موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥
6 أشهر مع لاون الرابع عشر: كنيسة موحّدة ومنفتحة، علامة سلام لعالم تجرحه الكراهية
ثمة خيطٌ ناظم يمرّ عبر تعليم البابا الجديد، الذي قدّم نموذجًا لجماعةٍ مسيحية تعيش الشركة، وتنطلق بروحٍ رسولية قادرة على خدمة الجميع، بدءًا من الأشدّ ضعفًا، وتلتزم في تعزيز الحوار والسلام. إنّها كنيسة لا "تتّكئ" على الأقوياء، ولا تخلط بين الرسالة والتسويق الديني، بل تعرف أن تكون خميرةً لأنها تعكس نور الله.

فاتيكان نيوز :

 

مرّت ستة أشهر على ذلك المساء من الثامن من أيار، حين أطلّ أسقف روما الجديد، أوّل بابا أميركي وأوغسطيني، من الشرفة الوسطى في بازيليك القديس بطرس. هناك خيطٌ أحمر يعبُر تعليمه، هو كنيسة تكون علامة وحدةٍ وشركة، خميرةً لعالمٍ متصالح في وجه الحروب والكراهية والعنف. يستحقّ الأمر أن نتوقّف عند بعض محطّات هذا التعليم، التي تُظهر كيف أنّ إعلان جوهر الإيمان لا ينفصل أبدًا عن شهادة المحبّة، وعن الالتزام العملي في سبيل الفقراء وبناء مجتمعٍ أكثر عدلًا.

 

منذ كلماته الأولى، بعد انتخابه مباشرة، قال: "السلام لجميعكم! (…) هذا هو سلام المسيح القائم من بين الأموات، سلامٌ مجرّد من السلاح وسلامٌ يُجرِّد من السلاح، سلامٌ وديع ومثابر. يأتي من الله، الله الذي يحبّنا جميعًا بلا شرط. (…) علينا أن نبحث معًا كيف نكون كنيسة مرسَلة، تبني الجسور، والحوار، ومنفتحة دائمًا على الاستقبال". كنيسة كما قال في عظة قداس افتتاح حبريّته في ١٨ أيار مايو ٢٠٢٥، "موحَّدة، علامة وحدةٍ وشركة، تصبح خميرةً لعالمٍ متصالح. ما زلنا نرى في زمننا هذا، الكثير من الانقسامات، وكثيرًا من الجراح التي سبّبتها الكراهية والعنف والأحكام المسبقة والخوف من المختلف، ونظام اقتصادي يستغلّ موارد الأرض ويهمّش الفقراء. ونحن نريد أن نكون في وسط هذه العجينة خميرةً صغيرةً للوحدة والشركة والأخوّة".

 

في اليوم التالي لانتخابه، خلال أول قداسٍ مع الكرادلة في كابلة السيكستينا، ذكّر لاون الرابع عشر بـ "الإلتزام الذي لا يمكن التخلّي عنه لكلّ من يمارس خدمة السلطة في الكنيسة: أن يختفي لكي يبقى المسيح، أن يصير صغيرًا ليُعرَف المسيح ويُمجَّد، وأن يبذل ذاته حتى النهاية لكي لا يُحرَم أحد من فرصة معرفته ومحبّته". وفي عظة ١٨ أيار، تحدّث البابا عن "المحبّة والوحدة" باعتبارهما البعدين اللذين أوكلهما يسوع إلى بطرس، وشرح أنّ هذه المهمة ممكنة فقط لأن بطرس “اختبر في حياته محبّة الله اللامتناهية وغير المشروطة، حتى في ساعة الفشل والإنكار". لأنه وكما قال للشباب المجتمعين في تور فيرغاتا مساء الثاني من آب أغسطس: "في أصل كياننا لم تكن هناك إرادتنا، بل محبّةٌ أرادتنا". هذه المحبّة تسبقنا، كما أوضح في تعليمه خلال المقابلة العامة يوم الأربعاء ٢٠ آب، متحدثًا عن يهوذا الذي نال اللقمة من يسوع في العشاء الأخير وقال "إنَّ يسوع يمضي بحبّه إلى النهاية (…) لأنّه يعرف أن المغفرة الحقيقيّة لا تنتظر التوبة، بل تُقدَّم أولًا، كعطيّة مجانية، قبل أن تُقبَل".

 

إنّ رسالة الكنيسة هي الشهادة لهذا الحب. ولتحقيق ذلك، أوضح البابا في عشيّة صلاة عيد العنصرة في ٧ حزيران يونيو ٢٠٢٥، "لسنا بحاجة إلى داعمين أقوياء، ولا إلى مساومات دنيوية، ولا إلى استراتيجيات عاطفية. لأنَّ البشارة هي عمل الله، وإنْ مرّت أحيانًا من خلال أشخاصنا، فذلك بفضل الروابط التي تخلقها". إنَّ الكنيسة لا تحتاج إلى أساليب تسويق، لأنّ البشارة هي عمل الله. وأساس الرسالة هو الوحدة في التنوع، أي عيش الشركة الحقيقية. هي إيمانٌ، كما شدّد في ٥ تشرين الأول أكتوبر ٢٠٢٥ أثناء الاحتفال بيوبيل العالم الإرسالي، "لا يُفرض بوسائل القوّة أو بطرقٍ استثنائية (…) إنّه خلاصٌ يتحقّق حين نلتزم شخصيًا ونعتني، بشفقة الإنجيل، بآلام القريب". إنه إيمان لا يدين الآخرين ولا يجعلنا نشعر بأننا "كاملين"، لأنّ يسوع، كما شرح في صلاة التبشير الملائكي في ٢٤ آب أغسطس، يزعزع "ثقة المؤمنين الزائفة": "إذ يقول لنا إنّ إعلان الإيمان بالكلمات لا يكفي، ولا المشاركة في الإفخارستيا، ولا المعرفة الجيّدة للتعاليم المسيحية. وإنما يكون إيماننا حقيقيًا حين يعانق حياتنا بأسرها، وحين يصبح معيارًا لاختياراتنا، وحين يجعلنا نساءً ورجالًا ملتزمين بالخير يخاطرون في المحبّة على مثال يسوع".

 

بعد أن دعا إليه في كلمته الأولى يوم انتخابه، تطرّق البابا لاوُن الرابع عشر مرارًا إلى موضوع السلام، داعيًا المسيحيين إلى تجسيده بشكل ملموس: "على اللاعنف كأسلوبٍ وطريقة أن يميّز قراراتنا وعلاقاتنا وأعمالنا" – قال في ٣٠ أيار مايو أمام الحركات والجمعيات في مبادرة "ساحة السلام". وفي الوقت عينه، رفع صوته مرارًا ضد سباق التسلّح، كما فعل في نهاية المقابلة العامة يوم ١٨ حزيران يونيو: "لا يجب أن نعتاد على الحرب! بل علينا أن نرفض سحر الأسلحة القويّة والمتطوّرة كما نرفض التجربة!". وقال في ٢٦ حزيران يونيو، خلال استقباله المشاركين في في الجمعية العامة لهيئة رواكو المعنية بمساعدة الكنائس الشرقية: "كيف يمكن أن نصدّق، بعد قرونٍ من التاريخ، أن الحروب تحمل السلام ولا ترتدّ على من أشعلها؟ (…) كيف يمكن الاستمرار في خيانة رغبة الشعوب في السلام من خلال الدعاية الكاذبة لإعادة التسلّح، تحت الوهم الباطل بأن التفوّق يحلّ المشاكل بدل أن يغذّي الكراهية والانتقام؟ إنَّ الناس لم تعد تجهل كم من المال يذهب إلى جيوب تجّار الموت، وهو المال الذي يمكن به بناء مستشفياتٍ ومدارس، لكنهم بدلاً من ذلك يدمّرون القائم منها!".

 

إن نزع السلاح الذي يدعو إليه أسقف روما يشمل حكّام الأمم لكي لا يحوّلوا الثروات "ضد الإنسان، بتحويلها إلى أسلحةٍ تدمّر الشعوب، واحتكاراتٍ تذلّ العمّال" (عظة ٢١ أيلول سبتمبر في رعية القديسة حنّة في الفاتيكان)، ويشملنا جميعًا، لأنّ دعوة يسوع هي لكي ننزع الأسلحة من الايادي ولكن وبشكل خاص لكي ننزعها من القلوب. كما أكّد البابا في ختام عشيّة الصلاة المريمية من أجل السلام، يوم السبت ١١ تشرين الأول أكتوبر ٢٠٢٥: "أغمد سيفك" هي كلمة موجَّهة إلى أقوياء الأرض، إلى الذين يقودون مصائر الشعوب: تجرّؤوا على نزع السلاح! وهي موجَّهة في الوقت عينه إلى كلّ واحدٍ منا، لكي ندرك أكثر فأكثر أنّه لا يمكننا أن نقتل من أجل أيّ فكرة، أو إيمان، أو سياسة. إنّ ما يجب نزع سلاحه أولًا هو القلب، لأنّه إن لم يكن فينا سلام، فلن نعطي السلام".

 

أما في الإرشاد الرسولي الأول الذي نُشر في ٩ تشرين الأول أكتوبر، فيوضح البابا أنّ مساعدة المتألّمين "ليست في أفق الإحسان، بل في أفق الوحي: لأن التواصل مع من لا يملك قوّةً أو عظمة هو طريقٌ أساسيٌّ للقاء ربّ التاريخ". فمحبّة الفقراء ليست "خيارًا إضافيًا"، بل هي "مقياس العبادة الحقيقية". وأمام السفراء البابويين في ١٠ حزيران يونيو ٢٠٢٥ قال: "أعتمد عليكم لكي يعرف الجميع في البلدان التي تخدمون فيها أنّ الكنيسة مستعدةٌ دائمًا لكلّ شيء من أجل المحبّة، وأنّها دومًا إلى جانب الفقراء والمهمَّشين". وفي ١٣ تموز يوليو من كاستل غاندولفو دعا، على مثال السامري الصالح، لكي لا "نميل ونعبر"، بل لكي "نسمح لقلوبنا أن تنفطر" أمام "كلّ من يغرق في الشرّ أو الألم أو الفقر"، وأمام "العديد من الشعوب التي تُنهَب وتُجرَّد وتُستغلّ، ضحايا أنظمةٍ سياسيةٍ قمعية واقتصادٍ يفرض عليهم الفقر، وحروبٍ تقتل أحلامهم وحياتهم". وفي يوبيل العاملين في مجال العدالة، في ٢٠ أيلول سبتمبر، حثّ على ألا نغضّ الطرف عن "واقع شعوبٍ وأممٍ كثيرةٍ تجوع وتظمأ إلى العدالة، لأنّ ظروف حياتها جائرةٌ ولا إنسانية لدرجةٍ لا يمكن قبولها"، وذكّر في هذا السياق بأنّ "الدولة التي لا عدالة فيها هي ليست دولة". وفي حديثه إلى الحركات الشعبية في ٢٣ تشرين الأول أكتوبر ٢٠٢٥، ذكّر خليفة بطرس بأنّ "الإقصاء هو الوجه الجديد للظلم الاجتماعي. إنّ الفجوة بين "الأقلية الصغيرة" – ١% من السكان – وبين الغالبية الساحقة قد اتّسعت على نحوٍ مأساوي. (…) وكأسقف في البيرو، أنا سعيد لأنّي اختبرت كنيسة ترافق الناس في آلامهم وأفراحهم ونضالاتهم وآمالهم".

 

وفي عظة يوبيل العالم الإرسالي والمهاجرين، يوم الأحد ٥ تشرين الأول أكتوبر، تحدّث البابا لاوُن الرابع عشر عن "قصص العديد من إخوتنا المهاجرين" الذين "لا يمكن ولا يجب أن يواجهوا برودة اللامبالاة أو وصمة التمييز!". وفي خطابه إلى الحركات الشعبية في ٢٣ تشرين الأول أكتوبر، تناول مسألة الأمن قائلًا: "من خلال إساءة معاملة المهاجرين المستضعفين، نحن لا نشهد ممارسةً مشروعةً للسيادة الوطنية، بل جرائم خطيرة تُرتكب ويتمُّ التسامح معها من قبل الحكومات. يتمُّ اتخاذ إجراءات لاإنسانية – يُحتفى بها سياسيًا – للتعامل مع هؤلاء "غير المرغوب فيهم" كما لو كانوا نفايات، لا بشرًا. أمّا المسيحية فتشير إلى إله المحبّة الذي يجعلنا جميعًا إخوة، ويدعونا لكي نعيش كإخوةٍ وأخوات".