موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٨ يونيو / حزيران ٢٠٢٤
فرنسيس في قمة السبع: ماذا يفعل خليفة بطرس الصياد وسط أحفاد القياصرة؟
مقال خاص لموقع أبونا

إميل أمين :

 

حين طلب البابا أوجينيوس الثالث (1145-1153) النصيحة من الراهب البندكتي برنارد دي كلارفو Bernard de Clairvaux (1090-1153)، والذي سيصبح قديسًا لامعًا في تاريخ الكنيسة، أخبره بأن عليه أن يتذكّر دومًا أنه: "ليس خليفة للإمبراطور قسطنطين، بل خليفة بطرس صياد السمك".

 

المعنى والمبنى هنا أن خليفة مار بطرس، ليس الرجل صاحب الصولجان وتاج التيرا، التاج الكوكبي،Triregnum  الذي ألغاه البابا بولس السادس، بل وباعه في مزاد نادر بمدينة نيويورك الأميركية لصالح فقراء مدينة ميلانو الإيطالية، بل هو الفقير الزاهد في مجد العالم، والساعي في طريق مملكة من نوع آخر على الأرض، مملكة الرب، لا مملكة قيصر.

 

لكن فرنسيس الفقير وراء جدران الفاتيكان، بدا نهار الجمعة الماضي، وهو يمضي على كرسِيّه المتحرّك، مدفوعًا دفعًا للمشاركة في أعمال قمّة جبابرة الأرض المسماة بالسبع، طرفًا آخرى، على عكس ما قاله برنارد دي كلارفو، لا سيما أن الكبار صمتوا في محضره، صمتًا مهيبًا، حين تحدَّثَ عن واحدة من أهم القضايا التي تعترض مسيرة البشرية في حاضرات أيّامنا، وربّما أضحى يومًا ما سببًا مباشرًا في هلاكها وفنائها قولاً واحدًا.

 

أظهر فرنسيس أن البابوية قوة نجمية لا تتعلّق بشخصه فحسب، بل بأيّ بابا آخر، وأكّدَ كذلك على أن البابوية في روما تحتل مكانة فريدة في المشهد الثقافي الإنسانوي حول البسيطة، ومن مشارق الشمس إلى مغاربها، بل يمكن القول دون مغالاة أنّها المورد الأكثر قيمةً الذي تمتلكه المسيحية في سعيها للشراكة مع العالم الواسع، المتغيّر جيوسياسيًّا بسرعة غير مسبوقة، والماضي قُدُمًا في طريق عالم مجهول النهايات، يبدأ من عند الذكاء الاصطناعيّ الأوليّ، وينتهي بنا في مدارك السوبر ذكاء اصطناعي، حيث لا أحد قادر على توقّع مآلات هذا القادم من غيابات الجُبّ الإنساني ومخترعاته.

 

لسنا أمام تكافؤ أضداد في الروح البابوية، حاشا، بل في إثر دعوة السيد له المجد: "ودعاء كالحمام.. حكماء كالحيات" (مت 10-16).

 

عندما ألقى فرنسيس خطابه حول التحدّيات الأخلاقية، كان يحمل الحكمة والشجاعة الروحية والأخلاقية، في مواجهة ما ستفرضه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على البشرية، واضعًا حدًّا بين ما يمكن فعله، وما لا يتوجَّب عمله، وساعتها انتبه جبابرة الأرض السبع، وحتى لو كان ذلك لا يعني أنهم بالضرورة تابعوا جميع نقاط حديثه، أو سيلتزموا بها مستقبلاً، إذ تحكمهم نرجسيّة غير مستنيرة، وبراغماتية ضارّة، غير أنه وفي كل الأحوال كان لا بدَّ لهم من الجلوس والاستماع، وربما نخست قلوبهم على غرار الذين استعموا لبطرس هامة الرسل، يوم الخمسين.

 

 ما الذي يُحَمِّل فرنسيس عناء الذهاب وسط أصحاب القوة المادية غير المسبوقة في مسيرة الإنسانية، وهو لا يحمل سوى صيحة حقّ عن مآلات كسوف البشر وخسوف الخليقة في الحال والاستقبال؟

 

هذه في حقيقة الأمر قوة البابوية النجمية، في جزئها المتعلق بالقضايا الاجتماعية، وهو أمر ليس وليد اليوم، فقد درج الأحبار الرومانيّون على أن يضحوا "صوتًا صارخًا في البرية، ينبهون الناس ويرفعون الالتباس".

 

يحتاح الحديث بشكل موسَّع عن دور البابوية هذا إلى مؤلَّفات، لكن ما من أمر يمنعنا من التوقّف ولو قليلاً أمام بعض الملامح التي تُبَيِّن الدور النبويّ للكنيسة الرومانية الكاثوليكية في الأزمنة المعاصرة.

 

في الخامس عشر من مايو/ آيار من عام 1891، أصدر طيب الذكر البابا لاون الثالث عشر (1810-1903)، وثيقته الشهيرة التي حملت عنوانRerum novarum  أو "الأشياء الحديثة"، وقد كان ذلك في السنة الرابعة عشرة لحبريّته.

 

برزت شخصية لاون الثالث عشر إثر انتخابه بابا خَلَفًا لبيوس التاسع، فأطل على العالم بوجه يتمتع بذكاء حادّ، وبروح فطنة في تصور المشاريع الكبرى، فكانت له صفات القيادة ووضوح الرؤية وامتلاك الذات، وإدراك معنى الممكن في تعامله مع الواقع ومع الأشخاص.

 

خلال حبريّته التي بلغت 25 سنة، أعطى للكرسيّ الرسوليّ هالةً عالمية وأكسبها قوة سياسية ومعنوية كبيرة تفوق السلطة الزمنية التي كانت قد فقدتها، ولهذا شَكَّلت حبريّته منعطفًا هامًّا في تاريخ الكنيسة.

 

اهتم فكر "الأشياء الحديثة" بأمور رأس المال العمل، بالقضية العمالية وحقوق العمال، لا سِيّما أن العالم كان واقعًا بين ظهور أفكار كارل ماركس في كتابه "رأس المال" 1867، والتي ستشكّلُ فتحًا اشتراكيًّا جديدًا، لن ينفكَّ بعد عقدَيْن من الزمن أن يولد طرحًا شيوعيًّا قاتلاً معاديًا للإنسان والأديان دفعة واحدة، ومتعبدًا في محراب الإيديولوجية فحسب.

 

كان المنشور دفاعًا عن حق الإنسان في العمل والعيش بالكرامة التي وهبها له الله تعالى، والتي لا يمكن لقوَّةٍ ما على الأرض أن تسلبها منه.

 

بعد قرابة تسعة عقود، وبالتحديد في الأول من أكتوبر / تشرين أول من عام 1979، ومن على منصّة الجمعية العامّة للأمم المتحدة، كان البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني (1920-2005)، يؤكّدُ على أنّ النشاط السياسي والدولي ينبع من الإنسان، ويُمارَس من قِبَل الإنسان، ولا بدَّ أن يُوَجَّه نحو الإنسان.

 

من هذا المنطلق الإنسانويّ، جاءت مساهمة فرنسيس في اللقاء الأخير، ليضع المزيد من النقاط، على حروف إشكالية الذكاء الاصطناعي المثيرة للجدل.

 

لم تكن هذه المرة الأولى التي يقتحم فيها الحبر الأعظم، هذه المنطقة الشائكة فكريًّا، فقد استبصر مسبقًا المخاوف المرتبة على انفلات هذا القادم الغريب من عقاله، ولهذا أصدر "نداء روما"، عام 2020 مطالبًا بما أسماه "الخوارزميّات الأخلاقيّة"، وفي رسالة اليوم العالمي للسلام في الأول من يناير/ كانون الثاني المنصرم، وَجَّهَ أنظار العالم إلى العلاقة الجدلية بين "الذكاء الاصطناعي والسلام العالميّ".

 لماذا فرنسيس وبقية دوائر الكوريا الرومانية منشغلون بهذه القضيّة؟

 

باختصار غير مُخِلّ، لأن الذكاء الاصطناعي له تأثير عميق ومتزايد على النشاط البشري والحياة الشخصيّة والاجتماعيّة والسياسية والاقتصاد، وبالتالي حالة السِّلْم العالميّ.

 

اعتبر بطريرك السياسة الأميركية الراحل، هنري كيسنجر، أن الذكاء الاصطناعي "ديكتاتورية أبدية" قادرة على تحجيم البشرية، وأعرب عن خشيته غير مرة من أن تتسبب أدوات الذكاء الاصطناعي في حدوث أزمات عالمية وإحداث ضرر شامل، ولهذا أوصى بضرورة وجود قادة مسؤولين في دفة القيادة العالمية، يعملون صباح مساء كلّ يوم من أجل تجَنُّب الصراع المحتمل.

 

حكمًا سيضحى الذكاء الاصطناعيّ أكبر تحدٍّ "أنثروبولوجيّ" في هذا العصر، وهو ما لفت له فرنسيس في مداخلته حين اعتبر أنه في زمن الابتكار التكنولوجي الذي نعيشه، تكاد البشرية تدخل نفقًا مخيفًا من الضياع أو على الاقل الانزواء الواضح لمفهوم الكرامة البشرية.

 

كالطبيب النطاسي، كان أسقف روما، المُحمَّل بأتعاب الجسد، يقطع بأن هناك أوجه قصور هيكلية في المجتمع العالمي، وتحتاج إلى تغيير من خلال عمليات ضبط أساسية وتحولات مهمة، تعيد ترتيب الأولويات، بحيث تبقى الأهمية الكبرى للإنسان، القضية والحلّ.

 

ولعله من المقطوع به أن هذا أمر لن تجري به المقادير من دون ساسة لديهم ضمير يقظ، وسياسات تعمل انطلاقا من مبادئ عظيمة تفكر في الخير العامّ، لا السعي وراء تحقيق المصالح الفورية، ما يعني ضرورة السياسة السليمة، لكي ننظر إلى مستقبلنا برجاء وثقة.

 من هي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؟

 

يحتاج الجواب إلى مُؤَلَّف قائم بذاته، غير أنَّ مشهدًا ضمن مشاهد الفيلم الأميركي الشهير "ملائكة وشياطين"،Angels & Demons. وعلى الرغم من اختلافنا الجذريّ مع توجُّهات المؤلِّف "دافيد بروان" وخلفيَّته الفكرية المشكوك في انتماءاتها، يعبرعن حقيقتها في أروع صورة.

 

القائد "ريختر" قائد الحرس البابوي الكاثوليكي المؤمن، مع البرفيسور الأميركي، اللادينيّ، والخبير في ذات الوقت في تاريخ حاضرة الفاتيكان، وحيث يستشعر نوعًا من الازدراء العلمانيّ من جانب الضيف الأميركي للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، يبادره بحقائق قاطعة: "كنيستي تساعد المرضى والمحتضرين، كنيستي تطعم الجياع .... ويساءل لانغدون: "ماذا تفعل كنيستك يا سيد لانغدون؟ ويجيب في ذات الوقت: "عفوًا، لقد نسيتُ أنه ليس لك كنيسة".

 

يمكننا أن نضيف مع القائد ريختر، أن كنيستنا كنيسة عصرانية آنية، Aggiornamenti، لها دالة روحية نبوية على قراءة الأزمنة والأوقات، تسعى في سعة ورحابة "ثقافة اللقاء"، وتحذّر مما يمكن أن يستجلبه الذكاء الإصطناعي  من "ثقافة الإقصاء".

 

نعم هو صوت فرنسيس خليفة بطرس الصيّاد، الصخرة التي بُنِيَتْ عليها الكنيسة المقدسة، والذي وجد مكانه في قاعة بوليا جنوب إيطاليا وسط الجبابرة، والقادر على تبديل الأوضاع وتغيير الطباع، وعلى غير المصدق أن يراجع الدور الذي لعبه البابا القديس يوحنا بولس الثاني، في دَقِّ أول مسمار في نعش الشيوعية، حيث انتصر من دون الحاجة إلى فرق عسكرية تذكر بسخرية القائد الشيوعي جوزيف ستالين من البابا بيوس الثاني عشر غداة مؤتمر مالطا عام 1945، ومقولته: "كم فرقة عسكرية يمتلك البابا؟

 

إنّها البابوية، قوة الإقناع المعنوية، والصورة النجمية للكاثوليكية أمسِ واليومَ وإلى الأبد.