موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
شكلت وثيقة كايروس 2025 "لحظة الحقيقة: الإيمان في زمن الإبادة" منعطفًا حادًا في الخطاب المسيحي الفلسطيني، إذ لم تعد تقتصر على تحديث لغة وثيقة كايروس 2009 "كلمة إيمان ورجاء ومحبّة من قلب المعاناة الفلسطينية"، بل أعادت رسم خريطة المفاهيم والمقاربات الفكرية. فقد انتقلت الوثيقة الجديدة من توصيف الاحتلال كخطيئة إلى تشخيص الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني كواقع يومي يعيشه الشعب الفلسطيني، مع اعتماد مصطلحات دقيقة مستندة إلى تقارير أممية وقانونية دولية، تُظهر رفضًا قاطعًا لأي تبرير أخلاقي أو ديني لاستمرار العدوان.
تتسم الوثيقة بجرأة واضحة في تسمية الأمور بأسمائها، لتصبح أقرب إلى سجل قانوني–لاهوتي للانتهاكات الجسيمة في غزة والضفة الغربية. فهي توثق المجازر، القتل الجماعي، تدمير البنى الصحية والتعليمية، التجويع الممنهج، الاعتقالات والتعذيب والاختفاء القسري، بالإضافة إلى استهداف النساء والأطفال والتطهير البيئي للأحياء بالكامل، لتضع هذه الوقائع ضمن مفهوم الإبادة.
كما تحمل الوثيقة موقفًا حازمًا تجاه الغرب والكنائس الغربية، متهمة بعض المؤسسات الكنسية بتبنّي روايات سياسية تبرّر القتل، أو بممارسة صمت يشبه التواطؤ، وموضحة مخاطر المسيحية الصهيونية وخطابها اللاهوتي المنحرف الذي يبرر القمع والاستعمار. وتدعو الوثيقة الكنائس إلى رفض هذا اللاهوت الصهيوني ومساءلته ومقاطعته، معتبرة ذلك ضرورة أخلاقية وكنسية ولاهوتية، في حين تشدد على التمييز بين اليهود كمجتمع والدولة الصهيونية كمشروع استعماري، وتنبه إلى استغلال اتهامات معاداة السامية لإسكات الحق الفلسطيني أو التضليل السياسي، مع رفض جميع أشكال العنصرية والإقصاء، بما فيها الإسلاموفوبيا.
التشخيص الداخلي للواقع الفلسطيني
تقدم الوثيقة تحليلاً دقيقًا للواقع الداخلي، شاملاً أزمة القيادة الفلسطينية، الانقسام السياسي وفقدان وحدة القرار والثقة بالمؤسسات، الفساد والفوضى، هشاشة النظام السياسي، تصاعد العنف الداخلي بين الفصائل، وتفاقم هجرة المسيحيين كتهديد وجودي للمجتمع المسيحي الفلسطيني. هذا التحليل يربط بين الانتهاكات الخارجية والاضطرابات الداخلية، مؤكدًا أن المعركة ليست فقط ضد الاحتلال، بل تشمل تحديات صعبة على الصعيد الداخلي، تحتاج إلى وعي وطني وموقف مسؤول من جميع الأطراف، بما فيها الكنيسة المحلية.
التحديث اللاهوتي والمقاومة
تميز لاهوت كايروس 2025 بأنه لاهوت مقاومة شاملة، أخلاقي–قانوني–وطني، يربط الإيمان المسيحي بحقوق الإنسان، والعدالة، والحماية الوطنية، مع رفض أي تبرير ديني للعنف أو الاستعمار، والاعتراف بالمسؤولية الدولية والضمير العالمي.
انتقلت الوثيقة من خطاب كلاسيكي يركز على "الله محبة" والرجاء والسلام، إلى لاهوت يرفض أي تبرير ديني للعنف والإبادة، معتبرًا ما يجري "خطيئة ضد الله والإنسان والخليقة". وفي الوقت الذي تجرّم فيه المقاومة الفلسطينية وحركات التضامن العالمية، تؤكد الوثيقة على حق الشعوب المستعمرة في مقاومة المستعمر، مع الحفاظ على الالتزام بالقيم الأخلاقية والإنسانية، مجددةً رفض تحويل الصراع إلى صراع ديني أو استغلال الدين ذريعةً للعنف، ومشيرة إلى أن المقاومة السلمية والمناصرة العالمية تبقى أدوات فعّالة للتغيير.
جذورنا وهويتنا المسيحية الوطنية
أكدت الوثيقة على أن الحضور المسيحي في الأرض الفلسطينية أولوية وطنية، مسلطة الضوء على صمود أهل غزة وشهادة من ارتقوا دفاعًا عن الحياة والكرامة، ومجسدةً رسالة وحدة الشعب الفلسطيني من مسيحيين ومسلمين في مواجهة الاحتلال والتمييز. كما أبرزت أهمية ترسيخ روح مسيحية تحررية تنبذ التطرف وتحتضن المستضعفين، وتربط الإيمان بالمقاومة الوطنية والاجتماعية.
المشاريع الأخلاقية والاجتماعية والبيئية
تطرقت الوثيقة إلى العدالة الاجتماعية والسياسية والبيئية، مشددة على تمكين المرأة الفلسطينية، العناية بالأرض والحفاظ على المياه، ودور الشتات في تعزيز صمود المجتمعات المحلية. هذا الجانب يعكس رؤية شاملة تربط التحرّر الوطني بكامل مقومات الحياة الكريمة، مستوحاة من القيم المسيحية والالتزام الوطني.
الالتزام بالقانون الدولي وحقوق الإنسان
تستند الوثيقة إلى التزامات قانونية واضحة، مع الإشارة إلى جرائم الاحتلال في غزة باعتبارها إبادة جماعية وفق مذكرات المحكمة الجنائية الدولية، ونقد أي سياسات تستند إلى دولة دينية تفترض تفوقًا عرقيًا. وترى الوثيقة أن أي أفق للسلام يجب أن يقوم على العدالة والمساواة، وتدعو إلى المحاسبة القانونية الفعلية للمسؤولين عن الجرائم.
ما الجديد مقارنة بوثيقة 2009
1. التوسع في التشخيص الداخلي: التركيز على الانقسام السياسي، الفساد، العنف الداخلي، وهجرة المسيحيين كتهديد وجودي.
2. تأكيد حق الشعوب المستعمرة في المقاومة بشكل صريح وواضح: صياغة جديدة تتجاوز النسخة الأولية، بعيدًا عن ذكر الاعتراف المحدود بالمقاومة المسلحة.
3. الربط بين اللاهوت والقانون الدولي: استخدام مصطلحات دقيقة مثل الإبادة الجماعية وربطها بالقانون الدولي، بدل التحليل الأخلاقي العام في 2009.
4. تسليط الضوء على العدالة الاجتماعية والبيئية: تعزيز دور المرأة، الحفاظ على الأرض، ودور الشتات، ما يعكس رؤية شاملة للحياة الفلسطينية.
5. مواجهة السياسات الكنسية الغربية: نقد المسيحية الصهيونية والسكوت على الجرائم، مع الدعوة إلى ضمير أخلاقي عالمي، ورفض استغلال معاداة السامية للتشويش على الحق الفلسطيني.
تحديات مستقبلية
رغم جرأة وثيقة كايروس 2025 وعمق تحليلها اللاهوتي والقانوني، تبقى الحاجة قائمة لتطوير خريطة طريق واضحة لما بعد الإبادة، تشمل حماية المؤسسات الفلسطينية، تعزيز الصمود الوطني، ودعم الوحدة الوطنية بين مختلف الأطراف. كما يتطلب الأمر تعزيز مشاركة الشباب في الحياة الوطنية والسياسية، وإعداد جيل مسيحي - وطني قادر على مواجهة التحديات المعقدة التي تواجه المجتمع الفلسطيني. إضافة إلى ذلك، من المفيد تقديم أمثلة عملية لتحالفات مع الكنائس والمنظمات الدولية لدعم القضية الفلسطينية وتحقيق أهداف العدالة والمقاومة الأخلاقية.
خلاصة
تمثل وثيقة كايروس 2025 مرحلة مفصلية في الخطاب المسيحي الفلسطيني، إذ تجمع بين التحليل القانوني واللاهوتي، توثيق الجرائم، نقد السياسات الدولية والكنسية، مع دعوة واضحة للوقوف مع الحق والعدالة، لتصبح بذلك وثيقة محورية لمواجهة الإبادة وإعادة بناء فلسطين على أساس العدالة والتحرر الكامل، مع الحفاظ على الهوية المسيحية الوطنية وروح المقاومة الأخلاقية.
حول كايروس فلسطين
كايروس فلسطين هي حركة مسيحية فلسطينية مسكونية تأسست عام 2009 من خلال وثيقة لحظة الحقيقة. متجذرة في الإيمان والرجاء والالتزام بالعدالة، تعبر الحركة عن صوت نبوئي ضد القمع والاضطهاد في فلسطين.
تدعو الحركة المسيحيين الفلسطينيين والكنائس في جميع أنحاء العالم للوقوف ضد الظلم والفصل العنصري، والعمل بشجاعة من أجل سلام عادل ودائم. وفي 14 نوفمبر 2025، واستجابةً للإبادة الجماعية والتطهير العرقي والنزوح القسري المستمرة، أطلقت كايروس فلسطين وثيقتها الكبرى الثانية: "لحظة الحقيقة: الإيمان في زمن الإبادة الجماعية".
توفر هذه الوثيقة الجديدة إطارًا لاهوتيًا وأخلاقيًا متجددًا لمواجهة العنف، والدفاع عن حقوق الإنسان، والحفاظ على الإيمان والرجاء والهوية المسيحية الوطنية في زمن تحديات غير مسبوقة.