موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لم تكن زيارات بطريرك القدس للاتين الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا الأربع إلى غزة مجرد زيارات بروتوكولية أو رمزية، بل كانت مواقف ميدانية جريئة في قلب الخطر، وفي وقت تُركت فيه غزة وحيدة تحت وطأة القصف.
في أكثر من مناسبة، وخلال فترات التصعيد والحرب المفتوحة، اختار بيتسابالا تجاوز الحواجز للوصول إلى رعيته، ليس بوصفه مسؤولًا كنسيًا يؤدي واجبًا شكليًا، بل كراعٍ يؤمن أن الحضور في زمن الخوف هو فعل إيمان ومسؤولية أخلاقية. وآخرها كان يوم الجمعة 19 من كانون الأول/ديسمبر 2025، خلال زيارة رعوية على عتبة عيد الميلاد.
بينما اكتفى كثيرون بإدارة الأزمة في غزة من مسافة آمنة، أو بإصدار بيانات مصاغة بعناية توازن بين الضمير والمصلحة، كانت غزة المحاصَرة تتحول إلى ملف مؤجل، أو ورقة في حسابات دبلوماسية باردة. في هذا السياق، بدا وصول الكاردينال إلى غزة كسرًا صريحًا لمنطق الغياب، وتذكيرًا بأن الإنسان لا يُختصر في تقارير، ولا يُدار ألمه من خلف المكاتب.
ولم يقتصر حضور البطريركية اللاتينية على الزيارات الراعوية فحسب، بل تزامن مع تدخلات إغاثية وصحية مستمرة، شملت دعم العائلات المتضررة، وتأمين الاحتياجات الأساسية، ومساندة الجهود الطبية قدر الإمكان في ظل الانهيار شبه الكامل للقطاع الصحي. وقد نفذت هذه المبادرات بصمت من قبل كوادر البطريركية، بالتعاون مع كهنة الرعية والهيئات الكنسية المحلية، لتكون امتدادًا عمليًا للرسالة الراعوية، وربطت بين الصلاة والعمل، والتضامن والمسؤولية.
لاهوتيًا، يصعب فصل هذه الزيارات عن جوهر الإيمان المسيحي القائم على التجسد. فالله، لم يخلّص الإنسان من بعيد، بل نزل إلى ضعفه وألمه. ومن هذا المعنى، جاءت زيارات الكاردينال إلى غزة كترجمة عملية لكنيسة متجسدة، تختار القرب بدل الخطاب، والمرافقة بدل الاكتفاء بالتضامن اللفظي.
إنسانيًا، حمل هذا الحضور رسالة طمأنينة في مدينة أُنهكتها الحرب وفقدان الأفق. لقاءات الكاردينال مع كهنة رعية العائلة المقدسة وأبناءها وجيرانها لم تكن جولات تفقدية فحسب، بل محطات تثبيت، أكدت للناس أن معاناتهم ليست منسية، وأن انتماءهم إلى هذه الأرض ليس موضع مساومة.
وفي كلماته لأبناء غزة، لخّص الكاردينال فلسفة هذا الحضور قائلاً: "لن ننسى ما حدث، لكننا نتطلع إلى الأمام. سنعيد إعمار بيوتنا ومدارسنا، وسنبني حياتنا من جديد. نحن هنا، وسنبقى هنا، ونطمح لأن نكون مرجعية ثابتة. وفي وسط هذا البحر من الدمار، نسعى لأن نصبح مثالًا للجميع على معنى البناء من جديد".
في المقابل، تطرح هذه الزيارات سؤالًا واضحًا على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، وحتى على بعض الكنائس ومؤسساتها: ماذا يعني التضامن إذا بقي مشروطًا؟ وما قيمة المواقف إن لم تُترجم حضورًا عند الحاجة؟ لقد أظهرت الحرب مرة أخرى أن كثيرًا من الخطابات الإنسانية تسقط أمام اختبار الميدان، وأن الصمت أو الابتعاد، مهما تلطفّت لغته، يبقى شكلًا من أشكال التخلي.
في الإنجيل، لا تُدان القسوة وحدها، بل يُحاسب أيضًا من يتجاهل الآخر ويمر من الجهة الأخرى من الطريق. ومن هنا، فإن زيارة غزة لا تحمل بعدًا رعويًا فقط، بل وظيفة تذكيرية ومساءلة أخلاقية. فهي تضع معيارًا واضحًا للقيادة: القائد الحقيقي لا يكتفي بإدارة الأزمات من بعيد، بل يصل إلى أبنائه ليطمئنهم، حتى عندما يكون الوصول محفوفًا بالمخاطر.
هكذا، تتحول زيارات الكاردينال إلى شهادة حيّة على كنيسة اختارت أن تبقى مع شعبها، لا فوقه ولا خارجه. وفي مدينة تتكاثف فيها أصوات الحرب وتتعاظم فيها عزلة الإنسان، يصبح هذا الحضور إعلانًا صامتًا بأن غزة ليست هامشًا، وأن البناء من جديد يبدأ أولًا من الثبات، والرجاء، ورفض ترك الضحية وحيدة في العتمة.