موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لا أتذكّر متى وعيتُ على رسم واسم مار منصور دي بول، أو سان فنسان دي بول، فقد تفتّحتْ عيناي في وسط عائلته المتمثلة في راهبات المحبة، في مدينتي القوصيّة بصعيد مصر، واستمرّت الرحلة المنصورية طويلاً، وبخاصّة خلال سنوات الدراسة في فرنسا، خلال تسعينات القرن المنصرم، حيث كنت أهرب دومًا إلى كنيسته القريبة من مزار سيدة الأيقونة العجائبيّة في قلب العاصمة الفرنسية باريس، وأتسلّق الدرج وراء الهيكل، مصلّيًا ومتأمّلاً أمام مرقده.
والشاهد أن بنات المحبة قد طُبِعن في قلبي وقلوب جيلي، وغالب الظن أجيالٍ كثيرة، مسحة لم ولن يمحيها الزمن، من الإيمان الصادق الواعي، العقلاني غير العاطفي، بمحبة الله من خلال القريب، لا سيّما الفقير والمتألم والمحتاج، هؤلاء اللاتي عِشْن في قلبي ولا يَزَلْن كأخوات للرب في الحال والاستقبال.
والشاهد أن الحديث هنا ليس سردًا لسيرة ذاتية، وإنما الحدث الكبير والفريد، المتمثل في مرور أربعمائة عام على تأسيس جمعية الرسالة، يلقي بأضواء على هذا الكاهن الفرنسي الإبرشي، والذي سيقدر له هو وأبنائه وبناته، أن يعدلوا من الأوضاع، ويغيروا من الطباع المؤلمة التي عرفتها فرنسا في القرنين السادس والسابع عشر وما تلاهما، وبخاصة في الأوقات التي تعرضت فيها الكنيسة الكاثوليكية هناك، للعسف والخسف، من الجماعات الماورائية، لا سيّما المتنورين والماسونيين، وكافة المنظمات ذات الطابع السرّيّ الأصولي التاريخي الممتدّ إلى عام 33 ميلادية.
ولد فنسان دي بول في 24 ابريل/نيسان 1581، وتوفي عام 1660، وقد كان له في هذه العقود أن يترك بصمة لا تمحي ولا تضمحل على أوروبا المأزومة في الصراعات المجتمعية والدينية، قبل أن تعرف نوعًا من الهدوء مع اتفاقية ويستفاليا عام 1648.
سُيِّم منصور كاهنًا في عمر التاسعة عشر، وقضى معظم فترة كهنوته المبكرة مختلطًا بأعضاء النخبة من المجتمع الفرنسي، فقد كان محبوبًا للغاية بسبب ذكائه وروحه الطيبة المرحة.
هل لنا أن نعرف القديس منصور بكلمات قليلة؟
تحفظ لنا الأدبيات المنصورية الكثير من الإرث الروحي الذي خلفه لنا، غير أن من أفضل ما لمس قلبي منذ الصبا وعلى مقربة من الشيخوخة قوله "لا يكفي أن أحب الله إذا لم أحب قريبي... أنا أنتمي إلى الله وإلى الفقراء".
في الذكرى المئوية الرابعة لتأسيس جميعة الرسالة للقديس منصور دي بول، والتي تُعرَف في حاضرات أيامنا بالآباء اللعازريّين، كتب الفقير وراء جدران الفاتيكان، خليفة بطرس الصياد، البابا فرنسيس يقول: "أنا مقتنع بأن مثال القديس منصور، يمكنه أن يلهم بشكل خاص الشباب الذين بحماسهم وسخائهم وحرصهم على بناء عالم أفضل، يدعون لكي يكونوا شهودًا جريئين وشُجعان للإنجيل بين أقرانهم أينما وُجِدوا".
يضيق المسطّح المتاح للكتابة عن سرد وعرض حياة وأعمال مار منصور، غير أن الحقيقة المؤكدة هي أن هذا الكاهن الفرنسيّ الغيور على مجد الله، قد أحزن قلبه نقص الرعاية الرعوية في الريف الفرنسي، فقرّر في بدايات عام 1617، أن ينظم إرساليات تهدف إلى تقديم تعليم مسيحي أساسي وتشجيع العودة إلى ممارسة الأسرار المقدّسة.
لاحقًا سوف تشاء العناية الإلهية أن يتحقق حلم الكاهن منصور/فنسان، وذلك بعد ثماني سنوات، مع تأسيس جميعة الرسالة في 17 إبريل/نيسان عام 1625.
في السنوات السبع الأولى من تأسيسها قام الكهنة والإخوة في الجمعية بنحو 140 إرسالية، وبين عامي 1632 و1660، نظم المرسلون في البيت الأمّ بباريس 550 إرسالية أخرى.
ابتداءً من عام 1635، ومع ولادة جماعات خارج باريس، أُطلِقت مئات الإرساليّات الأخرى، وقد كان هذا التوسّع الكبير شهادة على الخصوبة الرهبانية والإرسالية لغيرة مارمنصور الكهنوتية وعطشه لتحويل القلوب والعقول إلى المسيح.
كان على هؤلاء الكهنة الذين عُرِفوا بـ"الفنسانيّين"، والذين نذروا الفقر والعفة والطاعة أن يكرّسوا أنفسهم بالكامل لسكان المدن والقرى الصغيرة.
كما كان مار منصور متحمّسًا لفكرة الرياضات الروحية لرجال الدين في وقت كانت فيه أخلاق الكثير من الأكليروس تتعرّض لأزمات شتّى.
على أن مار منصور، لم يكن كاهنًا ساعيًا للقداسة بمفهوهما الثيولوجي فحسب، بل يمكن اعتباره بداية حقيقية للمنظُرين والمنظمين لأحوال المجتمعات، لا سيما التي كانت مطحونة من جرّاءِ الفقر وضَنْك العيش.
في الريف الفرنسي، صدمه الفقر الذي وجده هناك، فقد كان من المألوف أن يموت الناس الذين لا يتمكّنون من إيجاد عمل في مجتمعه الفقير جوعًا، فيما كانت الطغمة الحاكم ترفل في النعيم الذي يصل إلى حدّ البطر أو السفه.
لم يقف مار منصور عاقدًا الأذرع على الصدور، وإنّما بدأ من فوره في تقييم موارده، وقادته علاقاته السابقة بالأثرياء والنافذين في المجتمع الفرنسي إلى طلب مساعدتهم الماليّة، فالتقى بأصدقائه من هولاء وأولئك وألهمهم تنظيم أنفسهم في مجموعات تنتقل من منزل إلى منزل، جامعًا ما يتيسر من اثاث وغذاء وملابس.
نجح مار منصور مع صحبته الخيرة إلى حدٍّ بعيد في جهودهم، وبدأت الرعايا الأخرى في البحث عنه لمعرفة كيف يمكنهم القيام بالعمل بنفس الفكرة، وسرعان ما بدأت الكنائس في مختلف أنحاء فرنسا تستخدم ذات الطرق التي ابتكرها مار منصور لمساعدة جيرانها المحتاجين.
في وقتٍ لاحق سيقدر لمار منصور أن يؤسّس مع القديسة لويزا دي مارياك، الفرع النسائي من جمعيّته، ذاك الذي سيعرف لاحقًا براهبات المحبة، ولتتوسّع دائرة رحمة الله من خلال أتعابه وأسفاره في مستشفيات ودور أيتام ومنازل للأشخاص المصابين بالأمراض العقلية خاصّةً، كما سيكرس سنواته الأخيرة لخدمة السجناء والعبيد.
يتطلب الحديث عن مار منصور وبناته، بنات المحبة في العالم العربي، الكثير من الكلام النافع والمفيد، لما في تجاربهن من غنى روحيّ وإنسانيّ عبر مسيرة أربعمائة عام.
على أنّ مصر بنوعٍ خاصٍّ كان لها حظٌّ وافر معهن منذ أن وصلن إلى مدينة الاسكندرية سنة 1884 للعناية بالمرضى والفقراء، وكُنَّ سبعة، وهناك افتتحن مستوصفًا أطلق عليه أهل تلك المدينة، مستوصف "السبع بنات"، وقد كانت الإسكندرية وقتها مدينة كوزموبولتينية، وبمثابة "رواق الأمم" المعاصر، لما احتوتْه من جنسيّات من كافّةِ أرجاء العالم.
من الإسكندرية سوف ينتقلن إلى القاهرة في 1901، ليفتتحن مدرسةً تهتم أول الأمر وآخره بالتعليم، لا سيّما بالنسبة للفقراء، ومن القاهرة إلى منطقة القناة، ثم التوجّه إلى مصر العليا، أي الصعيد ليُقِمْن بيتَيْن بمدرستَيْن في محافظة أسيوط، واحد في مدينة صدفا عام 1950، والآخر في مدينتي القوصيّة عام 1955، ثم في قرية المنشأة الكبرى عام 1996.
عبر مائة وثلاثين عامًا، قدّمتْ راهبات المحبة في طول أرض الكنانة وعرضها، شهادةً حيّة عن محبة القريب، وجسرًا مجتمعيًّا يربط كلَّ المصريين مسلمين ومسيحيين من خلال أعمال الرحمة وبخاصّة الرعاية الطبّيّة عبر المستوصفات التي ما انفكّتْ تضحي مراكز طبية متقدّمة.
وبجوارهن نشأت بطبيعة الحال أفرعٌ متعددة لجميعة مار منصور لرعاية الفقراء التي أسّسها الشاب الكاثوليكي الفرنسي الطوباوي فريدريك أوزنام، بعد مائة وخمسين عامًا من وفاة مار منصور، والذي صاغ عمل الجمعيّة من خلال عبارة "رؤية المسيح في الفقراء، وأن نكون المسيح للفقراء".
"يطلب الله أولاً القلب ثم العمل"، هكذا تحدّثَ مار منصور، ويكمل بقوله "علينا ألّا نعمل الخير فقط، وإنّما نعمله جيّدًا".
ما أحوج حاضرات أيّامنا لهذه الروح المنصورية، لا سِيّما في أوقات الرأسمالية المتوحّشة، حيث المجد لتراكم الأرباح الرأسمالية، حتى وإن همّشتْ الروح الإنسانية.
شكرًا لمار منصور ورهبانه وراهباته الذين علمونا الانتماء إلى الله وإلى الفقراء في الحلّ والترحال، أمس واليوم، وإلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها.