موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يُعنون البابا فرنسيس رسالته العامة الثالثة، التي وقعها بتاريخ 3 تشرين الأول 2020 عند قبر القديس فرنسيس في أسيزي بإيطاليا: «fratelli tutti: في الأُخوَّة والصداقة الاجتماعيّة».
في مطلع الرسالة، يشير إلى مصدر إلهامه، والغاية التي من أجلها كتبت هذا التعليم.
أمّا مصدر إلهامه، فهم عدّة أشخاص. أولهم القديس فرنسيس، الذي امتاز ببساطته وتجرّده وحبّه للجميع دون استثناء، مع الأشخاص الذين التقى بهم، على أنّهم إخوة وأخوات بالربّ. وقديس أسّيزي، كان قد ألهمه سابقًا في كتابة الرسالة كُنْ مُسبَّحًا: حول العناية بالبيت المشترك، وها هو يعود من جديد يمدّه بمثال حياة تسودها البساطة والاهمام بالأكثر عوزًا وبؤسًا: «لأن القدّيس فرنسيس، الذي شعر أنه شقيقُ الشمس والبحر والرياح، كان يعلم أنّ اتّحاده بالذين كانوا يشاركونه بشريّته هو أعظم من ذلك. فزرع السلام في كلّ مكان وكان في مسيرته قريبًا من الفقراء، والمتروكين، والمرضى، والمهمَّشين، والأخيرين«.
ويسلّط أسقف روما على أهمّية اللقاء الذي جمع قديس أسّيزي بالسلطان الكامل الأيوبي في أيلول 1219. فبالرُّغم من مخاطرالسفر آنذاك، والاختلاف الثقافي، وحواجز العداء المتبادل الذي كان يسود العلاقة بين الشرق والغرب، قرّرَ السفر إلى مصر - دمياط، للقاء السطان الأيّوبي. لقد تخطّى جميع العقبات والمصاعب، وتجاوز أسوار الحقد والانتقام، والاختلاف العرقيّ والدينيّ والثقافيّ. لقد وسمَ هذا اللقاء حياة القديس فرنسيس، وألهمه عندما كتب قانون الرهبنة غير المثبّت، متوجّهًا إلى الرهبان المرسلون في بيئة مُسلمة: «الامتناع عن أيّ جدال أو نزاع، بل أن يخضعوا لكلّ مخلوق بشريّ محبّةً بالله، ويعترفوا بأنهم مسيحيون». ويعلّق البابا فرنسيس، قائلًا: «وهذا الطلب كان استثنائيًا في سياقٍ مثل ذاك السياق. من المؤثّر أن نرى كيف أنّ القدّيس فرنسيس قد دعا، قبل ثمانمائة سنة، إلى تجنّب جميع أشكال العدوان أو الفتنة، وأيضًا إلى عيش خضوعٍ متواضعٍ وأخويّ، وحتى تجاه الذين لا يشاركونهم الإيمان.«
أمّا بالنسبة للكامل الأيّوبيّ، فأثر اللقاء عنده تجلّى بمنحَ فرنسيس وأتباعه الذّهاب والإقامة في الأماكن المقدّسة، والاهتمام بالرعايا المسيحيّة المتواجدة هناك. وولدت، من ذلك الحين، حراسة الأراضي المقدّسة، التي ما تزال تخدم الكنيسة والمجتمع، بحسب نهج وروحانيّة مؤسّسها.
ولا يخفي الحبر الأعظم تأثُّره بفضيلة الإمام أحمد الطيّب، الذي التقى به في وقتٍ سابق في أبو ظبي، ووقَّع معه في 4 شباط 2019 «وثيقة الأخوَّة الإنسانيّة»، وهي تهدف لتذكير الجميع أنّ الله «خلق البشر متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم». ويأتي أسقف روما على ذكر بعض الأسماء التي، بالرغم من كونها لا تنتمي للكنيسة الكاثوليكية أو للإيمان المسيحي، إلا أنها شكّلت بالنسبة له مصدر إلهام في كتابة هذه الرسالة. وهم: مارتن لوثر كينغ، وديزموند توتو، والمهاتما موهانداس غاندي، وغيرهم كثيرين. وأخرهم الطوباوي شارل دي فوكو والذي سمّاه «الأخ العالمي».
أمّا غاية الرسالة فهي: «حلمٍ جديد من الأخوّة والصداقة الاجتماعية، لا يقتصر على الكلام. وعلى الرغم من أنني كتبت هذه الرسالة انطلاقًا من قناعاتي المسيحيّة التي تحرّكني وتغذّيني، فقد حاولت أن أكتبَها بطريقةٍ تفتح التفكير على الحوار مع جميع الأشخاص ذوي النوايا الحسنة».
تقسم الرسالة على ثمانية فصول. سيتمّ تناولها باختصار، مع إضاءات للأفكار الأساسيّة التي تناولها قداسته في كلّ فصل.
الفصل الأول: ظلال عالم مغلق: تحدّيات وإشكاليات
يستعرض البابا واقع الإنسانيّة اليوم، في جولة سريعة حول عالمنا المعاصر، واصفاً أحلامها بأنها محطّمة. ويكمن السبب الجوهريّ، في أنّ البشر، وللأسف، لم يستخلصوا العِبر من دروس ماضيهم القريب. إذ تبخّرت أحلام قارّةٍ أوربيّة، كان من المقرّر أن تعترف بجذورها المشتركة، وتعيش التنوُّع بتجاوز انقساماتها، فتكون بذلك قدوةً لشعوب أخرى، في الانفتاح والتواصل وإدماج الغرباء. كذلك الأمر، بالنسبة لخُبرات أخرى، كفكرة دمج أمريكا اللاتينية والاتحاد الإفريقيّ واتحاد الدول العربيّة، إلخ. فصرنا نعيش اليوم، في فلك نظام يسيطر عليه الأقوياء ويهمّشُ الضعفاء، يسمّى بـ العولمة (ماليّ واقتصاديّ)، والذي كانت الغاية منه "الانفتاح على العالم"، لكنّ النتائج والآثار التي أفرزها هكذا نظام، لم تأتِ على مستوى التطلّعات. فقد : «أكثر قربًا لا أكثر أخوّة».
لقد قدّم مشروع العلمنة للإنسانية نجاحات وإنجازات رائعة في عدّة مجالات: العلوم والتكنولوجيا والطب والصناعة ووسائل الرفاهية. لكنّ هذا التقدُّم الهائل، رافقه شعورٌ ملموس بالإحباط والعزلة وخوف من المستقبل، وسباق تسلّح بات يُهدّد البشرية جمعاء. ويضيف البابا معلّقًا: «كم هو جميل لو كان نموّ الابتكارات العِلميّة والتكنولوجيّة، يتوافق أيضاً، مع قدرٍ أكبر من الإنصاف والاندماج الاجتماعي! كم سيكون جميلاً، لو أننا عندما نكتشف كواكب جديدة بعيدة، نعيد اكتشاف احتياجات الأخ والأخت القريبين». لقد أخفقت وسائل الاتصال الحديث ببناء ثقافة التواصل والأخوّة وإلغاء جدران التفرقة والعُزلة. وبدل ثقافة الأخوّة، تمّ إشادة الجدران، في قلوب ومن حوله، وهذا يعني فشل ذريع لمشروع الأخوّة الإنسانية. فهذه المتاريس والحواجز والجدران، ستجعل مخترعها عبدًا داخلها.
وبينما كان يكتب قداسته هذه الرسالة، اجتاحت جائحة كورونا العالم بأسره، فوصفها البابا بالعاصفة التي سقطت معها الأقنعة وكشف مقدار الضعف البشريّ وهشاشة الضمانات الزائفة التي كان معتقدًا بها. لكنّ وباء كورونا، بالرغمِ من المأساة التي أحدثها، من آلام وخوف ومحدوديّة بشرية، إن على الصعيد الشخصي أو الجماعي، لا بدّ وأن يحثّنا على تغيير نمطيّة تفكيرنا والبحث مجددًا عن معانٍ أعمق لوجودنا.
الفصل الثاني: شخص غريب في الطريق: السامريّ الصالح أو الرحيم (لو 10، 25-37)
مثلُ السامريّ الصالح (أو الرحيم) يتناوله البابا فرنسيس بالشرح والتأمّل، مقدّمًا إياه كأنموذجٍ يحتذى به، ضدّ أي نوعٍ من محاولات التمييز العنصريّ أوالدينيّ أوالمذهبيّ.
ضرب يسوع هذا المثل، في القسم الثاني من حوارٍ له مع معلّم الشريعة، كانت نيّته وضع يسوع في موقفٍ حَرِجْ والنيل من هيبتهِ كمعلّم (را. 10، 25ب): «يا معلّم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟» (لو 10، 25ج). فأجابه يسوع: «ماذا تقول الشريعة؟ كيف تقرأ؟» (لو 10، 26). وأتى الجواب من معلّم الشريعة: «أحبب الرّبّ إلهك بكلّ قلبك، وبكلّ نفسك، وبكلّ قوّتك، وبكلّ فكرك. وأحبب قريبك مثلما تحبُّ نفسك» (تث 6، 5؛ لا 19، 18). من الواضح أنّ الرجل كان متبحّرًا بمعرفة الكتاب المقّدس، أسفار العهد القديم. فردَّ يسوع: «بالصّوابِ أجبت، إعمل هذا فتحيا» (لو 10، 28). وبما أنّ الغاية إحراج يسوع، لم يكتفِ الرجل، بل استمرّ بطرح الأسئلة: «ومن هو قريبي»؟ (لو 10، 29ب).
عندئذٍ، شرع يسوع بسرد رواية السامريّ الغريب، الذي أغاث الجريح المتروك عند قارعة الطريق، بعد أن تعرّض لاعتداءٍ من اللصوص. ولم يهتمّ لأمره، الكاهن ولا اللاويّ، اللذان مرّا بالقرب منه ومضيا في طريقهما، غير مكترثين لمعاناة وجراح ذاك المسكين. وفي ختام المثل، يعود يسوع ليسأل معلّم الشريعة: «من كان حقًا قريب الذي وقع بأيدي الأشرار» (لو 10، 36). فأجاب: «الذي عامله بالرّحمة» (لو 10، 37). فردّ يسوع، قائلًا: «إذهب أنتَ واعمل مثلهُ» (لو 10، 37).
ويعلّق البابا فرنسيس عن المثل، بقوله: «إننا اليوم أمام فرصة عظيمة لإظهار جوهرنا الأخويّ، ولأن نكون سامريّين صالحين آخَرين يتحمّلون ألمَ الفشلِ، بدلًا من التحريض على الكراهية والضغينة. [...] لنَدَع الآخرين يواصلون التفكير في السياسة أو الاقتصاد لصالح لعبة السلطة. أمّا نحن فلنُنَمِّ ما هو صالح ولنَخدُم الخير«.
أمام مشهد البشريّة المبتلاة بالحروب والكوراث، يمكن للمرء أن يتساءل، من أين يبدأ؟! فيجيب أسقف روما: «باستطاعتنا أن نبدأ من الأسفل، وانطلاقًا من شخصٍ واحد، وأن نجاهد في سبيل ما هو أكثر واقعية وما هو محلّي، وحتى آخر زاوية من الوطن والعالم، فنقدّم نفس الرعاية التي قدّمها السامري لكلّ جرح من جراحات الرجل المُصاب. لكنّ السامريّ وجد له شركاءَ في حمل المسؤولية. وكلّما عظُمت الهموم والمشاكل، لا بدّ من إيجاد شركاء لفعل الخير والتخفيف من هول أوجاع المتألمين: «نحن أيضًا مدعوّون للاجتماع واللقاء في جماعة، في "نحن"، أقوى من مجموع الأفراد؛ تذكّروا أنّ "الكلّ أكثر من الجزء، وأكثر أيضًا من مجرّد مجموع تلك الأجزاء".
لقد شجّعت الكنيسة أبناءها، منذ عقودٍ طوال، على التزام بقضايا الشأن العام، من خلال عقيدة الكنيسة الاجتماعيّة. وقد دعا البابا فرنسيس: «أن يشمل التعليم المسيحيّ والوعظ، بشكل مباشر وواضح، المعنى الاجتماعي للوجود، والبعد الأخويّ للروحانيّة، والاقتناع بالكرامة القاطعة لكلّ شخص، والدوافع إلى محبّة الجميع وقبول الجميع«.
الفصل الثالث: التخطيط لعالم منفتح وخلقه
هل من مقترحات/خطّة عمليّة تخدم مشروع الأخوّة الإنسانيّة؟ ما هو المخرج الحقيقيّ الذي يساعد في الخروج من مأساة الانغلاق على الذات، وبالتالي تدميرها من الداخل، ومعها المجتمع المحليّ والعالميّ على السواء؟! يتناول البابا فرنسيس فكرة المحبة كمسارٍ إنسانيّ-أنثروبولوجيّ، تساعد في التَخطيط لعالم أكثر انفتاحًا وإنسانيّة. ينصبُّ اهتمامه على إحدى أبرز خاصّيات الطبيعة البشريّة، أي حاجة البشر جميعًا إلى النموَ والسعي نحو الأفضل، وصولًا إلى تحقيق الذّات. وبما أنّ الإنسان كائنٌ علائقيّ بطبيعته. ولا يمكنه النموّ، إلا من خلال التواصل ونسج روابط اجتماعيّة تخدم هدفٍ نبيل يكرّس له ذاته ويضحّي للوصول إليه. ولا من معنى للحياة إلا ببذل الذّات، دون مقابل، لذلك المحبة، هي جوهي المسار الأنثروبولوجي الذي بواسطته يمكن بلوغ تحقيق الذّات. بل، إنها الجواب الحقيقيّ على التساؤلات والإشكاليات التي تمّ تناولها آنفًا.
يُعرّف توما الأكويني المحبة: «أنها حركة تركيز الانتباه على الآخر، معتبراً إياه واحداً مع الشخص نفسه». إنّها اهتمام جدّي وسعي مجانيّ وراء مصلحته، كونه ذو قيمة وشأن. لا يمكن اعتبار المحبة سلسلة أعمال مفيدة وحسب، بل إنّها سعيٌ مستمر ومزيد في البحث عّما هو الأفضل لحياة الآخر. وهذا العطاء لا يمكن حصره بعلاقات ضيقة (الأسرة الواحدة، صلة القربى، الروابط الإثنية والوطنية، إلخ)، بل يجب عدم استبعاد أي شخص. إنها علاقة صداقة وإخوّة تشمل الجميع، دون استثناء. يمكننا القول، أنّ المحبة هي السبيل إلى شراكة روحية شاملة. لا يمكن لأحد أن ينضج أو يبلغ ملء وجوده البشري بمعزل عن المحبة. إنها بحقّ، مغامرة خروج مستمرّ من الذات، للقاء الآخر، المختلف عنّي. إن المحبة، التي تمتدّ خارج حدود الروابط الأسريّة والنطاق الضيّق، لتشمل المدن والبلدان، يمكن تسميتها الصداقة الاجتماعية. تشمل المحبة، خصوصاً المتروكين، والذين تتجاهلهم مجتمعاتهم؛ أولئك "الغريبين/المنسيّين" ضمن بيئتهم: ذوي الإعاقة والمسنّين، والأكثر حاجة.
وبالعودة إلى نصّ السامريّ الرحيم، نجد أنّ الشخصيات التي مرّت بالقرب من الجريح، لم تُعِرْ اهتماماً لكونه "قريب"، بل كانت نظراتهم مركّزة على وظيفتهم ومكانتهم الاجتماعية ودورهم في المجتمع. لربما احتسبوا الرجل الجريح، يُفقدهم مكانتهم أو يخربط مشاريعهم أو يعرقلها. المتروك على حافة الطريق كان "نَكِرَة"، لا ينتمي لأي فئة لها اعتبارها أو ذات شأن. بمعنى آخر، جرى تصنيفه ضمن فئة ووضعه ضمن إطار. أما السامريّ، فقد كانت لديه الشجاعة لتخطّي تلك الأُطرِ والتصنيفات المُغلقة، بالرغم من أنه هو لم يكن له شأنٌ أو صفة اعتباريّة. لقد كان، بكل بساطة، "غريباً". ومع ذلك أوقف رحلته، وغيّر وجهته، وتحلّى بشجاعة الانفتاح على احتياج الآخر، وهمَّ لمساعدته.
يمكننا القول أنّ ما يجمع اللاوي والكاهن علاقات شراكة لا يمكن اختراقها، بينما الحاجة اليوم إلى إعادة مفهوم "قريب" لمعناه العميق. وما فعله السامريّ هو أنه جعل من نفسه قريباً للرجل الجريح، وهذا هو المغزى الحقيقيّ للمثل الذي ضربه يسوع. فعندما سُئل يسوع: «من هو قريبي؟»، ضرب هذا المثل، ليبيّن أنّ القريب الحقيقي هو الذي يمتلك شجاعة الخروج من الذّات لملاقاة الآخر ومساعدته في أزماته، بالرّغم من الاختلاف بينهما والعواقب الناتجة عن ذلك. لقد تحلّى السامريّ الرحيم بشجاعة المحبة تجاه القريب. محبةٌ ترفض منطق العزلة والقوقعة على الذّات، أو الخوف من فقدان شيء ما بدافع الخروج من الذّات. كم جميل، أن يُعمّم نموذج السامريّ، لا على المستوى الشخصيّ، بل على مستوى الجماعات والأوطان!
الكرامة البشرية المُطلقة أساس الصداقة الاجتماعيّة والأخوّة الشاملة
إنّ أهم ركائز تعليم الكنيسة الاجتماعي هو كرامة الإنسان: «لكل إنسان الحق في العيش بكرامة والتمتّع بتطوّر كاملٍ، ولا تستطيع أية دولة أن تنكر هذا الحقّ الأساسيّ. كلّ إنسان يملك هذا الحقّ، حتى لو كان قليل الفعاليّة، حتى لو ولد أو نشأ وله محدوديّته: لأن هذا لا ينتقص من كرامته العظيمة كإنسان، والتي لا تقوم على الظروف، بل على قيمة كيانه. عندما لا يحترم المبدأ الأساسي، لا يوجد مستقبل للأخوة والالتقاء البشريّ». صحيح أن الاصطفاف على جانب الفقراء والمهمشين لا يعود بالربح المادي، لذلك يتطلب الأمر حضوراً للدولة فاعلاً وللمؤسسات ومختلف فعاليّات المجتمع المدني، إذ يجب تخطّي كل نظام ربحيّ أو إقصائي أو إيديولوجية عنصرية ذات مصالح ضيّقة.
تعزيز "التضامن" بين الأفراد والشعوب
التضامن، مصطلحٌ آخر ينادي به تعليم الكنيسة الاجتماعي. ويمكن تعريفه: «فضيلة خُلقية وموقف اجتماعيّ، ثمرة الارتداد الشخصيّ، والتزاماً من قبل أطراف متعدّدة تحمل مسؤوليات تربويّة وتأسيسيّة». ويمكن اكتساب فضيلة التضامن، انطلاقًا من العائلة، حيث يمّ التدرّب على التعايش السلمي والمشاركة بالمحبة والاعتناء بالآخر، مرورًا بالمدارس، وصولًا إلى وسائل الاتصالات الاجتماعية. إنّ أجمل تجلّيات التضامن هي الخدمة، لأنها: «تنظر إلى وجه الأخ، وتلمس جسده، وتشعر بقربه لدرجة التألم معه في بعض الأحيان، وتعمل على الرفع من شأن الأخ. لذا، فالخدمة ليست أبداً إيديولوجيّة، لأنها لا تخدم أفكاراً بل أشخاصاً». ومن المؤسف، يقول البابا، أنّ كلمة تضامن لا تثير الإعجاب في زماننا، بل عادة ما يتم تجنب ذكرها. ويذكر قداسته، أنّ المعنى الحقيقي والعميق لهذا المصطلح: «التفكير، والتصرّف من منطق الجماعة، وأولويّة حياة الجميع على استملاك البعض للخيرات. ويعني أيضاً، محاربة الأسباب الهيكلية للفقر، وعدم المساواة، أو غياب العمل والأرض والسكن، والحرمان من الحقوق الاجتماعية وحقوق العمل. يعني أيضاً مواجهة تبعات إمبراطورية المال المدمِّرة. [...] التضامن هو طريقة لصنع التاريخ، وهذا ما تفعله الحركات الشعبية».
الفصل الخامس: السياسة الأفضل
لا شك أنَّ واقع الهجرة ليس حديثاً. وموقف الكنيسة هو داعم لتثبيت الشعوب في أرضها وضمن ثقافتها. ولتأمين ذلك، لا بدّ من خلق السُبُل الكافية لحياة كريمة. لقد زادت ظاهرة الهجرة في السنين الأخيرة لأسباب عدة، أهمها الحروب والنزاعات وفقدان الأمان والاستقرار في الوطن الأم. فمن وجهة، يتفهّم البابا فرنسيس وجهة نظر الشعبوييّن الخائفين على مصير بلادهم من استقبال أعدادٍ كبيرة من المهاجرين. لكنّه، في الوقت عينه، يتضامن مع الهاربين من بلدانهم التي تعرّضت لإبادة إثنية أو حروب أهليّة دامية. فالمهاجرون، عمومًا، إنما يبحثون عن أمانٍ لأبنائهم. وكثيرًا ما يتمَّ استغلالهم والإتجار بأرواحهم، من قبل اللصوص وتجّار الأعضاء والمُهربين عديمي الضمير. وهذا الأمر، يتعارض مع إيمانِنا المسيحيّ، يقول الحبر الأعظم، الذي يعترف بـ«الكرامة المُطلقة لكلّ إنسان، بغض النظر عن أصلهِ ولونهِ أو دينهِ». إن موقف الكنيسة واضحٌ بهذا الخصوص، ويتلخّص بأربعة أفعال: استقبال وحماية وتعزيز ودمج.
من المؤكّد أن موضوع الهجرة له أخطاره وتحدّياته. منها تعلّق الشخص المهاجر ببيئته وثقافته وتراثه الخاص، ومن جهة أخرى البلد المستقبل له مخاوفه من عدم اندماج المهاجرين والإحساس بالخطر تجاه أي تغيير في هويتهم وإرثهم الثقافي، خصوصاً إذا كان المهاجرين ينتمون إلى ديانة وثقافات وتراث مختلف عن البلد المُضيف. يقترح البابا فرنسيس ما يمكن تسميته «الانفتاح السليم على الواقع، لا يهدّد الهوية». ويؤكد الحبر الأعظم أنّ «العالم ينمو ويمتلئ بجمال جديد بفضل الاختلاطات المتتالية التي تحدث بين الثقافات المنفتحة، خارج أي فرض لأي ثقافة». وبالتالي يمكن القول «أنه ليس باستطاعة أي شعب أو ثقافة أو شخص الحصول على كل شيء من ذاته. الآخرون هم ضروريون بشكل أساسي لبناء حياة كاملة. أما إدراكنا بمحدوديّتنا، فلا يشكّل أبداً تهديداً لنا، بل يصبح المفتاح الذي من خلاله نحلم ونطوّر مشروعاً مشتركاً. لأنّ "الإنسان هو الكائن-المحدود الذي ليس له حدود"».
أيُّ سياسة تخدم مفهوم الأخوَّة؟
قد يطرح السؤال: ما دخل الكنيسة في السياسة؟ ألم تنهِ الحقبة التي كان يختلط فيها الدور الكنسي في الدور السياسيّ؟ ألم يقل السيد المسيح: "أعطِوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟" (مر 12، 17)؟
في كلّ مرّة تبدي الكنيسة رأيها في موضوع مجتمعي، ينهال عليها وابل الاتهامات والانتقادات. ومع ذلك فالكنيسة تعيش رسالتها ضمن المجتمعات، على تنوع مشاربها وثقافاتها. ولها الحق، وعليها واجب، تصويب البوصلة، حيث الضياع والفساد والاستخدام الخاطئ لمفهوم السياسة (ديناميكية قيادة الشعوب). لها أن تبدي الرأي وتناقش وتقترح وتستخرج من مخزونها التاريخيّ والمعرفيّ والثقافيّ، ما يعود بالفائدة والخير العام لكل المجتمع. تشعر الكنيسة اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، أنَّ واجبها تجاه المجتمع، يدعوها لتقول كلمتها، وذلك "لأنَّ السياسة تتخذ اليوم للأسف أشكالاً تعيق المسيرة نحو عالم مختلف".
ما سماتُ السياسة التي تصلح لمجتمعاتنا والعالم؟
- ليست خاضعة لهيمنة الاقتصاد ومنطق الربح والكفاءات الإنتاجية فقط.
- سياسة تحترم القوانين، وتتحلّى بمفهوم السلطة على أنه خدمة لا تسلّط، وتحارب الفساد بكل أشكاله.
- قادرة على إصلاح المؤسسات وتنسيقها، وتزويدها بممارسات جيّدة، تسمح بتخطي الضغوطات والخمول والفساد.
- تفكّر بالخير العام، خصوصاً أثناء الأزمات، فلديها خطط بعيدة الأمد، ومشروع وطني يخدم الجميع، دون استثناء. تتحلّى بالانفتاح على المجتمع الدولي لتتفاعل معه وتغتني من مقدّراته وخبرته.
باختصار "إنّ المجتمع العالمي يعاني من أوجه قصور هيكليّة خطيرة لا يمكن حلّها بالترقيع أو بحلول سهلة عرضيّة بحتة. هناك أشياء يجب أن تتغير بواسطة عمليّة إعادة تفكير أساسية وتحوّلات رئيسيّة. وحدها السياسة السليمة تستطيع أن تقود هذا التغيير، فتُشرك القطاعات المختلفة والمعرفة على تنوّعها. وبهذه الطريقة، يستطيع الاقتصاد المندمج في مشروع سياسي واجتماعي وثقافي وشعبي، الذي يسعى للخير العام، أن يفتح الطريق نحو فرصٍ مختلفة، لا تستوجب الحدّ من الإبداع البشري ومن حُلُمِه بالتقدّم، بل تحتاج إلى توجيه هذه الطاقة بأسلوب جديد".
هل يمكن الحديث عن المحبة في نطاق السياسة؟
في عالم اليوم، حيث تسود المصالح الضيّقة والأنانية والنزعة إلى الربح المفرط باستغلال الآخر لمصلحته، يبدو أنه من المُحال الحديث عن الإخوّة الإنسانية. لكنّ البابا فرنسيس، يسعى لتعزيز مفهوم المحبّة ليشمل كل ما يُعنى بقضايا الإنسان. فهو يدعو: "لإعادة تأهيل السياسية، التي هي دعوة في غاية النبل، وهي من أثمن أشكال المحبة، لأنها تسعى للخير العام". إنّ تعليم الكنيسي الاجتماعي يستقي أساسه من شريعة المحبة التي ينادي بها إنجيل يسوع المسيح (را. متى 22، 36-40). فالمحبة فضيلة مسيحيّة، لكنها في الوقت ذاته، صفةٌ إنسانيّة بامتياز، تجعل من يتحلّى فيها يسعى لبناء عالم جديد أفضل. لا يمكن أن تقتصر المحبة على علاقات ضيّقة أو فرديّة، يجب بذل كل الجهود لتشمل كافة المجالات والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
لا يمكن اختزال المحبة بانفعالات عاطفية، أومشاعر آنيّة؛ إنّها التزامٌ مبني على قرارٍ ثابت في تبنّي الحقيقة. إنّها تسعى لتأمين تنمية مستدامة، من خلال عمل مؤسساتيّ مسؤول، يشمل الكائن البشري برمّته: عقلاً وقلباً وجسداً. وتصل لكل إنسان، بغضّ النظر عن لونه أو معتقده الدينيّ أو رأيه السياسيّ. بإمكان الأفراد القيام بأعمال محبّة، كبيرة كانت أم صغيرة. لكنّ السياسة، إذا مارست دورها بمحبة، يمكنها القيام بالكثير. فيمكن لأيّ كان مساعدة مُسنّاً لعبور النهر، لكنّ السياسيّ يمكنه بناءُ جسرٍ يخدّم أناساً كثيرين في عبور النهر، ولمرات كثيرة. يمكن لأي أحد تقديم وجبة طعام لمحتاج، لكنّ السياسي الذي تملأ المحبةُ قلبَه، يمكنه خلق فرص عمل تكافح البطالة، وتؤمّن فرص عمل، وتعزز الكرامة الإنسانية، بشكل أفضل بكثير من الحسنات المؤقتة التي تخلق حالة من التبعيّة والخمول.
الفصل السادس: حوار وصداقة اجتماعيّة
هل يختلف اثنان على أهمية الحوار؟ ومع ذلك يحتاج هذا المفهوم وقتًا ليصبح ثقافة، إن على المستوى الأفراد، أو الجماعات والأوطان.
ماهيّة الحوار
المونولوغ هو حديث الشخص لنفسه، في ظلّ غياب كامل لشريك آخر. أما الحوار الحقيقي والصادق، فيبنى على احترام وجهة نظر الآخر. لأنه "بروح حقيقية من الحوار، تتغذّى القدرة على فهم معنى ما يقوله الآخر وما يفعله، حتى لو أننا لا نستطيع أن نتبنّاه كقناعتنا الخاصة. [...] إنّ الاختلافات خلاّقة، لأنها تخلق توتّر، وتقدّم البشرية يكمن في مواجهة التوتّر». إن أساس أي حوار كان هو "حقائق موضوعية ومبادئ ثابتة". الحقيقة الثابتة الوحيدة والمطلقة هي كرامة الإنسان. لذلك، يجب البحث عنها مرارًا، وإعادة اكتشافها، وحمايتها بكل السبل. ولا مجال، من الناحية الأخلاقية والقيمية، للجدل وتطبيق مبدأ النسبيّة فيما يخصّ الثوابت. وهنا يقول البابا فرنسيس:« يمكننا في الواقع التعلُّم من الجميع، فلا أحد عديم الفائدة، ولا يمكن الاستغناء عن أحد. وهذا يعني أن نشمل الضواحي. فكل من يسكن الضواحي لديه وجهة نظر أخرى، ويرى جوانب من الواقع لا نراها من مركز القوّة حيث تتخذ القرارات الحاسمة». لا بدّ لنا، إذاً، أن نسخّر كل إمكاناتنا لتعزيز ثقافة اللقاء والحوار.
السلام الذي ننشده لا بدّ من هندسته وصُنعه
ما أحوجنا اليوم إلى صُنّاع سلام، يؤمنون ويسعون جاهدين لإيجاده بكلّ السبل. عالمنا اليوم، تسوده الصراعات والحروب والنزاعات. قتل ودمار وتهجير. مئات الآلاف، بل الملايين من الأبرياء يدفعون أثماناً باهظة، فقط لأنهم يسكنون في مناطق، مصيرها البائس أنها ضحية مصالح شخصية أو أطماع اقتصادية ونفوذ سياسي بغيض.
إنّ سرّ تحقيق السلام، يكمن في العمل معاً، من أجل الخير العام. والمصالحة الحقيقة، تكمن في: «تكوين مجتمعٍ جديد، قائمٍ على خدمة الآخرين، وليس على الرغبة في الهيمنة. مجتمعٌ يقوم على مشاركة ما نمتلكه مع الآخرين، بدلاً من أن يناضل كلُّ فردٍ بطريقة أنانية في سبيل الحصول على أكبر ثروة ممكنة. مجتمع تكون فيه قيمة التواجد معاً كبشر أكثر أهمية بالتأكيد من أي مجموعة ثانوية، سواء كانت الأسرة أو الأمة او العرق أو الثقافة. [...] إنّ السلام الحقيقي، لا يمكن تحقيقه، إلا عندما نكافح من أجل العدالة، من خلال الحوار والسعي لتحقيق المصالحة والتنمية المتبادلة».
ولأنّ المجتمعات لا تبنى على الافتراضيات، ولا على عنصر المباغتة والصُدفة، لذلك «يجب هندسة السلام، حيث تشترك فيها مختلف مؤسَّسات المجتمع. كلٌّ حسب اختصاصها. [...] من المهم على الدوام أن ندخل في عمليات السلام خبرة القطاعات التي غُيبت في مناسبات عديدة، كي تترك الجماعات بالتحديد صبغتها على عمليات الذاكرة الجماعية». وتحقيقُ السلام، يتطلّب جهداً وعملاً دؤوباً متواصلاً، دون كلل أو ملل. يتطلّب تضافر جهود الجميع في المجتمع، بلا استثناء. إنه نضال، بكل ما للكلمة من معنى، لإعلاء شأن الإنسان وتعزيز كرامته المقدسة والعمل دوماً على تعزيز الخير العام في كلّ مسعى وفي كل المجالات السياسي منها والاجتماعي والاقتصادي. إنّ العنفَ، لا يجرّ إلا العنف. والانتقامُ، مثل الزيت في النار، يزيد تأجيج الخلاف ويدمّر أي مسعى للسلام والمصالحة.
الفصل السابع: مسارات التلاقي
لا يتحقق السلام، إلا بالمغفرة والمصالحة، لكن بأي معنى؟
من المؤكّد أن يسوع المسيح ما دعا قطّ لاستخدام العنف أو لإثارة الشغب في المجتمع، بالرغم من أنه مدركٌ وملامس لمظالم الناس، خصوصاً الضعفاء والمهمّشين. لم يدعُ أبداً لاستخدام القوة، أوالتسلّط على الآخرين: «تعلمون ان رؤساء الأمم يسودونها، وأن أكابرها يتسلّطون عليها. فلا يكن هذا فيكم» (متى 20، 25-26). ومن ناحية الغفران والمسامحة طلب من بطرس أن يسامح «سبعين مرّة سبعَ مرّات» (متى 18، 22). وأدان يسوع ذاك الخادم الذي غفر له سيده وأعفاه من الدَّين الكبير، لكنّه لم يعفو عن قريبه (را. متى 18، 23-35). نصوص أخرى في العهد الجديد تدعو للتسامح والصبر، في محاولة لاستيعاب العالم الوثني المنغمس بالفساد والانحراف. لقد دعت الجماعات المسيحية إلى توبيخ المخالفين «بوداعة» (را. 2 طيم 2، 25).
لكنّ، المغفرة والتسامح شي، وحرّية الضمير والمعتقد شيء آخر. وهذا ما عبَّر عنه يسوع بقوله: «لا تظنّوا أنّي جئتُ لأحمل السلام للأرض، ما جئت لأحمل سلاماً بل سيفاً: جئت لأفرّق بين المرء وأبيه والبنت وأمها، والكنّة وحماتها. فيكون أعداء الإنسان أهل بيته" (متى 10، 34-36). لا بدّ من قراءة هذا النص في سياق الفصل. فالمقصود هنا الأمانة للخيار الشخصيّ. أحياناً يعارض أبناء البيت الواحد خيارات تتعلّق بالضمير وحرّية المعتقد. وفي حال اعترض الأهل بشدّة خيار أبنائهم، أو لجأوا لأساليب الضغط الشديد والعنف، عندئذٍ على الشخص أن يتبع قلبه ويدافع عن خياراته. فالسلام، الذي لا يحترم ضمير الآخر وخياراته النابعة من قناعاته المختلفة، هو سلام مزعوم وغير حقيقيّ.
تنبع المصالحة من قرار شخصي وحرّ. لا يمكن لأحد فرضها، حتى لو شجّعها المجتمع. قرار إسقاط العقوبة بالشخص الذي تعرّضني بالأذى وأساء لي هو قرار شخصي لا إكراه فيه (را. متى 5، 44-46). وهنا يجب التوقف عند حالة النسيان. يمكننا أن نسامح، لكن علينا ألا ننسى. الإبادة التي تعرّض لها الشعب الأرمني والتي راح ضحيتها مليون ومئات الآلاف من الأرمن. المُحرقة التي تعرّض لها الشعب العبريّ على يد الإيديولوجية العنصريّة النازيّة. القصفُ الذرّيّ على هيروشيما وناغازاكي في اليابان. ولا أن ننسى تجارة العبيد والمذابح العرقية. «لا أحد يتقدّم دون ذاكرة، ولا يتطوَّر دون ذاكرة متكاملة ومنيرة. نحن بحاجة إلى أن نبقي "شعلة الوعي، فنشهد للأجيال الصاعدة عن رعب ما حدث" و"توقظ وتحفظ بهذه الطريقة ذكرى الضحايا، حتى يتقوى الضمير الإنساني باستمرار إزاء كل رغبة في الهيمنة والدمار"».
ليس من السهل أن نغفر. وحتى لو غفرنا لا يجب أبداً أن ننسى. الغفران شيء والنسيان شيءٌ آخر. فالذين يغفرون حقاً «لا يسمحون بأن تستولي عليهم القوة المدمرة نفسها التي أضرّت بهم. يكسرون الحلقة المفرغة ويبطئون تقدّم قوى الدمار. يقرّرون عدم الاستمرار في تلقيح المجتمع بطاقة الانتقام التي، عاجلاً أم آجلاً، سوف تقع عليهم مجدّداً. لأن الانتقام لا يشبع أبداً استياء الضحايا. هناك جرائم مروّعة وقاسية للغاية، لدرجة أننا لن نشعر يوماً بالتعويض عن الجريمة حتى وإن أنزلنا الألم بمرتكبيها، لن يكفي حتى قتل المجرم، ولا يمكن إيجاد تعذيب يعادل ما قد تكون الضحية قد عانت منه. الانتقام لا يحلّ شيئاً". على الجاني ألا يفلت من العقاب المناسب للجرم المرتكب. على العدالة البشرية أن تُنصف كلّ من تأذى من العنف والظلم والاعتداء، ليس حباً في الانتقام، بل محبة بالعدالة ذاتها.
يقترح البابا فرنسيس أن تحوّل النقود الباهظة التي تخصّص لعملية التسلّح وتصنيع الأسلحة المعدّة للقتل، لصالح صندوق عالميّ للقضاء على الفقر والجوع في العالم، وتنمية الجدول الفقيرة. وحدها التنمية الشاملة والكاملة تحلّ مشكلة الفقر والعنف، الذي قد يلجأ إليه المعوزين لتغيير واقعهم المأساويّ، ولتثبيتهم في بلدانهم الأم يعيشون فيها بكرامة، بدل البحث عن حياة كريمة خارج الأوطان.
الفصل الثامن: الأديان في خدمة الأخوة في العالم
بتاريخ 4 شباط 2019، في أبو ظبي، وقّع البابا فرنسيس مع فضيلة الإمام الطيّب شيخ الأزهر الشريف، وثيقة الإخوة الإنسانيّة. يمكن اختزالها بهذه العبارات العميقة، والشاملة، والدّاعية إلى العمل معًا، من أجل خير الإنسان، أيًّا كان، في كل زمانٍ ومكان:
«يحملُ الإيمانُ المؤمنَ على أن يَرَى في الآخَر أخًا له، عليه أن يُؤازرَه ويُحبَّه. وانطلاقًا من الإيمان بالله الذي خَلَقَ الناسَ جميعًا وخَلَقَ الكونَ والخلائقَ وساوَى بينَهم برحمتِه، فإنَّ المؤمنَ مَدعُوٌّ للتعبيرِ عن هذه الأُخوَّةِ الإنسانيَّةِ، بالاعتناءِ بالخَلِيقةِ وبالكَوْنِ كُلِّه، وبتقديمِ العَوْنِ لكُلِّ إنسانٍ، لا سيَّما الضُّعفاءِ منهم والأشخاصِ الأكثرِ حاجَةً وعَوَزًا».
«وانطلاقًا من هذا المعنى المُتسامِي، وفي عِدَّةِ لقاءاتٍ سادَها جَوٌّ مُفعَمٌ بالأُخوَّةِ والصَّداقةِ تَشارَكنا الحديثَ عن أفراحِ العالم المُعاصِر وأحزانِه وأزماتِه سواءٌ على مُستَوى التقدُّم العِلميِّ والتقنيِّ، والإنجازاتِ العلاجيَّة، والعصرِ الرَّقميِّ، ووسائلِ الإعلامِ الحديثةِ، أو على مستوى الفقرِ والحُروبِ، والآلامِ التي يُعاني منها العديدُ من إخوتِنا وأخَواتِنا في مَناطقَ مُختلِفةٍ من العالمِ، نتيجةَ سِباقِ التَّسلُّح، والظُّلمِ الاجتماعيِّ، والفسادِ، وعدَمِ المُساواةِ، والتدهورِ الأخلاقيِّ، والإرهابِ، والعُنصُريَّةِ والتَّطرُّفِ، وغيرِها من الأسبابِ الأُخرى».
«نُطالِبُ أنفُسَنا وقادَةَ العالَمِ، وصُنَّاعَ السِّياساتِ الدَّولِيَّةِ والاقتصادِ العالَمِيِّ، بالعمَلِ جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتعايُشِ والسَّلامِ، والتدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ، ووَقْفِ ما يَشهَدُه العالَمُ حاليًّا من حُرُوبٍ وصِراعاتٍ وتَراجُعٍ مناخِيٍّ وانحِدارٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ. ونَتَوجَّهُ للمُفكِّرينَ والفَلاسِفةِ ورِجالِ الدِّينِ والفَنَّانِينَ والإعلاميِّين والمُبدِعِينَ في كُلِّ مكانٍ، ليُعِيدُوا اكتشافَ قِيَمِ السَّلامِ والعَدْلِ والخَيْرِ والجَمالِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ، وليُؤكِّدوا أهميَّتَها كطَوْقِ نَجاةٍ للجَمِيعِ، وليَسعَوْا في نَشْرِ هذه القِيَمِ بينَ الناسِ في كلِّ مكان».
أسئلة تساعد في التعمّق بالموضوع
(أ) ما مقدار المحبة التي أضفتها إلى عملي؟ هل جعلت الناس الذين أتُمنتُ عليهم يتقدّمون، وأيُّ بصمة تركتها في حياة الجماعة التي أعيش فيها: الكنيسة والمجتمع؟
(ب) ما هي الروابط والجسور التي سعيتُ لأن أبنيَها؟ ما هي القوى الإيجابية التي أطلقتُها؟
(ج) هل أؤمن حقًا، بدور ما في صنع السلام؟ هل أعتقد أنّ المصالحة ضروريّة لبناء مجتمع أفضل؟ أم أعتبرها ضعفٌ يجب تجنّبه؟
(د) كيف أساهم، في تعزيز ونشر ثقافة «الأخوّة الإنسانيّة»، التي يحلمُ بها قداسة البابا فرنسيس وفضيلة الإمام الطيّب؟
يختتم البابا فرنسيس رسالته: جميعنا إخوة fratelli tutti: في الأُخوَّة والصداقة الاجتماعيّة، بصلاة للخالق، يمكن لأيّ مؤمنٍ بالله، أن يصلّيَها. وصلاة أخرى، يمكن للمسيحيّين، على اختلاف تقاليدهم الكنسيّة، القيام بتلاوتها.
صلاة للخالق
يا ربّ البشرية وأباها، الذي خلقتَ البشرَ جميعًا وساويت بينهم بالكرامة، اِبعث في قلوبنا روح الأخوّة. ألهِمنا بحلم من اللقاء والحوار والعدالة والسلام. حُثّنا على خلقِ مجتمعاتٍ سليمة، وعالمٍ أفضل، لا يعرفُ الجوعْ، ولا الفقرْ، ولا العنفْ، ولا الحروب. لينفتح قلبُنا لجميع شعوبِ الأرض وأُمَمِها، حتى ندركَ الخيرَ والجمالَ الذي زرعتَهُ في كلٍّ منها، ونعزّزَ روابطَ الوَحدةِ والمشاريعَ المشتركةِ، والآمالَ المشتركة. آمين
صلاة مسكونيّة
يا إلهنا، ثالوثَ المحبّة، اِسكُبْ وسطِنا نهرَ المحبّةِ الأخويّة، الذي ينبعُ من الشركةِ الروحيّةِ القديرةِ، التي تسكِنُ أعماقَ ألوهيَّتِكَ. وأعطنا تلك المحبّة، التي كانت تنعكسُ في أعمالِ يسوع، وفي عائلةِ النّاصرة، وفي الجماعةِ المسيحيّةِ الأولى. إمنحنا، نحن المسيحيّين، أن نعيشَ الإنجيل، وأن نتعرّف على المسيح في كلّ إنسان، كي نراهُ مصلوبًا في معاناةِ المتروكين والمسنّين في هذا العالم، وقائمًا في كلّ أخٍ يقوم من جديد. تعال أيّها الرُّوحُ القُدس، أَرِنا جمالَك المُنعكس في جميعِ شعوبِ الأرض، حتى نكتشِفَ أنّ الجميعَ مُهمُّون، وأنّهم ضَروريُّون، وأنهم وجوهٌ مختلفةٌ لنفسِ البشريّة التي تحبُها. آمين.