورشليمَ حيث الهيكل ويطلبون من الكهنة أن يذبحوا لهم التقادم الحيوانية وهم يأكلونها، وتوقف تقديم الذبائح عندما كانوا في بابل فلا هيكلَ لتقديم الذبيحةِ ولا كهنةَ يقودونَ الاحتفال.

 

كما وارتبطَ عيدُ الفطير بعيدِ الفصح أيضاً؛ بحدثِ الخروجِ، إذ كانوا يتخلّصون من الخميرةِ القديمة بإخراجها من منازلهم، لتبقى المنازل خاليةً منها لسبعة أيامٍ قبل أن يأتوا بالخميرة الجديدة، لأن الخميرة كانت رمزاً للفسادِ، مثلما ذكرنا سابقاً، فكانوا يبدأونَ السنة الجديدة في حالةِ الطهارة، وذلكَ بانتقالِ الإنسان نحو حالةٍ جديدة، لأنه تحت حمايةِ الربِّ الإلهِ، بعدما كان مصيرهُ مرتبطاً بعاقبةِ خطاياه.