موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
شاهدتُ قبل أيام عن بُعد حوارًا بين كاهن صديق لي وشيخ عراقي حول العلاقات بين المسيحيين والمسلمين. مما قاله الأب حنا كلداني ارتباط هذه العلاقات بثلاثة عوامل: النصوص الدينية، التشريعات أو القوانين، وأخيرًا الممارسات اليوميّة.
أرى أنّ ما قاله الأب كلداني على صلة وثيقة بموضوعنا: النصوص الدينية والتشريعات والممارسات الحياتية فيما يتعلق بالمواطنة وحرية الدين أو المعتقد في حوار أوروبي-شرق أوسطي يهدف الى تجسير الهوة بين هذين الأمرين ودفع أجندتهما المشتركة قدمًا.
أشكر منظمي هذا الاجتماع على دعوتي للمشاركة فيه باسم دائرة الحوار بن الأديان بالفاتيكان، ذاكرًا رغبتهم بأن لا نتكلم باسم مؤسساتنا، ما يعطينا حرية أكبر لنقول ما نفكر.
لا بد أنكم تشاركونني الرأي أن النصوص التي نُعنى بها في هذا السياق هي في الدرجة الأولى النصوص الدينية الإسلامية، فعشرون دولة من بين الاثنتين والعشرين الأعضاء في جامعة الدول العربية (هناك خمس دول بصفة مراقب) تعلن في دساتيرها أن الإسلام دين الدولة. ولعلّه من المفيد أن نقرأ ما يقوله دستور الدولتين اللتين لا تتبنيان الإسلام دينًا، أعني لبنان وتونس:
"لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل" (المقدمة المضافة الى دستور لبنان بموجب القانون الدستوري الصادر في 21 أيلول 1990؛ "نحن، الشعب التونسي، نؤكد مجددًا انتماءنا للأمة العربية وحرصنا على التمسك بالأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي..." (توطئة دستور الجمهورية التونسية، 22 حزيران 2022).
بعد إعلان الاسلام دينا للدولة، تعلن الدساتير حرية العبادة لغير المسلمين ومساواة المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات.
هناك رؤى وتفسيرات مختلفة للحرية الدينيّة وكذلك للمواطنة، لكني مقتنع من خلال متابعتي للشأن العربي والاسلامي بأنّ هناك توجهًا نحو مزيد من الانفتاح من قبل المراجع والمؤسّسات الاسلاميّة ومؤسّسات المجتمع المدني لقبول التعدديّة الدينيّة والعرقيّة والثقافيّة والفكريّة والمواطنة، مع مراعاة الثوابت الدينيّة والأخلاقيّة.
لفت نظري في هذا السياق كثرة الاعلانات والبيانات والوثائق الصادرة عن مؤسّسات بحجم الأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، ووزارة الشؤون والمقدسات الاسلامية في المغرب، ومؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي، ومنتدى أبو ظبي للسلم، وشخصيات بحجم الدكتور أحمد الطيب، والشيخ عبدالله بن بيه.
هذه لائحة بأهم الوثائق والبيانات الصادرة خلا العقدين الماضيين:
- "رسالة عمان" للاعتدال والوسطية، 29 تشرين الثاني 2004.
-رسالة "كلمة سواء بيننا وبينكم"، 13 تشرين الأول 2007.
- بيان الأزهر والمثقفـين (عن منظومة الحريات الأساسية)، 8 كانون الثاني 2012.
- إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي، 27 كانون الثاني 2016.
-وثيقة مكة المكرمة، 27-29 أيار 2019.
- وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش معًا، 4 شباط ٬2، التي وقّعها كما هو معلوم البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب.
- حوارات ويلتون بارك حول المواطنة الحاضنة للتنوّع، حزيران 2021.
- إعلان أبو ظبي للمواطنة الشاملة، 8 كانون الأول 2021.
أصدر البابا وشيخ الأزهر وثيقتهما عن الأخوّة الإنسانية "باسمِ الحُرِّيَّةِ التي وَهَبَها اللهُ لكُلِّ البَشَرِ وفطَرَهُم عليها ومَيَّزَهُم به"، مؤكدين "أنَّ الحريَّةَ حَقٌّ لكُلِّ إنسانٍ: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا ومُمارَسةً، وأنَّ التَّعدُّدِيَّةَ والاختلافَ في الدِّينِ واللَّوْنِ والجِنسِ والعِرْقِ واللُّغةِ حِكمةٌ لمَشِيئةٍ إلهيَّةٍ، قد خَلَقَ اللهُ البشَرَ عليها، وجعَلَها أصلًا ثابتًا تَتَفرَّعُ عنه حُقُوقُ حُريَّةِ الاعتقادِ، وحريَّةِ الاختلافِ، وتجريمِ إكراهِ الناسِ على دِينٍ بعَيْنِه أو ثقافةٍ مُحدَّدةٍ، أو فَرْضِ أسلوبٍ حضاريٍّ لا يَقبَلُه الآخَر".
وعن المواطنة كتبا: "...مفهومَ المواطنةِ يقومُ على المُساواةِ في الواجباتِ والحُقوقِ التي يَنعَمُ في ظِلالِها الجميعُ بالعدلِ؛ لذا يَجِبُ العملُ على ترسيخِ مفهومِ المواطنةِ الكاملةِ في مُجتَمَعاتِنا، والتخلِّي عن الاستخدام الإقصائيِّ لمصطلح «الأقليَّاتِ» الذي يَحمِلُ في طيَّاتِه الإحساسَ بالعُزْلَةِ والدُّونيَّة، ويُمهِّدُ لِبُذُورِ الفِتَنِ والشِّقاقِ، ويُصادِرُ على استحقاقاتِ وحُقُوقِ بعض المُواطِنين الدِّينيَّةِ والمَدَنيَّةِ، ويُؤدِّي إلى مُمارسةِ التمييز ضِدَّهُم".
لا يسمح الوقت باستعراض كل ما قيل عن الحرية الدينية والمواطنة في الوثائق المذكورة، ولكني أطرح على نفسي وعليكم سؤالين: لماذا لم تأت هذه الوثائق بالنتائج المرجوة؟ وثانيًا ما السبيل إلى بلوغ هذا الهدف؟
في المقترحات التالية محاولة للإجابة على السؤالين بإيجاز:
- التعريف بهذه الوثائق وعقد ندوات وحوارات حولها حضوريًا أو عن بُعد.
- التعريف بوثائق أخرى عُنيت هي أيضًا بالحرية الدينية والمواطنة ونشرها بين رجال الدين ورجال القانون والمثقفين ووسائل الاعلام والمناهج المدرسية.
- نشر ثقافة الاحترام المتبادل وتعزيزها.
- تفسير النصوص الدينية والموروثة بما يتناسب مع الاحترام الواجب لكل انسان ولكل حقوقه وفي كل مكان.
- التربية في الأسر على احترام المختلف عِرقًا ودينًا وثقافة.
- مراجعة المناهج المدرسية لتنقيتها حيث يلزم، ولإثرائها بكل قديم وجديد جميل ورد في النصوص المذكورة وغيرها.
- مراجعة الموروث الديني وفهمه ونشره بما يتناسب مع الكرامة الاصيلة كل انسان واحترام كل حقوقه غير القابلة للمساومة.
- مراجعة مفاهيم إشكالية وخلافية مثل التكفير والولاء والبراء والجهاد والهجرة.
- مخاطبة صانعي القرار وأهل القانون من أجل اتخاذ تدابير وسن قوانين تعزز الحرية الدينية والمواطنة الكاملة للجميع دون أي تمييز.
- التعريف بالممارسات الحميدة التاريخية منها والحالية، لتكون أمثلة تُحتذى، وبخاصة من قِبل الأجيال الشابة، دون إغفال الحقب الرمادية أو المظلمة.
- إدارة الأزمات بالحكمة والشجاعة اللازمتين تجنبًا للتصعيد والاعتداء على الناس وعلى أرواحهم وممتلكاتهم، كما حدث في الباكستان مؤخرًا.
وختامًا أشكر منظمي هذا الاجتماع على جُهدهم وكرم ضيافتهم٬ وشكري كذلك لجميعكم على حسن اصغائكم، سائلاً الله تعالى أن يرافقنا والناس كافة على دروب الخير والأخوّة والتعاون.