موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الأحد، ١٢ مارس / آذار ٢٠٢٣
كلمة المونسنيور خالد عكشة في المؤتمر الدولي لتعزيز السلم والتعايش والانتماء المجتمعي
فيما يلي الكلمة التي ألقاها المونسنيور خالد عكشة، رئيس مدير الحوار مع المسلمين في الدائرة الفاتيكانيّة للحوار بين الأديان، خلال المؤتمر الدولي لتعزيز السلم والتعايش والانتماء المجتمعي، الذي عقد في العاصمة عمّان، من 3-4 آذار 2023، بتنظيم من منظمة "فرسان السلام".

المونسنيور خالد عكشة :

 

متى وكيف نكون فرسانًا أو فارسات؟

ما هو السلمُ المنشود وكيف يتحقق؟

تعايشٌ أم عيشٌ مشترك؟

كيف نفهم الانتماءَ المجتمعي وكيف نعززه؟

 

عن هذه الأسئلة سأجتهد في الاجابة، أخواتي وإخوتي الأحبّاء.

 

 

متى نكون فرسانًا أو فارسات؟

 

عندما نكون اشداءَ على أنفسنا رحماء بغيرنا،

شجعانا دون تهور،

كرماءَ دون تبذير،

فخورين دون كبرياء،

أتقياء دون غُلو،

عادلين،

ذوي إحسان،

نأتي ذي القربى،

حافظين للجميل وغافرين لمن ينكره،

صبورين في الشدائد،

واعين الحزن عند الفرح والفرح عند الحزن،

حافظين لأسرار الناس،

محبين لجيراننا وأصدقائنا ولكل خَلق الله ما نحب لأنفسنا،

مسامحين عند المقدرة،

لا تعلم شِمالنا ما تفعله يميننا من خير،

نتجنب التملق عندما نمدح والإهانة عندما ننتقد،

محترمين لمشاعر الناس، وبخاصة تلك المتعلقة بدينهم،

نحفظ غيبة غيرنا،

نبتغي في كل فكر وقول وعمل رضى الله وسعادة الناس،

معتبرين الحكمة ضالَّتنا وساعين إلى النمو فيها كل يوم،

لا نعمل في الخفاء ما نستحي أن يظهر في العَلَن.   

 

لا يغيب عنكم، أيها الأعزاء، أننا بصدد منظومةٍ أخلاقية عابرة للأعراق والأديان والثقافات، ما يجعلها إرثًا إنسانيًا مشتركًا يقرّبنا من انسانيتنا ويجعلنا نقتدي بالله. ومعَ أنَّ الحديث (تخلقوا بأخلاق الله) لا يصِحُّ بحسب الشيخ فوزي الفوزان، فإنّ معناه يصح في الجملة كما يقول: "فإنه تعالى عفوٌّ يحبّ العفو، وكريمّ يحب الكرم، وشكور يحب الشكر، فيحبُّ مِن عبدِه أنْ يكونَ عفوًّا وكريمًا وشكورًا وصبورًا وقويًّا وجميلا بتجمله الجمالَ الشرعي في حدودِ ما أباح الله".

 

 

ما هو السلم المنشود؟

 

قد يكون تأمُّلُ مشهدِ الحروب عونًا على فَهم السلم. والصراع الذي يتصدّر المشهد حاليّا هو الحرب الدائرة في أوكرانيا: قتلى وجرحى وأسرى بعشرات الآلاف من الجانبين، أمّهات ثكالى وأراملُ وأيتام، مُسنون متروكون دون مُعين، نازحون عن وطنهم بالملايين داخلَ أوكرانيا ولاجئون خارجَها، دمارُ منازلَ وبُنى تحتية، ما ترك أعدادًا غفيرة دون كهرباء أو تدفئة وأحيانا دون ماء، خطر تصعيد عسكري غيرِ مسبوق، بل خطر نشوب حرب نَووية كارثية، سباق تسلّح غيرِ مسبوق، تنامي روح العَداء والكراهية والانتقام، مواجهة مصير مجهول لصراع غير مبرَّر ومجنون، قلق وخوف من حدوث كارثة دونَ قصد. الرابحون الوحيدون هم صانعو السلاح وتجّاره، الذين قال عنهم البابا فرنسيس بأنّ لقمَتهم مغموسةٌ بدماء اخوتهم.

 

وهناك أشكال من العنف على يد ارهابيين متستّرين بالدِين وعصاباتٍ اجرامية تحرّكها أصابعٌ خفية لأناس ماتت فيهم الإنسانية والرحمة والشفقة، ما ينتج عنه قتلٌ واغتصاب وخطف وخراب وهجوم على مؤمنين عُّزل في أماكن عبادتهم. هذه بعض مآسي الحروب: حمى الله بلادَنا والعالمَ أجمع منها!

 

فما هو السلامُ بحَسبِ تعليم الكنيسة الكاثوليكية؟

 

يتناول أحد أهمِّ وثائق "المجمع الفاتيكاني الثاني" (1962-1965)، أعني الدستورَ الرعائي في "الكنيسة في عالم اليوم" فرح ورجاء (7 كانون الأول 1965)، جوهرَ السلام ومفهومَه الحقيقي وطريقةَ بنائه وصونِه: "ليس السلامُ مجرّدَ انعدامِ الحرب، كما أنّه لا يقتصر فقط على تأمين التوازن بين القوى المتخاصمة؛ ولا يتأتّى أيضًا عن سيطرةٍ استبدادية. فبكلِّ حق نحدّده "بعمل العدل" (أشعيا 32، 17). إنه ثمرةُ نظامٍ رسمه المؤسس الإلهي في المجتمع الإنساني، ويجب أن يتحقق بواسطة أناس، لا ينفكّون يتوقون الى عدل أكمل... فليس السلامُ أمراً يحصل عليه الإنسان مرةً واحدة إنّما عليه أن يبنيَه باستمرار، كما أنّ توفيرَ السلام يتطلّبُ من كل فرد أن يراقب دائماً أهواءه ويتطلبُ أيضًا سهَرَ السلطة الشرعية، لأنَّ الإرادةَ البشرية سريعةُ العطب، جريحةٌ من جرّاء الخطيئة" (رقم 78).

 

 

تعايش أم عيش مشترك؟

 

أوجَزَ الوالد العلاقات بيننا وبين المسلمين بكلمة بليغة: "ما بينا إلا المحرّمات". وكان رحمه الله لا يقبل منا كأطفالٍ أي استهزاء أو استخفاف بالمسلمين أو بدينهم. كانت هذه التربية السليمة والخبرة المتميزة في علاقتنا العائلية بإخواننا المسلمين  خيرَ عونٍ لي عندما دُعيت إلى خدمة الكرسي الرسولي في مجال العلاقات المسيحية-الاسلامية.

 

عندما عزم المرحوم سلمي أبو سمهدانة على تأدية فريضة الحج، قصد والدي رحمه الله ورحم أمواتكم، قائلا بأنه ذاهب الى الحج، ولذلك يحتاج أن يغفر الوالد له. فسأله "ماذا أغفر لك؟". فأجاب: "كوني أزرع أرضك، فقد أكون أخذت أكثر مما لي أو ما ليس لي". فأجابه الوالد: "أنا الذي بحاجة أن تغفر له، فقد عشت أنا وأولادي من تعبك، ولكن إن كان الأمر فريضةً دينية عليك ويُفرحك، فقد سامحتك". وفي الحقيقة لم يكن أبو سليمان بحاجةٍ إلى مسامحة أو غفران في هذا المجال، فقد كان أسطورةُ في الأمانة، كما تثبت القصة التالية. حدث  أن أم سليمان أعدت لعائلتها الفريكة من الأرض التي يزرعونها. وعندما أنهت هذه المهمة سألها زوجها: "وين حصة دار أبو خليل؟". فأجابت: ت"عطيهم عنها قمحا عندما يحين الحصاد". فرفض قائلا: "أبدًأ! نحن شركاء في كل شيْ، فلذلك أعدي حصتهم من الفريكة". وهكذا كان. وإني متأكّد، أخواتي وإخوتي، أنّ عند كل منكم حادثة أو طُرفة يمكن أن يسردها عن العيش المشترك.

 

أعي، كما تعون، أيها الأكارم، تغيّرَ الأحوال في مجالات كثيرة، ومنها علاقتُنا بعضنا ببعض، ومن ثمَّ حاجتُنا الى أن نذهب إلى أبعدَ من الفطرة، أي إلى تأصيل لاهوتي أو شرعي لبناء علاقاتِ احترامٍ ومودّةٍ وتعاونٍ بيننا، في سبيل عيشٍ يسودُه السلام والأمان والوئام  والتعاون على الخير. ويتطلّب هذا أمورًا كثيرة منها التربيةُ البيتية والمدرسية على الاحترام المتبادَل، والتهيئةُ المناسبة للمعلمين والمربينَ ورجالِ الدين، ومراجعة المناهج المدرسية، والابقاء على الصحافة الورقية والمرئية والالكترونية ووسائلِ التواصل الاجتماعي مساحاتِ تعارُفٍ وتفاعلٍ وتبادلِ وجْهات النظر، بعيدًا عن الشتمِ والازدراء والتحقير وجرحِ مشاعرِ الغير، لا سيّما الدينيةِ منها.

 

ولللأردنِّ بقيادتِه الهاشمية باعٌ طويل في مبادرات هدفُها تعزيزُ الحوار الديني والمجتمعي على الصعيدين المحلي والعالمي، والحفاظُ على الوجودِ المسيحي ودورِه في الأردن وفي الشرق الأوسط بمجمله. إضافة  تستحقُّ الثناءَ والدعمَ والتطبيق "وثيقةُ الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، التي وقّعها قداسة البابا فرنسيس وفضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الدعم في أبو ظبي في الرابع من شباط 2019، فهي خطوة رائدة ومتميّزةٌ على طريقِ السلامِ والمواطنة والعيشِ معًا.

 

وكونُنا في أجواءٍ يسودها الاحترام والصدق في آن، فأودُّ أنْ أُشيرَ إلى موضوعِ الترّحمِ على الأموات الذين لا ينتمون إلى ديننا، وتهنئةِ المختِلف عنا دِينًا في أعياده، مؤكّدًا لكم، أخواتي وإخوتي المسلمين، بأننا سوف نستمرّ في طلب الرحمة لأمواتكم وفي تهتئنتكم في أعيادكم، واثقًا مِن أنَّ مَن يستفتي قلبه منكم فإنَّه سيدُلُه على سواء السبيل في هذا الشأنِ كما في غيره. ويقيني هو أنكم تطلبون الشفاء لمرضانا كما لمرضاكم، والرحمة لأمواتنا كما لأمواتكم، غيرَ منتظرين إذنًا أو تشجيعًا من أحد.

 

 

كيف نفهم الانتماء المجتمعي وكيف نعززه؟

 

وجدت، عندما بحثت عن معنى الانتماء، بأنه في علوم النفس "علاقة منطقيَّة بين الفرد والصِّنف الذي يدخل في ما صدقه"، وأنّ اللاَّإنتماء "شعور المرء بأنَّه مُبعَدٌ عن البيئة التي ينتمي إليها". وتبع تعليقٌ: "تفشَّت ظاهرةُ اللاّإنتماء بين كثير من أبناء الأمّة العربيَّة".

 

أما فَهمي للانتماء، فهو الارتباط بأشخاص أو مؤسساتٍ والنموُّ معهم وبهم والاسهامُ في نَمائهم. والانتماء الذي نحن بصدده هو الانتماء المجتمعي، أي ارتباطُ الإنسان عقليا ووجدانيا بمجتمعه، وقناعتُه بأنّه عضوٌ فاعلٌ فيه، يأخذ ويُعطي، يقدّمُ الصالحَ العام على المصالح الشخصية، لإنّ في منفعةِ الجماعة منفعةٌ للفرد. يتعزز عند الانسان الشعور بالانتماء الى الأسرة او العشيرة أو الجماعة الدينية أو المجتمع أو الوطن عندما تُحترَم كرامته ومنظومةُ الحقوقِ الناتجة عنها: حرية الضمير والفكر والبحث والتعبير والدين. الكرامة الإنسانيّة عطية الخالق لكل بني البشر دون تمييز، لا يزيدها كما لا يُنقصها انتماءٌ الى عِرقٍ أو دينٍ أو بَلَد.

 

واسمحوا لي بأن أعرّج على أمرٍ حدث في بلادنا منذ زمن غير بعيد،  أعني إضرابَ أصحاب الشاحنات، مُقرّا منذ البداية بأني غيرُ مطّلع على كافة جوانب موضوع معقّد كهذا. ما استوقفني هو المطالبةُ بزيادة حمولة الشاحنات وإطالةُ عمرها التشغيلي. لا تغيب عن ذهني صورة شاحنات على الطريق الصحراوي تنوء تحت حمولتها، ويتصاعد دخانها، وتسير على طريق خربت بسببها، فأصبحت سببَ ضررٍ أو خرابٍ لها. سُقت هذا المثل لأُبرزَ أهمية بعدِ النظر وتبصِّر عواقب الأمور في موضوع الانتماء المجتمعي، كما في غيره.

 

يتطلب دوامُ الانتماء ونموُّه من المسؤؤلين الأمانةَ والعدل والمساواةَ بين الناس والشفافيةَ والخضوعَ للمساءلة القانونية والشعبية. وكم هو مفيدٌ بل ضروري في هذا السياق أن تعرفَ الأجيالُ، وبخاصةٍ الشابّةُ منها، عن أشخاص كانوا أو لا يزالون في موقع المسؤولية، اشتهروا بأمانتهم ونزاهتهم. واسمحوا لي أن أسوق مثلا من عائلتي: فعندما توفى الله عمي المرحوم سابا العكشة، كان في حسابه خمسةٌ وستون دينارًا، عِلمًا بأنه تولّى الوزارةَ مراتٍ واختيرَ نائبًا مراتٍ عِدة.

 

ويسرّني، قبلَ الختام، أنْ أُحيّي مِن هذا المِنبر فارسًا هو ابنُ فارسٍ ووالد فارس، أعني جلالةَ الملك عبدِ الله الثاني بنِ الحسين، داعيًا له ولولي عهده بطول العمر والسداد والتوفيق، ليبقى ألأردن وطنًا آمِنًا مُزدهرًا، يحلو لأبنائه العيشُ فيه، ويجدُ فيه ملجًأ آمنا مَن فقد السلمَ والأمنَ في بلده.

 

أشكرُ مسؤؤلي منظمة فرسان السلام على دعوتي إلى هذا المؤتمر، وبخاصّةٍ الدكتور أمين أبو حِجلة والأستاذة صفاء نصيرات والمهندس الدكتور عبدالله المحياس. حفظكم اللهُ جميعًا فرسانَ حقٍ وعدلٍ وأخوّة، وغمَركم برحمته وسلامه وبركاته.