موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٩ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢
لونجينوس قائد المئة والحكاية

أشخين ديمرجيان :

 

ممّا لا شكّ فيه أنّ "لونجينوس" كان في منصب مرموق، كيف لا؟ وهو قائد المئة في الجيش الروماني. كانت سلطته واسعة جدًا، وإحدى واجباته الإشراف على تنفيذ العقوبات وخاصة عقوبة الإعدام. وهو الذي أشرف على تنفيذ حكم الصلب في السيّد المسيح. وقد أوحى لي بالخواطر التالية:

 

"أهذه  حقيقة أم خيال؟ أو لربّما سراب"؟! هكذا تساءل القائد لونجينوس الذي كان يتولّى حراسة السيّد المسيح.  أغمض القائد عينيه وفركهما، ثمّ حدّق ونظر مليًّا في الطبيعة وأمعن النظر فيها بعيون جديدة، وتأمّل في السماء الداكنة وانعكاساتها على الأرض، وفي كلّ ما يحيط به من تلال وعرة وصخور ونتوءات. وتعجّب من الصمت المُطبق على كلّ ما يُحيط به. ثمّ بدأ يسمع دقّات قلبه وهي تخفق بشدّة في حنايا صدره المُتعب.

 

استعاد القائد في ذاكرته الحوار ما بين المسيح واللصَين. إذ عيّره أحدهما: "ألستَ أنت المسيح؟ إذن خلّص نفسك وخلّصنا"!  لكن اللصّ الآخر انتهره: "أمّا نحن فعقوبتنا عادلة، لأنّنا ننال جزاءً عادلاً لِما فعلنا. وأمّا هذا الإنسان فلم يفعل شيئًا في غير محلّه"، وطلب من السيّد المسيح أن يذكره في ملكوت السموات، فأجابه: "الحقّ أقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس"! (متّى 44:27 ، مر 32:15 ، لو 33:23).

 

تأمّل الضابط الرومانيّ في ذلك الحوار، وكيف كان يتكلّم المسيح عن الملكوت السماويّ بسلطان. ثمّ تذكّر أنّ "الجند لم يكسروا ساقَيه لأنّهم رأوه قد مات" (يو 33:19). كما وأنّه المصلوب الوحيد الذي لم يُكسَر له عظم منذ تولّيه منصب القيادة.

 

واسترسل القائد في تحليل الأمور... ويبدو أنّه أدركها بتحليلاته الفردية، وتذكّر أقوال بعض حكماء اليهود فيما مضى: عدم كسر عظم المسيح وارد في نبوءات الكتاب المقدّس، كما في (المزمور 20): "يحفظ الله كلّ عظامه واحدٌ منها لا يُكسَر"... استنتج القائد أنّ المصلوب هو فعلاً "المسيح حَمَل الفصح" المذكور في النبوءات، فتمتم: "ما أغباني! كنتُ أعمى البصيرة والآن قد تفتّحَت بصيرتي! وبدأتُ أفهم ما تنبّأ به أنبياء العهد القديم عن المسيح وآلامه وصلبه وموته، وكلّها تتمّ في هذا الناصريّ"!

 

اقشعرّ بدنه حينما تذكّر كيف أنّه -بعد أن أسلم المسيح روحه-  طعن جنبه بحربة كي يتأكّد من موته، فخرج من جنبه دم وماء، وتعجّب من ذلك!؟ لأنّ الدم والماء لا ينزل من ميت حين يُطعن، فالميت يتجمّد الدم في عروقه، ولا يخرج منه ماء نقي. إذًا خروج دم وماء يخالف طبيعة الإنسان، ويُعَدّ كعلامة حياة.  فبينما كان ميتًا على الصليب كان حيًا بلاهوته.

 

 وزاد عجبه ما حدث في تلك اللحظة الرهيبة من ظلمة على الأرض وزلزال، وتصدُّع للصخور، وقيامة الموتى من القبور. وانشقاق حجاب الهيكل شطرين من أعلى إلى أسفل. ثبّت القائد نظره في الستار مشدوهاً أمام غرابة المشهد. إنّ تمزّق الحجاب الفاصل بين قدس الأقداس وقسم العامّة، يدلّ رمزيًا على انتهاء الحاجز بين الله والناس، وإمكانيّة تَواصُل الانسان مع ربّه... وترمز الأرض المنشقّة إلى السيّد المسيح الذي سيكون البداية والنهاية في التاريخ، فالمسيح يقسم التاريخ الى عهدَين قديم وجديد...

 

وتذكّر طَرْق المسامير المزعج، على يدَيّ المسيح المصلوب وقدميه، الذي اخترق أذنه ونفذ إلى صميم كيانه بقوّة حادّة ، مقطّعاً قلبه مع كلّ طرقة. هذا الإنسان بريء وتشعّ منه طمأنينة النفس والهدوء والسكون والراحة، وتُحيط به هالة نورانيّة قويّة تُرى بالعين المجرّدة، تُنير المكان والزمان بنور سنيّ، بغضّ النظر عن كلّ ما أصابه من جروح، وكلّ ما ألمّ به من عذاب يفوق كلّ وصف!

 

وأخيراً دنا القائد من المصلوب، وتفرّس مليّاً في ملامحه، لكأنّ روح المسيح الحنّان، ترفّ من حوله وتملأه بالأمان... هذا المصلوب لم يرتكب أيّة جريمة، لكنّ الطغاة صلبوه وأعتقوا المجرم "باراباس"... ولم تكن لدى المصلوب جيوش، لكن خشيَه جميع الملوك والأباطرة والكتبة والفريسيون!

 

نعتَ بيلاطس المسيح بملك اليهود ساخراً، وتحوّلت سخريته الى حقيقة حينما عُلّق على الصليب... إنّ زخم الأحداث والرموز والتنبّؤات، أكّدَت للقائد أنّ المصلوب أمامه هو المسيح. وحينما تأمّل وجه المسيح شعر وكأنّه في لجّة نور الله الخالق وفي النعيم الأبديّ... قائد المئة لم يعد يتمالك نفسه فهتف: "لعمري هذا المصلوب أكثر من مجرّد إنسان، إنّه يعكس النور والدفء والفرح والراحة. كأنّ الشمس الساطعة نفسها تستمدّ حرارتها وتألّقها من هذا الانسان الهادىء المقدّس"!

 

في تلك اللحظة طفح الكيل، ولم يعد القائد يطيق صبرًا، فأشهر إيمانه بالمسيح: "في الحقيقة كان هذا الرَّجُل ابن الله" (مرقس 15: 39).... "في الحقيقة كان هذا الإنسان بارًّا" (لوقا 47:23). وجاء كلامه صورة حيّة لِما يعمر قلبه من إيمان وحيرة ودهشة وانبهار! إذ بعد اليقين لا داعي للتردّد أو الانتظار!