موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٤
دور الشباب في الكنيسة وفي المجتمع

المطران مارون لحّام :

فيما يلي النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها المطران مارون لحّام، النائب البطريركي للاتين في الأردن، خلال لقاءه مع شبيبات منطقة الجنوب في الأردن:

هذا السؤال مطروح اليوم أكثر من أي وقت مضى: في الكنيسة أوّلًا بعد المجمع المسكوني الثاني وإعادة اكتشاف دور العلماني في الكنيسة؛ وفي المجتمع ثانيًا، خصوصًا بالنظر إلى ما يجري حولنا في العالم العربي من ثورات وحروب وتهجير واضطهاد في بعض الأحيان. وهذا الأمر يفرض علينا أن نتعمّق في التفكير في وضعنا كشباب مسيحي في الكنيسة أولا وكمواطنين أردنيين ثانيًا. عرف الأردن في السنة الماضية بعض المشاغبات الاجتماعية وبعض المظاهرات، لكن حكمة القيادة والدولة، والخبرة الفاشلة للبلاد التي حكمها المتزمّتون الدينيون فترة ما (مصر وتونس) ساعدت على إخماد الجمر.

في إنجيل قبل أسبوعين قال يسوع مثل الوالد الذي طلب من ابنيه أن يذهبا ويعملا في الحقل. الأول قال لا أريد ثم ندم وذهب، والثاني قال نعم لكنه لم يذهب. وخلُص المسيح قائلا إن من عمل إرادة أبيه هو الذي رفض في باديء الأمر ثم ندم وذهب وعمل في الحقل. هذا المثل يحملنا على التساؤل: هل الله له حقل. نعم له حقل. وحقله هو العالم. والمسيحي مرسلٌ ليعمل في الحقل. ويجب أن يعمل، لأن المسيح قال أكثر من مرة أنه لا يكتفي بالكلام الجميل المعسول بل يريد العمل. "ليس كل من يقول يا رب يل رب يدخل ملكوت السموات بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات يدخل ملكوت السموات". ما هي مجالات العمل في حقل الله الواسع؟ على الأقل أربعة: أولا كل واحد يعمل على ذاته، ثانيا في مجال العائلة لمن له عائلة، ثالثًا في الرعية والكنيسة ورابعًا في المجتمع. ما يهمنا كشباب في الكنيسة وكمواطنين مسيحيين في الأردن، ثلاثة من هذه المجالات. ومن له عائلة يعمل أيضًا في المجال الرابع.

لكن قبل أن ندخل في تفاصيل عمل الشاب المسيحي على نفسه وفي الكنيسة وفي المجتمع، أريد أن أعطي ملاحظتين مهمتين:

أول ملاحظة تخص العدد. دور المسيحي في المجتمع يجب ألا يرتبط بعدده أو بنسبته إلى مجموع السكان. فالمسيحيون في الأردن يشكلون 3% فقط من السكان. لكننا لا نريد أن نقول "أقلية" لأن كلمة أقلية تتضمّن نفسية معيّنة لا نريدُها لنا (خوف وبحث عن حماية القوي وانكماش وانزواء وهروب أمام الصعوبات الخ.) لا نقول "أقلية" بل نقول أن عددنا قليل. والعدد القليل لا يعني أننا أقل مواطنة من العدد الكبير. الإنسان المسيحي ليس عددًا (3% أو10%). المسيحي إنسان ومواطن. وحقوق الإنسان وواجباته لا تأتي من عدده (كثرة رجاله) بل من كونه شخص مواطن له ما لغيره وعليه ما على غيره. وفي المنظور الإيماني نقول من كونه مخلوقًا على صورة الله ومثاله ويتمتع بالتالي بكرامة الله نفسها.

الملاحظة الثانية تخص ميزات العدد القليل. قال لنا السيد المسيح: "أنتم ملح الأرض، أنتم نور العالم، أنتم الخميرة في العجين". لم يقل أنتم ملح المسيحيين، بل ملح الأرض. ونسبة (كمية) الملح في الطعام ومفعوله هي نفس نسبة العدد القليل بالنسبة للعدد الكثير. أساسًا، من صفات الملح أن يكون قليلاً، وإن ازداد الملح في الطعام فالطعام لا يؤكل. وهكذا النور بالنسبة للغرفة أو القاعة، وهكذا الخميرة بالنسبة للعجين. الطعام هو الكبير والقاعة هي الكبيرة والعجينة هي الكثيرة، والملح والنور والخميرة هي القليلة، لكن فعل الملح كبير وفعل النور كبير وفعل الخميرة كبير. لكن لكي يعطي الملح فعله وهكذا الخميرة، يجب أن يوضع داخل الطعام لا بجانب الطعام، وهكذا الخميرة. والمسيحي الذي هو ملح العالم يجب ان يكون داخل العالم لا بجانبه ولا على الهامش إن أراد أن يكون أمينًا على رسالته التي أوكلها إليه السيد المسيح.

هذا هو المنطلق والأساس الإنجيلي لما سنقوله عن دورنا كمسيحيين وكشباب في الكنيسة وفي المجتمع.

نعود إلى موضوعنا: هل لي دور كشاب في الكنيسة وفي المجتمع؟ نعم.
فأنت عضو في الكنيسة وجزء من المجتمع
لك رسالة، وهي أكبر من دور، في الكنيسة وفي المجتمع

المجال الأول، كما قلنا، للعمل في حقل الله هو العمل على أنفسنا. ذلك أن كل واحد منا هو شخصيًّا حقل الله. في داخل كل واحد منا حقل مليء بكل ما هبّ ودبّ. في داخل كل واحد منا غابة تتشابك فيها الأمور والأفكار والهموم والمستقبل والدروس والعمل والواجبات ونقاط الضعف والخطايا... غابتنا الداخلية فيها شوك وحجارة وحصمة وتراب ، وكل هذا بحاجة إلى ترتيب داخلي. تخيّلوا الفرق بين بستان مهجور وبستان مرتّب. هذا الأمر متروك لكل واحد منا أن "يعشّب" بستانه الداخلي، وهنا يأتي دور المرشد أو المرافق الروحي للشاب.

المجال الثاني هو الكنيسة والرعية. فأنت بحكم العماد، عضو في الكنيسة وعضو في الرعية. وإن كان لكل مسيحي دور، فللشاب دورٌ متميّز. يقال الكثير عن عمر الشباب، بعضه من باب المجاملة وبعضه من باب القناعة. "أنتم تاج الكنيسة"، "أنتم مستقبل الكنيسة"، "أنتم كنيسة الغد"... ماذا يعني ذلك؟ الشباب هو عمر الطاقات المتفتّحة، عمر العطاء، عمر المغامرات، عمر العاطفة التي تسبق العقل أحيانًا. عمر الشباب يحب الصراحة ويمقت المراءاة. عمر الشباب لا يعرف عقلية الحساب. فإن هو أحب أحب بشكل كامل، وإن هو ابتعد ابتعد بشكل كامل. إيمانيًّا، عمر الشباب هو عمر الخيارات الشخصية في الإيمان وعمر الإيمان النافذ إلى الحياة. إيمان الشباب لا يقبل الإيمان التقليدي الموروث الذي يكتفي بتتميم واجبات ووصايا خارجية، بينما حياة الإنسان بعيدة كل البُعد عما يؤمن. هذا التناقض بين الإيمان والحياة هو ما ينفّر بعض الشباب من الكنيسة. ما هو دور الشباب في الكنيسة؟ هو أن يعيش كل هذه الصفات في نفسه أولا، ومن ثم في الرعية وفي الكنيسة. قال أحد الكتاب عن دور الشباب في الكنيسة: "دعوا النار التي في داخلكم دائمة الإشتعال. لأنه إن انطفأت نراكم أنتم الشباب، متنا نحن من البرد".

عمليا، هذا يعني أن يوظف الشباب في الكنيسة وفي الرعية الطاقات التي وضعها الله فيهم. الطاقات العامة التي ذكرناها، والطاقات الخاصة بكل فرد: الترتيل، خدمة الهيكل، القراءات، التعليم المسيحي، الموسيقى، حسابات الرعية، المحاضرات، الإهتمام بالأصغر سناً (البراعم)، المخيمات الصيفية. ومن ثم –وخصوصًا– فرق الشبيبة والكشافة والترتيل. فالعمل الجماعي يُغني الرعية والكنيسة، ويدعم الشاب الذي قد يشعر بالتعب أو بالفتور إن هو عمل لوحده. هنالك مثل جماعة الشباب الذين جلسوا في حلقة يستدفئون حول النار..

قلنا أن للشاب رسالة وليس دورًا في الكنيسة وفي المجتمع. الرسالة أقوى من الدور. الفرق بين الدور والرسالة هو أن الدور ينحصر في التمثيل ويستمر ما دامت الحاجة إلى الدور (مسرحية، فيلم)، بينما الرسالة ترافق الإنسان طيلة العمر، علاوة على أن الرسالة موجّهة أصلًا إلى الشخص الآخر.... لك رسالة تجاه فلان أو فلان.

المجال الثالث هو المجتمع. للشاب رسالة يؤدّيها في المجتمع لأنه جزء من المجتمع الذي يعيش فيه. هذا ما تقوله الوثائق الكنسية وما يقوله البطاركة في رسالاتهم الرعوية. في الماضي، سادت في الكنيسة وفي المجتمعات المسيحية فكرة مفادها أن العالم شرير وأنه يحمل الإنسان على الخطيئة وعلى الابتعاد عن الله وعن الفضيلة (مغريات العالم وأباطيل العالم). وكانت النتيجة لهذا التوجّه هو نصيحة المسيحي المؤمن بالإبتعاد عن العالم لتأمين خلاصه الأبدي. فمن كان يريد أن يعش حياة قداسة، كان عليه أن يهجر العالم ويلجأ إلى الدير ليقضي حياته في الصوم والصلاة وعمل الخير. هذا النمط من التفكير انتهى. حياة الكاهن والراهب حياة تقوده إلى القداسة وحياة الزوج والزوجة تقود إلى القداسة وحياة الشاب والشابة تقود إلى القداسة. الجميع مدعو إلى القداسة حيث وضعه الله وفي نمط الحياة الذي أراده الله له، شريطة أن يعيش حياته حسب مشيئة الله. ومن جهة العالم، فالعالم ليس صالحًا ولا شريرًا. هنالك بشرٌ صالحون وبشرٌ أشرار. وأنت جزء من من هذا العالم ومن هذا المجتمع، ولا تستطيع أن تنفصل عنه أن أن تهرب منه، لأنك بذلك تنفصل عن الحياة الطبيعية، وتعيش على جهود الآخرين وعلى آلام الآخرين، وهو موقف لا إنساني ولا مسيحي.

يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: "إن آمال وأفراح البشر في زمننا هذا، إن أحزانهم وضيقاتهم، هي أفراح وآمال تلاميذ المسيح، هي أحزانهم وضيقاتهم" (فرح ورجاء 1). ويقول البطاركة الكاثوليك في رسالتهم لمؤمنيهم في الشرق: "أنت مع وفي ومن أجل المجتمع الذي يعيش فيه، لا ضد ولا خارج ولا على هامش المجتمع" (رقم 17).

أنت إذا تعيش في مجتمعك كإنسان أولاً وكمسيحي ثانيًا. وتعيش في مجتمعك بكل أبعاده؟ لذا، يقول البطاركة في رسالتهم أيضًا أن حضور الإنسان المسيحي يقف بين نقيضين: الإنعزال والذوبان. وكلاهما شرُّ قاتل. فالإنعزال يلغي الرسالة (يجعلك تعيش في فقاعة ماء) والذوبان يقضي على الهوية (تفقد نفسك).

وهذه الرسالة في المجتمع تأخذ أهميتها من كونها تتوجه إلى الشاب كإنسان بالغ. وهذا أيضًا اتجاه جديد في تعليم الكنيسة حول رسالة المسيحية المؤمن البالغ. تركز الكنيسة على ذلك أكثر من الأولاد وذوي العمر الثالث لأسباب كثيرة منها:
- البالغون هم الذين يعيشون في العالم ويختلطون به أكثر من غيرهم
- البالغون هم الذين يتحمّلون مسئوليات على كافة المستويات في المجتمع
- البالغون هم المسئولون عن حمل نور الإنجيل إلى حيث يعيشون ويعملون
- البالغون هم أول مساعدي الكاهن في حياة الكنيسة والرعية.

الرسالة في المجتمع التي نتكلم عنها لها بُعدان: البُعد العام والبُعد الخاص.

البُعد العام:

- تقوم الرسالة على الحوار مع العالم حول مشاكله المتنوعة (العنف مثلا) وتسليط نور الإنجيل عليها.

- إتمام مهمات المسيحي في المجتمع بإخلاص مسترشدين بروح الإنجيل.

- يقول المجمع أن "من يهمل مهامّه البشرية يبتعد عن الحقيقة... ومن يُهمل إلتزاماته الأرضية يهمل إلتزماته نحو القريب وبالتالي تجاه الله ويعرّض خلاصة الأبدي للخطر".

أما البُعد الخاص، أي البُعد الذي ينفرد فيه المسيحي المؤمن في رسالته في المجتمع فيقوم على:

- الاتّسام بالتفاؤل. لا يقبل المسيحي أن تكون الظروف المحيطة به أقوى منه. وهذه تجربة كثيرًا ما نتعرّض لها نحن مسيحيي الأردن. السيد المسيح لم يكن ضعيفًا ولم يهرب أمام الصعوبات، وهكذا علّمنا أن نكون. المسيحي إنسان قويّ. والمسيحي يعلم أنه بالرغم من جميع الصعوبات، فالعالم ما زال فيه خير، كما يعلم أن الله هو سيّد التاريخ وهو الذي يقود البشرية من خلال طرق لا نفهمها دومًا. وإن كان الله يقود البشرية، فإنه يقودها نحو الخير، لأن الله خير.

- الإلتزام بالإنسان التي تُمتهن كرامته. والإنسان ذو الكرامة المهانة هو الغني والفقير، القوي والضعيف، المنتصر والمهزوم. في كل واحد منهم تُمتهن صورة الله التي خُلق عليها.

- وإن كان لا بد من وضع سلّم أولويات في المعاملة، فليكن ذلك لصالح الفقير والمظلوم. هذا هو خيار السيد المسيح وخيار انجيل وخيار البابا فرنسيس وخيار المسيحي الذي يريد أن يعيش إيمانه بصدق.

- المسيحي العربي والأردني بنوع خاص جزء من عالم عربي يعاني من قضية أمن وعدل وسلام واستقرار سياسي واجتماعي، وقد ظهر ذلك بوضوح في السنوات الثلاثة الأخيرة. وعلى المسيحي المؤمن أن يعي ذلك ويساهم في تحقيق أماني شعبه بحسب طاقاته ومواهبه. المهم ألا يكون الإيمان حاجزًا أو عذرًا يعفيه من العمل. يقول البطريرك صباّح: "لا يستطيع المؤمن أن ينزوي خلف الشعائر الدينية. فإن الشعائر الدينية لن تكون تعبيرًا عن الإيمان الحي إذا ما أصبحت طقوس عصور غابرة، لا صلة لها بالحياة الحاضرة وبالآمها ورغباتها وقلقها". مرّة أخرى، لا يجوز للمسيحي أن يعيش على آلام غيره ثم يطالب بالمواطنة الكاملة.

- أخيرًا، أنت شاب عربي مسيحي تعيش في بلد غالبيّته مسلمة، وعليك مهمّة خاصة أمام المجتمع الأردني، وهي أن تكون جسرَ حوار في شعب ينتمي إلى دينين مختلفين لم تكن العلاقة بينهما دومًا على أحسن ما يُرام. عليك أن تُساهم في بناء جسور ثقة ومصالحة، وتخطّي الماضي لفتح آفاق جديدة لصالح الجهتين. وهذا يفترض عقلية جديدة وتربية جديدة ومناهج مدرسيّة جديدة وتنشئة دينيّة بيتية واجتماعية جديدة. وأنت كمسيحي مؤمن تستطيع أن تقوم بذلك. دور الجسر مهم، وكي يكون فاعلاً، ينبغي على الجسر أن يكون ثابتًا قويًّا في الجهتين. أي أن تكون ثابتًا قويّا في إيمانك المسيحي وفي عقيدتك المسيحية من جهة، وأن تكون ثابتًا قويًّا في تقافتك وتاريخك ولغتك وعقليتك العربية من جهة أخرى، وإلا وقعنا مجدّدًا في تجربي انعزال أو الذوبان.

القيام برسالة الشاب المسيحي في الكنيسة وفي المجتمع يفترض أخيرًا إيمانًا عمليًّا وقناعة شخصية راسخةً ووعيًا كاملاً لدوره كشاب مسيحي مؤمن في الكنيسة بيته الروحي وفي المجتمع الذي أراده الله له. وهذا الإيمان والقناعة والوعي ينمو ويتغذّى من خلال حياة مسيحية صادقة فيها صلاة وفيها ممارسات دينية وحياة الأسرار وفيها مراس في الكتاب المقدس وفيها دراسة وتثقيف روحي مستمر وفيها تفكير وعمل مراجعة حياة مستمرة لتوضيح الرؤية متابعة المسيرة.

آمل أن يكون هذا اللقاء الشبابي حلقة في كل ذلك.