موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ٢٥ ابريل / نيسان ٢٠٢١
أشخين ديمرجيان تكتب من القدس في الذكرى الـ106 للإبادة الأرمنية

أشخين ديمرجيان :

 

بدموع أحرّ من الجمر، وبقلب حزين، أرفع هذا المقال إحياءً لذكرى كارثة أليمة سوداء، كارثة المليون ونصف المليون من الشهداء الأرمن الذين تعرّضوا لإبادة مُمنهجة على أيدي السلطنة العثمانية في الرابع والعشرين من نيسان عام 1915.

 

كما أنّ استشهاد مئات الآلاف من السريان واليونان وغيرهما من الفئات المسيحية في تلك الفترة نفسها كانت جزءًا من سياسة موحّدة اتّبعتها الحكومة العثمانية مع هذه المجموعات.

 

أرفع أدعيتي طالبة شفاعة الشهداء كي يتشفّعوا فينا لدى السيد المسيح من أجل خلاص نفوسنا، ومن أجل إنقاذ العالم من جميع الويلات والأوبئة والحروب. وفي هذه الذكرى أخصّ بالذكر جميع الأرمن الذين سقطوا ضحيّة الذبح، وسالت دماؤهم الزكيّة في ذلك اليوم الأليم. وكذلك جدّتي "أنييس" Agnes التي استشهدت برصاص العدو وهي جالسة في عقر دارها. والطفلين: خالي "زهراب" وخالتي "بياتريس" وقد استشهدا لعدم تحمّلهما قسوة القفار والصحارى لدى رحيلهما عن أرض الوطن السليب. وكذلك سائر أقربائي المُقرّبين وسائر الشهداء والشهيدات من الفئات المسيحية.

 

وبين دموع جدّي وسائر أقربائي ونواحهم، يتمّ مشاهد فراق يفتّت أقسى القلوب... أمّا أنا فقد تضمّخت روحي بدماء شهادتهم الزكيّة.

 

لم يتمكن الأتراك من استيعاب حقيقة مرّة، وهي أن أقلية مسيحية أرمنية تحت سلطتهم تفوّقت عليهم بالحضارة والرقي، فقرر وزير الدفاع حينها أنور باشا التعجيل بتنفيذ ما يعرف بـ"المخطط الطوراني". واستغلّ أنور باشا تحالف الأرمن مع جيش القيصر واتهمهم بالخيانة العظمى، في مسار يشبه إلى حد كبير مخطط السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، الذي اتهمهم بدوره بإثارة الفتنة الطائفية، قبل أن يبدأ بقطف رؤوسهم على مراحل. وبالفعل صدرت أوامر إبادة الأرمن من أجل الاستيلاء على أراضيهم، لتبدأ واحدة من أبشع جرائم التاريخ بامتياز.

 

تُعَدّ مذبحة الأرمن من أفظع مآسي القرن العشرين والتي راح ضحيّتها مليون ونصف من الأرمن وتشتيت مئات الآلاف. إلاّ أنّ حملات الإبادة بدأت بالفعل في الفترة الواقعة ما بين 1894-1896 بسقوط ثلاثمائة ألف من الضحايا الأرمن. وفي شباط 1915 جرّد أنور باشا الجنود الأرمن من أسلحتهم ورتبهم العسكرية مع العلم أنّ عددًا كبيرًا من ضباط الأرمن كانوا يتبوّأون أعلى الرتب العسكرية بسبب ولائهم وأمانتهم. وكلّفهم بمهام مدّ الجسور وبناء الطرقات، وحين انتهوا أمر بقتلهم جميعًا.

 

إلا أن عملية التطهير العرقي والإبادة بلغت ذروتها يوم 24 نيسان 1915 حيث سيق الى المجزرة كلّ رجالات الفكر والأدب الأرمن، ووجّه إليهم تهمًا مفبركة تمسّ بأمن الدولة، وأصدر بحقهم أحكامًا بالإعدام. وألقي القبض على أربعمائة ألف أرمني، تتراوح أعمارهم ما بين 18–60، وفُرِض عليهم التجنيد القسري بعد أن عُزِلوا من أسلحتهم الخاصّة، وتمّ تصفيتهم تدريجيًا على يد الجنود الأتراك الذين اعتقلوهم. وبالتالي بقي كبار السن والنساء والأطفال من غير حماية أو رعاية ثمّ امتدّت المذابح لتطول الشيوخ والأطفال والنساء. وفي نفس اليوم المشؤوم ألقي القبض على مائتين وخمسين ألف من روّاد العلم والفكر الأرمني في القسطنطينية. كما لقي نفس المصير عشرة آلاف من رجالات الأرمن في الميادين الفكرية والعلمية والأدبية في سائر أنحاء تركيا. ولم يسلم سائر الأرمن أطفالاً وشيوخًا ونساءً من براثن التنكيل والقتل والحرق والاغتصاب والغرق والابادة.

  

من كتابات المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي: "كان الجنود العثمانيون يقيّدون الأرمن ويأخذونهم خارج المدينة حفاة وشبه عراة، ويعمدون إلى ذبحهم  ثم يختطفون نساءهم وأطفالهم ويجهزون عليهم سحلا أو حرقا أو يتركونهم لأشهر طويلة بلا أكل حتى تنهشهم الأوبئة والأمراض. تعرّضت ثلاث مدن لإبادة جماعية كاملة هي "بدليس" و"فان" و"ساسون"، فيما جرى ترحيل الأطفال والنساء -ممّن ظلّوا أحياء- ببقية المدن الأخرى، غير أنهم لم يسلموا من التعذيب الوحشي الذي كانوا يلاقونه كلما مرّت بهم مليشيات "الجيش الخمسيني" حتى إنّ أفواج الأرمن بأكملها كانت تتمنى الموت من شدّة التعذيب ومن الممارسات وحشيّة. سحلوا الرجال وأحرقوهم أحياء واغتصبوا النساء واتخذوا الجميلات منهن سبايا، أما الأطفال فقد كانوا يلقون بهم في صحاري سوريا والعراق حتى ينال منهم العطش فيموتون وتطمرهم الكثبان الرمليّة".

 

الاعتراف بمذبحة الأرمن كإبادة جماعية هو أحد الوعود الانتخابية التي أطلقها بايدن خلال ترشحه للانتخابات الرئاسية. مع العلم أنّ معظم ولايات أمريكا قد اعترفت بالإبادة الأرمنية. لقد توالت الاعترافات الدولية بمجازر الأرمن على مدى السنين، مؤكدة أن تلك المذابح على يد العثمانيين جريمة ضد الإنسانية، وقامت دولة الفاتيكان بفتح الأرشيف المتعلّق بإبادة الأرمن في تركيا. إلاّ أنّ تركيا لم تعترف بعد بالمجازر التي تعرّض لها الشعب الأرمني، خوفًا من التعويض المعنويّ أو الماديّ للضحايا. مع العلم أنّ الأرمن هم سكان الأرض الأصليين، عاشوا فيها وأقاموا الحضارات وأغنوها. ولم يُشكّلوا عداوات للآخرين، بل كانت حياتهم سلمية ارتبطت بجوهر الدين المسيحي أي "المحبّة والسلام والخير".

 

كما اعترف البرلمان الألماني بالإبادة الأرمنية، وهو ما يُعدّه الخبراء "أكبر إثبات ودليل"، لأنّ برلين كانت حليفًا رئيسيًا لتركيا في أثناء الحرب العالمية الأولى، أي أنّ ألمانيا تمتلك جميع أسرار الدولة العثمانية. وووصف دونالد ترامب، في وقت سابق، الإبادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك بـ"الجريمة العظمى".

 

ومنذ وقوع الكارثة، لم تحرّك الدول الكبرى ساكنًا وكأنّ شيئاً لم يكن، "والساكت عن الحق وعن الظلم شيطان أخرس".  واذا تتبّعنا التاريخ وتسلسل الأحداث، نجد أن ذلك الصمت الرّهيب واللامبالاة وعدم إنصاف القضيّة الأرمنيّة، شجّع دولاً أخرى على اقتراف جرائم جماعيّة لشعوب أخرى في أوقات لاحقة، بسبب مهزلة عدم الاكتراث وتكتّم الدول - التي تدّعي أنها "عظمى"– للإبادة الأرمنية. وفي تنكّر هذه الدول للإبادة الأرمنية تكمن الكارثة الكبرى من النواحي التاريخية والانسانيّة والأخلاقيّة.

 

وما زالت الجرائم  تُقتَرَف لأن مُرتكبي الفظائع دائُمً معفيين من العقاب، مما يُبيّن انعدام الأخلاق والانسانية في هذا العصر الذي يعتقد البعض أنه عصر التقدّم والحضارة. بل هو عصر التقدّم التكنولوجي والمادي، وبعيد كلّ البعد عن الرحمة ونبل الأخلاق والسلام. فالسلام العادل يستند الى احترام الشرعيّة الدولية، ولكن وسائل تطبيق تلك الشرعيّة كان معدومًا في الماضي وبقي وسيبقى كذلك. الحياة للأقوى، والحكم هو "حكم القويّ على الضعيف" و"حكم الظالم على المظلوم" بموجب قانون "شريعة الغاب". ولذلك توالت سلسلة من المآسي بعد كارثة الشعب الأرمني، ذهب ضحيّتها الكثير من الأبرياء المُسالمين الذين لم يَسلموا من براثن الاستبداد والطغيان. وفات هؤلاء أن العظمة تتجسّد في تطبيق الُمثل العليا والقِيَم وأنّ العظمة تكمن في محبّة جميع الناس بلا حدود وبلا قيود.

 

وقد استغلّت تركيا وجود داعش وقامت بسلب ونهب مصانع الأرمن في حلب خاصة وصادرتها إلى تركيا للاستعمال المحلّي.

 

لمن يرغب في المزيد من المعلومات، فإن المكتبات الأرمنيّة حافلة بزخم من الوثائق التي تُبيّن وتصف أحداث الإبادة الأرمنيّة بتفاصيل تقشعرّ لها الأبدان. أما شهود العيان والذين كتبوا تلك الوثائق فهم من  الدبلوماسيين ورجال السياسة والصحافة والإعلام ومن جهات حكوميّة أجنبيّة تواجدت في المنطقة، فواكبت وتابعت الدراما الانسانية عن قُرب. كما أنّ الاستعانة بمراجع الأمم المتحدة يفيدنا لأنّها تفسّر مفهوم كلمة "الإبادة الجماعيّة" بكلّ مدلولاتها.

 

خاتمة

 

جَمر الظلم ما زال قائمًا حيًّا في ضمير كلّ أرمنيّ، يكويه ويحرقه... فيتحوّل الى بركان من الأسى والعزم وكذلك الرجاء في الحياة الأبدية... في هذا اليوم، إذ نصلّي على أرواح الشهداء ودمع العين يسبقنا، نجدّد القّسّم بأن نحافظ على شعورنا العميق بهويّتنا، وبأن نجود بالغالي والنفيس في سبيل قضيّتنا المُقدّسة، وفي سبيل الحفاظ على ذكرى الشهداء، وفي سبيل إحقاق الحقّ في سجلاّت التاريخ إن أمكن، وفي السجلّات السماويّة بإذنه تعالى.

 

وفي هذه الذكرى الرهيبة، ننحني ألمًا وتضرّعًا أمام خالق الكون، ليوطّد دعائم العدل والسلام لدى شعوب الأرض التي تطالب بحقوقها المهضومة وكرامتها المهدورة، ولسان حالنا يقول: "جعلتُ الربّ دومًا نُصبَ عيني، لن أتزعزع لأنّه من عن يميني. لذا باتَ قلبي فرِحًا وصدري مُنشرِحًا، وغدا جسدي مُطمئنًّا مُستريحًا" (مزمور 15: 8-9).