موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يا له من سلام عظيم وفرح كبير أن ننال المغفرة من الله، أي أن نتصالح معه، ومع أنفسنا، ومع الآخرين! تشير إلى هذا صيغة الحلّة بشكل موجز بليغ: "الله الأب الرحيم، الذي صالح العالم بموت ابنه وقيامته، وأفاض روحه القدوس لمغفرة الخطايا، يمنحك على يد الكنيسة الغفران والسلام...".
هذا الفرح لا يقتصر على من ينال المغفرة، بل يمتد أيضًا إلى مَن يمنحها، أي الكاهن.
وهذا ما كان عليه الحال بالنسبة لي لما يقارب ثلاثين عامًا في رعية ساتشيلي (Sacile) الواقعة في شمال شرق إيطاليا، في عيد الميلاد وعيد الفصح.
لقد بدأ كل شيء مع المرحوم الأب بيترو ماتساروتو (Pietro Mazzarotto)، الراعي التاريخي لكنيسة سا شيلي، في ساحة كنيسة المهد ببيت لحم. من هناك رافقته إلى القدس.
كنت آنذاك عضوًا في فريق المعهد الكهنوتي التابع لبطريركية القدس للاتين في بيت جالا، وكان رئيس المعهد حينها الأب جاشنتو-بولس ماركوتسو (Giacinto-Boulos Marcuzzo)، أحد تلاميذ الأب ماتساروتو. أصبح الأب ماركوتسو فيما بعد، كما هو معلوم، أسقفًا ونائبًا بطريركيًا في إسرائيل.
جئت إلى ساتشيلي لأول مرة في عيد الميلاد عام 1992، برفقة الأب إيلاريو أنتونياتسي (Ilario Antoniatizzi)، الذي أصبح لاحقًا رئيس أساقفة تونس. كنا معًا في روما للدراسة، هو في اللاهوت الروحي وأنا في اللاهوت الكتابي. بعد إنهاء الدراسة عاد هو إلى الأبرشيته، بينما بقيت في روما، حيث استدعيت لخدمة الكرسي الرسولي في المجلس البابوي للحوار بين الأديان، الذي أصبح فيما بعد دائرة الحوار بين الأديان.
لقد كانت خدمة سر التوبة في ساتشيلي تستغرق ساعات طوالا، وكانت في الوقت عينه "ضرورة حيوية" بالنسبة لي من الناحية الرعوية، حيث كانت مهمتي في الفاتيكان لصالح المسلمين من خلال الحوار، وهي رسالة تستثني البشارة، مقتصرة على الشهادة.
بالعودة إلى سر التوبة وفرح المغفرة المصاحب له، من الواضح أنّ الكاهن يجب أن يكون أول من يختبره، بمعنى أنه عليه هو أيضًا أن يتردد على سر التوبة. وفي هذا الصدد - كما في غيره - أتذكر دائمًا كلمة البطريرك الراحل المرحوم يوسف بلترتي: "على الكاهن أن يواصل العيش كطالب إكليريكي". في روما نحن محظوظون لتوفر الكهنة المعرّفين في البازيليكات البابوية وفي العديد من الكنائس.
يتحدث يسوع عن "الاحتفال" الذي أقامه والد الإبن الضال عند عودة ابنه إلى المنزل سالمًا (راجع لوقا 15، 11-32). أردت أنا أيضًا أن يكون الاعتراف لقاء سلام وأمل وفرح، حتى يغادر التائب كرسي الاعتراف مرتاحًا فرحًا، ويعود مرة بل مرات! ويسعدني أن أقول إن هذا ما حدث في الغالبية العظمى من الحالات. لم تكن الدعابة مستبعدة، لتلطيف الأجواء والتغلب على الارتباك الطبيعي الذي يشعر به المعترف، خاصة إذا كان هذا أول اعتراف له معي.
نقطة أخرى مهمة: عدم إطالة الاعتراف دون داعٍ، لعدم إثقال كاهل التائب، وكيلا يطول انتظار من ينتظرون دورهم. ومع هذا، وكما هو واجب، كان كل شخص يُمنح الوقت الكافي المناسب لوضعه.
إضافة، يُقال إنّ هناك كهنة "متساهلون" وآخرين "متشددون". إذا كان هذا التصنيف صحيحًا، فإنني أنتمي دون شك إلى الفئة الأولى. فالمعرّف ليس محققًا أو قاضيًا، بل هو معاون الله وأداة رحمته وسلامه وفرحه. وفي هذا السياق، تم تأسيس "نقابة المعرفين"، التي كانت تهدف إلى الحصول على استراحة لتناول القهوة، وكذلك للمزاح حول الموضوع...
عند العودة إلى سكن الكهنة، كان الأب ماتساروتو، ثم الأب غراتسيانو دي ناردو (Graziano De Nardo) الذي خلفه، وأخيرا الأب جانلويجي بابا (Gianluigi Papa)، يسألونني كيف سار "العمل". في بعض الأحيان كنت آخذ المبادرة لأخبرهم عن الاقبال على سر التوبة.
لقد تعلمت الكثير من جلوسي في كرسي الاعتراف، وكنت أستفيد كثيرًا عندما ألاحظ المسيرة الإنسانية والمسيحية للعديد من الأشخاص وتطورها. فالاعتراف ليست مجرد سرد للخطايا المرتَكبة، بل هو أيضًا مراجعة مسيرة لها أضواؤها وظلالها، من أجل نيل الغفران والسلام، وتأكيد العزم على مواصلة السير على طريق القداسة.
الكهنة المساعدون الذين خدموا خلال هذه السنوات الثلاثين عددهم كبير، ولا أتذكر أسماءهم كلهم. كانت علاقاتي بهم علاقات احترام ومودة. لهم جميعًا مني خالص الشكر وأطيب التمنيات برسالة مثمرة.
لقد تأثرت، كما الكثيرون من المؤمنين، لمغادرة الراهبات الرعية بسبب نقص الدعوات. هذا الرحيل المؤلم يذكّرنا بواجب الصلاة من أجل الدعوات الرهبانية والكهنوتية.
وخلال وجودي في ساتشيلي، أحاطتني السيدات والآنسات اللواتي كن يساعدن الكهنة برعايتهن وصداقتهن، فلهن مني الشكر والدعاء بكل بركة وخير.
علاوة على ذلك، وخلال سنوات وجودي في الرعية المذكورة، وُلدت صداقات كثيرة. لا أعرف معظم هؤلاء الأشخاص إلا بالوجه. ولكن لا يمكنني أن أنسى أو أغفل ذكر الراحل إيتالو سلفادور (Italo Salvador)، وزوجته ماريا، وابنهما جوفاني (Giovanni)، لصداقتهم الأمينة. كانوا دائمًا يحرصون على تقديم هدية في كل مرة كنت أزور فيها رعيتهم. كما استضافتني عائلتان أخريان لتناول الغداء. لهم جميعًا مني خالص الامتنان.
لقد أثار إعجابي تفاني العديد من الأشخاص في خدمة بيت الله والرعية. وكانت الكلمة التي تتبادر إلى ذهني بشكل طبيعي عندما كنت أراهم ينظفون أرضية الكنيسة، أو يغيّرون أغطية المذبح، أو يرتبون الزهور، أو يرنمون، أو يقودون الجوقة: "الغيرة على بيتك أكلتني" (مزمور 69، 10).
الاحتياجات تتغير وكذلك الأولويات. وهذا ينطبق أيضًا على خدمتي الرعوية في ساتشيلي، التي لم تعد ضرورية بحسب تقدير الأب جانلويجي، الذي أعلمني أنه تمكن من إيجاد حلول في المنطقة. وإذا انتهى هذا الشكل من التعاون، فبالتأكيد لم تنته الصداقة. لذلك، أنا ممتن جدًا للأب جيانلويجي ولمعاونه الأب ماركو.
أتمنى لرعاة ساشيلي ومؤمنيها سنة يوبيلية غنية بالبركات والفرح، وسيكون من دواعي سروري أن ألتقي مَن يأتي منهم إلى روما حاجًا.