موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في الفصل الحادي والعشرين من إنجيل سيّدنا المسيح للقديس لوقا (آية 1-4) سرد عن الأرملة الفقيرة المُعدَمَة، حينما تطلّع السيد المسيح: "فرأى الأثرياء يلقون تبرّعاتهم في صندوقِ الهيكل. ورأى أيضًا أرملة مسكينة تُلقي فيه درهمَين (فلسَين). فقال: "الحقّ أقول لكم إنّ هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر ممّا ألقاه الآخرون كلّهم. فهُم ألقوا في الصندوق من الفائض عن حاجاتهم. وأمَّا هي، فمن حاجتها ألقت كلّ ما تملك لمعيشتها" (لوقا 21: 1-4).
أوضح آباء الكنيسة هذه الآيات عن الأرملة مرّات كثيرة لأهمّيّتها، وفسّرها علماء الكتاب المقدّس بما فيه الكفاية، لما انطوت عليه الآيات عن سخاء تلك الأرملة الغارقة في فقر مُدقع، وعطائها غير المحدود، وجودها المذهل، إذ أعطت كلّ ما تملك بكلّ إيمان وثقة برحمته تعالى، من غير تفكير بمصروف الغد... وفي الخفاء أفرغت جيبها بالكامل في سبيله تعالى، لا ليراها الناس، فملأها الله ببركته ونعمته وهذا حسْبها. مع حرمانها الشديد من الأمور الإنسانيّة الأساسيّة، وحتمًا كانت الغرفة التي تسكنها لا تصلح للعيش الكريم بسبب سوء أوضاعها البيئية والصحّيّة، وتفتقر إلى أدنى شروط السلامة العامّة، عدا عن حاجة الأرملة العظيمة إلى الماء والغذاء والملابس... واليوم نرى بعض الأثرياء يشكون ويبكون ويولولون كي لا يتبرّعوا بالفتات الذي يتساقط من موائدهم لقريبهم المسكين، حتّى في الأعياد التي هي مناسبات مقدّسة وعائليّة واجتماعيّة، ولا يتنكّر لها إلاّ ناقص الإيمان والأنانيّ، مع الأسف.
تٌعلّمنا هذه الأرملة المُفلسة أنّ الدنيا لا تساوي شيئًا وأنّ كلّ ما فيها باطل الأباطيل (عن سِفر الجامعة 1: 1). كما تُعلّم جميع الناس أن لا يكنزوا جاهًا أو سلطانًا أو مالاً أو قصورًا، كما أوصانا السيّد المسيح: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض" (متّى 6: 19). وكانت حياة المسيح مطابقة لوصيّته إذ وُلِد الطفل يسوع في مغارة بسيطة بدل القصر المنيف، وفي مذود من قشّ بدل سرير الذهب والعاج. ولمّا كَبُر لم يكن يجد مكانًا يسند اليه رأسه (متّى 8: 20). وسكن المسيح بعض الوقت في بيت الرسول بطرس في كفرناحوم قرب بحر الجليل أي في منزل صيّاد متواضع.
العطيّة لا تُقاس أساسًا بقيمتها الماديّة. وفي صلب الموضوع يقول الشهيد كبريانوس عن الأرملة سالفة الذكر: "لكن التي كان يليق بها أن تأخذ أعطت". ويكتب القدّيس العبقريّ أمبروسيوس الّذي كان من أكبر المفكّرين في عصره: "قال المسيح عن هذه الأرملة الفقيرة أنّها ألقت أكثر من الكلّ لأنّ الله يطلب الإيمان لا المال". ويُضيف: "النيّة هي التي تجعل العطيّة ثمينة أو زهيدة". وهذا يذكّرنا بالقول الإسلاميّ المأثور: "الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرىءٍ ما نوى".
لا تُقاس العطيّة أساسًا بقيمتها الماديّة بل بصفاء نيّة المُحسِن وسخاء قلبه. والحياة فرصة ومناسبة للإحسان، "وفي العطاء فرح أكثر منه في الأخذ" (أعمال الرسل 20: 35). فلس الأرملة يذكّرنا بجارنا المهمّش والطفل اليتيم الذي يجب أن نرعاه وذوي الاحتياجات الخاصّة من الأهل والأقارب الذين يبحثون عن إلى قلوب كبيرة توفّر لهم جميع لوازمهم الماديّة والمعنويّة والروحانيّة وسط الصراعات وفي خضمّ العيش الكفاف العسير الذي يعيشونه قهرًا وذُلاًّ.
وجدتُ آية من المزامير في البذل والعطاء والحنان على الفقير: "طوبى لمَن يعتني بالمسكين، في يوم السوء ربُّه ينجّيه... يحفظه المولى ويحييه، ويسنده على سرير الآلام ولا يسلمه إلى مرام معاديه" (المزمور 40 (41): 2 و4).