موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢١
كنائس الأردن تسهم في تطوير الحياة البيئيّة: "البيت المشترك" نعمة مقدّسة من الخالق للبشريّة
راهبات في زيارة ميدانيّة إلى محطة تحلية مياه الزارة ماعين / البحر الميت للاطلاع على الواقع المائي في المملكة ©موقع أبونا

راهبات في زيارة ميدانيّة إلى محطة تحلية مياه الزارة ماعين / البحر الميت للاطلاع على الواقع المائي في المملكة ©موقع أبونا

مجلس كنائس الشرق الأوسط :

 

يحمل معه "موسم الخليقة" 2021 الكثير من الرّجاء والأمل من أجل بيئة أفضل ومستقبل أكثر إستدامة للأجيال المقبلة. وها قد باشر الشرق الأوسط وللمرّة الأولى هذه السّنة بالمشاركة في الإحتفالات الخاصّة بهذا الموسم البيئيّ المسيحيّ. علّ بالصّلوات الّتي تُرفع يوميًّا إلى اللّه الخالق، عبر الكتيّب العالميّ الّذي قام مجلس كنائس الشرق الأوسط بتعريبه، تتبدّد الأزمات الّتي تثقل كاهل بيتنا المشترك، البيئة وكلّ ما فيها من مخلوقات.

 

ليس أمرًا جديدًا أن تبادر الكنيسة للصّلاة والتوعية من أجل الحفاظ على البيئة وحمايتها. لماذا هذا الإهتمام المتواصل؟ لأنّ البيئة بحاجة ماسّة إلى رعاية مستمرّة وحتّى إلى تدخّل الإنسان كي يرافقها في النموّ بحسب جوهرها الّذي أراده اللّه لها. من هنا تضع الكنائس قضيّة البيئة في صلب أولويّاتها من خلال تنفيذ مشاريع قد تنقذ هذه البيئة من كلّ التحدّيات والمصاعب الّتي تواجهها.

 

لكن ماذا عن الشرق الأوسط؟ هل بإمكانه التغلّب على المشاكل البيئيّة وسط كلّ ما يعيشه من أزمات؟ في الواقع تعمل الكنائس والسّلطات المشرقيّة وبقدر المستطاع على الحدّ من العنف تجاه البيئة بغية نقلها إلى برّ الأمان، لا سيّما وأنّ دول المنطقة تتميّز بغناها البيئيّ والطبيعيّ. 

 

في إطار سلسلة التقارير الّتي نقدّمها أسبوعيًّا حول الكنيسة والبيئة المشرقيّة، نسلّط الضوء اليوم على مبادرات الكنيسة في الأردن الرّامية إلى حماية البيت المشترك وما فيه من مخلوقات، إضافةً إلى عرض الواقع البيئيّ في البلاد.
 

©موقع أبونا

"الماء.. نظرة مسيحيّة"

 

بدايةً تسعى الكنائس الأردنيّة والمؤسّسات التابعة لها إلى تطوير المسار البيئيّ في الأردن وبشكل مستمرّ. في الأعوام الفائتة، تمّ التّعاون مع المؤسّسة الألمانيّة للتّعاون الدوليّ (GIZ) بهدف التشديد على مسائل عدّة أهمّها موضوع المياه خصوصًا وأنّ الأردن يُصنّف في المرتبة الثّانية عالميًّا من بين الدول الأكثر حاجة لتوفّر المياه. لذا تعتمد البلاد بشكل أساس على مياه الأمطار الّتي قد تكون شحيحة أحيانًا ما يؤدّي إلى تفاقم هذه الأزمة سنويًّا.

 

من هنا تمّ اختيار مجموعة من الكهنة والقساوسة من مختلف العائلات الكنسيّة للعمل من أجل الإضاءة على هذه القضيّة. كيف؟ من خلال مشروع مسيحيّ إسلاميّ مشترك، حيث تمّت صياغة كتيّب من 120 صفحة بعنوان "الماء.. نظرة مسيحيّة"، وذلك بعد أن قام أيضًا المعنيّون المسلمون بإعداد كتيّب "الماء.. نظرة إسلاميّة".

 

أُطلق هذا الكتيّب عقب تعاون بين وزارة المياه والرّيّ في الأردن ومؤسّسة GIZ، حيث جاء في مقدّمته أنّ "للكنيسة إسهامات جليلة اليوم بتوعية المؤمنين بواجب المحافظة على البيئة بشكل عام، كونها البيت المشترك للإنسانيّة، وعلى المياه بشكل خاصّ كونها الخليقة الأكثر إستخدامًا من الأسرة البشريّة كافّة"، لا سيّما وأنّ الكتاب المقدّس يذكر الماء في آيات عدّة كرمز للحياة وتعبير عن نعمة اللّه الأبديّة للخلق. ويعرض الكتيّب واقع المياه ومصادره في الأردن، كما السّلوكيّات الّتي من الضرورة إتّباعها للتّرشيد في إستخدام هذا العنصر البيئيّ.

 

هذا وقد عقد إتّحاد الجمعيّات الرّهبانيّة في المملكة الأردنيّة ومدراء المدارس المسيحيّة مع مؤسّسة GIZ ورشات عمل تمحورت حول موضوع المياه حيث تمّت مناقشة سُبل مساعدة الطّلاب على الحفاظ عليها، إضافةً إلى كيفيّة التربية على حسن إستخدامها وإستهلاكها بطريقة منطقيّة ومعتدلة. 

مؤتمر "البيئة: بيت الإنسانيّة المشترك‎" - ©موقع أبونا

مبادرات دينيّة وبيئيّة أخرى

 

في سياق متّصل، ينوي المسؤولون المعنيّون في الأردن إضافة مادّة جديدة في المناهج المدرسيّة تتمحور حول البيئة في التربية الدينيّة خصوصًا وأنّها جزء من النّعم الّتي منحها الله لنا. لذا يكون هدف هذه المادّة التربية الدينيّة على إحترام نعم الله وتقبّلها، وكذلك تنشئة الأجيال على حسن إستعمالها لأنّها مقدّسة من الخالق نفسه.

 

أمّا على صعيد تطوير المهارات البيئيّة لرجال الدين، فقد نظّمت وزارة البيئة في الأردن بالتعاون مع الوكالة الألمانيّة للتعاون الدوليّ، عام 2015، ورشة عمل بعنوان "دور رجال الدين في حماية البيئة"، شارك فيه مجموعة من الكهنة والرّاهبات من مختلف الكنائس، وعددًا من رجال الدين الإسلاميّ وواعظات.

 

هدف اللّقاء هذا إلى تعزيز السّلوك البيئيّ لدى المجتمع، حيث رأى خلاله مدير المركز الكاثوليكيّ للدراسات والإعلام الأب رفعت بدر أنّه لم يعد الحديث عن المشكلة الأيكولوجيّة الّتي تشكّل خطرًا على الطّعام والماء والهواء ترفًا فكريًّا. ولفت إلى أنّ الكنيسة تواكب العلم في ما يقدّم من حلول بيئيّة ضروريّة وتطلب من المؤمنين إتّباع الإرشادات البيئيّة الصّادرة عن العلماء للحدّ من الخطر البيئيّ عالميًّا. بدوره أثنى أمين عام وزارة البيئة بالوكالة المهندس حسين شاهين على أهميّة دور رجال الدين المسيحيّين والمسلمين في إعادة منظومة الأخلاق والقيم من أجل بناء إنسان ملتزم بحماية البيئة، وشدّد على ضرورة الحديث عن القضايا البيئيّة في العظات الدينيّة. 

 

من جهّة أخرى، عقد المركز الكاثوليكيّ للدراسات والإعلام، عام 2016، مؤتمرًا تمحور حول موضوع "البيئة: بيت الإنسانيّة المشترك"، لمناقشة قضايا بيئيّة عدّة، إضافةً إلى العقبات الّتي تواجهها هذه "القيمة العالميّة". جاء هذا المؤتمر بعد أن نشر قداسة البابا فرنسيس رسالته العامّة Laudato Si’ "كن مسبّحًا"، حيث دعا خلاله الأب رفعت بدر إلى "مكافحة كلّ ما يلوّث عالم اليوم والحفاظ على بيتنا الدافئ ليكون أقلّ برودة من ناحية البيئة المناخيّة، وأكثر دفئًا من ناحية البيئة الإجتماعيّة، بالمحبّة والعمل الصّالح ومكافحة التطرّف والإرهاب وخطابات الكراهية الّتي تلوّث عالمنا".

 

لم تقتصر المبادرات البيئيّة على اللّقاءات والمؤتمرات فقط فمثلًا تمّ أيضًا تنظيم رحلات من الأردن إلى مدن أوروبيّة، بمشاركة رجال دين مسيحيّين ومسلمين معًا؛ وذلك بهدف الإطّلاع على المشاريع البيئيّة الدوليّة والّتي تشرف عليها الكنائس أو المساجد، لا سيّما في ألمانيا حيث تمّ التعرّف على مشروع "البيئة الخضراء" تحت إشراف كنائس ألمانيا. حملت هذه الرّحلات دروسًا وأفكارًا جديدة لتطوير قطاع البيئة في الأردن، من خلال تأسيس الكهرباء المعتمدة على الطاقة البديلة وتنفيذ قنوات مياه تقلّص الإسراف في المياه. ومن أجل أرض أكثر خضارًا، تمّ كذلك تشجير العديد من المواقع والمناطق في البلاد.

ورشة عمل "دور رجال الدين في حماية البيئة" - ©موقع أبونا

البيئة الأردنيّة بين الجهود المحليّة والدوليّة

 

إلى جانب الكنائس تقوم السّلطات الأردنيّة بدور كبير في حماية البيئة خصوصًا وأنّ القضيّة هذه تحظى بإهتمام لافت على مرّ التاريخ الأردنيّ. عام 1989 تأسّست دائرة البيئة في وزارة الشّؤون البلديّة والقرويّة والبيئيّة وبقيت مسؤولة عن شؤون البيئة حتّى عام 1995. وعام 1996 تمّ إنشاء المؤسّسة العامة لحماية البيئة لتكون مستقلّة ماليًّا وإداريًّا والجهّة الرّسميّة المسؤولة عن حماية البيئة في الأردن. أمّا عام 2003، فتمّ تأسيس وزارة للبيئة بموجب قانون حماية البيئة المؤقّت رقم (1) لعام 2003 والّذي أُقرّ من قبل مجلس الأمّة ليصبح قانون حماية البيئة رقم (52) لعام 2006.

 

من قلب البلاد أراد الأردن أن يشارك في الخارطة البيئيّة العالميّة أيضًا، ليكون الدولة الأولى الّتي أجرت مراجعة بيئيّة لإتّفاقيّة تجارة حرّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث شدّدت إحدى مواد الإتفاقيّة الّتي وُقّعت عام 2000 على الحدّ من التلوّث وحماية الحياة البرّيّة والمناطق المحميّة... كما كان الأردن من الدول الأولى الّتي وقّعت على إتّفاقيّة شراكة مع الإتّحاد الأوروبّي عام 1997 لتدخل حيّز التنفيذ عام 2002، والّتي تتضمّن بنودًا خاصّة بالتعاون البيئيّ والتنمية المستدامة... هذا إضافةً إلى الدور الّذي قامت به وزارة البيئة من أجل تطوير برنامج العمل الخاصّ بمبادرة أفق 2020 الّتي تسهم في التّعاون البيئيّ الإقليميّ ضمن سياسة الجوار الأوروبيّة.

 

وسط كلّ الإنجازات والمبادرات البيئيّة الّتي حقّقها الأردن وعلى مختلف الصّعد، ما زالت التحدّيات البيئيّة سيّدة الموقف، فما هي إذًا المشاكل الّتي ترخي بظلّها؟ نذكر من بينها إرتفاع نسبة إنتاج النّفايات الصّلبة، ظاهرة التصحّر، مشاكل في قطاع المياه، تلوّث الهواء، وإرتفاع معدّلات إستهلاك الطاقة بكلّ أشكالها...

 

صحيح أنّ الأردن إهتمّ بالقضايا البيئيّة على مرّ التاريخ لضمان إستقرار البيت المشترك الّذي منحه الله لنا، إلّا أنّه يسعى أيضًا إلى تنظيم مشاريع تسهم في بناء مستقبل أكثر سلامة لجميع البشر والمخلوقات. على سبيل المثال أعلن وزير البيئة الأردنيّ د. صالح الخرابشة عام 2020، أنّ الوزارة تعمل على إعداد وثيقة مرجعيّة تحت إسم "بيئة الأردن 2030"، تختصّ بالشّأن البيئي بشكل عام وتقوم بدراسته أيضًا على الصّعيدين الإقتصاديّ والإجتماعيّ.